البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

وأما الفرق بين الاسم والعنوان فان الاسم عبارة عن المبدإ الذي له حظ ونصيب من الوجود في الخارج حقيقة كالقيام والقعود والمشي ونحوها من المبادئ المتأصلة ، وان كان القيام محتاجا من حيث التحقّق الخارجيّ إلى القائم ، والقعود إلى القاعد ، والمشي إلى الماشي ، كالاعراض التي تحتاج إلى المعروضات.

ويقال لهذا المبدإ المتأصل (المحمول بالضميمة). والمراد من العنوان هو المبدأ الاعتباري الذي ليس له حظ من الوجود في الخارج ، ويقال له (المحمول بالصميمة) «بالصاد المهملة» ، وذلك نحو الزوجية والملكية والحرية ونحوها. فالأمر الانتزاعي هو الأمر الذي لو لا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا لما كان بحذائه شيء خارجا ، أي ليس له ما يحاذيه في الخارج ، لان الغرض سواء كان مصلحة أم مفسدة لا يترتب على الاسماء من حيث هي هي ، ولا على الألفاظ المجردة عن المعاني ، ولا على العناوين الانتزاعية التي لا واقع موضوعيّ لها في الخارج ، بل يترتب على افعال المكلفين الصادرة عنهم فحسب ، وهذا هو سرّ تعلق الأحكام ، مثل الوجوب والحرمة ونحوهما ، بالأفعال لا بالاسماء ، أي اسماء الأفعال والالفاظ والعناوين الانتزاعية ، لأن اسم (التصرف في مال الغير بغير إذنه) هو (الغصب) ولأن (اسم التكبيرة والقراءة والركوع والسجود) ونحوها ، هو (الصلاة) وهكذا نحوهما.

هذا مضافا إلى كون الانتزاعيات غير المتأصلة غير موجودة في الخارج كي يترتب عليها الغرض ، والحال ان الأحكام تابعة للغرض من المصالح والمفاسد ، ولا تكون جزافا كما عليه العدلية والمعتزلة خلافا للاشاعرة.

فالنتيجة : لا يكون البعث نحو الاسم والعنوان ، ولا يكون الزجر عنهما ، وانما يؤخذ الاسم والعنوان في متعلق الأحكام من حيث كونه آلة للحاظ متعلقات الأحكام ، ومن حيث كونه عنوانا مشيرا إلى متعلقاتها بمقدار الغرض من المتعلقات وبمقدار الحاجة إلى متعلقات الأحكام. فالصلاة التي تؤخذ في لسان الدليل حال كون الحكم متعلقا بها ، كما في (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) اشارة إلى افعال المكلفين التي تكون

١٤١

متعلقة للأحكام حقيقة ، ولا يؤخذ العنوان المشير متعلقا للأحكام بما هو هو ، وعلى استقلاله وحياله مع قطع النظر عن الأفعال ، ومع قطع النظر عن الاشارة اليها ، ومع قطع النظر عن كونه آلة ومرآة للحاظ الأفعال.

بقي هنا بيان أمرين : الأول : هو تحقيق (خارج المحمول) في قول المصنف قدس‌سره ، والثاني : بيان قوله وحياله.

أما الأول : فان العناوين المنطبقة على الذات :

تارة تنتزع من الذات كالزوجية المنتزعة من ذات الأربعة مثلا ، أو عن الذاتيّ كالحيوانية والناطقية المنتزعتين عن الكلّي الذاتيّ (باب الايساغوجي) وهو انسان.

واخرى : تنتزع عن الذات بملاحظة تلبسها بمبدإ حقيقيّ عينيّ خارجيّ كالضارب والماشي والشارب ونحوها.

وثالثة : تنتزع عن الذات بملاحظة تلبسها بمبدإ اعتباريّ غير عينيّ كالمملوك (اي الملك) والزوج والحر والمغصوب ، المنتزعة عن الملكية والزوجية والحرية والغصبية ، ف (خارج المحمول) عبارة عن الامور الانتزاعية التي لا تأصل بمبادئها في الخارج كالامور المذكورة آنفا ، كما ان (المحمول بالضميمة) هو الامور الانتزاعية التي يكون لمبادئها أصل في الخارج ، كالأسود والابيض والأحمر المنتزعة من السواد والبياض والحمرة ، وهي موجودة في الخارج في ضمن الأجسام.

وأما الثاني ف (الحيال) بمعنى الانفصال ، والمراد منه ان الاسم المنفصل عن الافعال لا يكون متعلقا للحكم ، بل يؤخذ الاسم بمقدار الغرض من المتعلق وبمقدار الحاجة إلى المتعلق ، فاذا كان الغرض وجوب الفعل مطلقا فيؤخذ الاسم والعنوان مطلقا كالصلاة اليومية ، وإذا كان وجوب الفعل مقيدا فيؤخذ في لسان الدليل مقيدا ، كصلاة الآيات ، وكذا الحال في جانب الحرمة.

فهذه الفروق بين الخارج المحمول المسمى ب (المحمول بالصميمة) وبين (المحمول بالضميمة) إذ ظرف عروض الأول هو الذهن إذ لا يحاذيه شيء في

١٤٢

الخارج ، كالملك والزوجية والمغصوبية وغيرها من الأعراض الذهنية ، وظرف عروض الثاني هو الخارج ، كعروض البياض والسواد وغيرهما من الأعراض الخارجية لمعروضاتها.

تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون

قوله ثالثتها : انه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون ...

لمّا اثبت المصنف قدس‌سره في المقدمة الاولى تضادّ الأحكام الفعلية ، وفي المقدمة الثانية أنّ الأحكام تتعلق بالمعنونات والمسميات لا بالعناوين والاسماء ، واثبت في المقدمة الثالثة وحدة المعنون وان كان له عنوانان ، فقال : ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، ولا تنثلم بسبب تعدد العنوان وحدة المعنون اصلا ، مثلا يصدق على الخميني قدس‌سره عناوين متعددة ، مثل كونه عالما ومجتهدا وعادلا وقائدا واماما ، والحال ان الخميني رضوان الله عليه واحدا في الخارج ، وكذا يصدق على السيد الخامنئي عناوين متكثرة مثل كونه قائدا للمسلمين ومجتهدا وفقيها عادلا ونائبا ، والحال انه ـ حفظه الله ودام بقاءه ـ واحد في الخارج ، فثبت أن العنوان يكون حاكيا عن المعنون ومرآة له ، فيجوز ان تكون الامور الكثيرة حاكية عن شيء واحد وأمر فارد ، ويكون كل واحد منها مرآة له ، أي للمعنون ، كما علم هذا من المثال السابق.

فالمفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة اصلا ، لا من جهة الوجود ولا من جهة الماهية ، بل هو بسيط من جميع الجهات ليس فيه (حيث غير حيث) ، أي ليس المكان خاليا عنه ، بل هو حاضر في كل مكان ، وهو بسيط من جميع الحيثيات ، أي من حيث انه حي ازلي أبدي ، ومن حيث إنه قادر عالم مريد سميع بصير غني. فذاته المقدسة بسيطة ، كما ان ذاته المقدسة بسيطة من حيث إن الله تعالى غير مركب وغير مرئي في الدارين ، ومن حيث انه بلا شريك وبلا وزير وبلا نظير ، ولا يكون بسيطا من

١٤٣

حيث دون حيث ، بل هو بسيط من جميع الحيثيات ، كما انه بسيط من جهة كونه متصفا بالصفات الجمالية من القدرة والعلم والحياة ونحوها من الصفات الثبوتية.

ومن جهة انه متصف بصفات الجلال من عدم التركيب ، وعدم الشريك ، وعدم الرؤية وامثالها من الصفات السلبية ولا يكون بسيطا من جهة دون جهة ، بل هو بسيط من جميع الجهات.

فليس فيه (حيث دون حيث) وجهة دون جهة ، فالبسيط الكذائي هو الله تبارك وتعالى ، فهو على بساطته من جميع الحيثيات والجهات ، ووحدته واحديته ، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية ، إذ له الاسماء الحسنى والامثال العليا ، لكن الصفات المتعددة والاسماء المتكثرة حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد ، كما قال الشاعر :

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

وبقي التحقيق في أمور

الأول : التحقيق في لفظ المفاهيم ، وهو ان جميع صفات الباري ـ سواء كانت ثبوتية أم كانت سلبية ـ منتزعة عن نفس ذاته المقدسة ، كما هو محرّر في محله. فكل عنوان ينتزع عن نفس ذات المعنون يقال له مفهوم. ولأجل هذا قال المصنّف قدس‌سره : مفاهيم الصفات ، كما يقال ان مفهوم الانسان هو الحيوان الناطق لانتزاعهما من نفس ذات الانسان.

والثاني : التحقيق في الصفات الجمالية والجلالية ، هو ان الصفات الجمالية يطلق على الثبوتية منها ، والصفات الجلالية يطلق على السلبية منها ، ويعبّر عنهما بالصفات الكمالية ، ولذا قال اهل التحقيق ان لفظ (الله) علم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع الصفات الكمالية.

والثالث : التحقيق في لفظ الامثال ، هو ان الأمثال جمع تكسير (مثل) بالفتح المثلثة ، بمعنى فضل وكمال إذ ، علمه فضل وكمال له ، والحال ان علمه عال عن علم

١٤٤

غيره ، وهو فوق كل علم ، وكذا سائر اوصافه الكمالية ، وصفاته الجمالية والجلالية. طابق النعل بالنعل.

والرابع : التحقيق في لفظ البسيط والواحد والأحد ، هو ان البسيط يطلق في مقابل المركب ، والواحد يطلق في قبال الاثنين والأحد يطلق في قبال المجزّأ.

دفع التوهمين للفصول

قوله : رابعتها انه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلا ماهية واحدة ...

ولا ريب انه لا يبتنى القول بالجواز على اصالة الماهية ، والقول بالامتناع على اصالة الوجود ، كما انه لا يتفرع القول بالجواز على تعدد الجنس والفصل من حيث الوجود في الخارج ، والقول بالامتناع على عدم تعددهما وجودا فيه كما زعم صاحب الفصول قدس‌سره.

اما دفعه : فان الموجود بوجود واحد ليس له إلا ماهية واحدة تقع في جواب السؤال عن تمام حقيقته بما الحقيقة إذ لا يعقل ان يكون للموجود الواحد جنسان قريبان وفصلان قريبان كي تكون للموجود الواحد ماهيتان مختلفتان بحيث تكون كل واحدة منهما عين الموجود الواحد ، كما انه يكون كلي الطبيعي عين افراده وتمام جزئياته ومصاديقه ، كالانسان الذي يكون عين افراده وتمام مصاديقه ، ولهذا يصح حمله عليها فيقال (زيد انسان) و (عمرو انسان) و ... ولا تفاوت في ذلك بين القول باصالة الوجود والقول باصالة الماهية.

أما على القول الأول : فلأن الموجود بالوجود الواحد المتحقق في الخارج واحد ، لا يكون اثنين ، كما هو واضح بالحس والعيان ، لا يحتاج إلى تجشم الاستدلال واقامة البرهان.

وأما على الثاني : فلأن الماهية الموجودة في الخارج واحدة قطعا ، وإلا يلزم ان يكون لكل شيء جنسان قريبان وفصلان قريبان ، إذ حقيقة الأشياء منحصرة في

١٤٥

جنسها القريب وفصلها القريب ، ولازم تعددهما ان يكون الواحد اثنين لتباين الماهيات من حيث هي هي ، لتباين الفصول المحصلة للماهيات ، فلا يمكن اجتماع اثنين منها في وجود واحد ، فلذا لا يصح حمل بعضها على بعض ، كما لا يصح حمل الحيوان الناهق على الحيوان الناطق ، فلا يصح ان نقول : ان الحيوان الناطق هو الحيوان الناهق أو هو الحيوان الصاهل ، فلكل موجود ماهية واحدة وحقيقة فاردة كما ان له وجودا واحدا وكونا فاردا.

فان قيل انه إذا كانت الماهيات متباينات فبأي دليل يحمل المشتق على الذات في قولك (زيد ضارب) و (عمرو شاعر)؟ والحال ان ماهية المشتق متباينة مع ماهية زيد وعمرو لتباين جنسهما وفصلهما ، لأن زيدا انسان وكل انسان حيوان ناطق فزيد حيوان ناطق ، ولأن الضارب ذات صدر عنه الضرب وكل ذات صدر عنه الضرب فهو ضارب ، فجنس زيد مثلا هو الحيوان وفصله هو الناطق ، كما ان جنس الضارب هو الذات وفصله هو ال (صدر عنه الضرب) ، والحال انها متباينات ، ويدل على تباينها عدم صحة حمل بعضها على بعض ، فلا يصح ان يقال ان الناطق صدر عنه الضرب.

قلنا ان المشتق عنوان لذات المعروض حاك عنها فيصح حمله عليها.

فبالنتيجة : يصح حمل كل عنوان على الذات المعنون ، كما ترى هذا في حمل الزوج على الأربعة والفرد على الثلاثة. فلا يحمل الضارب على زيد من حيث الماهية بل من حيث العنوان والحكاية ، فالمفهومان كمفهوم الصلاة والغصب المتصادقين على الكون في الدار المغصوبة ، الموجود بوجود واحد ، لا يكون كل واحد منهما ماهية وحقيقة ، أي لا تكون الماهيتان موجودتين ، والحال ان كل واحدة من الماهيتين بكون عين الموجود بوجود واحد في الخارج ، وليس الأمر كذلك ، بل تكون للموجود بوجود واحد ماهية واحدة وحقيقة فاردة ، كما أن كلّ كليّ الطبيعي يكون عين افراده في الخارج.

١٤٦

فبالنتيجة : الكون في الدار المغصوبة موجود بوجود واحد فلا محالة ان يكون واحدا ذاتا وماهية ، فالمجمع ـ وان تصادق عليه متعلق الأمر الذي هو الصلاة ومتعلق النهي الذي هو الغصب ، إذ الكون في الدار المغصوبة وحالة الصلاة يصدق عليه الصلاة والغصب معا ـ موجود بوجود واحد ، فلا بد أن يكون واحدا ذاتا وماهية ، ولا يتفاوت في هذا المطلب القول باصالة الوجود أو اصالة الماهية ، فالكون في الدار المغصوبة واحد وجودا وفارد ماهية.

قوله : ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع ...

أي من عدم تعدد ماهية الموجود الواحد ظهر عدم ابتناء القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي عنوانين ، والقول بامتناعهما فيه على القول باصالة الوجود في دار التحقق ، وعلى القول باصالة الماهية فيه ، أي لا يبتنى القول بالجواز على القول باصالة الماهية في دار التحقق كما قال بها الشيخ شهاب الدين السهروردي ومن تبعه. ولا يبتنى القول بالجواز في هذه المسألة على القول باصالة الوجود كما قال بها المحقق السبزواري قدس‌سره ومن تبعه. بل اجتماعهما ممتنع سواء قلنا باصالة الوجود أم قلنا باصالة الماهية كما ذكر وجهه آنفا ، كما زعم صاحب الفصول قدس‌سره الابتناء المذكور.

وخلاصة توهم المحقق (صاحب الفصول) ان القول بالامتناع والجواز في مسألة الاجتماع يرتكزان على القول باصالة الوجود واصالة الماهية ، ببيان انه لا شبهة في ان ماهية الصلاة غير ماهية الغصب ، فهما ماهيتان متباينتان يستحيل اتحادهما في الخارج كاستحالة اتحاد الانسان والفرس مثلا فيه ، وعلى هذا فان قلنا بأصالة الوجود فاتحاد الماهيتين في الوجود الخارجي بمكان من الامكان كاتحاد الماهية الجنسية مع الماهية الفصلية ، كاتحاد الحيوان مع الناطق في الانسان ، فلا مناص حينئذ من القول بالامتناع في هذه المسألة ببيان ان ماهية الصلاة وان كانت مغايرة لماهية الغصب ، إلا انهما متحدتان في الخارج ، وتوجدان بوجود فارد ، ومن

١٤٧

المعلوم ان وجودا واحدا لا يعقل ان يكون مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا. فان قلنا باصالة الماهية فلا محالة يكون متعلق النهي غير متعلق الأمر تحصلا ضرورة استحالة اتحاد الماهيتين المحصلتين خارجا وضرورة استحالة دخولهما تحت ماهية ثالثة ، فاذن لا مناص من القول بالجواز.

فبالنتيجة : قال ان القول بالامتناع يبتنى على القول باصالة الوجود باعتبار ان الوجود في مورد الاجتماع واحد ، والقول بالجواز على القول باصالة الماهية ، باعتبار ان الماهية في مورد الاجتماع متعددة ، ولكن هذا التوهم فاسد جدا ، إذ ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات المتأصلة حتى يدخل محل النزاع في تلك المسألة ، اعني مسألة اصالة الوجود واصالة الماهية ، بل هما من الماهيات الانتزاعية والعناوين الاعتبارية التي لا مطابق لها في الخارج ما عدا منشأ انتزاعها سواء فيه القول باصالة الوجود أو الماهية ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى انه لا يعقل ان يكون لوجود واحد ماهيتان حقيقيتان بناء على اصالة الوجود ، أو حدان كذلك على القول باصالة الماهية لضرورة ان لوجود واحد ماهية واحدة أو حدا واحدا ، وهذا واضح ، ولا يخفى ان ماهية الشيء هي حد الشيء.

قوله : كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ...

أي قد ظهر من عدم تعدد الماهية للموجود الواحد عدم ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ، والقول بالامتناع على عدم تعدد وجودهما فيه بدعوى ان مورد الأمر إذا كان الماهية الجنسية ومورد النهي هو الماهية الفصلية.

وعلى هذا : فان كانت الماهيتان متحدتين ، اي الماهية الجنسية والماهية الفصلية ، في الخارج وموجودتين بوجود واحد ، فلا مناص حينئذ من القول بالامتناع. وان كانتا متعددتين فيه ، أي في الخارج ، وجودا فلا بد ان نقول بالجواز ،

١٤٨

وجه الظهور ان ماهية الصلاة وماهية الغصب في المسألة ليستا من الماهيات المتأصلة الحقيقية المقولية ، كالانسان لأنه من مقولة الجوهر المادي ، وكالبياض لأنه من مقولة الكيف المحسوس ، وكالمقدار لأن هذا من مقولة الكم ، بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج اصلا ، فلا تكون احداهما جنسا والاخرى فصلا ، كي يقال انهما موجودتان في الخارج بوجود واحد ان قلنا بعدم تعددهما بحسب الوجود في الخارج ، أو بوجودين إذا قلنا باتحادهما وجودا فيه ، فعلى الأول نقول بالجواز وعلى الثاني بالامتناع ، فعنوان الصلاة وعنوان الغصب المتصادقين على الصلاة في الدار المغصوبة لا يكونان من قبيل الجنس والفصل ، أي ماهية الصلاة ليست جنسا وماهية الغصب ليست فصلا لها ، لأن الماهية الفصلية لا تنفك عن الماهية الجنسية ، إذ نسبتها اليها كنسبة الصورة إلى المادة ، ومن المعلوم استحالة انفكاك الصورة عن المادة ، والحال ان الغصب ينفك عن الصلاة انفكاكا كثيرا بحيث ان نسبة اجتماعهما إلى مادة افتراقهما كنسبة الواحد إلى الألوف ، وعليه فكيف يكون الغصب فصلا وتكون الصلاة جنسا له ، كما ان الحركة في دار ـ من أي مقولة كانت ـ لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها وتتخلف ذاتياتها ، سواء وقعت الحركة جزء للصلاة أم لا ، سواء كانت الدار التي وقعت الصلاة فيها مغصوبة أم لا. فتحصل مما ذكر ان ماهية الصلاة ليست جنسا لها ، وان ماهية الغصب ليست فصلا لها ، ولا يخفى ان ماهية الأشياء تختلف باختلاف جنسها وفصلها ، كاختلاف ماهية الانسان والحمار لاختلاف فصلهما ، فماهية الانسان حيوان ناطق ، كما أن ماهية الحمار حيوان ناهق ، وكذا الاختلاف الماهوي بين الانسان والشجر مثلا ، لاختلاف جنسهما وفصلهما لأن جنس الانسان حيوان وفصله ناطق ، وجنس الشجر جسم وفصله نام.

فبالنتيجة : لو كانت الحركة جنسا للحركة التي وقعت في الدار المغصوبة وماهية الصلاة وماهية الغصب فصلين لها لتغيّرت ماهيتها وحقيقتها إذا لم تكن

١٤٩

ماهية الصلاة وماهية الغصب فصلين لها ، أي للحركة ، والحال ان حقيقتها محفوظة سواء كان فصلها ماهية الصلاة وماهية الغصب ، أم كان فصلها غيرهما ، مثل كون الداخل فيها لغير اتيان الصلاة ، ومثل كون الداخل المتحرك في الدار المباحة ، والحال ان حقيقتها باقية محفوظة على كل تقدير. فهذا يدل على ان توهم كون الحركة في مورد الاجتماع بما هي حركة جنسا والصلاتية والغصبية فصلين لها واضح الفساد. هذا اولا.

وثانيا يستحيل ان يكون لشيء واحد فصلان مقوّمان ، فان قوام الشيء انما يكون بفصله وصورته ، ومن الواضح انه لا يعقل ان يكون لشيء واحد صورتان.

توضيح لا يخلو من فائدة : ان حقيقة الحركة هي اشغال الجسم مكانا بعد خلوّه منه ، فحقيقة الحركة واحدة من حيث الجنس وهو اشغال الجسم مكانا ، ومن حيث الفصل وهو خلو المكان من الجسم ، فهذان جنسها وفصلها لا غيرهما. هذا مضافا إلى ان مفهوم الصلاة والغصب من المفاهيم الانتزاعية ، ومن الطبيعي ان المفهوم الانتزاعي لا يصلح ان يكون فصلا ، فان قوام الشيء انما هو بفصله كقوام الانسان بالناطق والحمار بالناهق والفرس بالصاهل مثلا ، والحال ان المفروض ان الأمر الانتزاعي لا وجود له في الخارج ، ومعه لا يعقل كونه فصلا ، وبالنتيجة لا تبتنى المسألة على ان التركيب بين الجنس والفصل اتحادي أو انفصالي ، فان كان على النحو الأول قيل بالامتناع ، وان كان على الطريق الثاني قيل بالجواز في المسألة كما علم وجهه آنفا.

قوله : إذا عرفت ما مهّدناه عرفت ان المجمع حيث كان واحدا ...

فنتيجة المقدمات الأربع : ان المجمع كالصلاة في الدار المغصوبة يكون واحدا وجودا وذاتا وماهية ، فيكون تعلق الأمر والنهي محالا ، ولو كان تعلقهما به بعنوانين بما عرفت سابقا من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه باختياره متعلقا للأحكام لا بعناوينه الطارئة عليه ، والحال انك قد عرفت في المقدمة

١٥٠

الأولى تضاد الأحكام الخمسة واستحالة اجتماع الحكمين منها في شيء واحد ، وان كان تضادها في مرتبة الفعلية فقط.

وفي المقدمة الثانية ان متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه ولا ما هو عنوانه الذي ينتزع من الفعل.

وفي المقدمة الثالثة أن المعنون واحد ، وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، والحال انه لا تنثلم به وحدته اصلا ، فقد ظهر لك ظهورا واضحا استحالة اجتماع الأمر والنهي في المجمع المعنون بعنوانين.

فان قيل : ان المقدمات الثلاث كافية لتحقيق القول بالامتناع قطعا ، فاذن لا حاجة إلى المقدمة الرابعة مع طولها.

قلنا : ان ذكرها لازم في هذا المقام لدفع الشبهتين الحاصلتين لصاحب الفصول قدس‌سره كما سبقتا مفصلا فلا حاجة إلى الاعادة حذرا من التكرار ، فالصلاة والغصب يكونان عين المجمع بدليل صحة حملهما ، عليه فيقال ان الحركة في الدار المغصوبة صلاة وغصب والحال ان المجمع شيء واحد وجودا وذاتا وماهية ، فيستحيل اجتماع الأمر والنهي ، والوجوب والحرمة ، في شيء واحد.

قوله : وان غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام ...

ثم ذكر المصنف (عليه الرحمة) انه قد يتوهم ان محذور اجتماع الضدين في شيء واحد يرتفع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الافراد ، ببيان ان الطبائع من حيث هي هي التي ليست إلا ذاتها وذاتياتها ، وان كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام الشرعية إلّا انها مقيدة بالوجود الخارجي على نحو كان القيد ، وهو الوجود خارجا ، والتقيد بالوجود الخارجي داخلا ، قابلة لأن تتعلق بها الأحكام الشرعية ، وعلى هذا فلا يكون متعلقا الأمر والنهي متحدين اصلا لا في تعلق الأمر والنهي ولا في مقام عصيان النهي واطاعة الأمر باتيان المجمع بسوء الاختيار كما إذا صلّى المكلف في الدار المغصوبة ، أما في المقام الأول فلتعدد متعلقهما بما هما متعلقان

١٥١

وان كانا متحدين في الوجود الخارجي إلا انك عرفت ان الوجود قيد خارج عن المتعلق ، والتقيد به داخل ، كما قال الحكيم السبزواري في منظومته :

والحصة الكلي مقيدا تجي

تقيد جزء وقيد خارجي

وأما في المقام الثاني فلسقوط احدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان ، فاذن لا يجتمع الحكمان في شيء واحد ، فلا اجتماع بينهما فيه ، كما لا يخفى.

ولا يخفى ان الآثار العادية ، والآثار العقلية ، والأحكام الشرعية ، مترتبة على الموجودات الخارجية بناء على اصالة الوجود ، أو على خارجية الماهيات ، لا على الماهيات من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها في الخارج ومع قطع النظر عن خارجية الماهيات ، لأنها من حيث هي هي ليست إلا هي. مثال الآثار العادية : كالنوم للانسان مثلا نظرا إلى جواز انفكاكه عنه عادة. ومثال الآثار العقلية التميز للجسم مثلا نظرا إلى عدم جواز انفكاكه عنه عقلا.

فقد ظهر الفرق بين الآثار العادية والآثار العقلية ، وهو : جواز الانفكاك في الأول عادة ، وعدم جوازه في الثاني ، وكذا الأحكام الشرعية تترتب على وجود الماهيات ، أو على خارجيتها ، لا تترتب عليها بما هي هي على خلاف بين الفلاسفة في اصالة الوجود أو اصالة الماهية ، فالماهيات من حيث هي ليست مطلوبة ولا غير مطلوبة ، كما انها من حيث هي ليست موجودة ولا معدومة ، لأنها تنقسم إلى الموجودة أو معدومة للزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى نقيضه ، نظير تقسيم الانسان الأبيض إلى الانسان الأبيض وإلى الانسان الاسود ، إلا انها مقيدة بالوجود بحيث كان القيد خارجا والتقييد داخلا ، صالحة لتعلق الأحكام بالطبائع الشرعية بالماهيات.

فمتعلق الأمر والنهي على القول بتعلق الأحكام لا يكونان متحدين اصلا ، إذ متعلق الأمر هو طبيعة الصلاة ومتعلق النهي طبيعة الغصب ، لا في مقام تعلق البعث

١٥٢

بمتعلق الأمر ، والزجر بمتعلق النهي ، أي مقام التشريع والتقنين ، ولا في مقام عصيان النهي واطاعة الأمر المتحققين باتيان المجمع بسوء الاختيار.

اما في المقام الأول فلتعدد متعلق الامر ومتعلق النهي ، إذ في مقام التشريع والجعل يكون متعلق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلق النهي طبيعة الغصب ، فمتعلقهما من حيث هو متعلق متعدد ، وان كانا متحدين من حيث الوجود الخارجي الذي يكون خارجا عن المتعلقين من حيث هما متعلقان.

واما في المقام الثاني فلسقوط الأمر بالاطاعة ، ولسقوط نهي (لا تغصب) بالعصيان. لأن كل واحد من الأمر والنهي كما يسقط بالامتثال كذلك يسقط بالعصيان. واما السقوط في مقام الامتثال فواضح لا يحتاج إلى تفصيل. واما السقوط في مقام العصيان ، كما هو المشهور عند الاصوليين الذي يحصل باتيان الصلاة في الدار المغصوبة فظاهر.

اما في الأمر فلأنه بمجرد اتيان المجمع يسقط الأمر بالصلاة ، فطلبها طلب الأمر الحاصل ، وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم ، واما في النهي فلأنه بمحض اتيان المجمع يعصي المكلف نهي المولى ، ويتحقّق الغصب ، فاذن النهي عنه عبث وهو قبيح ايضا. فهذا غاية التحقيق في المقام ، والحال اني اعتذر منكم من التكرار وأن لا يخلو من فائدة كما لا يخفى.

فبالنتيجة : في أي مقام اجتمع الوجوب الذي هو مفاد الأمر والحرمة التي هي مفاد النهي في شيء واحد ، أي لا يجتمعان فيه لا في مقام التشريع ولا في مقام الاطاعة والامتثال.

في جواب المصنف

قوله : وانت خبير بانه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت من ان تعدد العنوان ...

فقد اجاب المصنّف عن هذا الاستدلال من انك عرفت في طي المقدمات

١٥٣

المذكورة ان تعدد العنوان كعنوان الصلاة ، وكعنوان الغصب ، لا ينفع في الجواز ، كما انه لا يجدي فيه تعلق الأحكام الشرعية بالطبائع لا الافراد ، إذ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، والحال ان الطبائع المقيدة بالوجود الخارجي بحيث يكون القيد خارجا والتقيّد داخلا تكون متعلقات الأحكام ، والحال ان الأمر والنهي تعلقا بالمعنون واقعا ، وتعلقهما بالعنوان نحو (صلّ) و (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و (لا تغصب) يكون لأجل كونه مشيرا إلى المعنون ، نظير قولك (اكرم هذا الجالس) فلا يكون العنوان من حيث هو هو متعلق الأحكام ، بل المتعلق هو المعنون الذي هو واحد ، جودا وذاتا وماهية ، فلا يجوز فيه اجتماع الوجوب والحرمة ، إذ ليس هذا إلا اجتماع الضدين في الشيء الواحد ، وهو محال عقلا ، فحال العناوين كحال العبارات الحاكية عن المعاني ، فصور العبارات فانية في المعاني ، فالمقصود هو المعاني لا العبارات.

وكذا العناوين الحاكية عن المعنونات لا تكون مقصودة ، بل المقصود هو المعنونات. فالعناوين كالعبارات والمعنونات كالمعاني ، إذ كما ان العبارات حاكية عن المعاني ، فكذا العناوين والاسماء حاكية عن المعنونات والمسميات ، فلا تكون العناوين بما هي هي ، أي على استقلالها وحيالها ، مقصودة كي يقال انها متعددة ، فلا مانع من أن يتعلق الأمر بعنوان كعنوان الصلاة ، ومن أن يتعلق النهي بعنوان وهو عنوان الغصب فلا اصطكاك في البين ، ولكن قد عرفت ان الأمر ليس كذلك.

في رد الاستدلال الآخر على الجواز

قوله : كما ظهر ممّا حققناه انه لا يكاد يجدي ايضا كون الفرد مقدّمة ...

كما اجاب المصنّف قدس‌سره عن الاستدلال الأول بأنّ معنى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) هو (كبّر واقرأ واركع وتشهّد وسلّم وكن في مكان وقم) ، ومعنى (لا تغصب) وهو لا تتصرّف بمال الغير بغير اذنه ، ولا تكن في الدار المغصوبة. فالأمر بالصلاة أمر بالكون كما أنه أمر بغيره من اجزائها ، والنهي عن الغصب نهي عن الكون في دار

١٥٤

الغير بغير رضاه ، فمتعلق الأمر والنهي هو الكون حقيقة ، وهو شيء واحد وجودا وذاتا وماهية ، لا يمكن ان يجتمع فيه الأمر والنهي والوجوب والحرمة. فاستدلال الجواز على القول بتعلق الأحكام بالطبائع فاسد جدا لا يصغى اليه ، إذ المستدلّ رأى الظاهر وهو تعلق الأمر بعنوان الصلاة وباسمها ، وما رأى الواقع وهو تعلقه بالمعنون والمسمّى وتعلق النهي بعنوان الغصب وباسمه ، والحال انه تعلّق بالمعنون والمسمى وهو التصرّف والكون.

كذلك اجاب عن الاستدلال الثاني ، خلاصته : ان الفرد الموجود في الخارج وذلك مثل الكون والحركة في دار الغير بغير إذنه ، مقدمة لوجود المأمور به الذي هو طبيعة الصلاة ولوجود المنهي عنه الذي هو طبيعة الغصب ، فوجود الطبيعة في الخارج يتوقف على وجود الفرد فيه ، فينطبق عنوان المقدمية على وجود الفرد وهو كونه موقوفا عليه ، وليست المقدمة مأمورا بها بالأمر النفسي ، بل هو طبيعة الصلاة ، كما ان المنهي عنه طبيعة الغصب ، فلا يكون الأمر والنهي موجودين في الفرد ، أي الأمر النفسي والنهي النفسي ليسا موجودين فيه ، فالفرد مقدّمة تغاير المتعلقين وجودا وخارجا على نحو تغاير المقدّمة لذيها ، كتغاير الطهارة للصلاة وقطع الطريق للحج ، وكنصب السلم للصعود على السطح.

فبالنتيجة : لا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، ولا يخفى ان المراد من الفرد في هذا المقام هو المجمع ، اعني الصلاة في الدار المغصوبة. فان قيل انه يلزم على تقدير كون الفرد مقدمة للمأمور به ان يكون الحرام مقدمة للواجب وهو لا يجوز كما لا يكون التوضؤ بالماء المغصوب مقدمة للصلاة ، فبالنتيجة لا يكون الأمر المقدمي للحرام.

قلنا : انه لا ضير في كون المقدمة محرّمة في صورة عدم انحصارها بالمحرّمة ، إذ حرمتها تكون بسوء اختيار المكلف ، فلا يرد قبح على الآمر لتغاير متعلق المتضادين ، اعني الأمر والنهي ، إذ متعلق الأول هو طبيعة الصلاة ، والثاني هو

١٥٥

طبيعة الغصب ، ولهذا لا يحمل احدهما على الأخر ، ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة ، بل هذا مبغوض ، فلا تقدح حرمة المقدمة بصحة الأمر بذي المقدمة في صورة عدم الانحصار ، فالمولى أمر بايجاد طبيعة الصلاة في ضمن فرد منها ، والحال ان العقل يحكم بايجادها في ضمن فرد مباح ، ولكن المكلف أوجدها في ضمن فرد حرام بسوء اختياره ، ولا يلزم من كون الفرد حراما بطلان الطبيعة الحاصلة في ضمنه ، لأن الحرام يصير مسقطا عن الواجب في التوصليات ، بل الواجب التوصلي يجتمع مع الحرام كما سبق في بحث المقدمة. فاذن لا تضر حرمة المقدمة بامتثال أمر ذي المقدمة ، كما إذا ركب المكلف فرسا مغصوبا وسافر إلى مكة فأتى بالحج الواجب فيصح حجه ويحصل امتثال أمره بالاجماع ، فكذا فيما نحن فيه ، فهذا الدليل والدليل الأول للمحقق القمي قدس‌سره على جواز الاجتماع.

فأجاب المنصّف رحمه‌الله عنه بجوابين :

الأول : انه كيف يعقل ان يكون الفرد مقدمة للكلي ، مع ان المقدمية تقتضي الاثنينية وجودا في الخارج ، بحيث يكون احد الشيئين مقدمة وموقوفا عليه ، والآخر ذا المقدمة وموقوفا مثل الطهارة والصلاة ، والحال انه لا تعدد بين الفرد والكلي بحسب الوجود ، إذ لا وجود للكلي في الخارج إلا بوجود الفرد. مثلا الانسان يوجد خارجا بوجود زيد وعمرو و ... ولا وجود له إلّا بوجود افراده ومصاديقه ، وهذا واضح.

والثاني : انه على تسليم كون الفرد مقدمة للكلي المأمور به فهو انما ينفع بحال المستدل لو كان المجمع متعددا ذاتا وماهية ، أي لو كان المجمع فرد الماهيتين ، احداهما موضوع للامر والاخرى موضوع للنهي ، وليس كذلك إذا الفرد ما له من الماهية موضوع للأمر والنهي معا ، لما سبق من ان العنوانين المأخوذين موضوعا للأمر والنهي حاكيان عن معنون واحد وهو الموضوع ، فيرجع الاشكال وهو اجتماع الحكمين في موضوع واحد ، والحال انك قد عرفت انه واحد ماهية على القول

١٥٦

بأصالة الماهية ، كما انه واحد وجودا على القول بأصالة الوجود كما لا يخفى ، فيجتمع الوجوب الغيري والحرمة الغيرية في الشيء الواحد وهو محال ، إذ هذا الفرد كما انه مقدمة لطبيعي الصلاة هو مقدمة لطبيعي الغصب فمقدمة الأول واجبة غيرية ومقدمة الثاني محرمة غيرية ، والحال انه لا فرق في الاستحالة بين النفسيين منهما وبين الغيريين منهما وبين المختلفين منهما في شيء واحد كما مرّ في بحث المقدمة ، فراجع هناك حتى يتّضح الحال.

أدلة المجوّزين

قوله : ثم انه قد استدل على الجواز بامور : منها انه لو لم يجز اجتماع ...

وقد استدل المجوزون مضافا إلى الدليلين السابقين بامور ، منها :

ان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لو لم يكن جائزا لما وقع في الشريعة المقدسة ، مع انه واقع فيها ، كما في العبادات المكروهة ، حيث انه قد اجتمع فيها الوجوب مع الكراهة مرة ، كما في الصلاة الواجبة في الحمام والصلاة المذكورة في مواضع التهمة ونحوهما ، والاستحباب مع الكراهة مرة اخرى ، كما في صلاة النافلة في الحمام ، ومن الواضح الذي لا ينكر ان وقوع الشيء في الخارج ادل دليل على امكانه وجوازه. هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى ان الأحكام ـ سواء كانت تكليفية أم كانت وضعية ـ متضادة لا يمكن اجتماع اثنين من الأحكام في شيء واحد ، سواء كانا وجوبا وحرمة أم كانا استحبابا وكراهة ، وفي ضوء هذا يكشف عن اجتماع اثنين منها في الموارد العديدة في شيء واحد ، انه لا اشكال من اجتماع مطلق الأمر والنهي فيه ، سواء كانا الزاميين أم كانا غيرهما.

وذكر المصنف في هذا المقام امثلة ، منها الصلاة في مواضع التهمة ، ومنها الصلاة في الحمام ، ومنها الصيام في السفر ، ومنها الصوم في يوم عاشوراء.

ولكن الاشكال في المثال الأول والمثال الثالث ، اما بيانه في الأول : فلعدم

١٥٧

الدليل على كراهة الصلاة في مواضع التهمة ، وانما الدليل قام على كراهة الكون فيها. والكون ليس متّحدا مع الصلاة حتى تكره الصلاة فيها بسبب الكون ، بل هو شيء يلازم الصلاة وجودا وخارجا ، وليس الكون نظير الغصب الذي يتّحد مع الصلاة في المجمع ليسري الحكم من الكون إلى الصلاة.

واما بيانه في الثالث : فلأن الصوم في السفر ليس مأمور به لا وجوبا ولا استحبابا ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة أو الاستحباب مع الكراهة ، لأنه غير مشروع في غير موارد الاستثناء ، كما إذا نذر الصوم في السفر فاذن ليس بمكروه ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة.

اما بيان الملازمة بين الملزوم وهو جملة (لو لم يجز الاجتماع) وبين اللازم وهو جملة (لما وقع نظيره) انه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في امكان اجتماع الأمر والنهي لما جاز اجتماع الحكمين ، أي اجتماع حكمين آخرين غير الوجوب وغير الحرمة ، في مورد تعدد الجهة لعدم اختصاص الوجوب والحرمة بعلة امتناع اجتماعهما ، وهي عبارة عن تضادهما ، لأن التضاد ثابت بين الأحكام بأسرها وتمامها ، والتالي باطل لوقوع اجتماع الكراهة مع الوجوب ، في مثل الصلاة في الحمام ، إذا كانت الصلاة مكتوبة. ولوقوع اجتماع الكراهة مع الاستحباب في مثل الصوم في السفر وفي مثل الصوم في يوم عاشوراء ويحتمل ان يكون الصوم في السفر مثالا لاجتماع الكراهة مع الوجوب إذا كان الصوم واجبا فيه كالصوم المنذور المعين في السفر ، أو كصوم بدل الهدي إذا عجز المكلف عنه ، فلا بد من ان يصوم عشرة ايام ثلاثة منها في مكة المكرمة وسبعة منها إذا رجع.

فصوم يوم عاشوراء مكروه مطلقا سواء كان في السفر أم كان في الحضر ، ويدل على كراهة صوم يوم عاشوراء ان بني امية التزموا صوم هذا اليوم شكرا من للانتصار وفرحا بغلبتهم ، فتركه فيه مخالفة لهم وهي مطلوبة للشارع المقدس ، ولأجل انطباق عنوان المخالفة على الترك يكون ذا مصلحة غالبة على فعل الصوم

١٥٨

فيه ، فاذن يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين والمكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فلا بد من القول بالتخيير بينهما إذا لم يكن احدهما اهم من الآخر وإلا فيقدم الأهم على غيره.

وفي المقام بما ان الترك اهم من الفعل فيقدم الترك على الفعل ، أي فعل الصوم في يوم عاشوراء ، ولوقوع اجتماع الوجوب مع الاباحة في مثل الصلاة في الدار ، ولوقوع اجتماع الاستحباب مع الاباحة في مثل الصلاة أول وقتها ، أي فعلها في اول وقتها في المنزل ، ولوقوع اجتماع الوجوب مع الاستحباب في مثل الصلاة في المسجد. فهذه الموارد لا وجه لجواز اجتماع حكمين من الأحكام الخمسة إلا تعدد الجهة ، فاذا كان تعددها مجديا في رفع التضاد بين بعضها ، كاجتماع الكراهة مع الوجوب أو مع الاستحباب مثلا ، لكان مجديا في بعضها الآخر ايضا ، كاجتماع الوجوب مع الحرمة كما فيما نحن فيه.

توضيح وتكميل في تحقيق تضاد الأحكام

لا ريب ان الوجوب يغاير الحرمة من حيث الجنس والفصل ، إذ جنس الأول هو الاذن في الفعل او فقل هو طلب الفعل ، وجنس الثاني هو طلب الترك وفصل الأول هو المنع من الترك ، أو فقل هو المنع من النقيض ، أي نقيض الفعل وهو عبارة عن تركه ، كما ان الوجوب يغاير الاستحباب والاباحة من حيث الفصل وحده ، إذ فصل الأول هو عدم المنع من الترك ، وفصل الثاني هو مساواة الترك مع الفعل ، فظهر انهما شريكان مع الوجوب في الجنس ويغايرانه في الفصل ، كالانسان والفرس والحمار ، إذ جنس هذه الثلاثة هو الحيوان ، وفصل الأول هو الناطق ، وفصل الثاني هو الصاهل ، وفصل الثالث هو الناهق ، وكما ان الحرمة تغاير الكراهة من حيث الفصل ، إذ فصل الأول هو المنع من الفعل ، وفصل الثاني هو عدم المنع من الفعل ، فانقدح وجه تضاد الأحكام ، إذ لكل واحد منها فصل يخالف فصل الآخر.

١٥٩

فبالنتيجة : يكون كل واحد من الأحكام نوعا على حدة ، فتكون متضادة ، إذ تضاد الأنواع ضروري ، كتضاد انواع الحيوان مثلا.

اجاب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الدليل أولا بالاجمال وثانيا بالتفصيل.

أما الجواب عنه اجمالا : فهو انه بعد اقامة البرهان العقلي والدليل القطعي على استحالة الاجتماع في شيء واحد ذي عنوانين ، لا بد من التصرف والتأويل في المواضع التي وقع فيها الاجتماع في الشريعة المقدسة على الظاهر ، لأن ظهور الأدلة التي اجتمع فيها الحكمان لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع ، فقد ظهر وجه الاجمال لأنه لم يبين كيفية التصرف والتأويل ، وبعد التأويل فقد سقطت الأدلة عن الدليلية على الاجتماع.

مضافا إلى هذا ظهور تلك الموارد ، هو اجتماع حكمين من الأحكام فيها بعنوان واحد ، إذ ظاهرها يكون على نحو (صلّ ولا تصلّ في الحمام) وعلى نحو (صم ولا تصم في السفر) على نحو (صم ولا تصم يوم عاشوراء) ، فالعنوان الذي تعلق به الأمر والنهي واحد وهو عبارة عن عنوان الصلاتية والصومية ، والحال انه لا يقول الخصم بجواز الاجتماع في الشيء الواحد بعنوان واحد ، بل يقول بالامتناع ما دام الاجتماع لم يكن بعنوانين وبوجهين ، فالخصم لا بد ان يتفصّى عن اشكال الاجتماع في الموارد المذكورة ، خصوصا إذا لم تكن هناك مندوحة ، وجه الخصوصية انه إذا لم تكون للمأمور به مندوحة ، كصوم يوم عاشوراء فيلزم الاجتماع قطعا ويقينا ، إذ الامر الاستحبابي متوجه إلى صوم كل يوم ، إذ صوم كل يوم مستحبّ استحبابا نفسيا إلا ما خرج بالدليل كصوم العيدين وصوم ايام التشريق لمن كان بمنى ناسكا او مطلقا على خلاف بين الأعلام.

فبقى يوم عاشوراء تحت العام ، فاذن اجتمع فيه الاستحباب مع الكراهة قطعا بعنوان واحد ، لأن النهي المقتضي للكراهة وقع عن نفس الصوم الموضوع للأمر لا بعنوان آخر ، وكذا نحو (صلّ ولا تصل في الحمام) و (نحو صم ولا تصم في السفر)

١٦٠