البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

الامتثال ، واذا لم يتمشّ منه قصدها فلا تكون موافقة للأمر ولا الشريعة ولا مسقطة للإعادة والقضاء ، لان كل هذه الأمور والعناوين يتوقف على قصد القربة ، ولكن المانع عنه موجود وهو حرمتها ذاتا ومبغوضيتها للمولى جل ذكره.

واما اذا تعلق النهي بجزئها أو شرطها او وصفها ففساد الكل والمشروط والموصوف موقوف بالاكتفاء بالجزء المنهي عنه أو بالشرط المنهي عنه أو بالوصف المنهي عنه ، فاذا أتى بالجز غير المنهي عنه أو بالشرط غير المحرم أو بالوصف الآخر غير المحرم فالعبادة صحيحة كاملة ، كما سبق ، وفي طبيعة الحال لا يمكن قصد القربة من الملتفت الى حرمة العبادة الواحدة.

لا يقال ان دلالة النهي عن الفساد منوطة بدلالته على الحرمة الذاتية ، وهي موقوفة على اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية ، ولا يعقل تحريم العبادة ذاتا ، فان المكلف اذا لم يقصد القربة فلا عبادة ، لان الفعل بدون قصد القربة ليس بعبادة ، فلا يكون هذا الفعل موضوعا للنهي ، اذ فرض موضوعه عبادة. أما الغافل بل مطلق المعذور فلا مانع من صحة عبادته. نعم تتوقف على وجود جهة مصحّحة للتقرب. وهي رجحانها ذاتا. ولا يخفى ان المراد من مطلق كون المكلف جاهلا بحرمة القراءة ، اي قراءة العزائم في الصلاة ، أو مكرها عليها مثلا ، بشرط أن يكون الجاهل معذورا في جهله ، فلا عبادة حتى يقال أنها محرمة ذاتا وتفسد ، واذا قصدها فهو غير مقدور له شرعا ، اذ لا أمر في البين كي يقصد امتثاله الّا تشريعا ، اي اذا قصدها بعنوان التشريع المحرم. فالفعل يتصف بالحرمة التشريعية حينئذ دون الحرمة الذاتية ، لامتناع اجتماع المثلين في شيء واحد ، كامتناع اجتماع الضدين فيه ، اذ يلزم كون الشيء الواحد شيئين وهو محال ، فالنهي لا يدل على الحرمة الذاتية ، فلا يدل على الفساد. هذا بيان الاشكال.

٢٨١

في جواب المصنف عن الاشكال

وقد اجاب المصنف عن الاشكال المذكور بوجوه ثلاثة :

الاول : لا ضير في اتصاف العبادة الشأنية بالحرمة الذاتية بدون قصد القربة ، فلا منافاة بين عبادية الشيء شأنا وبين منع أخذ قصد القربة فيه. لان المراد بالعبادة ما يقع عبادة ، لو كان مأمورا به لكان أمره أمرا عباديا ، ولا يسقط أمره الّا بقصد القربة ، فهو كالاوامر في الواجبات العبادية. نحو (لا تصم يومي العيدين) بناء على حرمته ذاتا ، فالمراد من العبادة في العنوان هو العبادة الشأنية لا العبادة الفعلية. فصوم العيدين عبادة شأنية بحيث لو افترضنا ورود الأمر من قبل الشارع المقدس لكان أمره أمرا عباديا كأمر الصوم سائر الأيام ، فهي قابلة للاتصاف بالحرمة الذاتية بدون قصد القربة ، كما تقدم في الأمر الرابع ، فسقط قول المستشكل.

والثاني : ان عبادية بعض الافعال ذاتية لا تحتاج الى الامر المولوي الشرعي ، كالسجود والتقديس والتحميد لله تعالى ، فلا تنفك العبادية عنها ، كما لا تنفك الزوجية عن الأربعة ، والفردية عن الثلاثة مثلا. لان الله تعالى أهل للامور المذكورة ، اذ هو مستجمع لجميع الصفات الكمالية.

فهذه الامور عبادية فعلا ، اي بلا قصد القربة مع كونها محرمة ذاتا ، كما لو نهى الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى لما تغيرت عباديته ولكان محرما ذاتا ، ولهذا نهى عن السجود للشمس والقمر والصنم ، فحرمة السجود لا تضر بعباديته بل تضر بمقربيته ، فاذن تجتمع العبادة بلا قصد القربة مع الحرمة الذاتية حين الجنابة والحيض لكون السجود ذا مفسدة ومبغوضا للمولى في حالهما كسائر المحرمات الشرعية.

والثالث : لا ضير في اتصاف الشيء بالحرمة الذاتية مع اتصافه بالحرمة التشريعية ، لو قصد القربة بعنوان التشريع المحرّم ، فان الحرمة التشريعية تتعلق بفعل

٢٨٢

القلب ، وهو الالتزام القلبي بوجوب الشيء المنهي عنه مع العلم بعدم وجوبه في الشريعة ، والبناء على كون حكم الواقعة كذا ، كما يفهم هذا من موارد استعماله في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة وكتب اللغة ، وأما الحرمة الذاتية فتتعلق بفعل الجوارح لا بفعل الجوانح ، اذ السجود الذي صدر في الخارج من الجنب والحائض حرام ، فيتعدد متعلقهما.

فليس اجتماع المثلين في شيء واحد ، ولا اشكال في البين حينئذ ، كما هو الحال في التجري والانقياد. اذ حرمة التجري في نظر المصنف رضى الله عنه تتعلق بقصد المعصية والعصيان ، وبالعزم على الطغيان ، لا يفعل المتجري به المتحقق في الخارج ، ولا تنتزع من الفعل الخارجي الصادر من المكلف في مقام الطغيان والعصيان ، كما ان الاطاعة في نظره تتعلق بقصد الاطاعة والانقياد. والقصد فعل قلبي. ولا تتعلق الاطاعة بفعل المطاع به الصادر من المكلف في الخارج ، ولا تنتزع من الفعل المطاع به.

نعم ، العقاب والثواب في التجري والانقياد مترتبان على الفعل المتجرى به والمطاع به المتحققين في الخارج الصادرين من المكلف ، فالحرمة الذاتية والاطاعة النفسية تتعلقان بالفعل القلبي ، والعقاب والثواب يتعلقان بالفعل الخارجي ، فهذان نظيران للمقام ، كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة الى أن التجرّي والانقياد ينتزعان من الفعل الخارجي الصادر من المكلف ، لا من نفس الفعل القلبي ، كما سيأتي هذا المطلب ان شاء الله تعالى في بحث التجري.

الفرق بين التشريع والبدعة

ان التشريع : هو ادخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين.

والبدعة : هي ادخال ما علم انه ليس من الدين في الدين.

٢٨٣

فالنسبة بينهما تباين. وقيل النسبة بينهما عموم مطلق ، فالتشريع أعم مطلقا ، والبدعة أخص مطلقا ، فكل بدعة تشريع ولا عكس في البين.

مضافا الى ان النهي في العبادات لو لم يكن دالا على الحرمة الذاتية فلا أقل من أن يكون دالا على الفساد لدلالة النهي على الحرمة التشريعية ، اذ النهي يدل على سقوط الأمر من صوم يومي العيدين ومن صلاة الحائض ، وعلى خروجهما عن عموم وجوب الصلاة في كل يوم وليلة ، وفي جميع الحالات ، وعن اطلاق وجوبها على كل مكلف مسلما كان أم كافرا ، ذكرا كان أم انثى. فاذا خرجت الصلاة ، أي صلاة الحائض ، عن تحتهما فلا يشملها العموم ولا الاطلاق ، واذا لم يشملها العموم ولا الاطلاق فليس لها أمر ، واذا لم يكن لها امر فلا يمكن قصد التقرب بفعلها ، فلو فعلتها بقصده لكان تشريعا فاسدا وهو يكفي في فسادها ، كما لا يخفى.

فان قيل : لا يقاوم النهي مع العمومات والاطلاقات لانها قطعية من حيث الصدور والسند ، لانها مستفادة من الكتاب العزيز والصحيح من الاخبار. وخبر النهي ظني الصدور والظني لا يقاوم القطعي ، فيكون لها أمر ، ويمكن قصد التقرب بفعلها.

قلنا : ان خبر النهي يتعارض معها في صلاة الحائض من حيث الدلالة فيقدم عليهما من باب تقدم الأظهر على الظاهر من حيث الدلالة ، لان دلالة النهي على الحرمة بالمطابقة ، ودلالتهما على وجوب صلاة الحائض بالتضمن ، فيكون مخصصا ، اي للعموم ، أو مقيدا للمطلق ، فلا يكون لها أمر كي يمكن قصد التقرب بفعلها.

والفرق بين العام والمطلق سيأتي ان شاء الله تعالى في محله.

نعم ، لو لم يكن النهي عن العبادة حقيقة بل عرضا ومجازا ، فهذا لا يدل على الحرمة الذاتية ، واذا لم يدلّ عليها فلا يدل على الفساد ، مثلا : اذا أمر المولى بالازالة ونهى عن تركها فهو يتعلق حقيقة بتركها ، وثانيا يتعلق بفعل ضدها ، ومن جملته فعل الصلاة فهي منهي عنها بالنهي التبعي.

ولا ريب ان فعل الصلاة مقارن مع ترك الازالة ، فلو قلنا بان الأمر بالشيء

٢٨٤

على نحو الايجاب لا يقتضي للنهي عن ضده الخاص ، فهذا النهي التبعي العقلي المتعلق بالضد لا يدل على حرمة الضد ولا على فساده ، ولا على سقوط الأمر به. وعلى طبيعة الحال فاذا ترك المكلف الازالة ثم فعل الصلاة فصلاته صحيحة كاملة ، لان هذا النهي لا يخصص عموم وجوب الصلاة ، ولا يقيّد اطلاقه ، فيشملانه ، ويمكن قصد التقرب بفعلها ، واما اذا قلنا ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فالنهي عن الضد حقيقي ، ويترتب عليه لوازمه من الحرمة الذاتية والفساد وسقوط الأمر به ، والتخصيص والتقييد به ، اي تخصيص عموم وجوبها وتقييد اطلاقه بغير الصلاة التي تزاحم الازالة ، كما لا يخفى.

قوله : المقام الثاني في المعاملات ونخبة القول فيها ان النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد ...

فلا ملازمة بين حرمة المعاملة وبين فسادها ، لا لغة ولا عرفا ، اذ من الممكن ان يكون انشاء الايجاب والقبول وايجادهما حرامين ولكن يترتب على ايجادهما الاثر المقصود منه وهو النقل والانتقال كانشاء الايجاب والقبول وقت النداء لصلاة الجمعة مثلا. لأن صحة المعاملة عبارة عن ترتب الأثر المقصود عليها ، فلا منافاة بين حرمتها وبين ترتب الأثر عليها من حصول الملكية والنقل والانتقال ، بخلاف حرمة العبادة وصحتها ، فللتنافي بينهما فيها ، لان الصحة فيها عبارة عن فعلها بقصد القربة وبعنوان المقربية ، بحيث يكون فعلها مسقطا للاعادة والقضاء ، ولان حرمتها هي مبغوضيتها ، والمقربية والمبغوضية متنافيتان ، وعلى هذا فالملازمة ثابتة بين حرمة العبادة وفسادها.

بخلاف حرمة المعاملة ، فانه لا ملازمة لغة ولا عرفا بينها وبين فسادها ، سواء كانت الحرمة متعلقة بوجود السبب كالعقد ، فالمراد من المعاملة في كلام المصنف هو السبب ، اي العقد الذي هو الفعل المباشري للعاقد ، وهو سبب حصول أثر المعاملة كالنهي عن البيع وقت النداء ، اي النهي عن ايقاع العقد وقت النداء ، أم كانت

٢٨٥

متعلقة بمضمون المعاملة بما هو فعل تسبيبي ، والمراد منه وجوب المسبب كالملكية ، كالنهي عن بيع المصحف الشريف ، اي لا يجعله ملكا للكافر ، فالنهي قد يتعلق بالسبب من حيث كونه موجبا لترتب المسبب المبغوض المحرم. كبيع المسلم المصحف للكافر ، لان المسلم لو باع المصحف الشريف للكافر فهو موجب لتسلط الكافر ولسلطنته عليه ، وهو موجب لهتك احترامه وتعظيمه ، فهذا مبغوض للشارع المقدس. فتعلق النهي بالمعاملة المذكورة من جهة هذا الامر المذكور ، ولا يتعلق بها من جهة كونها فعلا مباشريا ، وقد يتعلق بالمعاملة والسبب من جهة كونها فعلا مباشريا بنفسها ، كما تقدم.

أم كانت متعلقة بالتسبيب بالمعاملة الى مضمونها ، كالنهي عن ايقاع العقد على العنب ليعمل خمرا ، ففي هذه الصورة لم يتعلق النهي بالسبب ، وهو العقد وانشاء الايجاب والقبول ، ولا بالمسبب ، وهو الملكية. بل تعلق بأمر خارج عن السبب والمسبب وهو الاعانة على الإثم والعصيان ، كالنهي عن نتيجة المعاملة نحو (بيع العنب ليعمل خمرا) فالعقد ليس بحرام ولا بمنهي عنه وهو سبب الملكية ، ولا المسبب بحرام ، وهو اضافة ملكية العنب للمشتري ، فالسبب والمسبب بما هما فعلان من الافعال ليسا بحرام ، بل المنهي عنه ايجاد المسبب بما انه مسبب عن سببه ، لان العقد سبب الملكية ، وهي سبب لعمل العنب خمر ، فالعقد سبب للعمل المبغوض المذكور آنفا ، اذ سبب السبب سبب. فالعقد تسبب ، اذ بواسطته يوجد المسبب المبغوض وهو عمل العنب خمرا.

وفي ضوء هذا ، فالمراد بالتسبيب ايجاد السبب بما انه سبب الى مسببه ، كالعقد ، كما ان المراد من التسبب ايجاد المسبب بما انه مسبب عن سببه كالعمل الحرام ، وهو عمل العنب خمرا.

ففي هذه الصور الثلاث لا تدل حرمة المعاملة على فسادها ، وهي تحريم السبب بما هو فعل مباشري ، وتحريم المسبب بما هو فعل تسبيبي ، وتحريم التسبب

٢٨٦

بالمعاملة الى المضمون اي الملكية. نعم ، يدل النهي على الفساد في المورد الذي يكون التلازم العرفي بين النهي وبين الفساد ، كالنهي عن أكل الثمن ، أو عن أكل المثمن. فهذا يدل على الفساد ، اذ من الواضح أنه لو كانت المعاملة الخاصة صحيحة لترتب عليها أثرها وهو ملك الثمن في بيع كالبيع الربوي ، او في بيع شيء كبيع العذرة للبائع والمثمن للمشتري ، فالنهي عن أكلهما كاشف عن فسادها وبطلانها ، كما ورد في الخبر : «ثمن العذرة سحت» كما لا يخفى.

قوله : نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الارشاد ...

فقد سبق عدم الملازمة لغة وعرفا بين حرمة المعاملة وفسادها لو دل النهي على الحرمة التكليفية ، اذ الصحة في المعاملة لغة بمعنى ترتب الأثر عليها أو الفساد ضدها ، فاذا كان النهي مولويا فلا ملازمة بينهما.

نعم ، اذا كان النهي فيها ارشادا الى فسادها ، كما ان الأمر بها ارشاد الى صحتها ، لأن الغرض من الأمر بها والنهي عنها بيان صحتها وفسادها من دون بيان وجوبها ، أو استحبابها أو حرمتها ، فالنهي عنها والأمر بها نظير نهي الطبيب المريض ، لأنه أرشده ونهاه الى ما يضره بحاله من الغذاء والدواء ، ونظير أمره اياه اذ هو أرشده الى ما ينفع بحاله ومرضه من دون ان يترتب عليهما ، اي على مخالفته ، بعد عن الطبيب وعقاب ، وعلى امتثاله قرب منه وثواب.

وفي ضوء هذا ، فلو كشف من القرائن الحالية أو المقالية أو المقامية كون النهي فيها للارشاد الى الفساد لوجب اتباعها بلا خلاف ، كما لا يخفى. ولا يبعد ان تكون النواهي في العقود والايقاعات ارشادية الى فسادهما ، كما ان الاوامر فيهما ارشادية الى صحتهما وترتب آثارهما عليهما ، نظير الأمر بالجزئية والشرطية والمانعية ، اي جزئية شيء للمأمور به كالسورة بعد الحمد في الاوليين من الثلاثية والرباعية ، أو كالسورة بعد الحمد في صلاة الفريضة كالصبح. وشرطيته له كالاستقبال والستر والطهارة. ومانعية شيء له كالاستدبار والتكتف وقول (آمين) بعد

٢٨٧

الحمد والكلام ، فالامر بها إرشادي لا مولوي. ولهذا لا يستحق ثوابا على اتيان الجزء ولا عقابا على فعل الاستدبار بل العقاب على بطلان المأمور به.

وليست النواهي في المعاملات التي تقابل العبادات ظاهرة في الارشاد. كما ان الاوامر فيها توصيلية ، اذ لا يعتبر فيها قصد القربة. فاذا لم يكن الظهور للنواهي فيها فلا محالة من الرجوع الى القرائن في خصوص المقامات فيؤخذ بمفادها. إما الارشادية واما المولوية. وعلى تقدير فقدها فلا محيص عن الأخذ بمقتضى ظاهر صيغة النهي من حرمة المنهي عنه ذاتا وتكليفا ، وقد عرفت انها غير مستلزمة للفساد في المعاملات لا لغة ولا عرفا.

نعم ، ربما يتوهم استلزام الحرمة الذاتية للفساد شرعا من جهة دلالة الاخبار المتعددة عليه ، منها رواية (الكافي) و (من لا يحضره الفقيه) عن زرارة بن أعين ، عن الباقر عليه‌السلام قال :

«سألته عن مملوك تزوّج بغير اذن سيّده. فقال : ذلك الى سيّده ، ان شاء أجازه وان شاء فرّق بينهما. قلت : أصلحك الله تعالى ان الحكم بن عتبة وابراهيم النخعي واصحابهما يقولون ان اصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له. فقال : ابو جعفر عليه‌السلام : انه لم يعص الله انما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز» (١).

فهذه الرواية تدل على ان نكاح المملوك غير المأذون صحيح مع الاجازة ، لانه لم يعص الله تعالى ، بل انما عصى سيّده ، فاذا عصى الله تعالى في النكاح فذلك يوجب الفساد ، مثلا : اذا نكح المملوك بغير اذن مولاه ابنة زيد مع اذنه ومع سائر الشرائط ، فهذا النكاح صحيح مع اجازة المولى اياه ، لانه لم يعص الله وانما عصى سيده ، واما لو نكح امرأة في عدتها بغير اذن سيّده ، فهذا فاسد ، لانه عصى الله تعالى ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ح ٣ ، من لا يحضره الفقيه ج ٣.

٢٨٨

لحرمة نكاح المعتدة مثلا.

فالنكاح اذا كان مما أحلّه الله تعالى ، صحيح مع لحوق الاجازة ، واذا كان مما حرّمه الله تعالى ، فهو فاسد. فالمعيار في الصحة عدم عصيان الله تعالى ، وفي الفساد عصيانه عزّ اسمه لا السيد. ولا يخفى ان كل عمل يشترط في صحته قصد القربة فهو عمل عبادي ، وإلّا فهو عمل معاملي ، والنكاح من العمل غير العبادي.

فاجاب المصنف قدس‌سره عن هذا التوهم ان العصيان على نحوين :

الاول : تكليفي ، اي تحريم الشارع المقدس ، والعمل بعد النهي.

والثاني : وضعي ، اي عدم امضاء الشارع المقدس ، والعمل بلا نهي سابق.

والفرق بينهما : ان الاول يوجب العقاب لو لا التفضل من ناحية الكريم المطلق ، وان الثاني لا يوجب العقاب ، بل يوجب الفساد ، كما في المقام.

فالمراد من المعصية المنفية بقول الامام عليه‌السلام انه «لم يعص الله تعالى» ليس العصيان التكليفي ، اذ هو عصى الله تعالى تكليفا ، لانه تعالى جعل المملوك وما في يده لمولاه وسلب القدرة والسلطة عنه ، فنكاحه بدون الاذن ينافي ذلك ويكون خلاف الوظيفة ، بل المراد هو الثاني ، اي نكاحه مما لم يأذن به سيّده ، ولكن يكون مما يشرّعه الله تعالى ومما يمضيه.

ومن المعلوم استلزام العصيان الوضعي للفساد فانقدح ان العصيان التكليفي لا يستلزم الفساد اذ ليس له دليل.

فالعصيان يطلق على عمل لم يمضه الله تعالى ولم يأذن به ، كأكل الربا مثلا ، كذلك يطلق على عمل بمجرد عدم اذن السيّد فيه كالنكاح المذكور ، ولا اشكال فيه.

فعصيان الله هو اتيان عمل لم يأذن فيه ، كنكاح المعتدة والمحارم واشباهها من النكاح الخامس.

وبالجملة : لو لم يكن عصيان المنفي في الرواية ظاهرا في النكاح الذي لم يمضه الله تعالى ولم يشرّعه.

٢٨٩

لما كان العصيان ظاهرا في الدلالة على الفساد ، فاذا كان العصيان ظاهرا في النكاح غير الممضى ، فلا يدل على الفساد ، اذ عدم الإمضاء اعم من الفساد ، وكذا الحال في سائر الاخبار الواردة في هذا الباب ، إذ عدم عصيان الله فيها بسبب النكاح ، اي نكاح المملوك ، من غير اذن سيّده لا يدل على عدم العصيان التكليفي المستلزم للفساد ، بل يدل على عدم العصيان الوضعي غير المستلزم للفساد ، وهو خارج عن محل الكلام ، فراجعها وتأمل فيها حتى يكشف المطلب.

في قول أبي حنيفة والشيباني

قوله : تذنيب ...

حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي ، على الصحة حكي عن النعمان ابن المنذر المكنى بأبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني دلالة النهي عن المعاملة على صحتها ، ونقل موافقة فخر المحققين (ولد العلامة قدس‌سرهما) معهما ، ولكن اختار المحقق صاحب (الكفاية) قدس‌سره التفصيل في المقام ، وقال : ان النهي اذا كان عن المسبب والملكية ، كالنهي عن بيع المصحف للكافر ، فالبيع بما هو سبب للملك منهي عنه ، لا بما هو هو. فالنهي عن البيع المذكور بلحاظ مسببه وهو الملك ، اي ملك المصحف الشريف للكافر ، وهو مبغوض للمولى ، او كان عن التسبيب ، كالنهي عن ايجاد السبب ، بما انه ينجر الى مسببه المبغوض ، كالنهي عن الظهار مثلا ، اذ هو سبب الفراق المبغوض لدى المولى ، اي فراق الزوجين عن الآخر.

فبيع المصحف الشريف والظهار مؤثران صحيحان ويترتب عليهما أثرهما ، وهو الملكية والفراق بين الزوجين ، وهما مبغوضان ، اذ لو كانا فاسدين لما ترتب عليهما اثرهما ، ولكن النهي عن البيع المذكور وعن الظهار الذي هو سبب الفراق لغوا ، وهو لا يصدر من المولى جلّ جلاله ، ففي هذين الموردين يدل النهي عن المعاملة على صحتها ، اذ لو كانت فاسدة لما كانت المعاملة المذكورة سببا. والقدرة

٢٩٠

على المسبب انما تكون بالقدرة على السبب ، مثلا : اذا أوجب المولى على المكلف عتق العبد فهو مقدور بواسطة كون سببه مقدورا ، وهو انشاء العقد واجرائه. فلو فرض عدم سببيته لما كان العتق مقدورا ، كما في المقام ، اي لا بد ان يكون السبب والتسبيب صحيحين لاعتبار القدرة في متعلق النهي كاعتبارها في متعلق الأمر ، كما مرّ في بحث الاوامر مفصلا.

واما اذا كان النهي عن السبب وعن الفعل المباشري كالنهي عن البيع وقت النداء مثلا ، فلا يدل هذا النهي على صحة المعاملة لكون البيع ، وهو مبادلة مال بمال ، مقدورا للمكلف سواء كان صحيحا أم كان فاسدا غير مؤثر للأثر. نعم ، قد عرفت سابقا ان هذا النهي لا ينافي صحة المعاملة ، لانه لا يدل على الفساد ، هذا تمام الكلام في المعاملات.

البحث في العبادات

لما فرغ المصنف قدس‌سره من بحث المعاملات شرع في بحث العبادات وقال : ان العبادات على قسمين :

الاول : ما يكون عباديتها ذاتية مع قطع النظر عن الأمر بها ، نحو الركوع والسجود والخضوع والخشوع له ، تبارك وتعالى ، فمع النهي عن هذه العبادة الذاتية تكون مقدورة ، كما اذا كانت مأمورا بها فهي مقدورة للمكلف ، اذ عباديتها لما كانت ذاتية لم تتوقف صحتها على الأمر بها حتى يمتنع النهي عنها ، كما سبق هذا. فلا تتخلف عباديتها مع النهي ، بل تتخلف مقربيتها مع النهي ، فهو يدل على الصحة كالنهي عن المسبب والتسبب في المعاملات.

فالمكلف قادر على ايجاد السجود وعلى عدم ايجاده ، فلو أتى بالسجود المنهي عنه لكان عبادة ، اذ لا تتوقف صحته على الأمر به كي لا يمكن ايجاده مع النهي عنه.

٢٩١

فتلخص مما ذكر أنّ عبادية السجود لا تتوقف على قصد القربة كي لا يمكن ايجاد السجود مع النهي ، اذ اتيانه بقصد عبادية ذاتية لا ينافي النهي ، فالنهي لا يدل على صحته.

الثاني : ما تكون عباديته موقوفة على قصد القربة ، والقصد المذكور يتوقف على الأمر العبادي كالصلاة والزكاة وامثالهما.

فالنهي عنها يوجب عدم كون المكلف قادرا على ايجادها عبادة ، اذ ايجادها عبادة يتوقف على قصد القربة ، وقصد القربة يتوقف على الأمر العبادي ، والأمر العبادي لا يجتمع مع النهي عنها عند الجميع ، اذ يلزم اجتماعهما في الشيء الواحد بعنوان واحد.

لكن عرفت في اول البحث ان المراد من العبادة هو العبادة الشأنية لا الفعلية ، ومن الواضح أن المكلف قادر على ايجادها مع النهي اذا قلنا باجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد ولو بعنوان واحد ، اذ لو قيل بالامتناع لكان النهي مانعا عن صحتها ، كما سبق في بحث اجتماع الأمر والنهي ، فلا تكون بما هي عبادة مقدورة للمكلف ، فيمتنع تعلق النهي بالعبادة غير المقدورة.

فان قيل : اذا امتنع تعلق النهي بالعبادة فكيف وقع النزاع في المسألة في المتعلق بالعبادة؟ أيدل على فسادها أم لا؟

قلنا : قد عرفت في اول العنوان المراد منها ، اذ المراد منها الشأنية ، بحيث اذا افترضنا تعلق الأمر بها فقد كان الامر بها عباديا لا يسقط إلّا بقصد القربة. فالأمر التقديري والعبادة التقديرية يجتمعان مع النهي ، ولا تجتمع العبادة الفعلية معه ، كما تقدم وجهه ، فلا نعيده فرارا من التكرار. فالنهي لا يدل على صحتها ، على القول بجواز الاجتماع ، واما على القول بالامتناع فيمتنع تعلق النهي بها.

وعلى طبيعة الحال ، فالنهي يدل على صحة المنهي عنه في القسمين من المعاملات اذا كان النهي عن التسبيب وعن مضمونه ومسببه ، ولا يدل عليها في

٢٩٢

القسم الواحد منها اذا كان عن البيع بما هو فعل مباشري ، كالنهي عن البيع الربوي مثلا.

واما النهي في العبادات ، سواء كانت عباديتها ذاتية دون مقربيتها ام كانت غير ذاتية ، فلا يدل على صحة المنهي عنه في القسمين منها :

اما في الذاتية منها فلقدرة المكلف على ايجادها عبادة مع النهي ، اذ الحرمة تجتمع فيها مع صحتها بسبب النهي. واما في غير الذاتية منها فلقدرة العبد على ايجادها مع النهي أيضا. مثلا : المكلف قادر على ايجاد صوم يومي العيدين عبادة بحيث لو أمر به الشارع المقدس ، لكان أمره عباديا كأمر سائر الايام ، كما مرّ هذا ، فالنهي لا يدل على صحته ، بل يدل على فساده من جهة منافاة حرمته بقصد القربة المتوقف صحته عليه ، اي على قصد القربة.

فالمتحصل مما ذكر : ان النهي في المعاملات على ثلاثة أنحاء :

الاول : ان يكون من وجود السبب كالعقد.

الثاني : ان يكون النهي من وجوب المسبب كالملكية بما انه فعل بالتسبب.

الثالث : ان يكون من وجوب المسبب بما انه فعل بالتسبيب كالنهي عن ملكية الكافر للمصحف.

والمراد من التسبيب ايجاد السبب بما انه سبب الى وجود مسببه كايجاد عقد البيع بما انه سبب الى الملكية ، فلو أوجد المكلف عقد بيع المصحف الشريف للكافر فهو سبب للملكية ، فالمسبب منهي عنه والسبب ، الذي لا ينفك عنه مسببه ، منهي عنه ايضا. والمراد من التسبب ايجاد المسبب بما انه مسبّب عن سببه.

وان النهي في العبادات على ثلاثة أنحاء أيضا :

الاول : ان النهي عن العبادة الفعلية لا يجوز لاستحالة اجتماع المحبوبية الفعلية والمبغوضية الفعلية في الشيء الواحد بعنوان واحد.

الثاني : ان النهي عن العبادية الذاتية جائز ، كالسجود في حال الجنابة

٢٩٣

والحيض مثلا.

الثالث : انه جائز عن العبادة الشأنية ، كالنهي عن صوم يومي العيدين مثلا ، كما لا يخفى.

وفي ضوء هذا ، فالنهي يدل على الصحة في أقسام ، ولا يدل عليها في أقسام كما ذكرت سابقا ، والعلم لله تعالى عزّ اسمه.

قوله : فافهم ...

وهو تدقيقي اشارة الى دقة المطلب والى تدقيق مختار المصنف قدس‌سره في هذا المقام ، أو اشارة الى أن النهي في المعاملات ـ مطلقا ـ ارشاد الى فسادها وعدم ترتب آثارها عليها ، اذ النهي المولوي لا يتلاءم مع الامضاء ، وان كان النهي عن التسبيب أو التسبب كما لا يخفى ، فضلا عن أن يكون النهي عن السبب ، وذلك كالعقد.

٢٩٤

في المنطوق والمفهوم

قوله : المقصد الثالث في المنطوق والمفهوم ...

هذا التعبير أولى من التعبير بالمفاهيم ، إذ يشتمل هذا التعبير على المنطوق والمفهوم كليهما ، فقد رتب المصنف قدس‌سره كتابه على مقدمة وثمانية مقاصد وخاتمة.

اما المقدمة ففي بيان أمور ثمانية ، وقد تقدمت في الجزء الأول ، وأما المقاصد الثمانية فهي :

المقصد الاول : في الأوامر ، وقد سبق ايضا فيه.

المقصد الثاني : في النواهي ، وقد تقدم أيضا.

المقصد الثالث : المنطوق والمفهوم.

المقصد الرابع : في العام والخاص.

المقصد الخامس : في المطلق والمقيد.

المقصد السادس : في الامارات.

المقصد السابع : في الاصول العملية.

المقصد الثامن : في تعارض الأدلة والامارات.

وأما الخاتمة : ففي احكام الاجتهاد والتقليد.

ولا بد من تمهيد مقدمة كي تعان على بصيرة في المقصد وهو :

ان المفهوم والمنطوق قد عرف بتعاريف عديدة ، وقد عرف الحاجبي المنطوق بما دل عليه اللفظ في محل النطق ، والمفهوم بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، وتبعه المحقق القمي في القوانين ، وقال المصنف رضى الله عنه المفهوم كما يظهر من موارد اطلاقه واستعماله هو حكم انشائي أو اخباري ، فالمنطوق اذا كان حكما انشائيا فالمفهوم حكم انشائي ، واذا كان خبريا كان خبريا ، تستلزم خصوصية المعنى إيّاه

٢٩٥

الذي اريد من اللفظ. فالمنطوق يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة ، نحو (رأيت أسدا) فانه يدل بالمطابقة على كون المرئي هو الحيوان المفترس ، نحو قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(١) ، وهو يدل على طهورية جميع المياه بالقرينة العامة وهي اطلاقه وعدم تقييده بزمان دون زمان ولا بكثرة دون قلة. ونحو (رأيت اسدا يرمي) يدل بالقرينة الخاصة على كون المرئي هو الرجل الشجاع.

وأما المفهوم فيطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظرا الى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الاخص او الاعم بين المفهوم والمنطوق نظير لفظ (حاتم) فيدل على الذات المعينة مطابقة ، وعلى جوده التزاما ، فتكون دلالة اللفظ على المنطوق اولا وبالذات وعلى المفهوم ثانيا وبالعرض ، وهذه الدلالة الثانوية مستندة الى خصوصية موجودة في القضية التي دلّت عليها بالمطابقة او بالاطلاق والقرينة العامة أو الخاصة. مثلا ، الدلالة اللفظية الشرطية على الانتفاء مستندة الى أساس دلالتها على كون الشرط عليه منحصرة لحكم الجزاء وضعا أو اطلاقا ، اذ معنى ادوات الشرط ك (ان) و (لو) الشرطيتين مثلا ، سببية الاول للثاني ومسببية الثاني عن الاول ، اذا قلنا ان (ضربت زيدا ضربته) فضرب المخاطب سبب وعلة لضرب المتكلم ، اذا انتفى السبب المنحصر فقد انتفى المسبب قهرا.

هذا الانتفاء عند الانتفاء مفهوم الجملة المذكورة ، فالمفهوم تابع لخصوصية المعنى المنطوقي سواء كان الدال عليها لفظا أم كان قرينة الحكمة ومقدماتها.

فالمراد من الخصوصية الثابتة في المعنى المنطوقي الذي تدل عليه هيئة الجملة الشرطية هو ترتب الجزاء على الشرط وكون الشرط سببا للجزاء ، فالحكم الانشائي المفهومي أو الإخباري من لوازم المعنى المنطوقي لاجل تلك الخصوصية

__________________

(١) سورة الفرقان آية ٤٨.

٢٩٦

المذكورة ، سواء وافق المفهوم المنطوق في الايجاب والسلب كمفهوم (الموافق) وفحوى الخطاب أم خالفه فيهما كمفهوم (المخالف) ودليل الخطاب.

مثال الاول : قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) إذ يستفاد من منطوقه حرمة التأفف وحرمة الضرب والشتم من مفهومه ومن الهيئة التركيبية ، أي تركيب (لا تقل) مع (أفّ) اذ ثبوت الحرمة للموضوع الاخف ايذاء يستلزم ثبوتها للموضوع الاشد ايذاء بطريق اولى ، وهو الضرب والشتم للوالد والوالدة.

مثال الثاني : (ان جاءك زيد فاكرمه) اذ يدل على وجوب الاكرام على تقدير المجيء منطوقا ، وعلى عدم وجوبه على فرض عدم المجيء مفهوما ، فصار المفهوم قسمين : موافق ومخالف. وقد علم مثال الانشائي.

واما المثال الاخباري فنحو (كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا) فالمعيار انشائية الجزاء واخباريته في انشائية المفهوم واخباريته ، وإلّا فالشرط من الانشائيات دائما. أو يقال انه حكم اخباري في الجملة الوصفية والغائية ، مثلا.

فاذا كان المفهوم حكما تستتبعه الخصوصية ، اي خصوصية المعنى المنطوقي وليس المفهوم معنى اللفظ كان بنفسه غير مذكور بل هو تابع لما هو مذكور.

فان قيل : الحكم في مفهوم الموافقة مذكور في المنطوق وهو الحرمة.

قلنا : المذكور فيه مثله لا نفسه ، اذ الموضوع من مشخصات الحكم.

فالحرمة الثابتة للتأفف بسبب النهي في الآية الشريفة بمنطوقها غير الحرمة الثابتة للضرب والشتم بمفهومها الموافق ، فيصح ان يقال ان المفهوم انما هو حكم غير مذكور ، ولا يصح ان يقال ان المفهوم حكم لغير المذكور كما فسره به بعض الاصوليين (رض) لورود النقض والاشكال على تعريف بعضهم طردا وعكسا.

اما بيانهما : فلان مفهوم قول القائل (ان جاءك زيد فاكرمه) ان قلنا بالمفهوم

__________________

(١) سورة الاسراء آية ٢٣.

٢٩٧

للشرط هو عدم وجوب اكرام زيد على فرض عدم مجيئه ، وزيد مذكور في المنطوق فعدم وجوب الاكرام حكم للمذكور وليس حكما لغير المذكور ، ولهذا قال المصنف : «المفهوم قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها» فلو صح تعريف بعضهم لاختل تعريف المفهوم بعدم العكس وبعدم جامعية الافراد في جميع مصاديقه ، وتعريف المنطوق بعدم الطرد وبعدم مانعية الاغيار لانطباق مفهوم الشرط على تعريف المنطوق.

نعم يصح هذا التعريف في مفهوم الموافق ، اذ الحرمة ثابتة للضرب والشتم ، وهما غير مذكورين في منطوق قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وهو واضع.

ولكن قال المصنف : لا موقع لهذا النقض والابرام اذ التعريف لفظي وشرح الاسمي ، ولا يشترط فيه العكس ولا الطرد ، وليس بالحد ولا برسم كي يشترطا فيه ، كما سبقت الاشارة غير مرة ، نظير تفسير المعاني اللغوية لالفاظ العرب نحو (السعدانة : بنت) فانه تعريف لفظي وشرح اسمي وهو عبارة عن تبديل لفظ بلفظ اوضح من اللفظ الاول.

اذ الاطلاع على كنه الاشياء وحقيقتها مختص بعلام الغيوب جل جلاله ، ومن هذا البيان قد ظهر حال غير هذا التفسير ، كتفسير الواجب المطلق والمشروط ، والواجب الاصلي والتبعي مثلا ، اذ كل التفاسير لفظية وليست بالحد التام ولا الحد الناقص ، ولا الرسم التام ولا الرسم الناقص.

ومن كون هذا التفسير للمفهوم لفظيا قد انقدح حال سائر التفاسير للمفهوم ، اذ هو لفظي ايضا كتفسير العضدي : «ان المنطوق حكم لمذكور وحال من حالاته ولازم عادي من لوازمه ، والمفهوم حكم لغير مذكور وحال من حالاته». وكتعريف بعض آخر : «المنطوق بما نطق به والمفهوم بما لا ينطق». وعلى طبيعة الحال لا يهمنا التعرض لسائر التفاسير من كونه منعكسا ومطردا ، ومن حيث عدم كونه غير منعكس وغير مطرد ، اذ لا موقع لهذه الامور المذكورة ، كما عرفت وجهه.

٢٩٨

كما لا يهمنا التصدي لكون المنطوق والمفهوم صفتين من صفات المدلول ، أو صفتين من صفات الدلالة ، فيقال على الاول المدلول إما منطوق وإما مفهوم. وعلى الثاني الدلالة اما منطوق واما مفهوم ، وان كانا بصفات المدلول اشبه وانسب ، نظير ما يقال الكلية والجزئية.

ان المدلول كلّي تارة بحيث يصدق على كثيرين كمدلول لفظ (الانسان) وهو الحيوان الناطق ، وأخرى جزئي كمدلول لفظ (زيد) وهو الذات المعينة للشخص في الخارج ، وهو لا يصدق على كثيرين. فيكون توصيف الدلالة بهما تبعا ومجازا ، نظير الوصف بحال متعلق الموصوف نحو (جاءني زيد المجتهد أبوه).

كما ان عنوان المعلومية والمجهولية والاشتقاق والجمود والثلاثية والرباعية من صفات الالفاظ لا من اوصاف المدلول والمعاني ، وليسا نظير الصراحة الأظهرية والظهورية والاقوائية والضعفية ونحوها ، فانها من صفات الدلالة لا من صفات المدلول. فيقال دلالة صيغة الامر على الوجوب أقوى وأظهر من دلالتها على الندب وغيره من المعاني التي ذكرت في المطولات.

ولكن قال الأكثر بالاول ، واحتج بان المنطوق والمفهوم ينتزعان من نفس المدلول بقرينة عدم لحوق الياء والتاء فيهما فيقال : (منطوق الكلام) و (مفهوم الكلام) بلا ياء وتاء ، هذا مضافا الى اضافتهما الى الكلام تارة والى الجملة أخرى في كلمات ارباب الفن ، فيقال (منطوق الكلام) و (مفهوم الكلام) ، كما يقال (منطوق الجملة) و (مفهوم الجملة) ، فكذا يقال المنطوق إما حكم ايجابي وإما حكم سلبي ، والمفهوم ، اي مفهوم هذا الكلام ، إما حكم ايجابي وإما حكم سلبي. والى تفسيرهما بالحكم ، والحكم هو المدلول وقال بعض بالثاني ، واحتج بتقسيم الدلالة الى الدلالة المنطوقية والى الدلالة المفهومية ، كما اشتهر بين الاصوليين ان الدلالة المنطوقية أقوى من الدلالة المفهومية ، هذا مضافا الى ان مفهوم المقسم سار في جميع مفهومات الاقسام ، كما في تقسيم الكلمة الى الاسم والفعل والحرف ، اذ كل منها لفظ

٢٩٩

وضع لمعنى مفرد ، وهذا مفهوم الكلمة. فكذا ما نحن فيه. فالمنطوق هو الدلالة على الشيء أو على الحكم بلفظ مذكور ، والمفهوم هو الدلالة على الشيء أو على الحكم بلفظ غير مذكور ، وأجيب عنه :

أولا : بان هذا التقسيم غير ثابت لنا ولم ير في كلمات القدماء.

وثانيا : على فرض ثبوته يمكن ان يكون توصيف الدلالة بهما على التبع والمجاز نظير الوصف بحال متعلق الموصوف ، فهما وصفان للمدلول حقيقة وبالذات ، وللدلالة ثانيا وبالعرض ، نظير الحركة لجالس السفينة ، وقد انقدح من كون المفهوم ناشئا عن علية الشرط للجزاء وسببيته له ان نزاع الاعلام في ثبوت المفهوم وعدم ثبوته انما يكون في ان القضية الشرطية أو القضية الوصفية أو القضية الغائية أو غيرها من الحصرية والعددية واللقبية هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة ومقدمات الحكمة على علية الشرط للجزاء بحيث اذا انتفت العلة انتفى المعلول ، وعلى علية الوصف للحكم في الوصفية ، وعلى علية تحقق الغاية لانتفاء الحكم في الغائية ، اي حكم المغيّى عما بعد الغاية ، وعلى علية اللقب الملقب به ، في اللقبية ، وعلى علية العدد للحكم الوضعي للمعدود في العددية ، وعلى علية الحصر المحصور في المحصور فيه في الحصرية ، بحيث تتولد من هذه العلية قضية أخرى ، خالفت القضية الاولى في الايجاب والسلب أم لا؟

وعلى طبيعة الحال ، فالنزاع في الصغرى لا في الكبرى ، لانه اذا كان للجملة الشرطية مفهوم فلا نزاع في حجّيته ، اذ هذه الكبرى مسلمة عند الكل.

في مفهوم الشرط

قوله : فصل : الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء ...

لمّا فرغ المصنف من بيان تعريفهما ومن بيان كونهما من صفات المدلول في طي المقدمة ، شرع البحث في مفهوم الجملة الشرطية ، وقال :

٣٠٠