البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

على الارادة المذكورة لا غير كما عرفت آنفا ، من باب تقديم الأقوى ظهورا على الأضعف ظهورا ، كما اشرنا اليه آنفا.

وبالجملة : الفرق بين المخصص المتصل وبين المخصص المنفصل ، وان كان بعدم انعقاد نطفة الظهور للعام في الأول إلا في الخصوص نحو (اكرم العلماء العدول) ، واما في الثاني فينعقد الظهور في العموم للفصل بينهما ، أي بين العام والخاص المنفصل ، هذه جهة افتراقهما ، واما جهة اشتراكهما فلا مجال لتوهم الاستعمال مجازا في واحد منهما أصلا ، بل الاستعمال في كليهما على نحو الحقيقة ، إذ الاصل العقلائي في كل كلام ان يكون مستعملا في معناه وهو العموم ، فالمخصص سواء كان متصلا أم كان منفصلا ، قرينة على ان الارادة الجدية لم تتعلق بالعموم ثبوتا ، فاللازم هو الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول ، فيجب اكرام افراد علماء العدول فقط ، فاذا نشك في فرد انه واجب الاكرام أم لا للشك في عدالته فلم يجز التمسك بالعام من جهة اصالة عدم فسقه ، والالتزام بعدم حجّية ظهور العام في خصوص ما كان الخاص حجّة فيه في الثاني ، فنحن نقول ان ظهور (اكرم العلماء) في وجوب اكرام الفسّاق ليس بمتبع وواجب الاتباع ، لكون دليل الخاص المنفصل ، وهو (لا تكرم الفسّاق منهم) حجة في عدم وجوب اكرامهم ، فاذا شككنا في فرد فيجوز التمسك بالعموم ، فيحرز وجوب اكرامه ، لأن دليل الخاص اخرج عن تحت العام معلوم الفسق ، فيبقى مشكوك الفسق تحت العام ، وهذا فرق آخر بينهما فتفطن ، أي كن مستيقظا.

جواب آخر عن الاستدلال

وقد اجيب عن احتجاج النافي ، وبعد تسليم مجازية العام المخصّص ان الاجمال ثابت إذا لم يكن احد مراتب المجاز معينا ، ولكن تمام الباقي اقرب إلى العموم من غيره من حيث المقدار ، كالاربعين مثلا بالاضافة إلى الخمسين ، إذا كان

٤٠١

عدد افراد العلماء خمسين نفرا والمخصّص قد أخرج عن تحت العلماء عشرة أشخاص مثلا ، فيبقى الاربعون فردا تحته ، فليس العام المخصّص بمجمل ويكون حجة في تمام الباقي ، هذا مضافا إلى منافاة عدم ارادته الاغراء بالجهل ، إذ مراتب المجاز متعدد ، وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم.

وفيه ان الاقربية المرجّحة لبعض مراتب المجازات على بعضها الآخر إذا كانت ناشئة في أذهان السامعين من جهة كثرة استعمال اللفظ في ذلك البعض موجبة لانس اللفظ بذاك البعض ، فلا عبرة بالاقربية من حيث المقدار بلا كثرة استعمال اللفظ في ذاك المقدار الاقرب إلى العموم ، وهي غير معلومة ، فتصل النوبة باصالة عدم كثرة الاستعمال حين الشك في الكثرة وعدمها ، فتبقى حجة النافي بحالها.

وفي تقريرات العلامة الانصاري قدس‌سره في مقام الجواب عن احتجاج النافي ما هذا لفظه : «والأولى أن يجاب بعد تسليم المجازية بانّ دلالة العام بالوضع على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالة العام على فرد آخر من افراده ، بل يدل على كل فرد فرد بنفسه ، سواء كانت الدلالة على نحو الحقيقة أم كانت على نحو المجاز ، إذ لا تفاوت بين المجازية والحقيقة من جهة دلالة العام ، إلا ان المجازية لا تشمل بعض افراد المعنى الحقيقي للعام وهو العموم من جهة التخصيص الذي يوجب المجازية في لفظ العام ، وليست المجازية من جهة كثرة المعنى المجازي على المعنى الحقيقي كي يفترقا من حيث دلالة اللفظ ، فلفظ العام يدل بالدلالة التصديقية على تمام الافراد دلالة واحدة لكنها منحلة إلى دلالات ضمنية متعددة بتعدد الافراد ، فيدل اللفظ العام على كل فرد دلالة ضمنية في قبال دلالته كذلك على بقية الافراد ، فمرجع هذه الدلالة الضمنية إلى ان الفرد مستعمل فيه ضمنا ومراد للمتكلم بالارادة الاستعمالية ضمنا ، وهذه الدلالات كل واحدة منها حجة لو لم يرد الدليل المخصص ، فاذا ورد المخصص المنفصل فاقتضى عدم حجّيّة الدلالات الضمنية للعام على افراد المخصص ، وان المتكلم باللفظ العام لم يرد منه بالارادة الاستعمالية تلك الافراد.

٤٠٢

فبالنتيجة : لم يكن وجه لرفع اليد عن حجية الدلالات الضمنية للعام على استعماله في الافراد الباقية بتمامها ، لأن الموجب لرفع اليد عن الدلالات المذكورة ان كان انتفاء الدلالة على الافراد الباقية ، فلا وجه له. إذ الدلالة على جميع الافراد حتى افراد المخصص بحالها ، والمخصص ليس من القرائن المتصلة كي يوجب انقلاب الدلالة. وان كان الموجب تلازم الدلالات الضمنية في الحجية بحيث يمتنع انتفاء حجية الدلالات الضمنية على الافراد الخاصة وثبوت حجية الدلالات الضمنية على الافراد الباقية ، ففيه المنع عن هذا التلازم جدا ، إذ ليس التلازم بين الدلالة المطابقية وبين الدلالات الالتزامية في الحجية فضلا عن التلازم بين الدلالات الضمنية ، فاذا كانت الدلالات الضمنية على ارادة الباقي بالارادة الاستعمالية باقية على حجيّتها وجب الحكم بمقتضاها من ارادة الباقي بتمامه ، ووجب الحكم باستعمال لفظ العام فيه وان كان هذا الاستعمال مجازا ، إذ الدلالة المجازية انما كانت مجازية بواسطة عدم شمول العام لافراد المخصص ، كافراد العلماء الفسّاق ، من جهة تقدم الدليل المخصص على الدليل العام من باب تقديم النص أو الاظهر على الظاهر ، وهو المسمى بالجمع الدلالي العرفي ، وليست مجازيتها من جهة ان المدلول بها مباين للمعنى الحقيقي. والمباينة متحققة بواسطة دخول غير افراد العام في المجازية ، وليس الأمر كذلك وليس من افراد العام حتى يقال انها غير ثابتة لا في ضمن الدلالة على تمام الافراد لكون المفروض انتفاء الدلالة على التمام بواسطة الخاص ولا مستقلا لعدم القرينة وليس الأمر على التمام.

فالمقتضي لحمل لفظ العام على الباقي موجود ، وهو دلالته عليه على كل حال والمانع عنه مفقود في مثل المقام ، لأن المانع ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله وهو المخصص ، ولكن المفروض انتفاء المخصص بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغير الباقي كاختصاصه باخراج الفسّاق ويبقى العدول تحته في نحو (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم) ، فلو شك في وجود مخصص آخر

٤٠٣

فالأصل عدمه ، ولذا يجب اكرام مجهول الحال تمسكا بالعموم كما لا يخفى. انتهى موضع الحاجة.

في اعتراض المصنّف قدس‌سره على جواب التقريرات

استشكل المصنّف رضى الله عنه على جواب صاحب التقريرات عن احتجاج النافي بأن دلالة العام على كل فرد انما يكون بلحاظ استعماله في المعنى الذي وضع له وهو العموم ، فاذا فرض قيام الدليل على التخصيص وقلنا ان استعماله في غير العموم مجاز كما هو مفروض التقريرات ، والمعنى المجازي متعدد وليس معيّن لأحد المعاني المجازية على الفرض بموجود ، فتعيين تمام الباقي بلا معيّن ترجيح بلا مرجع فاذا كان المعنى المجازي متعددا فليس للعام ظهور في تمام الباقي ، إذ منشأ الظهور إما الوضع واما القرينة ، وكلاهما مفقود.

اما فقدان الوضع فظاهر ، لأن اللفظ العام لم يوضع لتمام الباقي ولا لغيره من غير العموم ، واما فقدان القرينة فظاهر ايضا ، لأن الدليل الخاص قرينة صارفة للفظ العام عن العموم إلى الخصوص ، وليس بقرينة معيّنة لتمام الباقي فيصير مجملا وليس للظهور موجب آخر غير الوضع او القرينة المعيّنة لأحد مراتب المجاز ، ودلالة العام على كل فرد على حدة قبل التخصيص لا تقتضي دلالة العام على تمام الباقي بعد التخصيص كما توهم صاحب التقريرات ، وذلك لأن الدلالة على كل واحد من الافراد قبل التخصيص مستندة إلى الاستعمال الحقيقي ، فالدلالة على كل واحد من الافراد ضمنية. ومع فرض عدم استعمال العام في العموم فلا موجب لظهوره في تمام الباقي إذا لم تكن هناك قرينة على تعيين تمام الباقي ، ولكن المانع عن ظهور العام المخصص في تمام الباقي وان كان مدفوعا بالأصل ، أي باصالة عدم المانع وأصالة عدم المخصص الآخر ، ولكن ليس المقتضي لهذا الظهور بموجود بعد رفع اليد عن الوضع وبعد رفع اليد بواسطة المخصص عن استعمال لفظ العام

٤٠٤

في العموم وفي المعنى الحقيقي ، ففقدان المقتضي لظهور العام في تمام الباقي ، وان كان مع عدم المانع عنه بالاصل يكفي في عدم حجيته في الباقي بتمامه.

نعم انما يجدي عدم المانع عن الظهور إذا كان لفظ العام مستعملا في العموم في الموضوع له ، ولكن شك في تخصيص العام ، فهذا الاصل ينفع حينئذ ، أي حين وجود المقتضي للظهور وهو الوضع والاستعمال في الموضوع له وهو العموم ، فاذا كان المقتضي للظهور موجودا فهو متبع ، كما حقّقناه في طي جوابنا عن احتجاج النافي وقلنا هناك ان التخصيص انما يكون بالاضافة إلى المراد الواقعي الجدّي وليس بالاضافة إلى المراد الاستعمالي وتقدم هذا المطلب مفصلا. فمختار المصنّف رضى الله عنه حجّية العام في الباقي لا من باب المجازية ، بل من باب الحقيقة.

في تخصيص العام بمجمل مفهوما أو مصداقا

قوله : فصل إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره من بيان حكم المخصص المبين مفهوما ومصداقا ، شرع في بيان حكم المخصص المجمل مفهوما ومصداقا ، فاعلم ان الخاص إما مبين المفهوم والمصداق اولا ، وعلى الثاني اما اجماله في المفهوم وإما في المصداق ، وكل منهما اما مردد بين الاقل والأكثر ، واما مردد بين المتباينين ، وكل منهما اما متصل واما منفصل فصور المخصص المجمل ثمان ، أربع لمجمل المفهوم ، وأربع لمجمل المصداق ، ولكن قدّم المصنّف رضى الله عنه بحث مجمل المفهوم الدائر بين الأقل والأكثر ، وكان المخصص المجمل مفهوما منفصلا ، نحو (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم) ، فمفهوم الفاسق مردّد بين من ارتكب مطلق المعصية سواء كانت كبيرة أم كانت صغيرة وبين من ارتكب معصية كبيرة فقط ، فلا يسري اجماله إلى العام ، لا حقيقة بارتفاع ظهور العام في العموم ، ولا حكما بارتفاع حجية ظهوره فيه ، فلا يكون اجماله مانعا عن التمسك بعموم العام ، حيث ان ظهوره في العموم قد انعقد ،

٤٠٥

والمخصص المنفصل كما عرفت لا يكون مانعا عن انعقاد ظهوره في العموم ، وعليه من المحتم أنه يقتصر في تخصيصه على المقدار المتيقن ارادته من المخصص المنفصل وهو خصوص فاعل الكبيرة فقط. واما في المشكوك فهو فاعل الصغيرة في المثال المذكور. فبما ان الخاص لا يكون حجة فيه لفرض إجماله فلا مانع من التمسك فيه بعموم العام ، حيث انه حجة فيه ، فلا يسري إجمال المخصص إلى العام على الفرض بل كان العام متبعا في الفرد الذي يحتمل دخوله تحت الخاص ، كمرتكب الصغيرة لوضوح ان العام حجة في الفرد المشكوك بلا مزاحم اصلا ، لان الخاص انما يزاحم العام في الفرد المعلوم دخوله تحت الخاص ، كمرتكب الكبيرة ، ولا يزاحمه في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص والمزاحمة فيه من جهة تحكيم النص أو الأظهر على الظاهر ، كما تقدم هذا ، أي في الفرد المعلوم دخوله تحت الخاص كمرتكب الكبيرة.

هذا كله إذا كان اجمال المخصص المنفصل بحسب المفهوم دائرا بين الأقل والأكثر ، والمراد من الأقل مرتكب الكبيرة ، ومن الأكثر مرتكب الكبيرة والصغيرة معا ، كما لا يخفى.

ولا يخفى ان عبارة المصنّف من (انما ... الى ... فيما ...) لا يخلو من علقة لكثرة الضمائر ولكن (ما) الموصولة الاولى عبارة عن الفرد المعلوم دخوله تحت الخاص ، كمرتكب الكبيرة ، و (ما) الموصولة الثانية عبارة عن الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص ، كمرتكب الصغيرة ، والضمير المستتر في (يزاحمه) راجع إلى الخاص المنفصل ، والضمير البارز في (يزاحمه) راجع إلى العام ، و (هو) راجع إلى الخاص المنفصل والضمير في (خلافه) راجع إلى العام ، و (كذلك) اشارة إلى الحجة على خلافه. كما ان الضمير المستتر في (لا يكون) راجع إلى الخاص المنفصل.

وان لم يكن الخاص مترددا بين الأقل والأكثر ، بل كان مفهوم الخاص المجمل مترددا بين المتباينين مطلقا ، أي سواء كان متصلا أم كان منفصلا أو مترددا

٤٠٦

بين الأقل والأكثر فيما إذا كان المخصص متصلا ، فيسري اجمال المخصص حينئذ إلى العام حكما ، أي بارتفاع حجية ظهور العام في العموم في المنفصل المردد بين المتباينين وحقيقة في غير المنفصل ، أي بارتفاع اصل ظهوره فيه ، إذا كان الخاص بحسب المفهوم والتفصيل مجملا فان كان دائرا بين الأقل والأكثر وكان منفصلا ، فقد سبق حكمه ، وان كان دائرا بين المتباينين مطلقا ، أي سواء كان متصلا أم كان منفصلا ، أو بين الأقل والأكثر مع كون الخاص متصلا بالعام ، فهذه اربع صور لمجمل المفهوم. ولا بدّ هنا من بيان امثلتها وأحكامها :

فمثال الأول : نحو (اكرم العلماء) ونحو (لا تكرم الفسّاق منهم) هذا مثال الخاص المنفصل مع كون مفهومه مجملا بسبب دورانه بين الاقل والاكثر.

والثاني : نحو (اكرم العلماء إلا زيدا) مثلا إذا افترضنا ان زيدا دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن بكر. هذا مثال المتباينين مع كون الخاص متصلا بالعام.

والثالث : نحو (اكرم العلماء ولا تكرم زيدا) والفرض كالسابق ، أي إذا افترضنا ان زيدا دار أمره بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر. هذا مثال المتباينين مع كون الخاص منفصلا عن العام.

والرابع : نحو (اكرم العلماء العدول) لتردد مفهوم العدالة بين الاجتناب عن المعاصي عن ملكة والاجتناب عنها مطلقا ، أي ولو كان لا عن ملكة. هذا مثال الخاص المتصل مع كون مفهومه مترددا بين الاقل والاكثر.

واما بيان احكامها ، فقد سبق في صدر الفصل الأول هذا حكم الخاص المنفصل إذا كان مفهومه مرددا بين الأقل والأكثر.

واما بيان حكم الخاص المنفصل إذا كان مفهومه مرددا بين المتباينين فيقال هو وان لم يوجب إجمال العام حقيقة حيث قد انعقد للعام ظهور في العموم كما تقدم وجهه. ومن الطبيعي ان الشيء لا ينقلب عما هو عليه ، إلا انه يوجب إجماله حكما. مثلا إذا قال المولى (اكرم كل عالم) ثم قال (لا تكرم زيدا) إذا افترضنا ان زيدا مردد

٤٠٧

بين شخصين ، فهذا المخصص المنفصل ، وان لم يكن مانعا عن ظهور العام في العموم كما عرفته سابقا ، إلا انه لا يمكن ان يتمسك باصالة العموم في المقام ، لأن التمسك بها ، بالاضافة إلى كلا الشخصين لا يمكن لأن العلم الاجمالي بخروج احدهما عن تحت العام أوجب سقوط اصالة العموم عن الحجية والاعتبار. فبالنتيجة لا تكون كاشفة عن الواقع بعد هذا العلم الاجمالي ، واما جريانها بالاضافة إلى احدهما المعين نحو (زيد بن بكر) دون الآخر نحو (زيد بن خالد) ، فهو ترجيح بلا مرجح.

فالنتيجة : ان العام في هذا المقام في حكم المجمل وان لم يكن مجملا حقيقة.

واما بيان حكم الخاص المتصل إذا كان مفهومه مرددا بين الأقل والأكثر كقولنا (اكرم العلماء إلا الفسّاق منهم) إذا افترضنا ان مفهوم الفاسق مجمل مردد بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة ، ففي مثل ذلك شمول الخاص لفاعل الصغيرة غير معلوم ، حيث لا يعلم بوضع الخاص وهو (الفاسق) للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة ، كذلك لا يعلم شمول العام له ، نظرا إلى عدم انعقاد الظهور للعام ، فلا يعلم ان الخارج من العام فاعل الكبيرة والصغيرة معا ، أو خصوص فاعل الكبيرة. وفي ضوء هذا يكون المرجع في فاعل الصغيرة الاصل العملي.

والتفصيل : إذا كان العام متكفلا لحكم الزامي والخاص متكفلا لحكم غير الزامي ، أو بالعكس ، فالمرجع فيه اصالة البراءة ؛ للشك في وجوب اكرام فاعل الصغيرة وعدم وجوبه وهذا مجري البراءة ، كما سيأتي في محلّه ان شاء الله تعالى.

واما إذا كانا متكفلين لحكم الزامي فيدخل هذا المورد في دوران الأمر بين المحذورين ، حيث يدور أمر فاعل الصغيرة بين وجوب اكرامه وحرمة اكرامه ، فهل المرجع فيه اصالة التخيير عقلا أو اصالة البراءة ، الاظهر هو الثاني.

وأما بيان حكم الخاص المتصل إذا كان مفهومه مرددا بين الأقل والأكثر ، أي هذا الخاص يوجب اجمال العام حقيقة فلا يمكن التمسك بالعام أصلا ، مثاله : (اكرم

٤٠٨

العلماء إلا زيدا) مثلا ، إذا افترضنا ان زيدا دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن بكر ، فان هذا المخصص يمنع من ظهور العام في العموم ويوجب اجماله حقيقة ، لأن الخاص يكون حجة على تخصيص احدهما اجمالا فتسقط اصالة الظهور ، أي ظهور العام في الفردين معا ، فيرجع في كل من الفردين إلى الاصول العملية ، فان كان حكم العام إلزاميا وحكم الخاص ترخيصيا أو بالعكس وجب الاحتياط في الفردين ، أي يكرم كلاهما للعلم الاجمالي بالتكليف ، والفراغ اليقيني لا يحصل إلا بالاحتياط.

وان كان كل من حكمي العام والخاص الزاميا فقد دار الأمر في كل من الفردين بين الوجوب نظرا إلى العام ، وبين الحرمة نظرا إلى الخاص ، فيلحقه حكمه من التخيير ابتداء أو استمرارا ، حسبما يأتي ان شاء الله تعالى في محله ، لأنه لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط حينئذ ، أي حين دوران أمر الخاص بين الوجوب والحرمة ، ولا إلى اصالة البراءة لاستلزامها المخالفة القطعية العملية ، فالمرجع فيه لا محالة هو اصالة التخيير البدوي أو الاستمراري.

نعم يفترق الكلام في الدوران بين الأقل والأكثر ، وفي الدوران بين المتباينين في الأصل العملي.

أما بيان ذلك : فلأن العام والخاص سواء كانا متكفلين لحكم الزامي أم كان احدهما متكفلا لحكم الزامي والآخر لحكم ترخيصي ، فالمرجع في الأول بالاضافة إلى المشكوك هو البراءة مطلقا ، ولكن المرجع في الثاني ، أي في الدوران بين المتباينين ، هو البراءة في صورة كون احدهما متكفلا لحكم الزامي والآخر لحكم ترخيصي ، ولكن المرجع فيه ، أي في الثاني ، هو اصالة التخيير في صورة كون كليهما متكفلين لحكم الزامي ، كما علم مما سبق آنفا.

نعم يكون الخاص المجمل مفهوما حجة في الأقل المتيقن خروجه عن تحت العام ، وهو فاعل الكبيرة ، فيما إذا كان مفهومه دائرا بين الأقل والأكثر ، واما إذا كان مفهومه مرددا بين المتباينين فليس القدر المتيقن في البين حتى يحكم بحجية

٤٠٩

الخاص فيه ، فلا بد في ذاك من الرجوع إلى الاصول العملية حسبما يقتضيها المقام من اصالة البراءة أو اصالة التخيير كما علم آنفا.

فانقدح ببيان أحكام الصور الأربع الفرق بين المخصص المتصل وبين المخصص المنفصل ، إذ في المتصل منه يسري إجماله إلى العام حقيقة بارتفاع ظهور العام في العموم سواء كان مفهوم الخاص المجمل المتصل مترددا بين الأقل والأكثر ، أم كان مترددا بين المتباينين ، فلا يجوز التمسك باصالة العموم واصالة ظهور العام في العموم في الافراد المشكوكة التي يحتمل دخولها تحت الخاص المتصل المجمل مفهوما ، لعدم انعقاد الظهور للعام في العموم ، لاتصال الخاص بالعام.

واما في المنفصل منه ، فاذا تردد مفهومه بين المتباينين فلا يجوز التمسك بالعام في الفرد الذي يحتمل دخوله تحت الخاص المنفصل المجمل ، ويحتمل انطباق الخاص عليه ، لعدم حجية ظهور العام في العموم حتى يحكم بشموله له لوجود المخصص يقينا.

وأما في المنفصل المردد مفهومه بين الأقل والأكثر فيجوز التمسك بالعام ، بالاضافة إلى الافراد التي يحتمل انطباق الخاص عليها ، لعدم سراية إجماله إلى العام لا حقيقة ولا حكما ، أي لا يرفع ظهور العام في العموم ، ولا يرفع حجية ظهوره فيه.

وكذا ظهر الفرق من بيان احكام الصور الأربع في المجمل بين المتباينين والأقل والأكثر ، إذ لا يصح التمسك باصالة العموم التي ترجع إلى اصالة الظهور التي يجب اتباعها في المحاورات والمخاطبات والشهود والدعاوى والاقارير ، في المجمل المردد بين المتباينين ، سواء كان الخاص المجمل متصلا بالعام أم كان منفصلا عنه ، لسراية الاجمال إلى العام حقيقة في المتصل منه ، ولسرايته اليه حكما في المنفصل منه كما سبق هذا.

أما المجمل المردد بين الأقل والأكثر فيجوز التمسك بالعام في الافراد التي يشك في دخولها تحت الخاص المجمل المنفصل ، لانعقاد الظهور للعام في العموم

٤١٠

حينئذ فلا مانع من حجية ظهوره في الافراد التي يحتمل انطباق الخاص عليها ، فلا تغفل من ان المخصص المتصل مانع من انعقاد ظهور الكلام فيما يعم افراده ، أي افراد الخاص ، بل يوجب هذا المخصص المذكور انعقاد ظهوره فيما عداها ، أي ما عدا أفراد الخاص ، فالتردد في افراد الخاص يوجب التردد في افراد العام فلا تغفل عن الفرق بين المخصص المتصل والمنفصل.

٤١١

في الشبهة المصداقية

قوله : واما إذا كان مجملا بحسب المصداق ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان الشبهة المفهومية ، شرع في بيان احكام الشبهة المصداقية ، ولها اربع صور أيضا ، وقال : إذا كان الخاص مجملا بحسب المصداق بان اشتبه فرد وتردد بين ان يكون هذا الفرد فردا للخاص أو فردا للعام وباقيا تحت العام ، كما إذا قال المولى (اكرم العلماء إلا فسّاقهم) أو قال بعد العام (لا تكرم فسّاقهم) ولكن مفهوم الفسق مبين لنا على الفرض ، والفرد الخارجي كزيد العالم مثلا مشتبه بين كونه عادلا أو فاسقا لا كلام لنا في عدم جواز التمسك بالعام إذا كان المخصّص متصلا بالعام لعدم انعقاد الظهور للعام في العموم ، بل انما ينعقد له ظهور في الخاص فحسب كقولنا : (اكرم العلماء إلا الفسّاق منهم) ، فانه لا ينعقد له ظهور إلا في وجوب اكرام حصة خاصة من العلماء وهي التي لا توجد فيها صفة الفسق ، وعليه فاذا شككنا في عالم انه فاسق أو ليس بفاسق فلا عموم له بالاضافة إلى الفرد المشكوك عدالة وفسقا كزيد العالم مثلا حتى نتكلم في جواز التمسك بالعام بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه به بالنسبة اليه.

واما إذا كان الخاص منفصلا عن العام ، ففي جواز التمسك بالعام بالاضافة إلى الفرد المشتبه خلاف بين الاعلام.

قال الشهيد الثاني قدس‌سره بالتمسك بالعام ، واستدلّ بان ظهور العام قد انعقد في عموم وجوب اكرام كل عالم سواء كان فاسقا أم كان عادلا ، وقد خرج منه العالم الفاسق الذي انكشف فسقه بدليل المخصص المنفصل فحينئذ إذا علم فسقه فلا اشكال في عدم وجوب اكرامه ، واما إذا لم يعلم فسقه فلا قصور عن شمول عموم العام له ، حيث ان دليل الخاص والمخصص غير شامل للفرد المشتبه بلحاظ انه لا

٤١٢

عموم ولا اطلاق لدليل المخصص المنفصل بالاضافة إلى الفرد المشكوك ، وعليه فلا مانع من التمسك بعموم العام فيه حيث انه بعمومه شامل له.

فبالنتيجة : الخاص انما يزاحم العام فيما كان الخاص فعلا حجة فيه ، كالافراد التي علم فسقها ، ولا يكون حجة فيما اشتبه انه من افراده ، كالفرد المشكوك دخوله تحت الخاص ، فخطاب (لا تكرم فسّاق العلماء) لا يكون دليلا على حرمة اكرام من شك في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم نحو لا تكرم الفسّاق من العلماء مثل (اكرم العلماء) في الفرد المشكوك ولا يعارضه فيه ، فان الخاص لو زاحمه فيه. أو عارضه فيه (١) ، على الفرض فهما من قبيل مزاحمة غير الحجة بالحجة ومن قبيل معارضة الدليل والحجة بغير الدليل والحجة ، وهو كما ترى ، فهذا غاية ما استدلّ المجوز به على جواز التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه.

في جواب المصنّف

اجاب عنه بان هذا الاستدلال في غاية الفساد ، فان الخاص المنفصل ، نحو (لا تكرم الفسّاق) وان لم يكن دليلا فعلا في الفرد المشتبه ، إذ لا يكون فسقه معلوما ، إلا أن هذا الخاص المنفصل يوجب اختصاص حجية العام في غير عنوان الخاص من الافراد ، فيكون (اكرم العلماء) دليلا وحجة في العالم غير الفاسق ، إذ تخصيص العام المذكور قد علم بالخاص ، والفاسق الواقعي قد خرج عن تحت العام يقينا فالمصداق المشتبه ، كزيد العالم وان كان مصداقا للعام بلا كلام لكونه من العلماء ، إلا ان هذا الفرد لم يعلم انه من مصاديق العام بما هو حجة ، لاختصاص حجيته بغير الفاسق حتى يقال انه واجب الاكرام ، لاحتمال كونه فاسقا واقعا ، فلا يكون الخاص حجة فيه ولا العام كما ذكر وجه هذا الامر.

__________________

(١) ولكن الفرق بين التزاحم والتعارض سيجيء ان شاء الله تعالى.

٤١٣

وبالجملة : العام المخصص بالمنفصل ان انعقد له ظهور في العموم ، فهذا العام المخصص كالعام غير المخصص في انعقاد الظهور لهما في العموم. بخلاف العام المخصص بالمتصل ، فانه لا ينعقد له ظهور في العموم كما عرفت هذا.

وهذا نقطة الفرق بين المتصل والمنفصل ، ولكن بواسطة المخصص المنفصل ليس ظهوره حجة في الفرد المشكوك ، كما ان العام المخصص بالمتصل ليس بحجة فيه ، أي في المشكوك ، فالعام المخصص بالمنفصل يكون مثل العام المخصص بالمتصل في عدم حجية كليهما في الفرد المشتبه ، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت احدى الحجتين ، وهما الدليل العام والدليل الخاص ، فلا يكون الخاص حجة فيه ولا يكون العام حجة فيه.

والسر في ذلك : ان الفرد المشكوك لا يكون متيقن العدالة حتى يجب اكرامه إذ يشترط في ترتب الحكم على الموضوع احراز الموضوع وجدانا أو تعبدا ، وهو مفقود بكلا نوعيه في الفرد المشتبه ، فلا يترتب حكم العام وهو وجوب الاكرام عليه ، وكذا لا يترتب عليه حكم الخاص وهو حرمة الاكرام لعدم إحراز فسقه ، وليس بمعلوم الفسق كي يحرم اكرامه ، فالخاص المنفصل لا يصادم اصل ظهور العام في العموم ، أي لا ينقلب ظهوره إلى خصوص عنوان غير الفسق ، بل ظهوره في العموم باق محفوظ على حاله حتى في الافراد المعلومة الفسق فضلا عن الافراد المشكوكة ، ولكن يوجب قصر حجية العام بما سوى الفسق والفاسق.

وفي ضوء هذا فالفرد المشكوك كما لا يعلم اندراجه تحت الخاص فلا يمكن التمسك به لاجراء حكمه على الفرد المشكوك ، وهو حرمة الاكرام ، فكذلك لا يعلم اندراجه تحت العام بما هو حجة لحصر الخاص المنفصل حجيته بمعلوم العدالة ، فلا يمكن التمسك به لاجراء حكمه عليه ، وهو وجوب الاكرام ، وان كان اندراجه تحت العام بما هو هو معلوما ، ولكن ليس اندراجه تحته بما هو حجة بمعلوم.

فلا بد فيه من الرجوع إلى الاصل العملي إذا فقد الدليل الاجتهادي الذي يدل

٤١٤

على حكمه فتصل النوبة بالأصل العملي. وهو التخيير البدوي او الاستمراري او البراءة إذا كان العام والخاص متكفلين لحكم الزامي لأجل دوران اكرام الفرد المشكوك بين المحذورين وهما الوجوب والحرمة.

وإذا كان احدهما متكفلا لحكم الزامي والآخر لحكم ترخيصي فالمرجع فيه الاحتياط فعلا إذا كان العام متكفلا للوجوب والخاص لحكم ترخيصي ، أو تركا إذا كان العام متكفلا لحكم ترخيصي على الفرض والخاص متكفلا للحرمة على حسب الفرض ، هذا كلّه إذا كان المخصص لفظيا.

تتمة في أمثلة المتصل والمنفصل

بقي بيان الامثلة ، اما مثال المتصل اذا كان مصداقه دائرا بين الأقل والأكثر كزيد العالم إذا ارتكب الصغيرة من الذنوب ، كالنظرة إلى الاجنبية مثلا ، فلم يعلم انه من مصداق الفاسق ، أم لا ، لتردد مفهوم الفاسق بين مرتكب الكبيرة وبين مرتكب مطلق المعصية والتردد في مفهومه يوجب التردد في مصداقه.

وأما مثال المتصل : اذا كان مصداقه دائرا بين المتباينين كالمرأة المعينة المترددة بين كونها قرشية أم غير قرشية في نحو (اعط الزكاة للنساء إلا القرشية منهن). وأما مثال المنفصل : اذا كان مصداقه مترددا بين الأقل والأكثر وهو بعينه مثال المتصل إذا كان مصداقه دائرا بينهما ، إذا لا فرق بين الاتصال والانفصال بالاضافة إلى الخاص إلا بوحدة الكلام وتعدده فاذا كان العام والخاص مذكورين في كلام واحد فالخاص متصل كتقييد العام بالوصف نحو (اكرم العلماء العدول) أو بالغاية نحو (أضف العلماء إلى يوم الجمعة) أو بالاستثناء نحو (اكرم العلماء إلا الفسّاق منهم) ، وإذا كانا مذكورين في كلامين فالخاص منفصل نحو (اكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم).

وأما مثال المنفصل اذا كان مصداقه مترددا بين المتباينين فهو مثال المتصل

٤١٥

أيضا للوجه المذكور آنفا.

المخصص اللبّي

قوله : هذا إذا كان المخصص لفظيا ، وأما إذا كان لبيا ...

لمّا فرغ المصنّف عن بيان حكم المخصص اللفظي المجمل مفهوما او مصداقا شرع في بيان حكم المخصص إذا كان لبيا ، أي قطعيا لا لفظيا من اجماع أو سيرة أو حكم العقل أو ضرورة.

وتفصيل هذا : فان كان المخصص اللبي واضحا بحيث يصح اعتماد المتكلم عليه إذا كان بصدد بيان غرضه في مقام التخاطب فهو كالمتصل منه ، فيمنع من انعقاد الظهور للعام في العموم من أول التكلم بالعام إلّا في الافراد التي علم خروجها عن تحت عنوان الخاص فينعقد الظهور له فيها فلا يجوز التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، مثلا إذا دخل اعداء المولى وابنائه في داره فقال لعبده (كل من دخل داري فاقتله) ، والعقل حاكم بان ابناءه خارجة عن تحت العام ، وهو كلمة من قصار الكلام في قوة ان يقال (اقتل كل من دخل داري إلا ابنائي) فاذا اشتبه الفرد انه من اعدائه حتى يجب قلته أو انه من أبنائه كي يحرم قتله فلا يجوز التمسك بالعام فيه كي يجري حكم العام عليه فليس العام حجة فيه فكذا ليس الخاص اللبي حجة فيه للشك في انطباق الخاص عليه فيرجع فيه إلى الاصل العملي على حسب ما يقتضيه المقام فالكلام فيه هو الكلام في المخصص المتصل اللفظي ، فيكون نوعا من القرائن المتصلة الموجبة لصرف الكلام عن العموم إلى الخصوص ، كصرف عموم (كل من دخل داري) إلى خصوص الاعداء ، كأنّ المولى قال (اقتل اعدائي فحسب) ، فهو كالمتصل اللفظي في عدم جواز التمسك بالعام لاثبات حكم الفرد المشكوك. وان لم يكن المخصص اللبي موجبا لصرف الكلام عن العموم إلى الخصوص ، بل يكون الكلام قد انعقد له ظهور في العموم ، أي هذا المخصص اللبي لا يصلح لأن يكون

٤١٦

قرينة على الصرف المذكور وان وجب هذا المخصص رفع اليد عنه لأجل الخاص.

ويختص هذا القسم بما يكون العلم بالخاص موقوفا على مقدمات نظرية يتوقف حصوله منها على نظر وتأمّل فالمخصص اللبي اما ضروري عقلا ، أي يحكم العقل بالتخصيص مستقلا بلا توقف على مقدمات نظرية واما نظري يتوقف فيه العلم بالخاص على مقدمات نظرية ، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته فيه كما أن ظهور العام في حكم الفرد المشكوك ثابت كذلك حجيته فيه ثابت أيضا فيجب الأخذ بالعام لاثبات حكم الفرد المشتبه.

فانقدح ان مختار المصنّف في المقام هو التفصيل بين القسمين منه مثلا ، إذا قال المولى لعبده (اكرم جيراني) فحصل لنا القطع بحكم العقل ان المولى لا يريد بقوله هذا اكرام من كان عدوا له منهم ، كانت اصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من يعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته (١) ، أي العلم بالخروج عن العموم بسبب العلم بالعداوة.

أما في الفرد المشتبه الذي لا يعلم صداقته ولا عداوته بالنسبة إلى المولى فيجوز التمسك بالعام في حكم الفرد المشكوك حتى يجب اكرامه. فظهر الفرق بين المخصص اللفظي واللبي.

قال المصنّف قدس‌سره : والسر في ذلك الفرق بينهما انه في المخصص اللفظي قد ألقى السيد إلى عبده حجّتين احداهما عامة والأخرى خاصة. وفي المخصص اللبي قد ألقى السيد إلى عبده حجة واحدة وهي العام لا غير لأن المخصص اللبي بعد ما كان علما ، أي بعد كونه علما فليس بحجة ملقاة من السيد إلى عبده.

وعليه : فالفرد المشكوك في الأول يكون نسبته إلى الحجتين الملقاتين من السيد إلى عبده نسبة واحدة فيمتنع الأخذ باحداهما فيه لاحتمال دخوله تحت

__________________

(١) هذا قيد للمنفي وهو كلمة يعلم لا النفي.

٤١٧

الأخرى. وعلى طبيعة الحال فيرجع فيه إلى الأصل العملي بعد فقد الدليل الاجتهادي كما تقدّم وجهه.

وفي الثاني لما لم تكن الحجة من السيد إلا العام وحده كان رفع اليد عنه في المشكوك بلا حجة على خلاف العام. وهذا لا يجوز عقلا ، أي رفع اليد عنه بلا حجة فاختار ان العام حجة في الشبهات المصداقية إذا كان المخصص لبيّا ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا كما عرفته.

وقد استدلّ عليه بوجوه ثلاثة :

الأول : كما ذكره في طي قوله ، والسر في ذلك من القاء الحجتين في المخصص اللفظي ، والقاء حجة واحدة في المخصص اللبي ففيه ليست حجة اخرى على خلاف العام بدون العلم بالعداوة والخروج ، فالعام يكون حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك لبقائه تحته بعد انعقاد الظهور له في العموم ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا ، فانّ مقتضي تقديم الخاص على العام لنصوصيته أو لأظهريته هو كون الكلام الملقى إلى العبد المخاطب المأمور كان من رأس لا يعم الخاص ولا يشمله حقيقة لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم إذا كان المخصص اللفظي متصلا.

فان قيل : العلم بحرمة اكرام الفاسق أو العدو حجة على حرمة اكرام الفاسق والعدو فالفرد المشكوك يحتمل دخوله تحت الحجة الاخرى غير العام ، وهي العلم بحرمة اكرام العدو أو الفاسق ، فلا فرق حينئذ بين المخصص اللفظي واللبي.

قلنا : الفرد المشكوك كونه عادلا أو فاسقا مما يحتمل كونه موضوعا للحجة على خلاف العام في المخصص اللفظي المتصل. بخلاف المخصص اللبي إذ المخصص فيه لما كان هو العلم امتنع حصوله في الفرد المشكوك للتضاد بين العلم والشك فالمشكوك العداوة مما لم يعلم كونه محرم الاكرام فهو حينئذ مما يعلم بانه ليس موضوعا للحجة على خلاف حكم العام اعني العلم بحرمة الاكرام ، وحينئذ لا يجوز رفع اليد عن العام بالنسبة إلى الفرد المشكوك إذ هو بلا وجه كما تقدم هذا.

٤١٨

فظهر ان التمسك بالعام في الشبهة المصداقية جائز إذا كان المخصص لبيّا.

فان قيل : القطع بعدم ارادة العدو هنا كالقطع بعدم ارادته إذا كان المخصص لفظيا فاذا قال المولى (اكرم جيراني إلا العدو منهم) فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فكذا لا يجوز التمسك به فيها إذا كان لبيّا.

قلنا : القطع بعدم ارادة العدو لا يوجب انقطاع حجّية العام إلا فيما قطع انه عدوه لا فيما شك فيه فيجب اكرام من شك في عداوته ويشهد بذاك المطلب صحة مؤاخذة المولى عبده إذا لم يكرم احد جيرانه لاحتمال عداوته للمولى ، وحسن عقوبته على مخالفته وعدم صحة الاعتذار من العبد بمجرد احتمال العداوة.

فهذه الامور الثلاثة المذكورة تدل على جواز التمسك بالعام في الفرد المشكوك إذا كان المخصص لبيّا وهذا ثاني الوجوه التي قد استدل المصنّف قدس‌سره بها على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية على تقدير كون المخصص لبيا كما لا يخفى هذا على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية اصالة الظهور عندهم.

وبالجملة : كان بناء العقلاء على حجية اصالة الظهور بالنسبة إلى الفرد المشتبه هاهنا ، أي إذا كان المخصص لبيّا بخلاف بنائهم في المخصص اللفظي ، أي ليس على حجيتها بالنسبة اليه ، وعلى أي حال فالفارق بين المقامين هو بناء العقلاء وسيرتهم. هذا ثالث الوجوه التي استدل المصنف قدس‌سره على جواز التمسك بالعام في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص إذا كان المخصص لبيّا ولعل بناء العقلاء على حجية العام بالاضافة اليه هنا يكون للوجه الذي اشرنا اليه سابقا من التفاوت بين اللبي واللفظي بالقاء حجتين في اللفظي المنفصل فيكون مقتضاهما بعد تحكيم الخاص على العام وبعد تقديمه عليه لاظهريته بالاضافة إلى العام عدم شمول العام للخاص الخارج من تحته يقينا أو احتمالا حكما من رأس وكأنّ العام غير عام فلا يشمل حكمه الخاص المتيقن الخروج أو محتمل الخروج ، بخلاف اللبي فان الحجة

٤١٩

الملقاة واحدة كما سبق توضيح هذا ، والقطع بعدم ارادة اكرام العدو في نحو (اكرم جيراني) مثلا لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه عن تحت العام لا في المشكوك الخروج عن تحته إذ على المتكلم الحكيم ـ وهو الله تعالى ـ القاء كلامه على وفق غرضه ومرامه منه ، وحينئذ فاذا لم ينصب القرينة على خروج المشكوك عن تحته فيكشف عن حكم الفرد المشتبه حكم الافراد التي تندرج تحت العام فلا بد من اتباع كلام الحكيم ما لم تقم حجة اقوى على خلافه ، والمفروض عدم قيام حجة اخرى على خلاف حكم العام بالنسبة إلى الفرد المشكوك فيتبع ظهوره في العموم فيه وإلا لزم نقص الغرض من كلامه جلّ وعلا ، فانقدح خروج المشتبه من هذا البيان عن حكم الخاص وان كان مصداقا مترددا بينهما ودخوله في حكم العام.

بل يمكن ان يقال ان الفرد المشكوك خارج عن الخاص مصداقا قطعا بان يقال ان مقتضي العموم الثابت في العام للمشكوك انه ليس فردا لما علم بخروجه عن حكم العام بمضمونه وهو متعلق بخروجه ، أي يكون الخروج عن تحت حكم العام بسبب مفهوم الخارج ، كوصف المؤمن ، لأنه خارج عن اللعن ، وهو حكم العام بسبب مفهومه وهو عنوان الايمان.

فيقال في مثل (لعن الله تعالى بنى امية قاطبة) ، أي جميعا ان فلانا وان شك في ايمانه ، كعمر بن عبد العزيز يجوز لعنه لمكان عموم جملة (لعن الله بني امية قاطبة) ، وهو مستفاد في المثال من كلمة (قاطبة) ، فهذه صغرى القياس واما الكبرى فهي كل من جاز لعنه فليس بمؤمن فينتج ان فلانا ليس بمؤمن وإلا لما جاز لعنه.

إذ من الواضح ان المؤمن لا يجوز لعنه عقلا وشرعا ، أما عقلا فلانه ايذاء وكل ايذاء ظلم فهذا ظلم والظلم قبيح ، وكل قبيح حرام عقلا فهذا حرام بحكم العقل. وأما شرعا فللروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام في عدم جوازه ، فظهر ان مشكوك الايمان منهم ليس بمؤمن.

٤٢٠