البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

واما إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية وفهم العرف وارتكازهم قيدا للموضوع وغاية له نحو قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ونحو (سر من البصرة إلى الكوفة) فالغاية ، في الآية الشريفة قيد للموضوع وهو (ايديكم) لا المتعلق وهو الغسل. وهي في المثال المذكور قيد للمتعلق ، وهو (سر) لا للموضوع وهو كلمة (البصرة). فمراد المصنف من الموضوع هو المتعلق فحالها حينئذ كحال الوصف. فدلالتها على المفهوم دائرة على دلالة الوصف عليه ، إذ المراد من الوصف مطلق القيد الراجع إلى الموضوع ، أو المتعلق. سواء كان وصفا اصطلاحيا نحويا أم كان حالا أو تميزا او مفعولا مطلقا او غيرها. وعليه فالتقييد بالغاية من احدى صغريات التقييد بالوصف ، إذ هي احد مصاديقه. فالوصف لا يدل على المفهوم ، فكذا هي ، إذ حاله كحال سائر قيود الموضوع وأوصافه ، فهي لا تدل على المفهوم بل على تضييق دائرته. وان كان تحديد الموضوع أو المتعلق بالغاية بلحاظ حكم الموضوع وبلحاظ تعلق الطلب به ، ومقتضى هذا التحديد ليس الّا عدم الحكم في الجملة الغائية الا بالمغيّا ، من دون دلالة الغاية على انتفاء الحكم الشخصي بانتفاء موضوعه. وهذا ليس من باب المفهوم ، بل هو بحكم العقل كما تقدم ، مثلا قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) يدل على وجوب غسل اليد إلى المرفق ، ولا يدل على عدم سنخ الوجوب عن غير اليد ، بل يكون بالاضافة إلى غير اليد ساكتا. نعم إذا انتفت اليد انتفى الوجوب الذي تعلق بها ، من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. واستدل على عدم دلالتها على انتفاء سنخ الحكم عن غير المغيّى إذا كانت قيدا للموضوع أو المتعلق بان دلالة اللفظ على المعنى ، اما يكون بالوضع ، كدلالة لفظ الاسد على الحيوان المفترس ، واما بقرينة من القرائن سواء كانت لفظية ، مثل لفظ (يرمي) في نحو (رايت أسدا يرمي) أم كانت معنوية ، كصحة معنى الكلام تكون قرينة معنوية ، نحو (أكل الكمثرى موسى). فصحة معنى الكلام تتوقف على كون الكمثرى مأكولا وعلى كون موسى أكلا ، فهي

٣٦١

تدل على مفعولية الاول وفاعلية الثاني ، والّا فلم تكن القرينة اللفظية موجودة ، وهي نصب المفعول به ورفع الفاعل لكونهما مقصورين ، أم كانت قرينة عامة ، كمقدمات الحكمة. أم كانت مقالية وهي كسؤال السائل (من ربّك؟) فيجاب (الله الواحد الاحد) أي الله الواحد ربّي. فالسؤال قرينة مقالية على كلمة ربّي في الجواب لاشتراط التوافق بين السؤال والجواب موضوعا ومحمولا ، فالمحمول ـ وهو ربّي ـ مذكور في السؤال معلوم في الجواب ، فلم توضع الغايات التي تكون قيود الموضوع أو المتعلق لانتفاء سنخ الحكم عن غير المغيّى ، وليست القرينة عامة بموجودة على دلالة الغاية على انتفاء سنخ الحكم عن غيره ، فلا اشكال في البين. وكذا الأمر في المثال المذكور على حذو النعل بالنعل.

فان قيل : إذا لم يدل التحديد بالغاية على انتفاء الحكم عن الغاية فما فائدة التحديد بها؟

قلنا : فائدة التحديد غير منحصرة بالمفهوم ، كما مرّ في الوصف بل له فوائد منها لشدة الاهتمام بما قبل الغاية نحو (اقرأ القرآن إلى ان يختم) فذكر الغاية وهي كلمة (الختم) لشدة اهتمام المولى بقراءة القرآن. ومنها لمصلحة تقتضي بيان حكم المغيّى بالنص بالغاية وبيان حكم غير المغيّى بالفحص والتنقير. ومنها لاحتياج السامع إلى بيان حكم المغيّى بالنص وغيرها من الفوائد الأخر كسائر التحديدات والقيودات ، فلا يلزم اشكال لغوية التحديد بها كما لا يخفى.

قوله : ثم انه في الغاية خلاف آخر ...

وقد اشير سابقا ان في الغاية خلافين :

اما الخلاف الاول : ففي دلالتها على انتفاء سنخ الحكم عنها وعن بعدها ، بناء على القول بخروجها عن المغيّى وفي عدم دلالتها عليه عن نفسها ، واما بالاضافة إلى ما بعدها فهي ساكتة ، بناء على القول بالدخول ، نظير (زيد عالم) إذ هو ساكت عن اثبات علم لعمرو وعن نفيه عنه ، ففد سبق هذا في صدر المبحث.

٣٦٢

واما الخلاف الثاني : فهو في بيان ان الغاية داخلة في المغيّى بحسب الحكم كي يجب الصوم في الليل في نحو (اتموا الصيام إلى الليل) او خارجة عنه بحسبه كي لا يجب فيه ذهب إلى كل فريق والاظهر عند المصنف قدس‌سره تبعا لنجم الائمة (رض) خروجها عنه بحسبه لكونها من حدود المغيّى وحد الشيء خارج عنه فلا تكون محكومة بحكم المغيّى ، فلا يجب الصوم في الليل سواء كانت أداتها كلمة (حتى) أم كانت كلمة (الى) اما دخولها فيه بحسب حكم المغيّى في بعض الموارد فهو للقرينة الخارجية كآية الوضوء نحو قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) والقرينة الدالة على دخول الغاية ، وهي المرافق في حكم المغيّى ، وهو الغسل ، والمغيّى وجوهكم وايديكم ، اجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله كما يقال (غوصت يدي في الماء إلى الاشاجع وإلى الزند وإلى المرفق وإلى المنكب) وكذا يقال (اعطيت زيدا درهما بيدي) وانما اعطاه بانامله ، و (كتبت بيدي) وانما كتب باصابعه ، فهذا الاختلاف قرينة على ان الله سبحانه في الآية الشريفة في مقام بيان حد المغسول وتحديده من اليد وبيان مقداره ، ومن هذا فقد اتفق الشيعة واهل السنة على ان الآية الشريفة في مقام تحديد المغسول لا في مقام بيان الترتيب ، ولذا أفتى علماؤهم بجواز الغسل من المرفق إلى الاصابع منكوسا ، ليس الدخول ثابت بلحاظ ظهور لفظها فيه ووضعه له ، وعلى الخروج فلو دلت أداة الغاية ك (الى) و (حتى) على ارتفاع الحكم لدلت على ارتفاعه عن نفس الغاية وعن ما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الاول ، فعلى القول بالمفهوم ينتفي الحكم عن الغاية كارتفاعه عما بعدها ، وعلى القول بعدم المفهوم لا دليل على انتفائه عنها ولا على ثبوته لها ، كما هي محكومة بحكم المنطوق وبحكم المغيّى على القول بدخولها في المغيّى بحسب الحكم فيجب صوم الليل بمنطوق (أتموا الصيام إلى الليل) كما يجب صوم النهار بمنطوقه.

٣٦٣

قوله : ثم لا يخفى ان هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان ...

وقد سبق ان الغاية قد تكون قيدا للموضوع وقد تكون قيدا للمتعلق نحو (فاغسلوا وجوهكم وايديكم إلى المرافق) ونحو (أتموا الصيام إلى الليل) فالاول قيد الموضوع ، وهو (اليد) والثاني قيد المتعلق ، وهو (الصيام) وقد تكون قيدا للحكم نحو (يحرم الخمر إلى ان يضطرّ المكلف اليه) فالغاية فيه قيد للحكم وهو (الحرمة) دون المتعلق ، وهو (الشرب) ، ودون الموضوع وهو (الخمر) فالنزاع الثاني لا يجرى في الغاية التي تكون قيدا للحكم ، بل يجري فيما إذا كانت قيدا للموضوع أو المتعلق.

والسرّ في ذلك انه لا معنى لدخول الاضطرار في المغيّى الذي هو خمر في حال عدم الاضطرار إلى شربه إذا المغيّى يصير هكذا : (الخمر الذي كان حراما في حال عدم الاضطرار فهو حرام في حال الاضطرار) إذا قلنا بدخول الغاية في المغيّى بحسب الحكم ، وهذا خلاف صريح المنطوق ، فالغاية إذا كانت قيدا للحكم فهي خارجة عن المغيّى حكما كما انها خارجة عنه موضوعا في المثال المذكور ، أي مفهوما ومصداقا خارجة عنه قطعا ، فلا تغفل عن خروجها عنه على هذا الوجه المذكور ، إذ المغيّى هو الحكم ، إذا كانت الغاية قيدا له ، ولا يعقل دخول الغاية في الحكم ، فلا يعقل دخول الاضطرار في الحرمة في الحديث الشريف المذكور ، كما لا يخفى.

وقد بقى في المقام استدلال من قال بالدخول إذا كانت قيدا للموضوع أو المتعلق ، واستدل عليه بان أدوات الغاية ك (الى وأخواتها من أدواتها) قد تدخل على الحد الذي من المعلوم خروجه عن المحدود ، نحو (ثم أتموا الصيام إلى الليل) فالليل حد وجوب الصيام والاداة داخلة عليه ، وقد تداخل على المحدود به نحو (أكلت السمكة حتى رأسها) فالأكل محدود والسمكة بجميع اعضائها محدود بها ، إذ قد يراد بالغاية ما به ينتهي الشيء ، كما قد يراد بها ما عنده ينتهي الشيء ، وما عنده ينتهي الشيء حد الشيء. فالاول داخل والثاني خارج بلا كلام ، فلا بد في اثبات

٣٦٤

دعوى الخروج من اثبات كون الاصل فيها ، أي في أدوات الغاية ، ان تكون داخلة على الغاية بالمعنى الثاني دون الاول.

فتحصّل مما سبق : ان الغاية إذا كانت قيدا للمتعلق أو الموضوع فحالها حال الوصف ، فلا تدل على المفهوم ، وإذا كانت قيدا للحكم فحالها حال القضية الشرطية فتدل عليه ، بل لا يبعد كونها اقوى دلالة منها على المفهوم حينئذ كما لا يخفى.

مفهوم الحصر

يقع البحث اوّلا في ادواته :

منها كلمة (الّا) إذا استعملت في الاستثناء لا إذا استعملت بمعنى الغير نحو (لا إله الّا الله) اي غير الله تعالى جلّت عظمته ، ومنها كلمة (إنما) بكسر الهمزة وهي تستعمل تارة في قصر الموصوف على الصفة ، واخرى في قصر الصفة على الموصوف ، وهو الغالب. والاول كقولك (انما زيد عالم) ف (زيد) محصور و (عالم) محصور فيه ، مع ان له صفات اخرى ولكن المتكلم قد بالغ في الحصر وهو فرض انه لا صفة له غيره ، فجعله مقصورا عليه ادعاء ومبالغة لا حقيقة وواقعا. وكقولنا (انما الفقيه زيد) مثلا فهي تدل على انحصار الفقه بزيد وأيّ فقيه غير زيد في جنبه كالعدم ، هذا مثال قصر الصفة في موصوف كما ان الاول مثال قصر الموصوف على الصفة ، ومنها كلمة (بل) الاضرابية.

قال المصنف قدس‌سره : لا شبهة في دلالة الاستثناء بمثل (الّا واخواتها) من كلمة (ليس) و (لا يكون) و (حاشا) و (خالا) و (عدا) على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، سواء كان ايجابيا أم كان سلبيا ، ولا يشمل المستثنى بها اصلا ،.

ومن جهة هذا قال النحاة المستثنى من الموجب منفي ، ومن المنفي موجب ، مثلا إذا قيل (اكرم العلماء الا زيدا) فهو يدل على وجوب اكرامهم ويدل على خروج زيد العالم عن وجوب الاكرام ، أي لا تكرم زيد العالم ، وإذا قيل (لا تكرم السلاطين

٣٦٥

الا العدول منهم) فهو يدل على حرمة اكرامهم وعلى عدم حرمة اكرام عدولهم ، فكذا حكم أخواتها حرفا بحرف.

واستدلّ المصنف على مدعاه بالتبادر إلى الاذهان من اطلاق الأدوات وعند تجردها عن القرينة الدالة على هذا الاختصاص ، والاخراج المذكورين وهو يكشف كشفا إنيّا عن وضعها له ، كما سبق هذا مرار في (بحث الاوامر) إذ هو معلول الوضع ، وعليه فلا يلتف إلى قول أبي حنيفة ومن تبعه ، وهو قائل بعدم افادة أدوات الاستثناء لاختصاص الحكم بالمستثنى منه. واحتج ابو حنيفة لمدعاه بمثل (لا صلاة الّا بطهور).

اما بيانه لو كان للاستثناء مفهوم لكان معنى هذا التركيب ان الصلاة مع الطهارة صلاة مطلقا أي سواء وجد فيها سائر الاجزاء والشرائط أم لم يوجد فيها ، وقد تكون فاقدة للاجزاء والشرائط لا سيما إذا كانت فاقدة للركوع وغيره من الاركان ، مع انها لا تكون حينئذ بصلاة اصلا. وكذا نحو (لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب) إذ لو كان له مفهوم لكان مدلول هذا الكلام ان الصلاة مع فاتحة الكتاب صلاة مطلقا مع ان الامر ليس كذلك ، إذ قد تكون فاقدة لبعض الاجزاء والشرائط عدا فاتحة الكتاب فلا تكون حينئذ بصلاة.

واجاب المصنف قدس‌سره عنه بوجهين :

الاول : ان المراد من الصلاة في هذين التركيبين وفي امثالهما تمام الاجزاء والشرائط عدا الطهارة ، إذ الصلاة المأمور بها عين الاجزاء وهي عينها مع انضمام الشرائط اليها فلا اثنينية بينهما ، ومن المعلوم ان الصلاة بهذا المعنى إذا انضمت اليها الطهارة فهي صلاة صحيحة ، فلا اشكال حينئذ في مفهوم التركيب الذي ذكر فيه الّا الاستثنائية ، ويشهد لذلك المطلب المذكور ان هذا الكلام وارد ، من قبل الشارع المقدس في مقام جعل الطهارة شرطا للصلاة ، ومن الواضح ان المراد من الصلاة المجعول لها الطهارة شرطا هي الصلاة التامة الاجزاء والشرائط ، فالصلاة بدون

٣٦٦

الطهارة لا تكون صلاة اصلا على وجه ، أي على قول الصحيحي ، ولا تكون صلاة تامة مأمورا بها على وجه آخر يوافق قول الأعمّي ، وقد مرّ في بحث الصحيحي والأعمّي.

والثاني : إذا سلّمنا عدم دلالة (الّا) الاستثنائية على اختصاص الحكم الايجابي أو السلبي بالمستثنى منه وعلى نفيه عن المستثنى في الاول ، وعلى اثباته له في الثاني في هذا التركيب وامثاله ، انما تكون بالقرينة ، وهي جعل أمر الطهارة شرطا للصلاة ، ومن الواضح ان جعلها لها شرطا انما يكون للتامة منها ، فلا يختص الحكم بعدم الصحة بالصلاة الفاقدة للطهارة فقط ، بل أسباب عدم صحتها متعددة «كما بينت في الفقه الشريف» فهذا الاستعمال لا يضر بوضع أداة الاستثناء للاختصاص الذي وضعت له ، إذ ثبت في محله ان استعمال اللفظ في المعنى المجازي مع القرينة الصارفة لا يقدح في ظهوره في المعنى الحقيقي بلا قرينة المجاز.

فتلخص مما ذكر ان أدوات الاستثناء قد وضعت لاختصاص الحكم بالمستثنى منه ، واستعمالها في غير الاختصاص المذكور مجاز لغوي ، فلا دلالة لهذا الاستعمال على مدعى أبي حنيفة ، إذ مدعاه كونها ادوات لعدم الاختصاص على نحو الحقيقة وبحسب الوضع ، وهذا واضح.

فان قيل : الاستعمال المجازي يحتاج إلى العلاقة المصحّحة للتجوز فما العلاقة هنا؟

قلنا : العلاقة الملازمة موجودة ، إذ الاداة لم تستعمل في الاختصاص ، فلازمه كونه مجازيا ، مثلا لفظ (الاسد) إذا لم يستعمل في الحيوان المفترس فلازمه كون استعماله مجازيا ، كاستعماله في الرجل الشجاع ، كما لا يخفى.

في الاستدلال

قوله : ومنه قد انقدح انه لا موقع للاستدلال على المدعى بقبول ...

٣٦٧

واستدل من قال بوضع ادوات الاستثناء لاختصاص الحكم بالمستثنى منه بقبول الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسلام من قال : (لا إله الّا الله) وهو مسمى بكلمة التوحيد تارة وبكلمة الاخلاص أخرى ، إذ (الّا) استثنائية تدل على اختصاص نفي الألوهية عن الإله الذي يكون مستثنى منه ، وعلى اثبات الالوهية لله تعالى فقط. ولذا تقبّل الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسلام القائل ، كما هو معلوم من سيرته الشريفة وعادته المباركة.

في جواب المصنف عنه

أجاب عنه بانه قد ظهر من الجواب الثاني عن مدعى أبي حنيفة بانه لا موقع لهذا الاستدلال لامكان دعوى دلالتها على الاختصاص الذي يستلزم التوحيد لقرينة حالية أو مقالية ، أي حال القائل يدل على دخوله في الاسلام والتوحيد أو قوله يدل على الدخول ، بان كان القائل قد اظهر تنفره ـ بالقول ـ عن غير الاسلام وعن الشرك ثم قالها في محضره الشريف كما هو عادة السابقين في عصره المبارك. فاذا أمكن ان يستعمل في الاختصاص لقرينة كان هذا الاستعمال مجازيا ، إذ احتمال الملزوم يستلزم احتمال اللازم المساوي ، فلا ينفع هذا الاستدلال بحال المستدل لاحتمال المجازية ، والمدعى كونها حقيقة في الاختصاص ، وهذا يثبت الاستعمال وهو اعم من الحقيقة ، كما انه اعم من المجاز. فالعمدة في الباب هو التبادر.

فغرض المصنف قدس‌سره ليس انكار الوضع للاختصاص بل غرضه انكار الدليل المذكور الاشكال في دلالة كلمة التوحيد على التوحيد ولكن قد استشكل في دلالة كلمة التوحيد على التوحيد بان خبر (لا) النافية للجنس ، اما يقدر في نظم الكلام بلفظ (ممكن) أو (موجود) أو (مستحق للعبادة) ، وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه.

اما الاول : فلان كلمة التوحيد حينئذ لا تدل الّا على اثبات امكان وجود الله تبارك وتعالى ، لان المستثنى منه يقتضي نفي الامكان ، فالاستثناء منه انما يدل على

٣٦٨

ثبوت الامكان للمستثنى ، والامكان لا يلازم الوجود لانه أعم منه ، وتحقق العام لا يدل على تحقق خصوص الخاص ، مثلا إذا قلنا : (في الدار حيوان) فهو لا يدل على كون خصوص الانسان أو الفرس فيها.

فبالنتيجة : تدل الكلمة المباركة على اعتقاد القائل بالامكان لا غير ، وهو لا يكفى في الاعتقاد بالتوحيد.

واما على الثاني : فلانها وان دلت على وجوده تبارك وتعالى ، إلّا انه لا دلالة لها على امكان إله آخر غيره جلّت عظمته ، إذ الوجود اخص من الامكان العام ، ونفي الاخص لا يستلزم نفي الأعم ، فهي لا تدل على نفي امكان إله آخر غيره عزّ اسمه ، ونفي امكان غيره جلّ وعلى معتبر في التوحيد ، مثلا إذا قلنا : (ليس في الدار انسان) فهو لا يدل على نفي الحيوان عنها وعدمه فيها ، ومن المحتمل ان يكون الحيوان موجودا فيها وان لا يكون موجودا.

واما على الثالث : فهو لا يغني من الحق شيئا ، إذ عنوان المستحقية للعبادة اخص من الوجود والوجود اخص من الامكان فهو اخص منهما ، إذ اخص الاخص اخص ، فنفيه عن (إله) لا يدل على نفي وجوده ولا على نفي امكانه ، ووجهه ظاهر.

اما بيان (اخص الاخص اخص) فلان الكاتب بالفعل اخص من الانسان ، والانسان اخص من الحيوان ، فالكاتب اخص من الحيوان ، لان اخص الاخص اخص ، فهو لا يدل على نفي وجود إله ولا على نفي امكانه ، وهو واضح لا غبار عليه اصلا.

في جواب المصنف فأجاب بقوله : (مندفع) أي يندفع الاشكال بان المراد من الإله واجب الوجود لذاته ، والخبر المقدر هو (موجود) فتدل حينئذ على انحصاره في فرد منه وهو الله تبارك وتعالى ، أي ليس الواجب الوجود بموجود في الذهن ولا في الخارج الا فرد

٣٦٩

منه وهو الله الخالق العالم ، فهذا الانحصار يدل بالملازمة الواضحة على امتناع تحقق الواجب الوجود في ضمن غيره تبارك وتعالى لان تحققه في ضمن غيره جلّت عظمته ، لو لم يكن ممتنعا لوجد حتما في الخارج ، لكون الغير من افراد الواجب الوجود الذي يقتضي ذاته الوجود ويستحيل عليه العدم.

توضيح في طيّ الملازمة البينة ان امكان ذاته جلّ وعلا مساوق لوجوده ، ووجوب وجوده تبارك وتعالى ، نظرا إلى ان الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالامكان الخاص ، إذ المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا الوجود ولا العدم ، فوجوده يحتاج إلى وجوده علة له ، فمفهوم الواجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج ، فاذا امكن انطباقه على موجود خارجي فقد وجب ذلك ، كما في الباري سبحانه وتعالى ، وإذا لم ينطبق عليه فقد كان ممتنع الوجود ، كشريك الباري عزّ اسمه ، فأمر هذا المفهوم مردّد في الخارج بين الوجوب والامتناع ، فاذا تمهد هذا فمفهوم الواجب الوجود لذاته ينطبق على فرد منه وهو الله تعالى ، نظرا إلى عقدها الايجابي ، وهو كلمة (الّا الله) ولا ينطبق على غيره تبارك وتعالى ، نظرا إلى عقدها السلبي وهو كلمة (لا إله موجود) فيدل هذا الانطباق وعدم الانطباق بالملازمة البينة الواضحة وبلا اقامة البرهان على اثبات هذا المفهوم لفرد منه وهو خالق العالم ، وعلى نفيه عن غيره ، وعلى امتناع تحققه في ضمن غيره تبارك وتعالى ، هذا وتوهم انها لا تدل حينئذ ، أي حين قدر الخير ، موجود على نفي امكان ما سواه تبارك وتعالى. مندفع بانه إذا كان ما سواه عزّ اسمه ممكنا كان موجودا ، لان المراد من الواجب الوجود هنا ما يكون واجبا بذاته ، فاذا كان ممكنا كان موجودا وإلّا لم يكن واجب الوجود لذاته وهو خلاف الفرض.

قوله : ثم ان الظاهر ان دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم ...

٣٧٠

اختلف الاصوليون في ان الدلالة على انتفاء سنخ حكم المستثنى منه عن المستثنى هل هي من المفهوم او من المنطوق ، واختار المصنف قدس‌سره الاول تبعا للمشهور ، فاداة الاستثناء تقتضي تضييق دائرة موضوع لسنخ حكم المستثنى منه ، ولازم التضييق المذكور انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى ، لان مفاد الاداة نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى فلا تكون الدلالة بالمنطوق.

واستدلّ من قال بالمنطوق بان العامل في المستثنى ليس هو العامل في المستثنى منه ، وذلك مثل (جاءني) في نحو (جاءني القوم الا زيدا) بل العامل فيه هو الاداة وهي كلمة (الّا) في المثال لقيامها مقام الفعل وهو كلمة استثنى كقيام حرف النداء مقام (أدعو) و (اطلب) نحو (يا زيد) أي ادعوه ، فهي تدل مطابقة على خروج المستثنى عن حكم المستثنى منه حقيقة إذا كان متصلا ، أو حكما إذا كان منقطعا. فيكون الحكم في طرفه بالمنطوق ، كما قال المصنف : (نعم لو كانت دلالة انتفاء الحكم عن المستثنى بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة الاستثنائية كانت بالمنطوق) كما ان هذه الدلالة ليست ببعيدة ولكن تعيين الدلالة بالمنطوق أو المفهوم لا يثمر ثمرة في الفقه الشريف ، إذ ثبوت حكم نقيض حكم المستثنى منه ثابت للمستثنى مطلقا ، أي سواء كان بالمفهوم أم كان بالمنطوق. «لانه إذا كان حكم المستثنى منه ايجابيا كان حكمه سلبيا وبالعكس. هذا إذا قلنا ان الدلالة المفهومية مساوية للدلالة المنطوقية في القوة ، واما إذا قلنا دلالة المفهوم أضعف من دلالة المنطوق كما هو المشهور فيمكن تصوير ثمرة النزاع فيما إذا تعارض الاستثناء ودليل آخر.

فعلى الثاني يقدم الدليل الآخر لكونه اقوى دلالة من دلالة المفهوم لدلالته على الحكم بالمنطوق ، مثلا إذا قال المولى (اكرم العلماء الّا زيدا) وفي الدليل الآخر قال (اكرم زيدا) فيتعارض الاستثناء والدليل الآخر في اكرام زيد ، فيقدم عليه لكونه اقوى دلالة منه.

واما على الاول فيرجع إلى قواعد التعارض وستأتي ان شاء الله في محلها ،

٣٧١

فالصواب في المقام هو التفصيل بين الادوات.

بيانه : (ليس ولا يكون وخالا وحاشا وعدا) تدل بالمفهوم على حكم مستثنى واما نحو (الّا وغير) فيدلان بالمنطوق على حكمه أي حكم المستثنى. والسر في ذلك ان في الاول ضميرا مستترا هو اسم الاولين وفاعل الثلاثة الاخيرة وهو يرجع إلى المستثنى منه باعتبار بعضه ، مثلا إذا قيل (اكرم العلماء ليس زيدا) أي ليس بعض العلماء زيدا ، فيصير في قوة ان يقال (اكرام العلماء غير زيد واجب) فكلمة ليس تقتضي تضييق دائرة موضوع سنخ حكم المستثنى منه ولازم التضييق المذكور انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى ، لان مفاد الاداة نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى. وهذا معنى المفهوم. بخلاف (الا وغير) فانهما لا يوجبان تضييق دائرة موضوع سنخ حكم المستثنى منه لكونهما خاليين عن الضمير الكذائي ، لكون الاول حرفا والثاني جامدا ، وكلاهما خاليان عنه.

في (إنما)

قوله : ومما يدل على الحصر والاختصاص ...

(إنما) بكسر الهمزة ، وذلك لتصريح اهل اللغة بذاك اولا ، وهو حجة لنا ويعدّ من علائم الحقيقة ، كما ان عدم التصريح والتنصيص علامة المجاز. وثانيا لتبادره منها قطعا عند اهل العرف والمحاورة ، مثلا إذا قيل (انما زيد قائم) فيتبادر منه حصر وصف زيد في القيام ، أي ليس له وصف آخر غير وصف القيام ، وإذا قيل (انما قائم زيد) فيتبادر منه حصر القيام لزيد ، أي ليس وصف القيام لعمرو وبكر مثلا.

ودعوى ان الانصاف انه لا سبيل لنا إلى التبادر المذكور ، فان موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة في العرف السابق ، إذ قد تستعمل في قصر الافراد إذا اعتقدت كون زيد وعمرو قائمين ، فيقال حينئذ (انما زيد قائم) ، وفي قصر التعيين إذا اعتقدت كون زيد اما شاعرا واما قائما فتقول حينئذ (انما زيد قائم) ، أي ليس بشاعر ، فهي

٣٧٢

في هذه الموارد المذكورة استعملت في القصر والحصر ، إمّا في قصر الموصوف على الصفة إذا قدّم الموصوف على الصفة ، وامّا في قصر الصفة على الموصوف إذا قدّمت عليه ، لان المحصور فيه بكلمة (ما) و (إلّا) انما يكون بعد الّا دائما ، مثلا إذا قيل (ما زيد إلّا شاعر) فينحصر وصفه بالشاعر ، أي ليس له وصف آخر وإذا قيل (ما شاعر الا زيد) أي ليس الشاعر غير زيد فينحصر عنوان الشاعرية بزيد فقط ، وقد تستعمل هذه الكلمة في التعريض نحو قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١) فانه تعريض بان الكفار من فرط جهلهم كالبهائم.

فطمع النظر والتأمل في الحقائق منهم كطمعه من البهائم ، ولا يعلم باللفظ الذي يراد منها في اللغة الفارسية ليرجع اليها حتى يستكشف من اللغة الكذائية المعنى الذي يتبادر من مرادفها من الحصر أو غيره ، غير مسموعة ، وهذا خبر الدعوى ، فان السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فان الانسباق إلى أذهان اهل العرف العام ايضا سبيل واضح إلى التبادر كالانسباق إلى أذهاننا بلا فرق بينهما من هذه الناحية ، بل يقال لا حاجة إلى وجدان مرادفها في عرفنا اليوم بعد وضعها للحصر لغة.

ومما يفيد الحصر والاختصاص كلمة (ان) النافية و (إلّا) الاستثنائية نحو قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا)(٢).

في (بل) الاضرابية

وربّما يعد مما دلّ على الحصر كلمة بل الاضرابية مثلا إذا قيل (جاءني زيد بل عمرو) وهو يدل على نفي المجيء عن المضرب عنه ، وهو (زيد) واثباته

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية ٣٧.

(٢) سورة الرعد ، آية ١٣.

٣٧٣

للمضرب اليه وهو (عمرو) فيدل على اختصاصه به وعلى حصره فيه إذا كان المتكلم في مقام الردع والابطال ، فيصير في قوة ان يقال (انما الجائي عمرو) ولكن التحقيق ان الاضراب على أنحاء اربعة :

منها : كون الاضراب لاجل اتيان المضرب عنه في الكلام غفلة وسهوا نحو (خرج زيد بل عمرو) فذكر زيد بلا قصد.

ومنها كون الاضراب لاجل اتيان المضرب عنه فيه بسبب سبق اللسان وغلطا نحو (اشتريت زيدا بل فرسا).

ومنها كون الاضراب لاجل تأكيد الحكم نحو قول الفقهاء قدس‌سرهما : (طهارة ماء الغسالة مشهور بل اجماعي) فذكر الشهرة يكون توطئة ومقدمة للمضرب اليه.

ومنها كون الاضراب لاجل ابطال ما اثبت المتكلم اوّلا نحو قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(١) فهذا الرابع يدل على الحصر والاختصاص دون الباقي لوجهين :

الاول : لان ثبوت الحكم لموضوع خاص وهو (زيد وماء الغسالة) في الامثلة المذكورة لا يدل على نفيه عن غيره ، اذ اثبات شيء لشيء أعم من اثباته لغيره او نفيه عنه ، كما سبق في مفهوم الوصف.

والثاني : ان الموضوع هنا يكون لقبا واللقب لا مفهوم له ، كما سيأتي عن قريب.

فالكفار قالوا اتخذ الله الملائكة بنات فنزّه الله سبحانه نفسه عن اتخاذ الاولاد وابطل قولهم بقوله : بل هم عباد مكرمون لديه ، أي هؤلاء الذين جعلوهم أولاد الله هم عبيد الله وهو واضح.

والمورد الآخر تدل كلمة (بل) على الحصر إذا وقعت بعد النفي أو النهي نحو

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية ٢٦.

٣٧٤

(لا اضرب زيدا بل عمروا) أي اضرب عمروا فقط ، فهي تدل على حصر ضرب المتكلم في عمرو فقط ونحو (لا تكرم زيدا بل عمروا) فهي تدل على حصر اكرام المخاطب بعمرو فقط دون ما إذا تقدمها أمر نحو (اضرب زيدا بل عمروا) أي اضرب عمروا ايضا فهي على الاولين تقرر النفي والنهي وتجعل النقيض لما بعدها وتوجب حصره به فهي تدل على الحصر والاختصاص في الموردين.

وكذا لا تدل عليه إذا تقدمها كلام موجب نحو (قام زيد بل عمرو) أي قام عمرو ايضا.

قوله : ومما يفيد الحصر على ما قيل تعريف المسند اليه باللام ...

نحو (الامير زيد) فهو يدل على انحصار الامارة بزيد وعلى نفيها عن غيره من عمرو و ... على قول.

ولا بد من تحقيق النسبة بين المسند اليه والمسند فيقال يكون بينهما تساو كليّ تارة نحو (الانسان ناطق) ، واخرى عموم مطلق نحو (الحيوان انسان) ، وثالثة عموم من وجه نحو (الابيض انسان أو حيوان). فلو دلّ على الحصر لدل في الصورة الاولى إذا كانت اللام للاستغراق مبالغة دون الثانيتين ، إذ يصح انحصار المساوي للمساوي ، والّا لما كانا متساويين ، وهذا خلف. ولكن لا يصح انحصار العام في الخاص ، والّا لما كان عاما ، وهذا خلف ايضا.

فاذا تمهد التحقيق ، فالتحقيق ان تعريف المسند اليه باللام لا يفيد الحصر والاختصاص الا في المورد الذي اقتضى الحصر ، مثل ان تكون اللام للاستغراق ويكون حمل المسند على المسند اليه شائعا صناعيا نحو (الانسان في خسر) أي كل انسان ثابت في خسر.

ويدل على كون اللام للاستغراق صحة الاستثناء لان الاصل في اللام ان تكون لتعريف الجنس فلا تقتضي صناعة التركيب افادة الحصر ، لان حقّ اللام الداخلة على المسند اليه ان تكون لتعريف الجنس فيقصد بها الاشارة إلى الماهية

٣٧٥

من حيث هي هي مع قطع النظر عن ملاحظة افرادها ومصاديقها نحو (الرجل خير من المرأة) أي ماهية الرجل خير من ماهية المرأة ، والاصل المتعارف في الحمل في القضايا المتعارفة يكون شايعا صناعيا حاكيا عن اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود الخارجي فاتحاد (زيد) المحمول في قولنا (القائم زيد) مع الموضوع وهو (القائم) في الوجود ليس ملزوما للحصر ، كما لا يلزم من اتحاد زيد مع الانسان في الوجود انحصار الانسان في زيد ، إذ ثبوت شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، كي يلزم الحصر والاختصاص.

فافادة الحصر تتوقف على قرينة خاصة دالة على كون اللام للاستغراق أو للطبيعة المطلقة ، أو كون الحمل اوليا ذاتيا ملاكه الاتحاد المفهومي أو الماهوي ، ومع عدم القرينة على ذلك لا يكون مجرد التعريف مقتضيا للحصر والاختصاص ، لان حمل شيء على جنس وماهية حملا شايعا متعارفا في القضايا المعتبرة المتعارفة لا يقتضي اختصاص تلك الماهية بهذا الشيء وانحصارها به ، مثلا إذا قلنا (الانسان زيد) لا يدل على انحصار ماهية الانسان بزيد بحيث ليس للانسان فرد آخر غير زيد ، إذ اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره كما لا يدل قولنا (الخمر حرام) على نفي الحرمة عن غيره ، نعم لو قامت قرينة خارجية كالاستثناء أو مقدمات الحكمة على ان اللام الداخل على المسند اليه للاستغراق ، أو ان مدخوله أخذ بنحو الارسال والعموم ، أو بنحو الاطلاق لا بنحو الاهمال ، أو على ان حمل المسند على المسند اليه أوّلي ذاتي ، لأفيد الحصر والاختصاص ، أي حصر مدخول اللام على محموله واختصاص مدخوله ، وهو المسند اليه بمحموله وهو المسند نحو (الانسان انسان) فهو يدل على انحصار الانسانية في الانسان ، لكون اللام للاستغراق ، وعلامته وقرينته صحة وضع لفظ (كل) موضعه أي (كل انسان انسان) ولكون لحاظ المسند اليه على نحو الارسال والاطلاق ، إذ هي من القضايا الخارجية التي لوحظ فيها الافراد هذا اولا.

٣٧٦

وثانيا : لوحظ في جانب المسند وجوده في الخارج ، فلو لم يلحظ في جانب المسند اليه وجود الافراد للزم حمل الموجود على المعدوم ، وهو غير جائز ، لان الانسان كلي طبيعي وهو غير موجود في الخارج بدون لحاظه في ضمن الافراد ، بل بتحقق في ضمنها. ولكون الحمل اوليا ذاتيا لاتحاد الموضوع والمحمول مفهوما في المثال المذكور ، وهو واضح. فاذا فقد احد الامور الثلاثة فلا يدل مجرد التعريف من حيث هو هو على الحصر ، فلا يكون له مفهوم. مثلا إذا قيل (الانسان نوع والحيوان جنس) فهو لا يدل على حصر النوعية والجنسية للموضوع ، لكون اللام للجنس يشار بها إلى ماهية الانسان والحيوان ، أي ماهية الانسان نوع ، وماهية الحيوان جنس ، ولا تكون للاستغراق يشار بها إلى الافراد ، إذ ليس افراد الانسان بنوع بل هي جزئيات كزيد وعمرو و ... وليس افراد الحيوان بجنس بل هي انواع مختلفة ، كالفرس والبقر والانسان و ... ولكون اخذ الموضوع وهو انسان وحيوان بنحو الاهمال الذي لا يبين كميّة افراد الموضوع لا كلا ولا بعضا ، ولكون الحمل شائعا صناعيا فهذا لا يدل على الحصر لكون الفرس نوعا و ... ولكون الجسم النامي جنسا والجوهر جنسا بل الجنس العالي وجنس الاجناس ، كما فصّل هذا في المنطق والميزان.

توضيح : الفرق بين الارسال والاطلاق هو الفرق بين العام والمطلق فخصوصيات الافراد المقوّمة لها ملحوظة في الاول ، وغير ملحوظة في الثاني ، مثلا إذا قال المولى (اكرم العلماء) أي يجب اكرام الافراد الذين يكونون عالمين ولهم خصوصيات تلحظ في مقام اكرامهم ، من كونهم فقيهين بالاحكام الإلهية ومبلّغين لها إلى عباد الله تعالى ومرشدين لهم إلى صراط مستقيم وعاملين بها و ...

وإذا قال (ان ظاهرت فاعتق رقبة) أي اعتق أىّ رقبة من الرقاب ، ولها خصوصيات من كونها مؤمنة أو كافرة أو عالمة أو جاهلة أو رومية أو زنجية ، فلا تلحظ في مقام الجعل ولا في مرحلة الامتثال. فكذا فيما نحن فيه حرفا بحرف.

٣٧٧

قال بعض اهل البيان : ومما يفيد الحصر تعريف المسند باللام نحو (زيد العالم) فيفيد حصر وصف زيد في العالمية ، أي هو عالم فقط ليس غيره من الشاعر و ...

ومما يفيده تقديم ما حقه التأخير ، كتقديم المفعول به على الفعل العامل فيه ك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إذ في الاصل (نعبدك ونستعينك) فقدم عليه فانقلب المتصل بالمنفصل ، فصارا كما كانا لافادة الحصر والاختصاص ، أي نعبد الله لا غيره ، ومن الله تعالى اطلب الاعانة في الخيرات لا من غيره. بخلاف تقديم الخبر على المبتدأ نحو (قائم زيد) والصفة على الموصوف نحو (جاءني العالم زيد) ان جاز والتابع على المتبوع ، كتقديم البدل على المبدل منه نحو (رايت اخاك زيدا) فلا يفيد الحصر والاختصاص.

فانقدح ان كل شيء يفيد الحصر يكون له مفهوم وإلّا فلا ، وهذا المطلب واضح لا ستر فيه. وقد انقدح بقولنا الاشكال في كثير من كلمات الاعلام قدس‌سرهما لانهم قالوا بان اللام الداخلة على المسند اليه يفيد الحصر.

اما المصنف فقال : افادة الحصر مشروطة بشروط ثلاثة لا مطلقا ، كما تقدمت. وفيما وقع منهم من النقض والابرام ، ولا نطيل البحث بذكر كلماتهم فانه بلا طائل لان الحق في المقام ظاهر من الشروط الثلاثة وهو الحق فلا يصغى إلى القيل والقال. كما يظهر الحق للمتأمل في موارد استعمال المسند اليه المعرف باللام حتى يظهر الحال للباحث الدقيق المحقق ، وهو يظهر مع التأمل الجيّد ، ولذا قال فتأمل جيّدا. ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات كالفصول والقوانين والضوابط وغيرها.

٣٧٨

في مفهوم اللقب والعدد

قوله : فصل : لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما اصلا ، وليس المراد من اللقب ما يشعر بمدح الملقب به أو بذمّه بمعنى ذلك اللفظ ...

فالاول كلفظ الجواد وهو لقب مولانا محمد بن علي عليهما‌السلام ، ولقب حاتم الطائي والثاني كلفظ (عبد البطن) وهو لقب معاوية إذ هو لا يشبع من الطعام. بل المراد منه ما كان طرفا للنسبة الكلامية سواء كان فاعلا نحو (قام زيد) ام كان مفعولا به أو مبتدأ أو خبرا أو زمانا أو مكانا أو مجرورا أو مضافا نحو (ضربت زيدا) و (زيد قام) و (في الدار زيد) و (صمت يوم الجمعة) و (صليت في المسجد) و (مررت بزيد) و (اكرم غلام زيد) وكلها ليس له مفهوم ، إذ الاول لا يدل على نفي القيام عن عمرو كما انه لا يدل على نفي القعود عن زيد ، والثاني لا يدل على نفي وقوع الضرب على عمرو ، والثالث لا يدل على نفي قيام غير زيد ، والرابع لا يدل على عدم كون غير زيد في الدار ، والخامس لا يدل على عدم الصوم في غير يوم الجمعة ، والسادس لا يدل على نفي الصلاة في غير المسجد ، والسابع لا يدل على عدم المرور بغير زيد ، والثامن لا يدل على عدم وجوب اكرام غلام غير زيد. فليس للقب مفهوم اصلا إذ بانتفاء الموضوع وهو زيد ، كما في الاول والثاني والثالث والرابع ، أو المتعلق كما في غيرها ينتفي شخص الحكم من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه أو متعلقه ، وهو عقلي ، وهو ليس بمفهوم ، كما عرفت في مفهوم الشرط والغاية.

وكذا العدد ليس له مفهوم كما إذا قال المولى (جئني بواحد) فهو لا يدل على عدم وجوب مجيء آخر ، فاذا أمر المولى بصوم ثلاثين يوما فقضية التحديد والتقييد

٣٧٩

بالعدد المعين منطوقا عدم جواز الاقتصار في مقام الامتثال على العشرين ، لان العشرة الثالثة مأمور بها ، فلا يجوز تركها ، لكنه بالدلالة المنطوقية لا بالدلالة المفهومية فلو اقتصر المكلف على ما دون العدد المذكور في نظم الكلام لما امتثل الأمر ، إذ ما دونه ليس بذاك العدد الخاص ، والعدد المقيّد بمرتبة معيّنة ، كما لا يكون العشرون ثلاثين مثلا. واما الزيادة فكالنقيصة إذا كان التحديد والتقييد بالعدد الخاص بالإضافة إلى كلا الطرفين الاقل والاكثر ، نحو قول الطبيب لمريض (اشرب من هذا الدواء عشر قطرات) يكون للتحديد من كلا الجانبين بحيث لا ينفع الاقل منه ويضر الاكثر.

نعم لو كان العدد لمجرد التحديد بالنظر إلى طرف الاقل فقط لما كان في الزيادة ضير من حيث الامتثال وسقوط الأمر ، بل ربما كان فيها فضيلة الثواب وزيادة الأجر وكمال القرب ، كذكر الركوع والسجود مثلا ، فلا بد من المرة الواحدة في التسبيحة الكبرى او من الثلاث مرات في التسبيحة الصغرى ، ولكن لا تضر الزيادة منهما فيهما ، بل هي مستحبة استحبابا اكيدا كما لا يخفى.

وكيف كان العدد تحديدا فليس عدم الاكتفاء بغير العدد المذكور في الكلام من جهة دلالة العدد على المفهوم ، بل انما يكون لاجل عدم موافقة العدد غير المذكور في نظم الكلام مع العدد المذكور في منطوقه ، كما هو معلوم لكل العلماء قدس‌سره.

توضيح : مثلا إذا قال المولى (تصدق بخمسة دراهم) فهذا يدل على عدم الاكتفاء بالاربعة ، إلّا انه ليس من جهة دلالة العدد على المفهوم ، بل من جهة عدم انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج حتى يكون مجزيا ، نظير ما إذا قال المولى (اكرم زيدا يوم الجمعة) فاذا اكرمه في يوم الخميس لم يجزئ لعدم انطباق المامور به على المأتي به وهو قد يكون ناظرا إلى الطرف الاقل ، واما بالنسبة إلى الطرف الاكثر فهو ساكت عنه ، كذكر الركوع والسجود مثلا ، أو ناظرا إلى الطرف

٣٨٠