البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

محالة يأمر المولى بالشيئين من اجل الغرضين اللذين يحصلان منهما لا غير ، ولكن فعل احدهما مسقط لأمر نفسه وأمر عدله ورقيبه ، إذ باتيان احدهما يكون استيفاء غرض الآخر غير ممكن ، فاتيان الآخر لغو ، فلا بد من الاكتفاء باحدهما في مقام الامتثال ، فوجوبهما نوع من الوجوب.

اما هذا الوجوب فيباين الوجوب العيني في الأثر ، لأن ترك الواجب العيني كالصلاة المكتوبة لا يجوز أصلا.

أما ترك هذا الواجب مع فعل عدله فجائز كترك العتق مع الاتيان بالصوم ، وكترك الصيام مع الاتيان بالاطعام ، ولأن في فعلهما ثوابا واحدا ، لأنه قد حصل بفعلهما غرض واحد ، فالثواب تابع للغرض ، فاذا كان واحدا كان واحدا ، وإذا كان متعددا كان متعددا.

بخلاف الواجب العيني فاذا فعل المكلف الواجبين العينيين فقد استحق الثوابين. فالاختلاف في الأثر يكشف عن اختلاف الوجوب ، فالوجوب تخييري ، لا وجوب عيني ، ولكن التخيير بين الأمرين شرعي.

فتحصّل : مما ذكر ان في حال كون الغرض واحدا يكون الجامع بين الأمرين واجبا ، والتخيير بينهما عقلي.

وفي حال كون الغرض متعددا يكون الأمران واجبين ، ولكن التخيير بينهما شرعي فهما واجبان تخييرا.

قوله : فتدبّر ...

وهو اشارة إلى انه يمكن ان يكون الأمران واجبين تعيينا ، ولكن الوجوب التعييني لكلّ منهما مشروط بترك الآخر.

قوله : بقي الكلام في انه هل يمكن التخيير عقلا او شرعا؟ ...

وليعلم : ان الأقل والأكثر على قسمين :

الأول : ان ليس للاقل الذي يوجد في ضمن الأكثر وجود على حدة ، وذلك

٦١

نحو خط قصير وخط طويل ، لأن الموجود في الخارج هو الأكثر فقط على الفرض ، بمعنى عدم تخلل العدم بين الخط القصير والخط الطويل ، بل المكلف يوجد أولا في الخارج الخط الطويل كذراعين دفعة واحدة بلا تخلل السكون.

والثاني : ان للأقل الذي في ضمن الأكثر وجودا مستقلا على حدة بحدّه ، وذلك مثل التسبيحة والتسبيحات ، فان شاء المكلف ان يوجد الأكثر فلا بد له أن يوجد الأقل اولا بحدّه ، فلا محالة يسقط أمر المولى ، ويحصل غرضه فلا معنى حينئذ لامتثال الأكثر.

وفي ضوء هذا ، لا يمكن التخيير لا العقلي ولا الشرعي بينهما في القسم الأول لعدم وجود الأقل فيه على حدة بحدّه في الخارج كما ذكرنا آنفا.

وأمّا في القسم الثاني فيمكن بينهما لوجود الأقل فيه بحدّه في الخارج.

إذا علم ما ذكر : فامكان التخيير بين الأقل والأكثر اختلافي ، ذهب بعض الأعلام إلى امكانه. وذهب بعضهم إلى عدم امكانه.

وقد استدل القائل بعدم الامكان بانه مع تحقق الأكثر في الخارج يحصل الغرض فحينئذ يكون الأمر بالأقل لغوا وبلا فائدة ، فلا يصدر من المولى الحكيم.

وقد أجاب المصنف صاحب الكفاية قدس‌سره : بان الأمر ليس كذلك ، فانه إذا فرض ان المحصّل للغرض ، فيما إذا وجد الأكثر في الخارج ، هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمن الأكثر ، أن يكون لجميع اجزاء الأكثر حينئذ دخل في حصول الغرض في مقام التشريع ، وان كان الاقل لو لم يكن في ضمن الأكثر على الفرض يكون وافيا بالغرض أيضا ، فلا محيص عن التخيير حينئذ بين الأقل والأكثر ، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ يكون بلا مخصّص ، فان الأكثر بحدّه يكون مثل الأقل في الوفاء بالغرض على الفرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مرتب على الطويل إذا رسم بماله من الحد كذراعين مثلا ، لا على القصير في ضمن الأكثر كذراع.

٦٢

وعليه : فكيف يجوز تخصيص الوجوب بالشيء الذي لا يشمل الأكثر كتخصيصه بالأقل فقط. ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان عال من الامكان. فالتخيير يمكن بين الأقل والأكثر كما يمكن التخيير بين المتباينين.

قوله : ان قلت هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد ...

ولا يخفى ان كلمة (هب) اسم فعل أمر جامد (لا مضارع ولا ماضي له) ينصب مفعولين اصلهما مبتدأ وخبر ، والهاء مفعوله الأول ومفعوله الثاني ثابت في مثل (ما إذا كان) للأكثر لأن الجار والمجرور مفعول بالواسطة ، وهي ضمنت معنى جعل ، وهي متعدية إلى مفعولين ، أي افترض التخيير في مثل ما إذا كان للأكثر.

فالقائل بعدم امكان التخيير بين الأقل والأكثر ، اعترض على القائل بامكانه بينهما كالمصنف ومن تبعه من ان الأكثر محصّل للغرض الذي يكون داعيا إلى وجوب الأكثر إذا وجد دفعة واحدة بحيث لا يكون للاقل وجود مستقل في ضمن الأكثر ، وذلك مثل الخط الطويل الذي يوجد دفعة ، إذ ليس للخط القصير المتحقق في ضمن الطويل وجود مستقل على حدة ، فهنا يمكن التخيير بينهما على فرض وجود الأقل بحدّه في الخارج. بخلاف ما إذا كان للأقل وجود مستقل على حدة قبل وجود الأكثر وقبل تحقّقه ، كالتسبيحة الواحدة ، إذ هي توجد قبل وجود التسبيحتين الاخيرتين ، أو مثل خطّ طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه فالأقل يوجد بحدّه في الخارج قبل وجود الأكثر فيه. وبالأقل يحصل الغرض على الفرض ، ومع حصول الغرض لا محالة يكون الزائد على الأقل غير دخيل في حصول الغرض ، فيكون الزائد على الأقل زائدا على الواجب ، ولا يكون الزائد من اجزاء الواجب ولا من اجزاء المأمور به ، ففي هذه الصورة لا يمكن التخيير بينهما لا عقلا ولا شرعا ، بل يتعين وجوب الأقل فقط ، كما لا يخفى.

فتلخّص مما ذكر : ان في صورة كون الأكثر دفعي الوجود في الخارج فهو واجب لا غير. وان في كون الأكثر تدريجي الوجود يتعيّن الأقل للوجوب لفرديته

٦٣

لطبيعي المأمور به والمكلّف به ولوفائه بالغرض على الفرض ، أي لوفاء الأقل بالغرض على الفرض.

قوله : قلت لا يكاد يختلف الحال بذلك ...

اجاب المصنف عن هذا الاشكال : بأنه لا فرق بين القسم الأول والقسم الثاني من الأقل والأكثر ، كما ذكر آنفا في طيّ الاشكال ، لأنه على الفرض المذكور ، أي على فرض كون المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر في الخارج هو الأكثر لا الاقل الذي في ضمن الأكثر ، لا يختلف الحال والمطلب من اجل تحقق الأكثر مع الأقل دفعة واحدة ، وذلك مثل الخط الطويل الذي رسم بلا تخلل العدم والسكون في البين ، ومن تحقق الأكثر تدريجا كالخط الطويل الذي رسم مع تخلل العدم والسكون في البين ، ففي كل واحد منهما يكون الأكثر محصلا للغرض بحده ، ولكن انما يترتب الغرض على الأقل بشرط عدم انضمام الزائد اليه ، كما في صورة كون الأكثر تدريجي الحصول ، سواء انضم اليه الزائد وتحقق الأكثر مع الأقل دفعة واحدة ، أم انضمّ إلى الأقل زائد وتحقق الأكثر بعد الأقل تدريجا.

غاية الأمر : ان الأقل قد يكون محصلا للغرض مطلقا سواء انضمّ اليه الأكثر أم لم ينضمّ اليه ، وفي مثل هذا المورد يتم الاشكال إذ لا تخيير بين الأقل والأكثر حينئذ ، بل يتعين الأقل للوجوب.

وقد يكون الأقل محصّلا للغرض ، اما بشرط عدم انضمام الزائد إلى الأقل ، فاذا انضمّ اليه الزائد والأكثر يكون المحصل للغرض هو الأكثر بحدّه ، بمعنى ان يكون لجميع اجزاء الأكثر دخل في حصول الغرض ، وفي مثل هذا لا محيص عن القول بالتخيير بين الأقل والأكثر ، إذ كل واحد من الأقل والاكثر بحدهما محصل للغرض ، فالتخيير العقلي ثابت فيه فلا يتمّ الاشكال في هذا المورد ، كما انه لا وجه لتخصيص الوجوب بالأقل دون الأكثر.

وبالجملة : إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحدّه الخاص محصّلا للغرض

٦٤

فلا محالة يكون الجامع بين الأقل والأكثر واجبا ، ان كان غرض المولى واحدا ، فالعبد مكلف بايجاد الجامع في ضمن الأقل أو في ضمن الأكثر ، ويكون التخيير بين الأقل والأكثر بحكم العقل ، كالتخيير بين الافراد بعد تعلق الأوامر بالطبائع ، كما هو الأظهر عند ارباب الفن والصناعة ، ومثاله قد مرّ في مثل الماء وعصير الفاكهة.

وان كان هناك غرضان فالتخيير بين الأقل والأكثر شرعي ، أي يكون بحكم الشرع لا العقل كخصال الكفارة من العتق والصيام والاطعام ، كما عرفت سابقا ، فملاك التخيير العقلي هو حكم العقل به ، وملاك التخيير الشرعي هو لسان الدليل الشرعي كما في خصال الكفارة.

قوله : نعم لو كان الغرض مترتبا على الأقل ...

إذا كان غرض المولى حاصلا بالأقل ، سواء كان الأكثر موجودا أم لم يكن بموجود ، فمن المعلوم انه ليس للاجزاء الزائدة على الأقل دخل في حصول الغرض ، فلا وجه للتخيير مطلقا في هذا المورد ، فالأكثر لا يكون مثل الأقل ، ولا يكون عدلا للأقل ، بل كان في هذا المورد اجتماع الوجوب والاستحباب او اجتماع الوجوب والكراهة ، أو اجتماع الوجوب والاباحة حسب اختلاف الموارد ، مثال الأول التكبيرات السبع الافتتاحية للصلاة ، إذ احداها واجبة بقصد تكبيرة الاحرام وغيرها مستحب.

ومثال الثاني القران بين السورتين في الركعة الاولى والثانية ، إذ تكون احداهما واجبة والاخرى مكروهة.

ومثال الثالث في نزح خمسين دلوا من البئر في مورد وجوب نزح اربعين دلوا منه كما إذا القيت شاة في بئر وماتت فيه.

قوله : فتدبّر جيّدا.

وهو تدقيقي اشارة إلى الدقة والتدقيق حتى تتميز موارد التخيير الشرعي وموارد التخيير العقلي لاختلاف الموارد والمقامات.

٦٥

الواجب الكفائي

قوله : فصل في الواجب الكفائي ...

الكلام في تصوير الواجب الكفائي.

قال المصنف قدس‌سره والتحقيق ان الواجب الكفائي يكون سنخا من الوجوب نظير سنخ الوجوب التخييري ، ولكن انما يفترقان من حيث إن التعدد هناك ، أي في الواجب التخييري في فعل المكلّف الواحد مع توجه الخطاب اليه وحده فيقتضي فعل كلّ من الامور في ظرف عدم فعل ما عدا كل واحد من المتعدد ، مثل خصال الكفارة ، إذ يحتمل ان يختار المكلف فعل المتعدد كعتق رقبة مؤمنة وصيام واطعام ، فاذا لم يعتق فلا بد من فعل الصيام أو الاطعام على التخيير ، وإذا لم يفعل الصيام فلا بد حينئذ من فعل الاطعام. فالتعدد يكون في فعل المكلف الواحد.

والتعدد هنا ، أي في الواجب الكفائي ، يكون في المكلف مع كون الفعل واحدا ، فيكون فعل كل واحد من المكلفين واجبا في ظرف عدم فعل الآخر.

وبعبارة أخرى : وهي ان التعدد يكون في المكلف به في الواجب التخييري.

وان التعدد يكون في المكلف في الواجب الكفائي مع كونهما سنخا من الوجوب يتعلق الواجب الكفائي بكل واحد من المكلف بحيث لو أخل بامتثاله الكل ، أي كل المكلف لعوقبوا لمخالفة كل منهم التكليف الفعلي المتوجه إلى الكل ، وان سقط الوجوب عن المكلفين ، إذا أتى بالواجب الكفائي بعضهم.

وهذا معيار الفرق بينه وبين الواجب العيني كالصيام في شهر رمضان المبارك مثلا. ويدل على ما ذكر من عقاب الجميع على فرض الترك ، ومن سقوط الوجوب عن الجميع بفعل البعض مقتضى ما إذا كان هنا غرض واحد للمولى بحيث يحصل الغرض بفعل واحد صادر عن كل المكلفين بان صلّوا جميعا على الميّت المسلم ، أو

٦٦

صادر عن بعضهم بان صلى بعضهم عليه ، كما ان الظاهر من أدلّة الواجب الكفائي هو امتثال جميع المكلفين إذا أتوا بالواجب الكفائي دفعة واحدة ، وان الظاهر هو استحقاقهم للمثوبة. وان الظاهر هو سقوط الغرض بفعل الكل ، أي كل المكلفين ، كما يسقط بفعل بعضهم ، فاذا صلّوا جميعا على الميت فقد امتثلوا جميعا لوجود المأمور به في الخارج بفعل الكل ولحصول الغرض بفعله ، فاذا حصل الغرض استحقّوا الثواب لتحصيلهم الغرض بالفعل ، فاذا فعلوا الواجب فهو يكون مثل توارد العلل على معلول واحد ، مثل توارد المصباح والكهرباء والشمع على نور الحجرة ، فلا بد أن يستند نورها إلى كلها لا إلى بعضها ، وإلا يلزم الترجيح بلا مرجح ، فكذا هنا.

واقيم على هذا المطلب برهان آخر ، وهو ان الغرض في الواجب الكفائي واحد ، فلا بد أن يكون المؤثر في الغرض الواحد واحدا ، لأن الواحد لا يصدر إلا عن واحد ، فمع تعدد المؤثر بان صلّوا جميعا على الميت يكون المؤثر في حصوله هو الجامع بين الأفعال المتعددة لآحاد المكلف ، ففي صورة فعل الجميع يكون الأثر وحصول الغرض مستندا إلى الجامع بين افعالهم لامتناع استناد الأثر الواحد إلى المتعدد كما اقيم البرهان العقلي عليه في محلّه ، فيكون جميع المكلفين شركاء في الامتثال وفي حصول الغرض وفي استحقاق المثوبة كما انهم شركاء في العقوبة لو تركوا الواجب الكفائي جميعا ، كما لا يخفى.

المؤقت وغير المؤقت

قوله : لا يخفى انه وان كان الزمان مما لا بد منه عقلا ...

لا يخفى ان الغرض من الأمر هو اتيان المأمور به وتحققه في الخارج ، والاتيان فعل ، وكل فعل لا بد له من زمان ، كما انه لا بد له من مكان ، لكون الفعل زمانيا ومكانيا ، ولكن قد يكون الزمان تارة دخيلا شرعا في المأمور به ، فان أخذ الزمان قيدا لموضوع الحكم كان الواجب موقتا.

٦٧

واخرى لا دخل للزمان في المأمور به اصلا ، بل يكون الزمان طرفا له ، فيكون غير موقت ، والمؤقت اما ان يكون الزمان الذي أخذ فيه قيد موضوع الحكم بقدر الواجب كصوم رمضان المبارك فهو مضيّق ، واما ان يكون الزمان اوسع من الواجب كالصلاة اليومية فموسع ، ولكن يمتنع ان يكون الزمان اضيق لأن التكليف بالفعل فيه تكليف بالمحال ، فالواجب ينقسم بلحاظ الزمان وبلحاظ عدمه إلى الوقت كالصلاة اليومية ، وإلى غير المؤقت كالصوم المنذور المطلق ، وينقسم المؤقت إلى : المضيّق كصوم رمضان المبارك ، والموسع كالصلوات اليومية مثلا.

قوله : ولا يذهب عليك ان الموسع كلي ...

فاذا كان الزمان اوسع من فعل الواجب في الموسع نحو قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ففيه احتمالات اربعة ، ثلاثة منها باطلة وواحد منها صحيح.

الأول : تطبيق اجزاء الواجب على اجزاء الوقت الوسيع ، بان يكون الجزء الأول من الواجب منطبقا على الجزء الأول من الوقت ، والوسط على الوسط ، والأخير على الأخير.

والثاني : تكرار فعل المأمور به في جميع اجزاء الوقت بأن يأتي بالواجب مكرّرا في اجزاء الوقت الوسيع.

والثالث : خصوص أول الوقت أو آخره ، ولا نعلم قائلا بالوسط.

والرابع : وجوب فعل المأمور به على التخيير ، بمعنى ان المكلف مخير في اجزاء الوقت الوسيع.

فالأول والثاني باطلان بالاجماع ، أي اجماع المسلمين كافة.

والثالث : ايضا باطل ، لأنه لو كان الوجوب مختصا بأول ، كما قال به الشيخ المفيد قدس‌سره ، لكان المصلي في وسط الوقت أو آخره قاضيا ، أي تكون صلاته قضاء ، فاللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله.

٦٨

أما بيان الملازمة فواضح لا يحتاج إلى بيان.

ولو كان مختصا بآخر الوقت ، كما قال به بعض ، لكان المصلى في أول الوقت أو وسطه مقدّما لصلاته على الوقت ، كما لو صلى الظهر قبل الزوال ، فاللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله.

بيان الملازمة واضح ايضا. وإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة ، فقد تعين الاحتمال الرابع ، وهو التخيير الزماني في الواجب الموسع.

وعليه : فلو تعلق أمر المولى بطبيعة الصلاة في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) لكان الموسع كليا له افراد دفعية ، كأن يصلي زيد صلاة الظهر أول الوقت في بيته ، ويصلّيها عمرو فيه في المسجد ، ويصلّيها بكر فيه في الحرم ، وله افراد تدريجية.

وبعبارة أخرى : له افراد طولية تنطبق على الزمان الوسيع كالصلاة اول الوقت وآخره ووسطه ، كأن يصلي علي صلاة الظهر اول الوقت ، ويصليها أحمد وسط الوقت ، ويصليها محمود آخره ، فيكون التخيير بين الافراد التدريجية الطولية مثل التخيير بين افراده الدفعية العرضية عقليا ، فكما يصح الاتيان بصلاة الظهر مثلا في البيت وفي المسجد وفي الحرم ، كذلك يصح الاتيان بها في أول الوقت ووسطه وآخره ، إذ غرض المولى على هذا المبنى مترتب على الطبيعة أي طبيعة الصلاة من دون لحاظ الخصوصية فيها.

فاذن : العقل يحكم بايجادها في ضمن أيّ فرد من افرادها ، وفي أيّ جزء من اجزاء الزمان الوسيع ، وفي أي مكان من الأمكنة.

وفي ضوء هذا : لا وجه لتوهم ان يكون التخيير بين الأفراد التدريجية العرضية في الواجب الموسع شرعيا كالتخيير بين خصال الكفارة من العتق والصيام والاطعام ، لكن الفرق بينها وبينه : أن الخصال افعال مختلفة بالحقيقة ، وفي الواجب الموسع افعال متفقة الحقيقة مختلفة الوقت ، كما هو ظاهر ، فحال الصلاة الذي يكون

٦٩

مؤقتا وكليا وذا افراد مثل حال سائر الطبائع إذا تعلق بها الأمر ، مثلا إذا قال المولى : اعتق رقبة فالأمر يتعلق بطبيعة الرقبة ، وحينئذ يحكم العقل بايجادها في ضمن ، أي فرد من افراد الرقبة ، بلا فرق بين افرادها العرضية والطولية. فكذا إذا قال المولى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ).

ولا يخفى ان المراد بافراد الرقبة العرضية هو الرقبات المتعددة ، وان المراد بافرادها الطولية هو عتق هذه في هذا الآن ، وعتق تلك في الآن الآخر ، وعتق الثالثة في الآن الثالث ، فلا مجال لهذا التوهم.

وزعم بعض ان تشريع الوجوب الموسع في بعض اجزاء الزمان الوسيع ينافي الوجوب إذ الوجوب رجحان الفعل مع المنع من الترك ، فيجتمع فيه جواز الترك وعدم جواز الترك وهو تناقض.

ولكن الانصاف ان هذا التوهم فاسد لوجهين :

الأوّل : ان الواجب الموسع وقع في الشريعة بالاجماع ، بل بالضرورة كالصلوات اليومية ، والوقوع يستلزم امكانه لأنه أخص منه ، والحال ان تحقق الأخص في الخارج مستلزم لتحقق الأعم فيه.

والثاني : ان ترك الواجب مع البدل جائز ، كما في الواجب التخييري ، كخصال الكفارة ، فترك صلاة الظهر جائز في أول الوقت مع فعلها في وسطه أو آخره ، كما يجوز ترك عتق الرقبة في الواجب التخييري مع فعل الصيام أو آخره أو الاطعام ، فالممنوع هو ترك الواجب رأسا وبلا بدل ، ولا اعتناء حينئذ ببعض التسويلات ، أي الشبهات ، كما ذكرت في المطولات.

قوله : ثم انه لا دلالة للأمر بالمؤقت بوجه على الأمر ...

اعلم ان البحث يكون تارة في مقام الثبوت ، واخرى في مقام الاثبات ، أما الأوّل (مقام الثبوت) فهو ان الزمان المعين من حيث الأول ومن حيث الآخر تارة يكون دخيلا في تمام مراتب مصلحة الواجب بحيث تفوت المصلحة من اصلها

٧٠

بفوات الزمان ويعبر عنه ب (وحدة المطلوب).

وأخرى يكون الوقت دخيلا في بعض مراتبها دون بعض بحيث يترتب على الفعل في خارج الوقت بعض المصلحة ، ويعبر عنه بتعدد المطلوب.

ففي الأول لا يجب الفعل في خارج الوقت لعدم المصلحة فيه. ولو دلّ دليل على وجوبه في خارج الوقت لكان من قبيل التدارك والجبران مما فات نظير بعض الكفارات المرتبة على ترك بعض الواجبات خطأ كصوم اليوم الواحد المرتّب على ترك صلاة العشاء نسيانا.

وأما في الثاني فيجب الفعل في خارج الوقت ان كان الباقي من المصلحة مما يجب تداركه ويستحب الفعل فيه ان كان الباقي من المصلحة مما يستحب تداركه. هذا في المقام الأول وهو مقام الثبوت.

وأما الكلام في المقام الثاني وهو مقام الاثبات ، فهو ان التوقيت : تارة يكون بدليل متصل مثل (اغتسل في الجمعة). واخرى بدليل منفصل مثل ان يقول المولى :

(اغتسل) ، ثم يجيء دليل آخر يتضمّن وجوب الغسل في الجمعة.

ففي الأول : لا دلالة للدليل على كون الوقت دخيلا في تمام مراتب مصلحة الواجب أو بعضها ، فالمرجع في وجوب الفعل خارج الوقت هو الأصل العملي ان لم يقم دليل على وجوب الفعل خارج الوقت ، وإلّا كان عليه ، أي على الدليل ، المعوّل.

وفي الثاني : تارة يكون لدليل وجوب الفعل اطلاق يقتضي وجوب الفعل بعد الوقت. ولدليل التقييد اطلاق يقتضي دخل الوقت في تمام مراتب المصلحة.

وتارة يكون لأحدهما اطلاق دون الآخر.

وثالثة : لا يكون لأحدهما اطلاق اصلا.

فعلى الأول يؤخذ باطلاق دليل التقييد.

وعلى الثاني يؤخذ باطلاق الثابت لاحدهما.

وعلى الثالثة يرجع إلى الأصل العملي. هذا إذا لم يقم دليل على القضاء ، وإلّا

٧١

فعليه المعوّل. نعم ، قد يقتضي الجمع بينه وبين اطلاق دليل التقييد حمله على الجبران لا على استيفاء بعض مراتب المصلحة.

فمعنى اطلاق دليل الواجب وجوب الفعل في الوقت وفي خارجه ، فيكون تعدد المطلوب موجودا.

ومعنى اطلاق دليل التوقيت دخول الوقت الخاص في تمام مراتب المصلحة ، فيكون مقتضى هذا الاطلاق وجوب الفعل في الوقت فقط لغرض انتفاء المصلحة الداعية إلى ايجاب الفعل بخروج الوقت ، فيكون من باب وحدة المطلوب ، ولا بد في هذه الصورة من الأخذ باطلاق دليل التقييد لأجل حكومته على اطلاق دليل الواجب ، والحال ان مقتضاه عدم وجوب الفعل بعد الوقت فيكون القضاء بفرض جديد. هذه هي الصورة الأولى.

والصورة الثانية : عدم اطلاق شيء من الدليلين ، دليل الواجب ودليل التوقيت ، بأن كانا مهملين ، والمرجع فيها هو الاصل العملي لفقد الدليل الاجتهادي وهو اصل البراءة عن وجوب الفعل بعد الوقت فلا بد حينئذ ان يكون القضاء ايضا بفرض جديد.

والصورة الثالثة : هي اطلاق دليل الواجب واهمال دليل التوقيت.

وأما الصورة الرابعة فعكس الثالثة.

والمرجع فيهما هو الاطلاق اينما وجد.

ففي الثالثة يحكم بوجوب الفعل بعد الوقت ، فيكون القضاء تابعا للاداء.

وفي الرابعة يحكم بعدمه بعده ، إذ مقتضي اطلاق دليل التوقيت انتفاء المصلحة بالكلية بعد الوقت ، فلا داعي للوجوب بعد الوقت ، فلا بد ان يكون القضاء ايضا بفرض جديد.

فلدليل التوقيت المتصل صورة واحدة ، ولدليل التوقيت المنفصل أربع صور كما ذكرنا آنفا ، فالمجموع خمس صور.

٧٢

وظهر ان القضاء يكون بفرض جديد في اربع منها ، وان يكون تابعا للاداء في واحدة منها.

فان قيل ان نثبت وجوب الفعل ، كالصلاة ، بعد الوقت ، بالاستصحاب الحكمي لوجود شرطه ولتحقق اركانه ، وهي اليقين السابق والشك اللاحق ، ومع جريانه لا تجري البراءة العقلية ، إذ هي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان ، ولكن الاستصحاب الحكمي بيان وهو : ان وجوب الصلاة قبل خروج الوقت متيقن وبعد خروج الوقت مشكوك ، والحال ان الشك اللاحق لا يكون ناقضا لليقين السابق لحكم وجدان البشر بذلك ، وهو حجة وبيان. فيكون رافعا لموضوع البراءة العقلية فيكون واردا عليها. ومعه لا تجري البراءة الشرعية ، إذ موضوعها الشك في التكليف وفي الوجوب.

ولكن الاستصحاب المذكور يرفع الشك فيه ، ويعيّن التكليف ووجوب الفعل بعد الوقت ، فيكون واردا عليها ايضا ، فلا تجري ايضا ، فيكون القضاء تابعا للاداء في جميع الصور المذكورة.

قلنا : انه لا مجال لهذا الاستصحاب كما سيأتي في تنبيهات الاستصحاب ، لأن الزمان إذا أخذ قيدا للفعل المأمور به يكون الفعل المقيد بالزمان غير الفعل الواقع في خارج هذا الزمان ، مثلا الصوم الواقع يوم الجمعة غير الصوم الواقع يوم السبت ، فسراية الحكم من الأول إلى الثاني يكون من قبيل تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، ويكون من القياس الممنوع لا من باب الاستصحاب ، إذ يعتبر في الاستصحاب وحدة الموضوع والمحمول في القضية المتيقنة وفي القضية المشكوكة ، ليتحقق ابقاء الموضوع وابقاء المحمول ، إذ قوام الاستصحاب بالابقاء والبقاء كما لا يخفى. فلا مجال لاستصحاب وجوب المؤقت بعد انقضاء الوقت ، أي وقته.

قوله : فتدبّر جيّدا ...

اشارة إلى أن الموضوع في الاستصحاب ان كان بنظر العقل ودقته فلا يجري

٧٣

في التكليف المؤقت وفي الواجب المؤقت ، واما إذا كان الموضوع بنظر العرف فهو واحد في القضية المتيقنة وفي القضية المشكوكة لأجل تسامح أهل العرف ، فالصلاة في خارج الوقت تكون نفس الصلاة في الوقت بنظره ، وسيأتي توضيح ذلك في محله بعون الله تعالى.

قوله : فصل الأمر بالأمر بشيء أمر به ...

مثلا : إذا أمر المولى زيدا بأن يأمر عمروا بفعل الواجب واقامة الصلاة ، فنوزع في أن هذا الأمر هل يوجب كون الصلاة مثلا مأمورا بها بالاضافة إلى عمرو بأمر المولى ، أو يوجب كونها مأمورا بها بالنسبة إلى عمرو بأمر زيد ولم يتعلق بها أمر المولى بل يتعلق بها أمر زيد فقط ، فمطلوب المولى هو أمر زيد عمروا بها بحيث لو خالف ولم يأمره بها فهو معاقب لأنه عدّ عاصيا ، واما الصلاة فهي لا تكون مطلوبة للمولى. قال جمع من الأعاظم بالأول ، وقال بعض منهم بالثاني.

والتحقيق في المقام أن يقال أن أمر المولى بأمر انما يكون على نحوين :

الأول : ان غرض المولى يكون صلاة والباعث لأمر زيد عمروا هو تبليغه إلى عمرو ولم يلحظ في الواسطة إلا التبليغ مثل أوامر الله تعالى بالاضافة إلى العباد بتوسط الانبياء والأوصياء عليهم الصلاة والسلام ، فاذا أمر الله تعالى انبياءه بأن يأمروا عبادي بفعل الواجبات ومنها الصلاة فتكون مأمورا بها ومطلوبة للمولى الحكيم.

والثاني : ان غرض المولى من الأمر بالأمر بشيء يكون اختبار الواسطة وكشف حالها والصلاة لا تكون مطلوبة للمولى الحكيم. ففي الصورة الثانية لا يكون الأمر بالأمر بشيء أمرا بذلك الشيء.

فتلخّص مما ذكر : ان الأمر بالأمر بالشيء يكون أعم منه ، فلا يدل الأمر بالأمر بالشيء على كون هذا الشيء مأمورا به ، بل يحتاج كشف هذا إلى دليل زائد ، وقرينة زائدة ، فان كانا موجودين في المقام فهو ، وإلّا فلا بد من الرجوع إلى

٧٤

استصحاب عدم كون هذا الشيء مأمورا به وإلى اصالة عدم كونه مأمورا به.

وليعلم ان كل نزاع اصولي لا بد له من الثمرة الفقهية ، فالثمرة المترتبة على هذا النزاع في المقام هي شرعية عبادة الصبي كصلاته وصيامه وحجّه ، بقول الشارع المقدّس وهو : «مروهم بالصلاة وهم ابناء سبع» أو «مروهم بالصلاة وهم ابناء عشر» على اختلاف في الرواية ، فاذا قلنا بالأول فعبادته شرعية يترتب عليها الثواب ، وإذا قلنا بالثاني فعبادته تمرينية لا يترتب عليها الثواب كما لا يخفى.

قوله : فصل إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله فهل يوجب ...

مثلا : إذا ورد الأمر بالدعاء عند رؤية الهلال ، ثم ورد الأمر الثاني به عند رؤيته قبل امتثال الأمر الأول فاختلف في ان الأمر الثاني يوجب لوجوب الدعاء ثانيا بحيث يجب مرّتين أم أنّ الثاني تأكيد للأول؟

وبعبارة أخرى : ان الثاني هل يحمل على تأسيس الحكم فيكون في المقام الواجبان ويجب الاتيان بالمأمور به مرتين ، أو انه يحمل على تأكيد الحكم الأول فيكون في المقام واجب واحد.

غاية الأمر : أنّ الأمر قد تعدد لكون الواجب اهم في نظره ، فيؤكّد طلبه ، ذهب جمع إلى الاول ، وذهب الأكثر إلى الثاني.

ولكن التحقيق في المقام ان اطلاق المادة ، أي مادة الصيغة ، يخالف ظاهر هيئتها ، إذ مقتضى اطلاق المادة ، ان الثاني تأكيد للأول ، لأنه لو لم يكن كذلك فلا بد ان يكون الثاني مقيدا بقيد مثل مرة ثانية ، أو بمثل مرة اخرى ، وإلّا يلزم اجتماع الوجوبين المثلين في الطبيعة الواحدة ، أي في الطبيعة المأمور بها على القول بتعلق الأوامر بالطبائع كما هو الأظهر.

والحال ان اجتماعهما كاجتماع الضدين في الشيء الواحد في الاستحالة والمحالية ، هذا إذا لم يكن الطلب الثاني مقيدا بقيد مثل مرة اخرى ونحوها.

وأما إذا كان الثاني لتأسيس الحكم فلا بد ان يكون الثاني مقيدا بقيد ، مثل ان

٧٥

يقول المولى لعبده : (ادع عند رؤية الهلال لا سيّما رؤية هلال رمضان المبارك) ، ثم يقول : (وادع عندها دعاء آخر) أو (مرة اخرى) ، كي يعلم ان الطبيعة المأمور بها في الأمر الثاني غير الطبيعة المأمور بها في الأمر الأول ، فيكون مقتضي المادة تأكيد الثاني للأول.

وأما مقتضي ظاهر الهيئة فهو تأسيس الثاني للحكم ، لأن ظاهرها انها صادرة عن ارادة وقصد ، وكل أمر صادر عن ارادة وقصد يكون للتأسيس لا للتأكيد والتوكيد لأنه خير منه ، كما قيل انه إذا دار الأمر بينهما فالتأسيس خير من التوكيد والتأكيد ، فمقتضى الهيئة يخالف مقتضي اطلاق المادة.

ولكن لا يبعد ان يكون الأمر دليلا لترجيح مقتضي اطلاق المادّة على مقتضي الهيئة ، هذا في الموضع الذي ذكر فيه علة ايجاد المأمور به في الخارج ، كما يقول المولى لعبده : (إذا رأيت الهلال فادع بالدعاء المأثور عندها) ، ويقول في الدليل الآخر : (فادع) بلا ذكر السبب الأول بل يقول : (فادع) فقط.

فبالنتيجة : إذا كان الأمر الثاني مسوقا على نحو الأمر الأول مثل أن يقول : (اعتق رقبة) ثم يقول (اعتق رقبة) بلا ذكر السبب أصلا في الأول ولا في الثاني ، أو ذكر سبب واحد لهما معا كأن يقول : (إذا رأيت الهلال فادع) والمراد من السبب هو رؤية الهلال ، ففي هاتين الصورتين يكون الأمر الثاني مؤكّدا للأوّل بلا اشكال ، ولا حاجة إلى تكرار المأمور به في مقام الامتثال ، بل يكفي ايجاده مرة واحدة لتبادر التأكيد هنا ولعدم تبادر التأسيس هنا.

وأما في الموضع الذي ذكر فيه سببان مختلفان كما إذا قال : (انك إذا رأيت الهلال فادع بالمأثور) ثم يقول : (انك إذا توضّأت فادع بالمأثور) ، فالظاهر حينئذ من الهيئة مع ذكر سبب مختلف هو التأسيس لا التأكيد ، فلا بد من ايجاد المأمور به مرّتين ، إذا كان السبب اثنين ، أو ثلاث مرّات ، إذا كان السبب ثلاثة ، كما يقول : (انك إذا رأيت الهلال فادع بالمأثور) ، و (إذا توضّأت فادع به) ، و (إذا صلّيت فادع به) كما

٧٦

ورد الدعاء في اخبارنا المروية عن أئمتنا عليهم‌السلام في الرؤية والتوضّؤ والصلاة ، أي قبل تكبيرة الاحرام وبعدها.

ولا يخفى ان هذا كله بناء على عدم تداخل المسبّبين بعضهما في بعض ، وإلّا فيندك الوجوب الثاني في الأول ، ويتأكد الأول بالثاني ، فيكون هناك وجوب واحد أكيد قوي شديد متعلق بشيء واحد ما لم يكن المتعلق في الثاني مقيدا بمثل : (مرة اخرى) ونحوها ، وسيأتي تفصيل هذا إن شاء الله تعالى في بحث (تعدد الشرط واتحاد الجزاء) ، وإلّا حمل الثاني على التأسيس لا التأكيد كما مرّ فلا بد من تكرار المأمور به وايجاده مرتين أو مرّات على حسب تعدد السبب لوجهين ، الأول لتبادر التأسيس ، والثاني لأجل كون التأسيس خيرا من التأكيد والتوكيد ، كما قرر في محلّه.

فالمتحصّل : ان في هذا المقام صورا اربعا :

الأولى : أن لا يذكر سبب ايجاد المأمور به لا للأول ولا للثاني وحكم هذه الاولى تأكيد الثاني للاول وتقويته به.

والثانية : أن يذكر سبب واحد لهما ، وحكم هذه الثانية هو التأكيد ايضا.

الثالثة : أن يذكر سبب لاحدهما دون الآخر سواء ذكر للأول أم ذكر للثاني ، وحكم هذه الثالثة هو التأسيس ووجوب التكرار.

الرابعة : أن يذكر السبب للأمر الأول كالظهار مثلا ، وأن يذكر السبب للثاني كالافطار العمدي مثلا ، ومن الواضح أن حكم هذه الرابعة هو التأسيس ووجوب تكرار المأمور به في الخارج ، مثال الرابعة كما إذا قال المولى : (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) و (ان افطرت فاعتق رقبة مؤمنة).

٧٧

النواهي

قوله : المقصد الثاني في النواهي ، فصل : الظاهر ان النهي ...

ولا يخفى ان المراد من مادة النهي مادة الاشتقاق مثل : (نهى ينهى نهيا) وهو مادة الاشتقاق ، ومن صيغته نحو : (لا تشرب الخمر ولا تزن) ونحوهما مما هو بمعنى طلب ترك الفعل المنهي عنه.

يعنى كما ان مادة الامر كمادة اشتقاق ك (أمر يأمر أمر مأمور) والامر المصدري مادة الاشتقاق وصيغته نحو : (اقم الصلاة) و (اكرم العلماء) ونحوهما مما هو بمعنى طلب ايجاد الفعل المأمور به ، فمادته وصيغته دالتان على الطلب ، كذلك مادّة النهي وصيغته دالتان على الطلب ، وانما الفرق بين الأمر والنهي ان الطلب الذي هو مدلول مادة الأمر وصيغته متعلّق بالوجود ، وان الطلب الذي هو مدلول مادة النهي وصيغته متعلق بالعدم والترك.

ولكن التحقيق ان الوجود ليس بمأخوذ في مفهوم مادة الأمر ، فانها قد تتعلق بالعدم والترك كما تتعلق بالوجود ، فيقال أمره المولى بالترك ، كما يقال أمره بالفعل. وكذلك صيغته تتعلق بالوجود تارة وبالترك اخرى ، فانها قد تكون مادتها الترك ، مثل (أترك هذا) وكذلك العدم ليس مأخوذا في مدلول مادة النهي فانها قد تتعلق بالوجود كما تتعلق بالعدم ، فيقال نهاه المولى عن الفعل الفلاني كما يقال نهاه المولى عن الترك ، أي عن ترك الفعل الفلاني. وكذلك صيغته ، فيقال (لا تفعل هذا) كما يقال (لا تترك هذا) ، فالنهي بمادته ضد الأمر ، إذ هي تقتضي الزجر عنه ، أي عن الفعل ، كما ان مادة الأمر تقتضي البعث اليه ، أي إلى الفعل المأمور به ، فيعتبر في النهي ما يعتبر في الامر من اعتبار العلو في الناهي كالآمر ، فكما ان الأمر الصادر من المساوي يكون التماسا وان الأمر الصادر من السافل يكون سؤالا كما مرّ هذا سابقا.

٧٨

فكما ان النهي الصادر من المساوي يكون ارشادا والنهي الصادر من السافل يكون اقتضاء ، يكون الطلب العالي نهيا. وان كان النهي مع خفض جناح الناهي ومع كمال الملاطفة ، فالعلو شرط فيه لا الاستعلاء ، وان قال بعض الاصوليين ان يكون الناهي عاليا أو مستعليا على سبيل منع الخلو فلا تفاوت بين الامر والنهي من هذه الجهة اصلا.

نعم ، يختص النهي بخلاف وهو ان متعلق الطلب في النهي هل هو الكف؟ او هو مجرد الترك ونفس ان لا يفعل المنهي عنه؟ قال بعض بالأول ، وقال الأكثر بالثاني وهو الأظهر.

فمعنى (لا تشرب الخمر) على الأول يكون (اكفف نفسك عن شربه) ، وعلى الثاني يكون (اترك شربه).

فالمختار عند المصنّف هو الثاني.

قوله : وتوهم بعض ان الترك ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار فلا يصح أن يتعلق به البحث والطلب فاسد ...

وتوهّم بعض ان الترك أمر أزلي سابق على قدرة المكلف وسابق على نفس المكلف ، فاستدلّ للقول الأول انه يعتبر في متعلق التكليف عقلا أن يكون مقدورا للمكلف ، والترك الأزلي ليس مقدورا لأن القدرة صفة في القادر يترتب عليها الأثر من الفعل والايجاد ، ومن الترك والاعدام. والحال ان الترك عدم محض لا يصلح أن يكون أثرا للقدرة المتأخرة مترتبا عليها ، فان العدم لا يترتب على الوجود ، كيف يترتب عليه مع ان العدم الأزلي سابق على القدرة فكيف يستند إلى القدرة مع حدوثها ومع تأخرها.

وقال في (المعالم) ان النهي تكليف كالامر ، ولا تكليف إلّا بمقدور للمكلف ، ونفي الفعل يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف ، لكون عدم الفعل عدما اصليا ازليا ، والعدم الأصلي الأزلي سابق على القدرة وحاصل محقق قبلها ، فاذا كان معنى (لا

٧٩

تشرب الخمر) (أترك شربه) يلزم طلب الأمر الحاصل وهو قبيح ، وكل قبيح محال بالاضافة إلى المولى الحكيم ، فطلب الأمر الحاصل محال ، فلا بد أن يكون متعلق الطلب فعلا ، كما في الاوامر ، أو كفّا للنفس عن فعل المنهي عنه ، فاذن لا محالة يكون الكفّ الذي هو أمر وجودي منهيا عنه ، لا الترك ، أي ترك المنهي عنه. فقول صاحب المعالم قدس‌سره يكون دليلا وبرهانا للقول الأول ايضا. فالفعل والكف مقدوران ، ويكونان متعلقين للتكليف والامر والنهي ، لا الترك في النواهي.

فأجاب صاحب المعالم رضى الله عنه عنه : بانا نمنع من كون العدم الاصلي غير مقدور ، بل هو مقدور ، ككون الفعل مقدورا لأن نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم مساوية ، فاذا لم يكن نفي الفعل مقدورا لم يكن ايجاده مقدورا ، إذ تأثير صفة القدرة في الوجوب فقط وجوب لا قدرة ، إذ الفاعل على نحوين :

النحو الأول : ان يكون فاعلا موجبا مضطرا كالنار في الاحراق والشمس في الاشراق.

والثاني : ان يكون فاعلا مختارا كالعباد بالاضافة إلى افعالهم بناء على مذهب العدلية.

والفرق بينهما ان الاول ليس بحيث إذا شاء ان يفعل يفعل ، وإذا شاء أن يترك يترك ، كالنار بالاضافة إلى الاحراق ، فهي ليست بحيث إذا شاءت أن تحرق الجسم وإذا شاءت أن لا تحرقه ، بل هي مضطرة في الاحراق والاحتراق مع وجود الشرط وهو لصوق الجسم بها ، ومع فقد المانع ، وهو عدم رطوبة الجسم الملاصق لها.

وان الثاني يكون بحيث إذا شاء أن يفعل يفعل ، وإذا شاء أن يترك يترك ، نحو زيد بالاضافة إلى تدريسه وتعليمه وتفهيمه ، فهو قادر مختار بحيث إذا شاء ان يدرّس الطلاب يدرّس ، وإذا شاء أن يترك التدريس يتركه.

فظهر أن فعل الزنا مثلا مقدور فكذلك ترك الزنا مقدور أيضا ، لكن من حيث الابقاء والاستمرار وعدم الاستمرار بحيث إذا شاء ان يجعله مستمرّا على حاله

٨٠