البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

الاستقراء

قوله : ومنها الاستقراء فانه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على الوجوب ...

بدعوى انا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية نجد ان الشارع المقدس قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب.

فمنها : حكم الشارع بترك الصلاة ايام الاستظهار ، وهي الأيام التي ترى المرأة دما بعد ايام العادة إلى العشرة ، فان أمرها دائر في هذه الأيام بين وجوب الصلاة عليها إذا انقطع الدم بما دون العشرة ، وبين حرمتها عليها إذا استمرّ الدم إلى العشرة ، ولكن الشارع المقدّس قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمرها بترك الصلاة في هذه الأيام.

ومنها : عدم جواز الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين. فان أمر المكلف يدور حينئذ بين حرمتهما منهما ، وبين وجوبهما منهما ، ولكن الشارع الجليل قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر باهراقهما والتيمم للصلاة.

ويرد عليه :

أولا : ان الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار. حتى الاستقراء الناقص فضلا عن الاستقراء التام. فان الاستقراء الناقص هو تتبع اكثر الجزئيات والافراد ، ليفيد الظن ثبوت كبرى كلية ، في قبال الاستقراء التام الذي هو تفحص تمام الجزئيات والافراد ، وذلك يفيد القطع ثبوت كبرى كلية ، ان امكن هذا الاستقراء.

ومن الواضح ان الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين ، ولو سلمنا ثبوته بهما ، فليس دليل على اعتباره ما لم يفد القطع ، ولو سلّمنا ثبوته بهذا المقدار واعتباره واعتبار الظن الحاصل منه ، ولكن ليس الأمر في هذين الموردين من جملة

٢٤١

دوران الأمر بين الحرمة والوجوب.

بيان : ذلك اما في مورد ايام الاستظهار فلأن حرمة الصلاة فيها مستندة إلى قاعدة الامكان ، وهي كل دم تراه المرأة بعد البلوغ وقبل اليأس ، وفصل أقل الطهر فهو يمكن ان يكون حيضا ، وإلى استصحاب بقاء الحيض فيثبت بهما كون الدم حيضا فيحكم بجميع احكامه.

ومنها : حرمة الصلاة عليها ، وليست مستندة إلى تغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب كما لا يخفى.

واعلم قد اختلف الفقهاء (رض) في كون حرمة الصلاة على الحائض ذاتية كحرمة المحرمات نحو الرشوة والربا وامثالهما ، أو تشريعية ، قال بعضهم بأنها ذاتية ، قال معظمهم بأنها تشريعية.

فلو اخترنا الأول لدار أمرها حال ايام الاستظهار بين الحرمة والوجوب ، وإذا اخترنا الثاني فلا يدور أمرها حالها بينهما ، لأن موضوع الحرمة التشريعية هو التشريع لا ذات الفعل ولا ذات الصلاة ، فهو لا يحصل بمجرد فعل الصلاة ، بل انما يحصل التشريع من الاتيان بها بعنوان كونها عبادة ومأمورا بها ، وحينئذ يكون الاتيان مخالفة قطعية بلا موافقة ـ ولو احتمالية ـ اصلا ، وإذا أتى بها برجاء الواقع في أيام الاستظهار كان احتياطا بلا مخالفة ـ ولو احتمالية ـ إذ حسنه عقليّ ، وكيف كان فلا دوران بين موافقة الوجوب أو التحريم ، ولا تقديم لأحدهما على الآخر. إذ لا حرمة ذاتية في البين غلب جانبها على جانبه كما هو محل الكلام والبحث.

واما المورد الثاني : فلعدم كون حرمة الوضوء من الماء النجس ذاتيا حتى يكون عدم جوازه من الماءين المشتبهين من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، بل حرمته منهما ليس إلا تشريعا حيث انه باطل لانتفاء شرطه وهو طهارة الماء ، فقصد التعبد به يكون تشريعا ، ولا تشريع إذا توضأ منهما احتياطا وبرجاء ، أي برجاء ان يدرك التوضؤ بالماء الطاهر.

٢٤٢

فان قيل : إذا لم يكن التشريع محققا إذا توضأ منهما احتياطا ورجاء ، بل هو أمر مستحسن فلم أمر الشارع المقدس باهراقهما ويتيمم إذا لم يقدر على ماء غيرهما ، كما في موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام (١).

قلنا : أمره بالاهراق والتيمم إما أن يكون تعبدا فلا نعلم حكمته ، وإما للابتلاء بنجاسة الأعضاء ظاهرا بحكم الاستصحاب إذا توضأ بماء الاناء الأول ثم طهّر اعضاء وضوئه بماء الاناء الثاني ثم توضأ به فالمتوضئ يعلم بنجاسة الأعضاء حال ملاقاتها للاناء الثاني بقصد التطهير قبل تحقق شرائط التطهير من تعدد الغسل وانفصال الغسالة.

ووجه العلم بنجاستها في تلك الحالة : انه ان كان الاناء الأول نجسا فالاعضاء نجسة بملاقاة الأول ، فاذا علم بنجاسة الأعضاء في اول أزمنة ملاقاتها للاناء الثاني وجب استصحاب النجاسة للشك في ارتفاعها ، إذ الغرض عدم تحقق شرائط التطهير من التعدد والانفصال في اول ازمنة ملاقاة الثاني ، فيلزم من الوضوء بكل منهما على النحو المذكور نجاسة الأعضاء ظاهرا المانعة من صحة الصلاة ، فيكون ذلك هو الوجه في الأمر باهراقهما والتيمم.

وعلى طبيعة الحال فابتلاء المتوضئ بنجاسة الاعضاء ظاهرا بحكم الاستصحاب حال ملاقاة الاعضاء للثاني ، فانه بمجرد ملاقاتها له ، ولو لأجل التطهير ، أي تطهير مواضع الملاقاة بالأول قبل ان تنفصل الغسالة ، أو قبل ان يتعدد الغسل ، فيما يحتاج إلى التعدد ، فهو يقطع بنجاستها إما بسبب ملاقاتها للأول وإما بسبب ملاقاتها للثاني.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، الباب الثامن من ابواب الماء المطلق ، الحديث الرابع عشر ، قال سئل عن رجل معه اناءان فيهما ماء وقع في احدهما قذر لا يدري ايهما هو ، وحضرت الصلاة وليس يقدر على ماء غيرهما قال يهريقهما جميعا ويتيمم.

٢٤٣

فان قيل : إذا انفصلت الغسالة ، او إذا تعدد الغسل على فرض الحاجة إلى التعدد ، يزول العلم بنجاسة الأعضاء لاحتمال نجاسة الأول وطهارة الثاني. وعليه لا يبتلى بنجاستها على نحو القطع واليقين فلا مورد لاستصحاب بقاء النجاسة حينئذ لعدم تمامية اركانه؟

قلنا : اولا : كلامكم صحيح ، ولكن هو خارج عن محل الفرض ، لأنا فرضنا نجاسة الأول ، وفرضنا اول ملاقاتها للثاني قبل الانفصال وقبل التعدد ان احتيج اليه ، أي قبل تحقق شرط التطهير إذ يحتمل نجاسة الثاني.

وثانيا : يحتمل طهارة الأول ونجاسة الثاني على عكس الاحتمال الأول ولو بقصد التطهير ، فالاستصحاب يجري على الفرض المذكور كما لا يخفى.

نعم ، إذا كان كل منهما كرا ، ولكن كان احدهما نجسا واشتبها فلا يعلم حينئذ تفصيلا بنجاسة الأعضاء فالاحتمالان تعارضا ثم تساقطا فيرجع إلى الفرض المذكور آنفا ، لأن المكلف إذا توضأ من الكرّ الأول ثم تطهّر بالكرّ الثاني ثم توضأ منه ، فلا يعلم تفصيلا بنجاستها ، لاحتمال نجاسة الأول وطهارة الثاني.

والحال انه لا حاجة في هذا الفرض إلى الانفصال والتعدد ، فلا مجال لاستصحاب النجاسة في أول ازمنة ملاقاتها للثاني ، لوجهين :

الأول : لمعارضته باستصحاب الطهارة.

بيان ذلك : انا نعلم بتوارد المطهّر والمنجّس على الأعضاء ، والشك في تقدم احدهما وتأخره ، فاذا لاقت الاعضاء الأول فلا يعلم انه طاهر أو نجس لاحتمال تنجس الثاني ، فالأعضاء كانت طاهرة يقينا قبل ملاقاتها للأول ، وبعد ملاقاتها له يشك في بقاء طهارته وزواله ، فيستصحب بقاؤها وإذا وصلت نوبة ملاقاة الثاني فلا يعلم تفصيلا انه نجس أم طاهر ، لاحتمال تنجس الأول ، فيشك حينئذ في بقاء الطهارة وزوالها لاحتمال طهارة الثاني ، فيجري استصحابها لتمامية اركانه.

أما بيان استصحاب النجاسة فيقال : إذا توضأ من الأول فلا يعلم بتنجسها

٢٤٤

تفصيلا لاحتمال طهارته ، وإذا لاقت الاعضاء الثاني فيعلم علما اجماليا بتنجسها في اول ازمنة الملاقاة للثاني ، فاذا توضأ من الثاني فيشك في بقاء النجاسة وزوالها لاحتمال طهارة الأول وتنجس الثاني ، وبالعكس ، فيجري استصحابها للشك في ارتفاعها ، فالاستصحاب تعارضا ثم تساقطا. فالمرجع قاعدة الطهارة واصالتها.

الثاني : ان استصحاب النجاسة لا يجري في المقام رأسا.

اما بيانه : فلأنّه يقال ليس اليقين السابق بتنجس الأعضاء لا حين ملاقاتها للأول لاحتمال طهارته ، ولا حين اول ازمنة ملاقاتها للثاني لاحتمال طهارته ايضا ، فلا تتم اركان الاستصحاب كما اختاره المصنّف رضى الله عنه.

نعم ، يعلم اجمالا بتنجسها بعد التوضؤ من الكرّين. فقاعدة الطهارة محكّمة إذ في التوضؤ من الأول يحتمل تنجسها وطهارتها ، فالأصل هو الطهارة. وفي التوضؤ من الثاني يحتمل الأمران ، فالأصل هو الطهارة أيضا ، نظير الجنابة المرددة بين زيد وعمرو ، فزيد يحتمل جنابة نفسه وجنابة صاحبه ، فالأصل عدم جنابته. وعمرو كذلك. فكلاهما يجريان استصحاب عدم الجنابة في حقهما ، فلا تثبت الجنابة لهما.

الأمر الثالث

قوله : الثالث من الامور التي ينبغي التنبيه عليها ان تعدد الاضافات أيلحق بتعدد العنوانات أم لا؟ ...

وقبل الخوض في اصل البحث لا بد من توضيح الاضافات ، فيقال : ان المقصود من العنوانات متعلق الأمر والنهي كالصلاة والغصب مثلا ، وان المراد من الاضافات والجهات متعلق متعلقهما ، أي موضوعات الأحكام ، مثلا إذا قال المولى (اكرم العلماء) فيستفاد منه وجوب اكرامهم ، فان صيغة الأمر حقيقة في الوجوب لغة وشرعا وعرفا ، كما سبق في مبحث الأوامر.

فتحمل عليه من أجل اصالة الحقيقة ان لم تكن القرينة موجودة على خلافه.

٢٤٥

وعلى طبيعة الحال فالوجوب حكم والاكرام متعلقه ، وإذا اضيف الاكرام إلى العلماء فاكرامهم اضافة وجهة.

وإذا قال المولى (لا تكرم فسّاق العلماء) فالحرمة حكم ، وعدم الاكرام متعلقه ، واضافته إلى الفسّاق جهة واضافة. فكما ان قول المولى (صلّ ولا تغصب) من باب الاجتماع في المجمع إذ بين الصلاة والغصب عموم من وجه من النسب الأربع ، وكذا بين العالم والفاسق عموم من وجه ، فاذا قال المولى (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم) ، فهما يجتمعان في زيد العالم الفاسق.

وبعبارة اخرى : وهي كما يكون متعلق الأمر ومتعلق النهي ، كالصلاة والغصب ، متحدين وجودا ، متغايرين ذاتا ، كذلك يكون متعلق متعلق الأمر ، ومتعلق متعلق النهي ، متحدين وجودا ، متغايرين ذاتا وحقيقة ، مثل العالم والفاسق ، فلو صلى المكلف في المكان المغصوب للزم اجتماع العنوانين ، أي عنوان الصلاتية وعنوان الغصبية ، وكذا لو كان شخص عالما وفاسقا للزم اجتماع الاضافتين والجهتين ، فيقال الظاهر لحوق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات ، فكما ان تعدد العنوان ـ بناء على القول بالجواز ـ يجدي في تعدد متعلق الأمر والنهي ، فكذلك تعدد الاضافة ينفع في تعدد متعلق متعلقهما.

وعلى طبيعة الحال يكون مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم) من باب اجتماع الأمر والنهي في الشخص العالم الفاسق ك (صلّ ولا تغصب) ، فاذا قلنا بالجواز فلا تعارض ولا تزاحم في المجمع ، إذ كما ان تعدد العنوان يوجب اختلاف المعنون بحسب المصلحة والمفسدة ، كذلك تعدد الاضافة يوجب اختلاف المضاف اليه بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا ، والوجوب والحرمة شرعا.

وعلى هذا فكل دليلين متعارضين كانت النسبة بينهما عموما من وجه مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) يدخلان في باب الاجتماع لا في باب التعارض ، ليرجع إلى مرجحات ذلك الباب ، إلا إذا علم من الخارج انه لم يكن لأحد الدليلين

٢٤٦

ملاك في مورد الاجتماع فعندئذ يدخل في باب التعارض ، كما هو الحال ايضا في عدد العنوان.

وعلى الجملة : فلا فرق بين تعدد العنوان وتعدد الاضافة من هذه الناحية اصلا.

واما معاملة الفقهاء (رض) مع مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) معاملة التعارض بالعموم من وجه ، فهي إما مبنية على القول بالامتناع وإما مبنية على احراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع ، وإما في غير ذلك فلا معارضة بين الدليلين اصلا. ولكن بعد فرض جهة وجوب وجهة حرمة في اكرام العالم الفاسق ، وهكذا حكم سائر الاضافات على اختلاف مواردها وموضوعاتها.

قوله : فصل في ان النهي عن العبادة يوجب فسادها أم لا؟

قوله : فصل في ان النهي عن الشيء هل يقتضي فساده ام لا؟

وقبل الخوض في اصل البحث لا بد من تقديم امور ثمانية :

الاول : انك قد عرفت في طي الامر الثاني من الامور العشرة في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة.

وخلاصته : ليس الامتياز بين المسائل مجرد تعدد الموضوع ، بل تعدد الجهة المقصودة بالبحث ولو مع وحدة الموضوع.

اما الجهة المقصودة بالبحث في مسألة الاجتماع فان معيار الفرق بينها من جهة اتحاد عنوان الصلاتي مع عنوان الغصبي وجود أن النهي عن عنوان متحد مع عنوان آخر بحسب الوجود هل يسري الى العنوان الآخر أم لا؟ فاذا اتحد عنوان الصلاة المأمور بها مع عنوان الغصب المنهي عنه وجودا هل يسري النهي عن الغصب الى عنوان الصلاة كي يحكم ببطلانها أم لا حتى يحكم بصحتها؟

ومن الواضح ان الجهة المذكورة اجنبية عن الجهة المقصودة بالبحث في دلالة النهي على الفساد من اقتضاء النهي للفساد وعدمه فالامتياز بين هذه المسألة ،

٢٤٧

مسألة الاجتماع.

ان النزاع في هذه المسألة كبروي ، فان المبحوث عنه فيها ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها ، وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى ، وهي تعلق النهي بالعبادة قطعا.

وأما النزاع في المسألة المتقدمة فصغروي حيث ان البحث فيها انما هو في سراية النهي في مورد الاجتماع الى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته اليه.

وفي ضوء هذا فالبحث في مسألة الاجتماع بحث عن اثبات الصغرى لمسألة النهي عن العبادة ، حيث انها على القول بالامتناع وبسراية النهي من متعلقه الى متعلق الأمر تكون من احدى صغريات هذه المسألة ومصاديقها ، فالفرق بين المسألتين واضح ، وهذا الفرق مختار المصنّف رضى الله عنه.

ولكن قال المحقق القمي رضى الله عنه بفرق آخر بين المسألتين ، وهو ان النسبة بين متعلق الأمر ومتعلق النهي عموم من وجه في مسألة الاجتماع ، إذ بين الصلاة والغصب مصداقا عموم من وجه نحو (صلّ ولا تغصب).

وفي هذه المسألة كانت النسبة بينهما عموما مطلقا ، إذ بين الصلاة والصلاة المقيدة في الدار المغصوبة عموم مطلق نحو (صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة).

وأما صاحب الفصول فقال بفرق ثالث وهو اعتبار تغاير متعلق الأمر ومتعلق النهي واقعا وحقيقة في مسألة الاجتماع ، واعتبار وحدتهما حقيقة ولحاظ تغايرهما بالاطلاق والتقييد في هذه المسألة ، كما يظهر هذا من مثالهما.

وعلى مختاره ، أي مختار (الفصول) ، لا دخل للجهة المبحوث عنها في احدى المسألتين ، من حيث ان الجهة ـ جهة البحث ـ في المسألة الاخرى ، إذ البحث في هذه المسألة من جهة دلالة النهي على فساد المنهي عنه ، ومن جهة عدم دلالته عليه ، كما يأتي تفصيله ان شاء الله تعالى.

والبحث في المسألة المتقدمة من جهة ان تعدد الجهة هل ينفع في رفع

٢٤٨

محذور اجتماع الأمر والنهي في المجمع أم لا ينفع فيه؟

قال المانعون بالثاني والمجوزون بالاول.

فانقدح ان ملاك الامتياز بين المسائل يكون من اجل اختلاف جهة البحث فيها : هل هذه المسألة لفظية أو عقلية؟

قوله الثاني : انه لا يخفى ان عدّ هذه المسألة من مباحث الالفاظ ...

قال المصنّف قدس‌سره المسألة السابقة عقلية. وهذه المسألة لفظية لاقتضاء جعل عنوان المسألة في لسان بعض الاصوليين دلالة النهي على فساد المنهي عنه كونها لفظية ، إذ من المعلوم ان الدلالة من احوال اللفظ. ففي الاقوال في المسألة قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع انكار هذا البعض الملازمة بين الفساد وبين الحرمة التي هي مفاد النهي في المعاملات ، ولهذا نسب المصنف الاقتضاء الى النهي بحمله على الدلالة بقرينة نسبته الى النهي ، أي هل يدل النهي على الفساد أو لا؟ اما لو حمل الاقتضاء على ظاهره وحمل النهي على التحريم فليست من مباحث الالفاظ ، لان مدار البحث حينئذ على الملازمة بين الحرمة والفساد وعدمها بينهما.

ومن الواضح انها من احكام العقل كما ان عدمها من احكامه ايضا ولا صلة له بباب الالفاظ. ومن هنا لا يختص النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولة لدليل لفظي ، بداهة انه لا يفرق ـ في حكم العقل ـ الملازمة أو عدمها بين كون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غير اللفظ من إجماع أو عقل أو ضرورة الدين أو المذهب.

توضيح القول بالدلالة : وهو لو كان البحث في المقام عن خصوص الملازمة التي لا مساس لها باللفظ ، لا عن الدلالة التي هي من احوال اللفظ ، لكان اللازم عدّ القول المذكور من القول بالنفي لا من القول بالاثبات. والحال ان الاصوليين قد عدّوا هذا من المثبتين لا من النافين ، فهذا يدل على ان مدار البحث في الدلالة اللفظية لا في الملازمة العقلية ، فاعترض ان القائل بالملازمة بين الحرمة والفساد في العبادات يقول بها مطلقا ، أي سواء كانت الحرمة مدلولا عليها بالصيغة

٢٤٩

ام لم تكن مدلولا عليها ، بان استفيدت الحرمة من دليل لبي كالاجماع.

فيكون النزاع في العبادات منحصرا في ثبوت الملازمة وعدمها ، ولا يرتبط بعالم الالفاظ اصلا ومن الواضح ان المنافاة ثابتة بين هذا القول وقول العلماء والمجتهدين في المسألة.

فدفعها المصنف بان صيغة النهي تدل على الحرمة بالمطابقة ، وعلى الفساد الملازم للحرمة بالانتزاع ، فيمكن ارجاع النزاع الى حال اللفظ والى دلالته بان يكون النزاع في الدلالة اللفظية ، وان كانت التزامية متفرعة على ثبوت الملازمة العقلية أو العرفية ، فلا تقاس هذه المسألة بمسألة الاجتماع وبمسألة مقدمة الواجب وبمسألة الضد إذ البحث فيها ينحصر في الملازمة العقلية ، فلا يكون لدلالة اللفظ مساس فيها اصلا ، كما سبق هذا مفصّلا.

قوله فتأمّل جيّدا ...

اشارة الى انه في الدلالة التزامية يشترط اللزوم العقلي أو اللزوم العرفي كما في العمى والبصر ، وحاتم والجود. ومن الممكن ان لا يكون اللزوم العقلي ولا العرفي بين الحرمة والفساد ، لا سيما في المعاملات ويحتمل ان يكون تدقيقيا بقرينة كلمة (جيدا) اشارة الى دقة المطلب المذكور ، أي دفع المصنّف رضى الله عنه الاشكال.

في ملاك البحث

قوله : الثالث ظاهر لفظ النهي وان كان هو النهي التحريمي ...

ملاك البحث يعمّ النهي التحريمى والتنزيهي والنفسي والغيري ، كما ان ظاهر الأمر هو الوجوب النفسي ولا اشكال فيه ولا نزاع فيه. فالنهي له اقسام :

منها : النهي الوضعي الارشادي كالنهي عن نكاح العبد بلا إذن سيّده مثلا ، فهو مسوق للارشاد الى فساد النكاح ،

ومنها : النهي التكليفي التحريمي نحو لا تأكل اموال اليتامى ظلما.

٢٥٠

ومنها : النهي التكليفي التنزيهي نحو لا تكن في مواضع التهمة.

ومنها : النهي النفسي ك (لا تشرب الخمر).

ومنها : النهي الغيري كالنهي عن فعل الصلاة بعد الأمر بالازالة إذ فعلها ضد الازلة والأمر بها يقتضي النهي عن ضدها فتركها واجب مقدمة للازالة.

ولكن المتبادر من لفظ النهي عند اطلاقه خصوص المولوي لا الارشادي ، والتحريمي لا التنزيهي ، والنفسي لا الغيري ، إلّا ان التنافي بين مفاد النهي والصحة يشمل التنزيهي ايضا ، لان مفاد النهي التنزيهي المتعلق بذات العبادة وجود حزازة ومنقصة في ذات العبادة ، كصوم يوم عاشوراء مثلا. ومن المعلوم ان النهي التنزيهي إذا كان متعلقا بذات العبادة فهو يدل على كراهيتها ومبغوضيتها ، ومن الواضح انه لا يمكن التقرب بالمبغوض وان كانت مبغوضيته ناقصة ، فلا فرق عندئذ بينه وبين النهي التحريمي من هذه الناحية اصلا ، فهو داخل في محل النزاع.

فان قبل ان النهي في نحو (لا تصلّ في الحمام) وأمثاله لا يدل على الفساد ، مع كون النهي تنزيهيا بالاتفاق ، فكيف قلتم ان النهي التنزيهي داخل في محل النزاع؟

قلنا النهي التنزيهي على نحوين :

الاول : ان النهي التنزيهي إذا كان متعلقا بالعبادة الفعلية ، كالصلاة في الحمام مثلا ، يدل على صحتها نظرا الى ان مدلوله الالتزامي هو ترخيص المكلف في الاتيان بمتعلقه ، ومعنى ذلك جواز امتثال أمر المولى بهذا المتعلق وعدم تقييد الواجب بغيره ولا نعني بالصحة إلّا ذلك.

الثاني : انه إذا كان متعلقا بذات العبادة نحو (لا تصلّ عند طلوع الشمس) و (لا تصم يوم العيدين) فانه يدل على كراهيتها ومبغوضيتها.

فالقسم الثاني منه داخل في محل النزاع ، والقسم الاول منه خارج عنه قطعا. كما لا يخفى.

فمع عموم ملاك البحث والجهة المقصودة فيه ، وهي التنافي بين مفاد النهي

٢٥١

والصحة ، لا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي ، كما صنعه صاحب التقريرات.

فصحة العبادة وفسادها لا يختصان بالنهي التحريمي بل يكون محل الخلاف المنهي عنه بالنهي التنزيهي أيضا.

فان قيل المنهي عنه امّا عبادة وامّا معاملة ، وكل واحدة منهما اما أن تكون منهيا عنها بالنهي التحريمي ، واما أن تكون منهيا عنها بالنهي التنزيهي. اما الجهة المقصودة بالبحث في المسألة فهي متنافية مع العبادة لدلالة النهي على مبغوضية المنهي عنه ، ولهذا يوجب تقييد المأمورية بغيره والمبغوض لا يصلح للتقرب الى ساحة المولى عزّ اسمه.

فعموم ملاك البحث لا يتلاءم مع صحة العبادة ، ومع قصد التقرب الشرطي في العبادة.

اما الجهة المقصودة بالبحث فثابتة في المقام. فهي غير متنافية مع المعاملة المنهي عنها بالنهي التنزيهي ومع صحتها ، لعدم اشتراط قصد التقرب فيها. فعموم ملاك البحث مع صحة المعاملة. ولهذا أفتى الفقهاء قدس‌سرهم بصحة المعاملة المكروهة ، وهي صحيحة بالاجماع كما بيّنت في الكتب الفقهية القيّمة.

فعموم ملاك البحث للنهي التنزيهي يختص بالعبادات فقط دون المعاملات. وهذا يدل على ان المراد من النهي في عنوان البحث هو خصوص النهي التحريمي لا النهي التنزيهي ، لان التحريمي جار في العبادات والمعاملات ، وليس المراد منه في العنوان ما يعم التنزيهي المختص بالعبادات فقط.

فالملازمة ثابتة بين الحرمة والفساد فيهما معا ، واما الملازمة بين الكراهية والفساد فثابتة في العبادات فقط دون المعاملات.

قلنا وجه الدلالة على الفساد لا ينحصر في الحرمة ، بل يحتمل ان يكون النهي التنزيهي دالا على الفساد بالالتزام ، فاختصاص عموم مناط النهي التحريمي بالفساد في العبادات والمعاملات لا يوجب اختصاص النزاع بالنهي التحريمي. غاية

٢٥٢

الأمر التحريمي منه يجري في العبادات والمعاملات والتنزيهي منه يختص بالعبادات فقط. ويمكن ان يقال انه لو لا الاجماع على صحة المعاملات المكروهة لامكن النزاع في صحتها وفسادها لأجل النهي عنها ولو تنزيهيا ، فلا وجه لاختصاص النزاع بالتحريمي منه ، كما انه لا وجه لاختصاصه بالنفسي منه. فيعم الغيري منه إذا كان اصليا. وليعلم ان النهي الغيري على نوعين :

الاول : ان يكون له خطاب على حدة من الشارع المقدس ، فهو مدلول خطابه ونهيه ومقصوده من اللفظ ، فالنهي الغيري الاصلي يكون في المورد الذي يكون وجود الشيء المنهي عنه مانعا عن صحة العبادة نحو لا تلبس جلد غير المأكول لحمه حال الصلاة).

الثاني : أن لا يكون له خطاب على حدة من قبل المولى ، كما إذا أمر المولى بازالة النجاسة عن المسجد ، والازالة تتوقف على مقدمات منها ترك الصلاة فيقال حينئذ ان فعل الصلاة منهي عنه بالنهي التبعي الغيري ، أي هو منهي عنه بتبع الأمر بالازالة ، ومنهي عنه لاجل الغير ، وهو وجوب الازالة ، وهذا يتبع النهي بناء على ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء كالازالة والانقاذ وبين النهي عن ضده وهو فعل الصلاة مثلا ، وفي ضوء هذا فالقسم الاول داخل في محل النزاع والعنوان لدلالته على المبغوضية وهي لا تلائم العبادة التي يشترط فيها قصد التقرب ، ويعتبر كونها محبوبة وذات مصلحة.

واما القسم الثاني فهو خارج عن محل البحث والنزاع ، لما عرفت في ضمن الامر الثاني من ان محل البحث في دلالة النهي على الفساد وفي عدم دلالته عليه ، والدلالة وعدمها من احوال اللفظ والخطاب ، والتبعي من النهي من مقولة المعنى ولا ربط له بعالم الالفاظ ، لان الأمر بالازالة والانقاذ يدلّ مطابقة على وجوبهما ويدل بالالتزام على وجوب مقدمتهما ، بناء على كونه لازما للمراد باللزوم العقلي ، لان العقل يرى الملازمة بين الأمر بالازالة والانقاذ ، وبين ترك اضدادهما ، ومنها ترك

٢٥٣

الصلاة فيقال حينئذ ان فعلها منهي عنه لكن بالنهي التبعي الغيري ، فالنهي عن فعلها معنى التزامي للأمر بالازالة مثلا ، ولهذا قال المصنّف رضى الله عنه انه من مقولة المعنى ، كما تقدم في مبحث المقدمة ، إلّا ان هذا النهي داخل في ملاك البحث ، وهو المنافاة بين المبغوضية والصحة ، لان صحة العبادة هي كونها مقربة للعباد الى ساحة المولى وعن كونها محبوبة ، فالمبغوضية وان كانت ضعيفة تنافي صحة العبادة.

فبالنتيجة يرجع النزاع الى ان مطلق النهي ـ سواء كان اصليا أم كان تبعيا ـ هل ينافي الصحة أو لا؟ فالنهي التبعي يدل على الفساد ، لدلالته على الحرمة في غير الموارد التي يكون فيها للارشاد الى الفساد.

واما في الموارد التي يكون فيها للارشاد اليه ، كالنواهي الواردة في مقام بيان شرح الماهيات بشروطها وموانعها ، فدلالتها ، على الفساد مما لا كلام فيه ، وإلّا يلزم خلف الفرض.

فان قيل : النهي التبعي لا يستلزم مخالفته للعقاب فكيف يدل على الفساد؟

قلنا : دلالته على الحرمة تكفي في دلالته على الفساد من غير داخل استحقاق العقوبة على مخالفته في دلالته عليه ، كي يقال ان الاستحقاق المذكور منتف في النهي التبعي قطعا ، لان المكلّف إذا صلى وقت وجوب الازالة لا يستحق العقوبة على فعلها ، نعم يستحقها على ترك الازالة.

ولكن انكر المحقق القمي رضى الله عنه دلالة النهي التبعي الغيري على الفساد ، مدعيا عدم اقتضاء النهي المذكور فساد المنهي عنه لعدم ترتب العقاب على مخالفته. فحصر المحقق المذكور محل النزاع في ما يترتب عليه العقاب كالنهي النفسي والاصلي التبعي. فردّ المصنّف رضى الله عنه هذا الحصر وقال ان مورد الخلاف في مطلق النهي سواء كان اصليا نفسيا أم كان تبعيا ، وسواء كان التبعي اصليا أم كان غيريا لعموم ملاك البحث والجهة المقصودة به لمطلق النهي ، وان كان النهي التبعي الغيري خارجا عن عنوان النهي في مورد البحث وداخلا في عموم الملاك.

٢٥٤

ثم ذكر المصنّف (مؤيدا على دخول النهي المذكور في مورد الخلاف) هو ان الاصوليين جعلوا ثمرة النزاع في ان الأمر بالشيء ، كالأمر بالازالة ، يقتضي النهي عن ضده وفساده إذا كان الضد عبادة ، كفعل الصلاة في حال وجوب الازالة مثلا لان القائلين بالاقتضاء يقولون به من باب مقدمية ترك الضد لفعل الواجب ، أو من باب ملازمته لفعل الواجب كملازمة ترك الصلاة لفعل الازالة بحسب الوجود الخارجي ، ومن الواضح ان النهي عن فعل الصلاة حين وجوب الازالة تبعي غيري. فكل من يقول بدلالته على الفساد يقول ببطلانها إذا أتيت حال وجوبها. وكل من لا يقول بدلالته عليه يقول بصحتها. وهذا يكشف عن عدم دخالة استحقاق العقاب وعدمه بمفسدية النهي وعدمها. وانما جعل المصنّف رضى الله عنه هذا مؤيدا لا دليلا على المدعى ، لذهاب بعض الاصوليين الى ان الأمر بالشيء عين النهي عن ضده فالأمر بالازالة عين النهي عن فعل الصلاة.

وعلى طبيعة الحال فالنهي عنه اصلي نفسي ، لا تبعي غيري على هذا المبنى.

قوله : فتدبر جيدا ...

تدقيقي لقرينة كلمة (جيّدا).

في تعيين المراد من العبادة

قوله : الرابع ما يتعلق به النهي اما يكون عبادة أو غيرها ...

قال الشيخ الطبرسي رضى الله عنه العبادة غاية الخضوع والتذلل ، ولذلك لا تحسن إلّا لله تعالى الذي هو المولى الحقيقي فهو حقيق بغاية الشكر ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفي الاصطلاح تطلق على معنيين :

احدهما : ما أمر به بنحو لا يسقط أمره إلّا إذا جيء به بعنوان (القربى) وتسمى العبادة بالمعنى الأخص.

وثانيهما : مطلق ما أمر به بنحو يمكن اتيانه بنحو القربى وتسمى العبادة

٢٥٥

بالمعنى الأعم.

وبالمعنى الاول : تختص بالعباديات المقابلة للتوصليات.

وبالمعنى الثاني : تشمل العباديات والتوصليات معا.

وليس المراد من العبادة المذكورة في العنوان احد هذين المعنيين ، بل المراد بها المعنى المذكور في كلام الشيخ الطبرسي رضى الله عنه المنسوب الى العرف واللغة ، او ما لو تعلق به أمر لكان عبادة بالمعنى الاول من المعنيين.

فالغرض من عقد الامر الرابع تعيين المراد من العبادة التي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها ، ودفع ما قد يشكل الأمر في تصوير تعلق النهي بالعبادة ، فانها ليست إلّا ما تعلق به أمر عبادي لا يكاد يسقط إلّا بقصد القربة ، فما تعلق به أمر عبادي فكيف يعقل تعلق النهي به وما هذا إلّا اجتماع النقيضين ، فلا يعقل ان يقال ان النهي يدل على فسادها أم لا.

ولأجل هذا المطلب كشف المصنّف القناع عن وجه العبادة ، وقال المراد من العبادة في مقام البحث ما يكون بنفسه وبذاته وبعنوانه عبادة وخضوعا وتذللا لله تعالى وموجبا للتقرب المعنوي بحضرته المقدسة مع قطع النظر عن أمره ، بشرط ان لا تأتي حرمتها من قبل النهي عنها كالسجود له تعالى والخضوع له تعالى وتسبيحه وتقديسه له جلّ وعلا لان السجود غاية الخضوع والخشوع ، وهي تتحقق بوضع الجبهة على الارض بقصد التذلل ، وهذا العنوان لا يليق إلّا له تعالى لانه جلّ وعلا اهل لا غيره ، لانه عين الكمال ، فيعقل حينئذ تعلق النهي بها.

أو المراد بالعبادة ما لو تعلق الأمر به لكان أمره أمرا عباديا بحيث لا يسقط أمره إلّا إذا أتى به بنحو القربى كسائر امثاله ومثل المصنّف بصوم العيدين وبالصلاة في ايام العادة الحيضية ، فانقدح ان العبادة على نوعين :

الاول : ان عبادية العبادة ذاتية لا تناط بأمر المولى الجليل عزّ اسمه ، فاذا تعلق النهي بها فلا يخرجها عن عنوان العبادية والخضوع والتذلل ، بل يخرجها عن

٢٥٦

عنوان المقربية الى ساحة المولى ، كالسجود لله تعالى.

والثاني : ان عباديتها تقديرية منوطة بأمر المولى فلو أمر بها لكانت عبادة ، وإلّا فلا فيعقل حينئذ ايضا تعلق النهي بها كما تعلق النهي التنزيهي بصوم العيدين والنهي التحريمي بالصلاة والصوم في ايام الحيض إذ الأمر ، أي تعلقه ، تقديري لا لولائي.

فالعبادة في العنوان لا بد أن يكون المراد منها احد هذين المعنيين المذكورين في كلام المصنّف والطبرسي قدس‌سرهما حتى يصح تعلق النهي بها.

وبتقرير اوضح : ان المراد بالعبادة في عنوان المسألة ليس العبادة الفعلية لاستحالة اجتماعها مع الحرمة الفعلية. إذ معنى حرمتها فعلا كونها مبغوضة للمولى فلا يمكن التقرب الى المولى بها ، ومعنى كونها عبادة فعلا كونها محبوبة للمولى ويمكن التقرب اليه بها ، وعلى طبيعة الحال يستحيل اجتماعهما في شيء واحد ، بل المراد منها العبادة الذاتية أو الشأنية ، بمعنى أنه إذا افترضا تعلق الأمر بها فقد كانت عبادة فمثل هذه العبادة إذا وقعت في حيز النهي فقد صار موردا للنزاع. وان هذا النهي يدل على فسادها أم لا يدل عليه.

ومثال العبادة الذاتية السجود له تعالى واشباهه من التحميد والتقديس له جلّ وعلا ومثال العبادة الشأنية كالصلاة في ايام الحيض وصوم يومي العيدين ؛ وليس المراد منها في عنوان المسألة ما أمر به لأجل التعبد به.

وليس المراد منها في عنوان المسألة ما يتوقف صحته على النية. وليس المقصود منها في العنوان ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، وان عرّفت العبادة بكل واحد من هذه التعريفات المذكورة آنفا. فالعلّامة الانصاري رضى الله عنه عرّف العبادة في التقريرات ب (ما أمر به لأجل التعبّد به). والمحقّق القمي رضى الله عنه عرّفها تارة ب (ما يتوقف صحته على النية) ، واخرى عرّفها ب (ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء) ، وتبعهما الاصوليون.

٢٥٧

فلو كان المراد منها في العنوان احد هذه المعاني لما امكن تعلق النهي بها. إذ في التعريف الاول لوحظ وجود الأمر الفعلي فيها ، وهو يدل على كون متعلقه عبادة فعلية ، فلو تعلق النهي بها للزم اجتماع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد بعنوان واحد وهو محال.

وفي الثاني اعتبرت النية والمراد منها قصد القربة وهو فرع تحقق الأمر ، وهو يدل على كون المأمور به محبوبا للمولى ، فلو تعلق النهي به وهو يدل على كون المنهي عنه مبغوضا للزم محذور اجتماع الضدين في شيء واحد بعنوان واحد.

وفي الثالث : أخذ قيد المصلحة. غاية الأمر انها لا تنحصر في شيء خاص كالنهي عن الفحشاء والمنكر في الصلاة مثلا.

وهي تنادي بأعلى صوتها على وجود الحكم وهو يدل على وجود الأمر الفعلي. وعلى طبيعة الحال فلو تعلق النهي بها للزم المحذور المذكور كما لا يخفى.

فبالنتيجة : لا يمكن تعلق النهي بالعبادة لو كان المراد منها في العنوان احد هذه المعاني كما لا يخص. هذا اولا.

وثانيا : [على التعريف الثالث] : يلزم الاشكال من حيث عدم الطرد وعدم مانعية الاغيار ، ومن حيث العكس وعدم جامعية الافراد.

اما الاول : فلدخول بعض الواجب التوصلي في التعريف الثالث : نحو توجيه الميت المسلم حال الدفن الى القبلة إذ لا يعلم انحصار مصلحته في شيء مع كونه توصليا.

واما الثاني : فلخروج بعض الواجب العبادي عنه ، وذلك نحو الوضوء ، إذ تعلم مصلحته وهي الطهارة المعنوية والنورانية القلبية والنظافة الجسمية مع كونه عباديا. هذا ويلزم الدور على التعريف الثاني.

بيانه : معرفة العبادة تتوقف على معرفة صحتها ، من باب توقف معرفة المعرّف (بالفتح) على معرفة المعرّف (بالكسر) وعلى معرفة جميع اجزائه ومن

٢٥٨

جملتها كلمة الصحة. وتوقف معرفة صحة العبادة على معرفة نفس العبادة لتوقف معرفة المقيّد على معرفة قيده ، كتوقف معرفة رجل هاشمي على معرفة الهاشمي.

فيلزم توقف معرفة العبادة على نفس العبادة. وهذا محال. إذ هو مستلزم لتقدم الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه ، لان الشيء إذا كان موقوفا عليه يتقدم ، وإذا كان موقوفا يتأخر.

مثلا لو توقف (أ) على (ج) وتوقف (ج) على (أ) للزم الدور المحال. والدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه ذلك الشيء. لأن (أ) لو توقف على (ج) لتوقف عليه وعلى جميع أجزائه ومن جملتها نفس (أ) ، إذ التوقف من الطرفين. فيلزم توقف الشيء على نفسه فيصير الشيء موقوفا عليه وموقوفا.

ويلزم على الاول عدم الطرد لشموله لجميع الواجبات التوصلية ، إذ الأمر بالشيء ليس الغرض منه إلّا التحريك والبعث الى متعلق الأمر ، كما مرّ في بحث الأوامر ، والتحريك عين التعبد بالمتعلق خارجا ، وسقوط الأمر في التوصليات ولو لم يكن بداعي الأمر لا ينافي ذلك التحريك والتعبد به ، فالاشكالات تظهر للمتتبع إذا راجع المطولات في هذا الفن.

وكذا التعريفات تظهر بمراجعتها ؛ اما قول المصنّف رضى الله عنه : (فالاشكالات في غير محلّها) أي لم ترد في التعاريف ، لانها ليست بحدّ تام ولا ناقص ، ولا برسم تام ولا ناقص ، كي يلحظ فيها الطرد والعكس بل هي من قبيل شرح الاسم ، ومن قبيل التعاريف اللفظية ، فلا يعتبر فيها الطرد والعكس كما لا يعتبر فيها الاطلاع على كنه المعرف ، ولا الامتياز عن جميع ما سواه ، كما مرّ هذا غير مرّة.

فلا وجه حينئذ لإطالة الكلام بالنقض والاشكال والابرام والجواب في تعريف العبادة ، ولا في تعريف غيرها من تعريف المعاملات والعقود والايقاعات كما هو عادة العلماء قدس‌سرهم ، أي اطالة الكلام من عاداتهم في التعاريف بالنقض ، والاشكال والابرام والجواب ، كما لا يخفى.

٢٥٩

في تعيين المراد من المعاملة

قوله : الخامس انه لا يدخل في محل النزاع عنوانه ...

اختلف في ان الصحة والفساد في العبادات والمعاملات هل هما مجعولان شرعا كسائر الاحكام الشرعية؟ أو هما امران واقعيان؟ أو تفصيل بين العبادات والمعاملات فهما مجعولان شرعا في المعاملات دون العبادات؟ ذهب الى كلّ فريق.

اختار المحقق صاحب الكفاية التفصيل في خصوص المعاملات بين المعاملات الكلية وبين المعاملات الشخصية ، فهما مجعولان شرعا في الاولى دون الثانية.

فالبحث في الشيء الذي يتصف بالصحة تارة والفساد اخرى سواء كان عبادة أم كان معاملة ، كالبيع والاجارة والنكاح وامثالها وكالصلاة ونحوها.

والمراد بالصحة ما يترتب عليه أثره كالبيع الصحيح الذي يترتب عليه أثره كنقل الثمن من ملك المشتري الى ملك البائع وانتقال المثمن الى ملكه وتحت سلطنته ، وكذا سائر المعاملات الصحيحة.

كما ان المقصود بالفساد ما لا يترتب عليه أثره المترقب عنه ، نحو البيع والاجارة الفاسدين ، كي يصح النزاع في دلالة النهي على فساده ، وفي عدم دلالته عليه ، فهو ينحصر في الماهيات الامضائية التي تعتبر فيها الاجزاء والشرائط ، فباعتبار وجودهما وتحققهما تتصف بالصحة وبلحاظ فقدهما تتصف بالفساد.

وكذا الماهية المجعولة شرعا كالصلاة والصوم وما شابهما من العبادات فالمعيار كون متعلق النهي ذا اجزاء وشرائط وذا أثر شرعي.

واما ما لا أثر شرعي له نحو النظر الى المياه والاشجار مثلا ، أو كان له أثر شرعي لا ينفك عنه ، مثل الغصب والإتلاف لمال الغير فانهما يترتب عليهما الرد والضمان دائما ، مثل الزوجية لعدد الزوج والفردية لعدد الفرد ، فلا يدخل نحو هذا

٢٦٠