البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

الشيء المذكور في عنوان النزاع لعدم عروض الفساد عليه كي ينازع الاصوليون في ان النهي عنه يقتضي فساد أو لا يقتضيه.

مثلا لا يصح ان يقال الغصب اما صحيح واما فاسد ، والإتلاف اما صحيح واما فاسد ، والنظر الى الرياحين اما صحيح واما فاسد ، بل يتصف الشيء المذكور بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، وهذا واضح لا غبار عليه ، وكذا اسباب الوضوء واسباب الغسل لا تتصف بالصحة تارة وبالفساد اخرى بل تتصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى في الخارج.

وفي ضوء هذا فالماهيات الاعتبارية البسيطة سواء كانت مجعولة شرعا أم كانت امضائية ، مثال المجعولة شرعا ، الغصب والإتلاف مثلا ، ومثال الامضائية ، النظر الى الجبال والبحار مثلا ، خارجة عن عنوان النزاع.

وعلى طبيعة الحال فالمراد بالشيء في العنوان هو العبادة الذاتية أو العبادة الشأنية اللولائية ، لا العبادة الفعلية ، إذ لا يصح تعلق النهي بها ، للزوم اجتماع المحبوبية والمبغوضية ، والمقربية والمبعدية ، في شيء واحد بعنوان واحد ، وهذا محال عقلا.

كما ان المراد من الشيء هو المعاملة بالمعنى الأعم الشامل لجميع العقود والايقاعات اللتين يتصفان بالصحة تارة بلحاظ اجتماع جميع الاجزاء والشرائط فيهما ، وبالفساد أخرى باعتبار فقدان بعضهما فيهما.

قوله : أو غيرهما ...

أي غير العقود والايقاعات كالاستنجاء وهو يتصف بالصحة تارة إذا فعل بالاجسام القالعة غير المحترمة كالمطعوم ، وبالفساد اخرى لو فعلت بالاجسام غير القالعة كالزجاج مثلا ، وكذا غسل المتنجس ببول الآدمي بالماء القليل. فاذا تعدد الغسل فهو صحيح بعد العصر فيما يحتاج اليه بعد انفصال الغسالة الاولى ، وإلّا ، أي وان لم يتعدد الغسل ، فهو فاسد.

٢٦١

وعلى طبيعة الحال فالمراد بالمعاملة جميع الاشياء التي لا يعتبر في صحتها قصد القربة وتتصف بالصحة والتمامية ، والفساد والناقصية سواء كانت عقودا كالبيع والنكاح واشباههما ، أم كانت ايقاعات كالطلاق والعتاق وامثالهما ، أم كانت غيرهما مما يتصف بالصحة والفساد ، ولا يكون المراد منها في العنوان خصوص البيع فقط.

تكملة في بيان الفرق بين العقود والايقاعات : هو ان العقود تحتاج الى القبول القولي مطلقا أو الفعلي ، ان كانت جائزة. والايقاعات لا تحتاج اليه لا قولا ولا فعلا.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة الى امكان دعوى عموم النزاع للشيء الذي لو أمر به لصح اتيانه عبادة وبقصد التقرب ، وان ترتب عليه أثره التوصلي بمجرد اتيانه ، وان أتي بدون قصد القربة ، إذ عدم قابلية الاتصاف بالصحة والفساد بالاضافة الى الأثر التوصلي لا يمنع من دخول هذا الشيء في محل النزاع بالاضافة الى الأثر التعبدي.

فيتحقق في المقام برزخ بين القسم الاول وهو الذي لا يتصف بهما ، وبين القسم الثاني وهو الذي يتصف بهما. واما القسم الثالث فلا يتصف بهما بالاضافة الى أثره التوصلي ولكن هو يتصف بهما بالنسبة الى أثره التعبدي.

وقد ظهر مما سبق ان المعاملات بالمعنى الأعم على ثلاثة انواع :

الاول : ما يتصف بالصحة تارة والفساد أخرى ، نحو العقود والايقاعات وامثالهما ، كغسل الاشياء المتنجسة مثلا.

والثاني : ما لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد أخرى مع ترتب الأثر الشرعي عليه كالغصب والإتلاف والجنايات والقتل وشرب المسكر وما شاكلهما ، من اسباب الوضوء وهي امور ستة كما في الفقه الشريف.

والثالث : ما لا يتصف بالصحة وبالفساد مع عدم ترتب الأثر الشرعي عليه كالشرب للماء مثلا ، لعدم تركبه من أجزاء ، ولعدم لحاظ الشرائط فيه ، مضافا الى

٢٦٢

عدم ترتب الأثر الشرعي عليه ، حتى يقال هذا صحيح بلحاظ تماميته وواجديته للاجزاء أو الشرائط ، وهذا فاسد بملاحظة فقدانهما وبالاضافة الى عدم ترتب الأثر الشرعي عليه ، إذ لا أثر شرعا له حتى يقال انه يترتب عليه أم لا يترتب عليه. وهذا واضح لا غبار عليه.

البحث في الصحة والفساد

قوله : السادس ان الصحة والفساد وصفان اضافيان ...

المقصود الاصولي في هذا الأمر بيان امرين :

الاول : ان الصحة والفساد وصفان اضافيان يختلفان بحسب الآثار والانظار لان عمل واحد صحيح بالنسبة الى أثر دون أثر آخر أو بالنسبة الى نظر دون نظر ، كما لو كانت الآثار مختلفة باختلاف الانظار ، مثل نظر العرف ونظر الشرع ، مثلا : إذا صلى المكلف بالوضوء الاستصحابي فانكشف الخلاف فهذه الصلاة صحيحة بالنسبة الى أثر وهو موافقة الشريعة أو موافقة الأمر ، لان الشارع المقدس جعل الاستصحاب حجة للعباد بعد تمامية اركانه. وفاسدة بالاضافة الى أثر آخر وهو سقوط الاعادة لانكشاف الخلاف. وإذا صلّى بالتيمم في اول الوقت أو في وسطه فوجد الماء في الوقت الى آخره.

فهذه الصلاة صحيحة بنظر الفقيه ، إذ هو استفاد من الادلة الدالة على جواز اتيانه اي اتيان المأمور به ، بالطهارة الترابية بحسب اجتهاده أنّ المعيار في الجواز هو العجز حال الفعل والعمل ، لا العجز المستوعب تمام الوقت ، فاذن أتي به على وجهه فهو مجزئ. وفاسدة بنظر الفقيه الآخر ، لانه استفاد من أدلة الباب ان الملاك في الجواز هو العجز المستوعب تمام الوقت. هذا في العبادات.

وأما المعاملات : فالبيع الكالي مثلا صحيح بنظر العرف وفاسد بنظر الشرع ، وكذا بيع النقدين بلا تقابض في مجلس العقد إذ هو صحيح بنظر العرف وفاسد بنظر

٢٦٣

الشرع الاقدس.

توضيح لا يخلو من فائدة : وهو كل من قال بالعجز حال الفعل في مورد الأمر الاضطراري أو الأمر الظاهري فهو يجوّز البدار. مثلا إذا عجز المكلف عن القيام حال الصلاة في اول الوقت أو عن الماء حال وجوبها ، جاز له البدار والاتيان في اول الوقت وتترتب على الفعل أثار الصحة والتمامية ، هذا مثال الأمر الظاهري كما ان الاول مثال الأمر الاضطراري. وكل من قال بالعجز المستوعب فهو لا يجوّز البدار.

الثاني : ان اختلاف الفقيه والمتكلم في تعريف الصحة والفساد لا يوجب اختلافهما في المعنى ، أي معناهما ومفهومهما ، ومن هنا صح ان يقال ان الصحة والفساد في العبادة والمعاملة لا تختلفان بحسب المفهوم بل فيهما بمعنى واحد ، وهو التمامية وعدم التمامية. وانما الاختلاف في تفسيرهما بين المتكلم والفقيه في الأثر المرغوب منهما عندهما الذي بالقياس اليه تتصفان بالتمامية وعدمها.

والسرّ في ذلك ان كلا من الفقيه والمتكلم قد عبّر عن الصحة والفساد بما يهمه من الأثر المرغوب فيه عنده ، فان المتكلم بصدد امتثال أمر المولى وعدم امتثال أمره ، وبصدد استحقاق الثواب والعقاب والمثوبة والعقوبة ، فلذا عبّرهما بما يوافق الشريعة تارة أو بما يوافق الأمر أخرى ، والفقيه بصدد احكام فعل المكلف من الوجوب والحرمة والحلال وما شابهها من الاعادة والقضاء وعدمهما. فلذا فسّر صحة العبادة بسقوطهما ، وفسّر فسادها بعدم سقوطهما.

والمحصّلة : أنّ الصحة والفساد بمعنى التمامية وعدمها عند المتكلم والفقيه ، كما انهما معناهما لغة وعرفا. وقد اشار المصنف الى هذا الأمر بقوله : (وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة انما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل واحد من الفقيه والمتكلم) وهذا تعريض بمن نسب الاختلاف الى الفقهاء والمتكلمين في معنى الصحة ، وانها عند الفقهاء اسقاط الاعادة والقضاء. وعند

٢٦٤

المتكلمين موافقة الأمر أو الشريعة.

وحاصل التعريض ان اختلافهم في تعريف الصحة ليس لاختلافهم في معناها لغة ، بل هي عند الجميع بمعنى واحد لكن لمّا كان المقصود بتعريفهما الاشارة الى بعض لوازمها وآثارها ، وكان الأثر المترتب عليها مختلفا باختلاف مقاصدهم ، فلذا اختلف تعريفها باختلاف الأثر المقصود ، فعرفها الفقهاء باسقاط الاعادة والقضاء لانه الأثر المقصود في البحث عن فعل المكلف من حيث الصحة والاقتضاء والتخيير. وعرفها المتكلمون بموافقة الأمر أو الشريعة لكونه انسب بمقصدهم بالبحث عن حيثية استحقاق الثواب والعقاب.

ولا يخفى ان اختلاف الصحة والفساد بحسب الآثار والانظار لا يوجب اختلافا في المعنى. فالاتمام مثلا مكان القصر نسيانا يوجب الاعادة في الوقت دون القضاء خارجه. فهو صحيح بحسب أثر وهو سقوط القضاء وفاسد بحسب أثر آخر وهو عدم سقوط الاعادة في الوقت بعد رفع النسيان ، وهكذا المأمور به بالأمر الاضطراري المعبر عنه بالواقعي الثانوي أيضا ، أو المأمور به الظاهري ، فيكون هذا موافقا للأمر الاضطراري أو للأمر الظاهري ، ومخالفا للأمر الواقعي الاولي ، فهذا صحيح بحسب أمر وفاسد بحسب أمر آخر ، ولكن اجزاءهما عن الأمر الواقعي الاولي محل النزاع بين الاعلام. قال بعضهم بالاجزاء عنه ، مثلا إذا صلّى المكلف بالتيمم او صلى جالسا فهي مجزية عن الأمر الواقعي الاولي ، كما يجزيان عن امر نفسهما إذا قدر على القيام في الوقت أو وجد الماء فيه ، أي في الوقت ، وقال بعضهم الآخر بعدم الاجزاء عنه. كما مرّ في بحث الإجزاء في الجزء الاول ، فيكون الاتيان بهما صحيحا بنظر مسقطا للاعادة والقضاء وفاسدا بنظر آخر غير مسقط لهما.

وقد اشار المصنّف رضى الله عنه الى هذا بقوله : (فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر وفاسدا بحسب أثر آخر أو نظر آخر) ولا يخفى ان الغرض من التكرار زيادة توضيح المطلب مع التعرض للأمر الاضطراري والظاهري في هذا المقام.

٢٦٥

في تقسيم الامر

الغرض من هذا التقسيم تحقيق النسبة بين التعريفين ، وهي عموم وخصوص مطلقين ، لان كل ما يسقط الاعادة والقضاء موافق للأمر أو موافق للشريعة ، ولا عكس. كما في الصلاة بالطهارة المستصحبة فإنها موافقة للأمر أو الشريعة ، وليست مسقطة لهما إذا انكشف الخلاف بعد الصلاة فالغرض من التحقيق المذكور ان ما ذكر انما يصح إذا كان المراد من الأمر المذكور في تعريف المتكلم الأعم من الأمر الظاهري ونذهب الى عدم الاجزاء عن الأمر الواقعي الاولي بموافقته ، إذ الصلاة بالطهارة المستصحبة موافقة للأمر الظاهري وليست مسقطة للاعادة على القول بعدم الاجزاء ، وهذا مورد الافتراق من جانب الأعم. اما لو انتفى أحدهما ، كما لو بنينا على الاجزاء ، عنه بموافقته فالتعريفان متساويان إذ الصلاة بالطهارة المستصحبة تكون مسقطة للاعادة وموافقة للأمر أو الشريعة حينئذ ، كما انها على القول بعدم الاجزاء موافقة للأمر أو الشريعة وليست مسقطة للاعادة ، فالنسبة عموم مطلق كما لا يخفى.

وكذا يكون التعريفان متساويين لو كان المراد بالأمر في تعريف الصحة خصوص الأمر الواقعي الاولي وقلنا بعدم الاجزاء بموافقة الأمر الظاهري إذ الصلاة المذكورة لا تكون موافقة للأمر ولا الشريعة ، كما لا تكون مسقطة للاعادة ، ومن هذا البيان يظهر انه لو كان المراد من الأمر المذكور بموافقة الأمر الظاهري والاضطراري لكان تعريف الفقهاء اعم من تعريف المتكلمين ، إذ في كل مورد لو كان العمل موافقا للامر الواقعي لكان مسقطا لهما ، ولا عكس إذا قال الفقيه بالاجزاء في الاضطراري والظاهري.

فاذن لا بد ان يكون المراد من الأمر المذكور في تعريف الصحة اعم من الواقعي الاولي ومن الظاهري المعبّر عنه بالواقعي الثانوي ايضا. فاذا صلى بالطهارة

٢٦٦

المستصحبة فهي موافقة للأمر الظاهري ، وصحيحة عند المتكلم.

فاذا قال الفقيه بالاجزاء بموافقة الأمر الظاهري فهذه الصلاة مسقطة للاعادة وهي صحيحة عنده أيضا. واما إذا قال الفقيه بعدم الاجزاء بموافقة الأمر الظاهري فهذه صحيحة عند المتكلم لموافقتها للأمر الظاهري ، وغير صحيحة عند الفقيه لعدم كونها مسقطة للاعادة.

فكل صحيح عند الفقيه صحيح عند المتكلم ، وليس كل صحيح عند المتكلم صحيحا عند الفقيه ، كما في الصلاة بالطهارة المستصحبة لو قال الفقيه بعدم الاجزاء.

واما إذا كان المراد من الأمر هو الأمر الواقعي في تعريف الصحة عند المتكلم : فلو قال الفقيه بالاجزاء بموافقة الأمر الظاهري ولكن اتفق موافقته للأمر الواقعي لكانت الصلاة بالطهارة المستصحبة صحيحة عند المتكلم والفقيه في صورة عدم كشف الخلاف. واما إذا لم يتفق موافقته ، أي موافقة الأمر الظاهري ، للأمر الواقعي فهذه الصلاة صحيحة عند الفقيه ، وهي ليست بصحيحة عند المتكلم ، فتنقلب النسبة حينئذ.

وأما لو قال الفقيه بعدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري ، ولكن اتفق موافقته للأمر الواقعي فهي صحيحة عند المتكلم وغير صحيحة عند الفقيه. واما إذا لم يتفق موافقته له فهي فاسدة عند المتكلم والفقيه.

فالصحة مراعاة بموافقة الأمر الواقعي عند المتكلم ، بناء على كون الأمر في تفسير الصحة خصوص الأمر الواقعي عند المتكلم ، والنتيجة أنّ المراد من الأمر في تعريف الصحة عند المتكلم هو الاعم من الواقعي الاوّلي ومن الظاهري المعبّر عنه بالواقعي الثانوي ، أو المراد منه هو خصوص الأمر الواقعي الاولي كما علم من هذا البيان.

فالأمر على اربعة اقسام :

الاول : هو الأمر الواقعي الاولي نحو : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).

٢٦٧

والثاني : هو الأمر الاضطراري نحو : (صلّ جالسا إذا عجزت عن القيام).

والثالث : هو الأمر الظاهري نحو : (صلّ متيمما).

والرابع : هو الأمر الخيالي ، كما إذا قطع بدخول الوقت فصلى وبعد الصلاة ظهر ان قطعه كان جهلا مركبا ، ولم يدخل الوقت فهذا غير مجز قطعا ، كما مرّ في بحث الاجزاء.

هل الصحة والفساد حكمان شرعيان أم لا؟

قوله : تنبيه ...

الصحة والفساد تارة تلحظان بالاضافة الى الأمر الواقعي الاولي من حيث كون المأتي به مطابقا للمأمور به كما وكيفا وأجزاء وشرائط ، ومن حيث عدم كونه مطابقا له كذلك.

واخرى تلحظان بالنسبة الى الأمر الظاهري والواقعي الثانوي من حيث كون المأتي به مطابقا له شطرا وشرطا ، ومن حيث عدم كونه مطابقا له كذلك.

إذا تمهد هذا فقد شرع المصنّف رضى الله عنه في تحقيق ان الصحة والفساد هل يكونان من الاحكام الشرعية الوضعية الاستقلالية أو التبعية ، أو من الاحكام العقلية ، أو من الاعتبارات التي لا دخل للشارع المقدس ولا للعقل فيها بل تحتاج الى اعتبار المعتبر وفرض الفارض ، وجوه.

وقال انه لا شبهة في ان الصحة والفساد في العبادات عند المتكلم وصفان اعتباريان ينتزعان من جهة مطابقة المأتي به مع المأمور به ، وليسا أمرين مجعولين استقلالا ، أو بتبع التكليف نظير شرطية الطهارة والستر مثلا للمأمور به ، لان موافقة الأمر ليست بقابلة للجعل التشريعي لا استقلالا ولا تبعا ، لان موافقة المأتي به مع المأمور به من الافعال التكوينية للعباد. وعلى طبيعة الحال فهما أمران انتزاعيان ينتزعان عن الموافقة وعدمها ، فتكون الصحة نظير المماثلة القائمة بين المتماثلين

٢٦٨

والتي لا يتوقف اعتبارها على جعل ، وليست الصحة من الاحكام العقلية ، بل الصحة منتزعة من كون المأتي به واجدا لجميع الخصوصيات الملحوظة في المأمور به شطرا وشرطا.

واما عند الفقيه ، حيث فسّر الصحة بسقوط الاعادة والقضاء ، فيختلف حالها باختلاف الموصوف بالصحة ، فان كان الموصوف بها هو الفعل المطابق للمأمور به بالأمر الواقعي الاولي فالصحة حينئذ من الاحكام العقلية ، لان العقل حاكم بها. وان كان الموصوف بها هو الفعل المطابق للمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري فالصحة بالاضافة الى الأمر الاضطراري الواقعي الاولي ، فان كان المأتي به وافيا بتمام الغرض الاصلي للأمر الواقعي فالصحة حينئذ من الاحكام العقلية ايضا ، وان لم يكن المأتي به وافيا بتمام الغرض الاصلي له فالصحة حينئذ من الاحكام المجعولة للشارع المقدس ، إذ العقل لا يستقل بسقوط الاعادة والقضاء في هذا الفرض ، وانما يكون السقوط المذكور بجعل الشارع المقدّس لا غير.

فالصحة بمعنى سقوط الاعادة والقضاء عند الفقيه تكون من لوازم الاتيان بالمأمور به الواقعي الاولي ، إذ لا يتصور الامتثال عقيب الامتثال ، فالصحة بهذا المعنى المذكور في تعريفها عند الفقيه في المأمور به بالأمر الواقعي الاولي ليست بحكم وضعي مجعول من قبل الشارع لا بنفسه ولا بتبع التكليف الشرعي ، ولا أمرا انتزاعيا كما توهم في التقريرات للعلامة الانصاري رضى الله عنه ، بل هي احكام عقلية كما سبق هذا آنفا نظير استحقاق المثوبة بالاتيان بالمأمور به الواقعي الاولي إذ هو من باب حكم العقل لان المكلف إذا اطاع المولى على وجهها فالعقل حاكم باستحقاق الثواب له ونظير استحقاق المثوبة بالاتيان بالمأمور به الواقعي الثانوي كما إذا فرض وفاء المامور به الواقعي الثانوي بتمام مصلحة المأمور به الواقعي الاولي أو بمعظمه بحيث لا يبقى ملاك لتشريع الاعادة والقضاء. فالصحة في المأمور به الاضطراري والظاهري مثل الصحة في المأمور به الواقعي الاولي في كونها من الاحكام العقلية

٢٦٩

ومن لوازم الاتيان بالمأمور به.

فسقوط الاعادة والقضاء ربما يكون مجعولا شرعا ، وكان الحكم بالسقوط تخفيفا ومنة على العباد مع ثبوت المقتضى لثبوت الاعادة والقضاء.

وذلك فيما إذا كان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري غير واف بتمام مصلحة المأمور به الواقعي الاولي ، بل الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري وافيا بمعظم مصلحة المأمور به الواقعي الاولي ، مع بقاء مقدار من الملاك الذي يقتضي جعل الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، ففي هذا المورد سقوطهما تخفيف الشارع على العباد ومنته عليهم بشرط ان نقول بالاجزاء فيهما ، كما سبق تفصيله في بحث الإجزاء.

كما ربما يحكم بثبوت الاعادة والقضاء (وذلك) فيما إذا كان الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري غير واف بمصلحة المأمور به الواقعي الاولي لا كلا ولا جلا وقال الفقيه بعدم الاجزاء فيهما عن الواقعي.

فبالنتيجة : يكون الصحة والفساد في مورد الاتيان بالمأمور به الاضطراري والظاهري حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين ، أي حكم الشارع المقدس بالصحة والفساد وجعلهما في هذا المورد وهو الذي لا يفي الاتيان به بتمام مصلحة المأمور به الواقعي الاولى تخفيفا ومنة على العباد ، واما بيان عدم كونهما وصفين انتزاعيين فلعدم تحقق منشأ انتزاعهما من حيث عدم مطابقة ومماثلة ومشاكلة المأتي به مع المأمور به الواقعي الاوّلي في الملاك والمصلحة وليست المطابقة هنا حتى تنتزع الصحة منها ، كما انه ليس عدم المطابقة كي ينتزع الفساد لنقصانهما مصلحة وملاكا عن الواقعي منه.

وفي ضوء هذا ، تبيّن ان الصحة والفساد على تفسير المتكلم وصفان انتزاعيان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري مع المأمور به الواقعي الاولي ، ومن عدم مطابقته له ، وسقوط الاعادة والقضاء على

٢٧٠

تفسير الفقيه بالاضافة إلى الأمر الواقعي الاولي لازم عقلي ، لانه فسرها بهما ، فالصحة عين سقوطهما ، والفساد عين ثبوتهما ، وهما شرعيان ، كما لا يخفى ، واما بالاضافة إلى غيره من الاضطراري والظاهري على القول بالاجزاء فيهما فحكم وضعي شرعي مجعول الشارع المقدس ، بمعنى ان الشارع يحكم بسقوطهما تخفيفا ومنة على المكلفين ، مع ثبوت المقتضي لهما لفوت الواقعي الاولي ، فليسا عند الفقيه أمرين انتزاعيين ووصفين اعتباريين ، كما عند المتكلم هما وصفان اعتباريان وأمران انتزاعيان إذا كان الاتيان بالامر الاضطراري أو الظاهري وافيا بتمام المصلحة الواقعية ، فهي في لازم العقلي من حيث المطابقة معه ، كما ان الفساد كذلك من حيث عدم المطابقة. وإلّا ، أي وان لم يف به ، فهما مجعولان شرعا عند الفقيه ، نعم الصحة والفساد بالنسبة إلى الافعال الجزئية الصادرة من المكلف الخاص ، فصحتهما بمعنى كونها مسقطة للأمر الواقعي الاولي عقلية لا غير ناشئة من انطباق الكلي عليها ، أي انطباق المأمور به الكلي عليها ، وفسادها بمعنى عدم انطباقه عليها لا غير ، ففي الافعال الجزئية هما حكمان عقليان فقط. هذا في العبادات.

في تحقيق الصحة والفساد في المعاملات

قوله : واما الصحة في المعاملات ...

لما فرغ المصنف رضى الله عنه عن تحقيق الصحة في العبادات شرع في تحقيقها في المعاملات وقال ان الصحة تكون مجعولة ، إذ صحتها بمعنى ترتب الأثر عليها ليست إلّا من المجعولات الشرعية حيث ان ترتب الأثر انما يكون بجعل الشارع المقدس على المعاملات ولو امضاء لا تشريعا وتقنينا ، لانه لو لا جعله الأثر عليها لما ترتب عليها الأثر لأصالة الفساد فيها. مثلا : إذا باع زيد فرسه لعمرو فالاستصحاب والاصل حاكمان بعدم ترتب النقل والانتقال على هذا البيع والمعاملة بلا جعل الشارع ترتب الأثر عليها وبلا امضائه اياه ، كما ان اصالة الفساد مشهورة عند الفقهاء

٢٧١

في المعاملات ، هذا في المعاملات الكلية.

نعم صحة كل معاملة شخصية كمعاملة زيد داره مثلا بينه وبين عمرو وفسادها ليس إلّا لانطباق المعاملة الشخصية على الكلي المجعول سببا لترتب الأثر عليه وعدم انطباقها عليه ، كما هو الحال في العبادات الشخصية الصادرة من آحاد المكلفين وفي الاحكام التكليفية ، لان اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الاباحة ليس إلّا لانطباقه مع الواجب شرعا ومع الحرام شرعا ومع المستحب شرعا ومع المكروه شرعا ومع المباح شرعا.

فبالنتيجة : انهما في العبادات الشخصية والمعاملات الجزئية ليسا مجعولين شرعا بل هما من اللوازم العقلية واحكامها.

فاذا صلى زيد فصلاته صحيحة تامة إذا انطبقت مع الصلاة المأمور بها وهي المجعولة شرعا كما وكيفا كلية تصدق على مصاديقها الكثيرة وهي فاسدة ناقصة إذا لم تنطبق معها كذلك (وهكذا إذا باع فرسه فهو صحيح تام إذا انطبق كما وكيفا مع البيع الممضى شرعا وهو كلى ايضا يصدق على الكثيرين وهو فاسد ناقص إذا لم ينطبق عليه كذلك (وهذا واضح لا غبار عليه).

(وعلى طبيعة الحال) فظهر ان العبادات تأسيسية والمعاملات بالمعنى الأعم امضائية.

في تحقيق الاصل

قوله : لا يخفى انه لا اصل في المسألة يعول عليه لو شك في دلالة النهي على الفساد ...

ولا يخفى انه لا اصل موجود في هذه المسألة إذا شككنا في دلالة النهي على الفساد ، وفي عدم دلالته عليه ، للتعارض بين الاصلين ، وهما اصالة الصحة واصالة الفساد.

٢٧٢

فان قيل : نتمسك باستصحاب عدم دلالته على الفساد إذ النهي قبل الورود من المولى لا يدل عليه ، وبعد الورود نشك في دلالته على الفساد ونستصحب عدم الدلالة عليه.

قلنا : ان المعيار حين حدوث النهي لا قبله. ولا يعلم حاله حين الحدوث أهو يدل على الفساد أم لا؟ فليست لعدم الدلالة حالة سابقة متيقنة كي يستصحب في مقام الشك حين وصوله بايدينا.

فان قيل : نتمسك بعدم وضع لفظ للفساد لان الوضع أمر حادث فاذا شككنا في الوضع له وعدم الوضع ، فالاصل عدم الوضع له.

قلنا : هذا الاصل معارض بعدم وضعه للصحة ولا مرجح في البين فيتساقطان هذا ، مضافا إلى ان اصالة عدم الدلالة على الفساد لو جرت في المقام لما صلحت لاثبات الصحة ، إذ الصحة ليست من اللوازم الشرعية لعدم الدلالة بل ليست من الآثار العقلية له. فهذا الاستصحاب عقيم ، إذ لا أثر شرعا له كي يترتب عليه. فلو ترتبت الصحة عليه لكان اصلا مثبتا. والاشهر عدم حجيّته ، فلا اصل في المسألة الاصولية ، فلا بد حينئذ من اعمال الاصل في المسألة الفرعية ، وهذا الاصل يقتضي في المعاملات الفساد ، لأصالة عدم ترتب الأثر مع الشك في ترتبه وعدم ترتبه. إلّا ان يكون عموم أو اطلاق يقتضي ترتب الأثر على المعاملة ، فيكون هو المرجع لا الاصل. لان كل واحد منهما حاكم على الاصل من باب حكومة الامارات على الاصول ، بل هي واردة عليها ، كما حقّق في محلة.

ولا يخفى ان المراد من اصالة الفساد في المعاملات هو استصحاب عدم ترتب الأثر على المعاملة ، إذ قبل تحقق المعاملة ليس نقل ولا انتقال بموجودين ، وبعد تحققها نشكّ في حصول هذا الأثر ، والنقل والانتقال ، فنستصحب عدم حصوله. ولذا اشتهر في الالسن ان الاصل في المعاملات هو الفساد ، كما أنّ اصالة الفساد في المعاملات مشهور عند الكل ، فالعبادات مثل المعاملات في كون الاصل

٢٧٣

فيها الفساد في المورد الذي تعلق فيه بها النهي كما اشتهر في الالسن ان النهي يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات ، والسرّ في ذلك ان صحة العبادة موقوفة على الأمر الشرعي وحيث لا أمر مع وجود النهي الذي فرض تعلقه بالعبادة ، فإذا صلى المكلف في الدار المغصوبة فالاصل هو الفساد لعدم الأمر بها مضافا إلى ان الشك في فراغ الذمة لو فعلها في الدار المذكورة. فاذا قطعنا باشتغالها بالصلاة والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني والبراءة اليقينية بحكم العقل ، فلا بد حينئذ من الحكم بفسادها والاتيان بها في غير الدار المغصوبة.

فتحصل مما ذكر : انه يرجع إلى فساد المعاملات باستصحاب عدم ترتب الأثر ، وإلى فساد العبادات إلى قاعدة الاشتغال وإلى عدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.

في اقسام تعلق النهي بالعبادة

قوله : الثامن ان متعلق النهي اما يكون نفس العبادة ...

ولا يخفى ان النهي المتعلق بالعبادة يتصور على اقسام :

الاول : ما يتعلق بذات العبادة ، كالنهي عن صلاة الحائض ، وصوم يومي العيدين.

الثاني : ما يتعلق بجزء منها كالنهي عن قراءة سور العزائم في حال الصلاة.

الثالث : ما يتعلق بشرط منها كالنهي عن الوضوء بالماء المغصوب.

الرابع : ما يتعلق بوصفها الملازم للعبادة كالنهي عن الجهر والاخفات في الركعتين الاوليين من الظهرين والعشاءين والصبح ، على سبيل اللف والنشر المرتب.

الخامس : ما يتعلق بوصفها غير الملازم للعبادة كالنهي عن الكون الغصبي حال الصلاة فالكون الغصبي ينفك كثيرا عن الصلاة كما إذا وقعت في المكان المباح.

إذا علم ما ذكر من الاقسام الخمسة ، فلا ريب في دخول القسم الاول في

٢٧٤

محل النزاع إذ قال البعض بدلالة النهي المتعلق بنفس العبادة على الفساد ، وقال البعض الآخر بعدم دلالته عليه كما سيأتي. هذا حكم القسم الاول.

وكذا القسم الثاني داخل في محل النزاع بلحاظ ان جزء العبادة عبادة ، إذ الكل عين اجزائه ، فاذا كان الأمر بالكل عباديا كان كل واحد من الاوامر الضمنية المتعلقة بكل واحد من الاجزاء عباديا.

اما القسم الاول : وهو النهي المتعلق بذات العبادة فلا شبهة في دلالته على الفساد وفي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.

والسر في ذلك ان العبادة المنهي عنها كصلاة الحائض وصوم يومي العيدين وسائر العبادة المحرمة إذا كانت محرمة فهي مبغوضة للمولى ، فلا يمكن التقرب بها إلى ساحة المولى عزّ اسمه لاستحالة التقرب بالمبغوض ، إذ هو مبعّد والمبعّد لا يكون مقربا ، وهذا معنى فسادها. ولا فرق في ذلك بين ان تكون حرمة العبادة ذاتية أو تشريعية.

نعم ، فرق بين الحرمتين من ناحية أخرى وهي ان صلاة الحائض إذا كانت حرمتها ذاتية فهي محرمة مطلقا ، وان كان الاتيان بها بقصد التمرين فحالها من هذه الناحية كحال سائر المحرمات.

وان كانت حرمتها تشريعية فهي ليست محرمة مطلقا بل المحرم منها حصة خاصة منها وهي الحصة المقترنة بقصد القربة ، إذ هي حينئذ تشريع عملي وهو عبارة عن الاتيان بالعمل مضافا إلى المولى جلّ جلاله.

فبالنتيجة : هو افتراء عملي ، وعلى طبيعة الحال لا تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها ، لاستحالة كون المحرم مصداقا للواجب ، فاذن لا محالة تقع فاسدة.

واما القسم الثاني : وهو النهي المتعلق بجزء العبادة ، فلا اشكال في استلزام النهي فساد الجزء ، ولكن فساد الجزء لا يوجب فساد العبادة إلّا إذا اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال ، واما إذا لم يقتصر عليه ، واتى بعده بالجزء غير المنهي عنه

٢٧٥

فتقع العبادة حينئذ صحيحة لعدم المقتضي لفسادها في هذا الفرض ، إلّا ان يستلزم ذلك موجبا آخر للفساد كالزيادة العمدية والقران بين السورتين (على القول بحرمة القران كما قال به بعض الفقهاء) ، ولكن قال اكثرهم بالكراهة.

مثلا : لو قرء المصلي في الركعتين الاوليين بعد فاتحة الكتاب سورة عزيمة كالعلق بتمامها فهي فاسدة ولا تفسد الصلاة إذا قرأ بعدها سورة القدر مثلا.

وفي ضوء هذا : ان النهي عن الجزء بما هو نهي عنه لا يوجب إلّا فساده دون فساد اصل العبادة والصلاة إلّا إذا قرأها بقصد الجزئية للصلاة لا بقصد القرآنية فيشملها حديث من زاد في صلاته فعليه الاعادة.

واما القسم الثالث : وهو النهي المتعلق بشرط العبادة ، فحرمته كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة بهذا الشرط ايضا ، إذا كان الشرط توصليا ، كما هو الغالب في شرائط العبادات ، كطهارة البدن واللباس والستر مثلا. فالنهي عنه لا يوجب فساده فضلا عن فساد العبادة المشروطة به.

والسرّ في ذلك : ان الغرض من الشرط التوصلي يحصل بصرف ايجاده في الخارج ، وان كان ايجاده في ضمن فعل محرم شرعا ، نحو التطهير للبدن واللباس بماء مغصوب ، فاذا طهّرهما به وصلى فهي صحيحة تامة لا اشكال فيها.

واما إذا كان الشرط عباديا ، كالوضوء والغسل والتيمم ، فالنهي عنه يوجب فساده لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى عظمت قدرته.

ومن الواضح ان فساد الشرط العبادي يستلزم فساد العبادة المشروطة به ، فاذا توضأ بماء مغصوب أو غسل به أو تيمّم بالتراب المغصوب وصلى ، فصلاته فاسدة لفساد شرطها المستلزم لفساد عبادة المشروطة به ، وهو واضح لا غبار عليه.

واما القسم الرابع : وهو النهي المتعلق بوصف الملازم للعبادة فحاله حال النهي عن العبادة باحد العناوين السالفة.

بيانه : ان النهي عن مثل هذا الوصف مساو للنهي عن موصوفه ، بلحاظ ان

٢٧٦

هذا الوصف متحد مع موصوفه خارجا ، وليس للوصف وجود مستقل بدون وجود موصوفه ، وعليه فلا يعقل ان يكون احدهما منهيا عنه والآخر مأمورا به ، لاستحالة كون شيء واحد مصداقا لهما معا ، فالنهي عن الجهر بالقراءة مثلا ، يكون نهيا عن القراءة الجهرية حقيقة ، أي عن الحصة الخاصة منها ، لانه لا وجود للجهر في الخارج بدون القراءة ، كما لا وجود للقراءة بدون الجهر أو الاخفات والخفت في الخارج.

وفي ضوء هذا فلا يعقل ان يكون الجهر بالقراءة منهيا عنه دون نفس القراءة ، لان القراءة الجهرية حصة خاصة من مطلق القراءة ، فالنهي عن الجهر بالقراءة نهي عن تلك الحصة. وفى طبيعة الحال ، ان النهي عن الجهر والخفت يرجع إلى النهي عن العبادة. غاية الامر ان القراءة لو كانت بنفسها عبادة لدخل ذلك في النهي عن العبادة وحكمه كحكمه. ولو كانت القراءة جزء للعبادة لدخل في النهي عن جزئها ، ولو كانت شرطا لها لدخل في النهي عن شرطها. وفي ضوء هذا ، فلا يكون هذا القسم نوعا آخر في قبال الاقسام المتقدمة ، بل يرجع إلى احدها وهذا واضح.

واما القسم الخامس : وهو النهي المتعلق بالوصف المفارق للموصوف فهو خارج عن مسألتنا هذه ، أي مسألة النهي عن العبادة ، وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

والسر في ذلك ، ان هذا الوصف المفارق ان كان متحدا وجودا مع موصوفه في مورد الاجتماع فلا بد حينئذ من القول بالامتناع ، وفي هذه الصورة يدخل هذا القسم تحت كبرى مسألة النهي عن العبادة. وان كان غير متّحد معه وجودا وخارجا في مورد الالتقاء ، ولم نقل بسراية الحكم من احدهما إلى الآخر ، فلا مناص من القول بالجواز ، كما عرفت هذا المطلب في مسألة الاجتماع المتقدمة.

فبالنتيجة : لا يكون هذا داخلا في مسألتنا هذه ، كما لا يخفى.

هذا حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف ، بكلا قسميه الملازم

٢٧٧

والمفارق. واما النهي عن العبادة لاجل احد هذه الامور فحاله حال النهي عن احدها.

لمّا فرغ المصنف من تعلق النهي بنفس الجزء أو الشرط أو الوصف شرع في تعلق النهي بنفس العبادة باعتبار احدها ، أي الجزء والشرط والوصف ، نحو (لا تصل وانت تقرأ العزائم) ، هذا مثال تعلق النهي بالصلاة باعتبار الجزء. ونحو (لا تصل وانت لابس الحرير) ، هذا مثال تعلق النهي بها باعتبار الشرط. ونحو (لا تصل في المكان المغصوب) ، أي لا تكن في المكان المغصوب حال الصلاة ، هذا مثال تعلق النهي بها باعتبار الوصف المفارق ، إذ الكون القيامي والقعودي والانحنائي والهويّ حال الصلاة في المكان المغصوب ينفك عن الصلاة كثيرا. ونحو (لا تصل الظهرين وانت تجهر في القراءة) ونحو (لا تصل العشاءين والفجر وانت تخفت في القراءة) ، هذا مثال تعلق النهي بها بلحاظ الوصف الملازم لها ، إذ هما ملازمان للقراءة ، والقراءة ملازمة للعبادة ، فهما ملازمان للصلاة ، لان ملازم الملازم ملازم ، كالانقسام إلى المتساويين ، وهو ملازم للزوج ، والزوج ملازم للأربعة ، فالانقسام المذكور ملازم للوجه المذكور.

ولا ريب ان هذا القسم من النهي يتصور على نحوين :

الأول : ان يكون تعلق النهي بالعبادة بالعرض والمجاز ، ويكون تعلق النهي بالجزء أو الشرط أو الوصف على سبيل الحقيقة ، فحرمة الصلاة بملاحظة متعلق النهي من الجزء والشرط والوصف ، ففي الحقيقة تعرض الحرمة على الجزء أو الشرط أو الوصف ، أولا وبالذات. وثانيا : بالعرض تعرض على الصلاة فتصف الصلاة بالحرمة بالتبع ، نظير الوصف بحال متعلق الموصوف ، نحو (زيد القائم أبوه) ونحو (جاءني زيد العالم جدّه) اذ وصف القيام والعلم يعرضان أولا على الأب والجد. وثانيا : بالتبع يعرضان على زيد ، ففي الحقيقة يكون الاب قائما والجدّ عالما ، وثانيا : يكون زيد قائما وعالما. وثانيا وبالعرض تكون الصلاة محرمة. فتكون

٢٧٨

حرمة الصلاة من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف. فحرمة الجزء أو الشرط أو الوصف واسطة عروضية لحرمة الصلاة كحركة السفينة لجالسها ، اذ الحركة تعرض أولا ، وبالذات على السفينة ، وثانيا على جالسها ، فحركتها واسطة في العروض ، فكذا في مقام البحث.

الثاني : ان يكون تعلق النهي بنفس العبادة من جهة حرمة الجزء أو الشرط أو الوصف ، فحرمتها علة لحرمة الصلاة نفسيا. فتكون حرمة العبادة واتصافها بها من قبيل الوصف بحال نفس الموصوف نظير : (جاء زيد العالم) غاية الامر حرمة الجزء أو الشرط او الوصف واسطة ثبوتية لحرمة العبادة ، اذ هي علية لتحقيق الصلاة في الخارج (والفرق بين الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض قد مرّ في صدر الجزء الاول فارجع اليه). ولذا قيل «المركب ينتفي بانتفاء أحد اجزائه» ، و «المشروط يعدم بانعدام شرطه و «الموصوف لا يكون موصوفا بانعدام وصفه» ف (زيد المجتهد) اذا كان مجتهدا سابقا ليس بمجتهد اذا زالت عنه ملكة الاجتهاد.

وعلى طبيعة الحال ، فحكم القسم الاول حكم تعلق النهي بالجزء او الشرط أو الوصف ، كما ان حكم القسم الثاني حكم تعلق النهي بنفس العبادة ، فلا تغفل من القسمين المذكورين ومن حكمهما ومن اقسام تعلق النهي بالمنهي عنه ، كما ذكرت الاقسام في اول الامر الثامن.

اقسام النهي في المعاملات

ومما ذكرنا من اقسام النهي واحكامه في العبادات يظهر حال اقسام النهي وحال احكامها في المعاملات ، فليس بيان اقسام النهي واحكامها فيها على حدة بمهم لنا ، اذ حالهما كحالهما ، ولكن لا بأس بالتعرض للأمثلة على نحو الايجاز والاختصار. فيقال نحو (لا تبع البيع الربوي) هذا مثال تعلق النهي بنفس المعاملة ، ونحو (لا تبع الشاة بالخنزير) فبيع الشاة منهي عنه بلحاظ ثمنه ، وهو الجزء المقوم

٢٧٩

للبيع ، اذ قوام البيع بأمور أربعة : البائع والمشتري والمثمن والثمن. وباقي الامور المذكورة في علم الفقه شروطه ، ونحو (لا تبع العنب بشرط ان يعمل خمرا) فبيع العنب منهي عنه ومبغوض للمولى بهذا الشرط ، وليس بمنهي عنه مطلقا ، وبلا شرط الفاسد المذكور ، ونحو (لا تأكل لحم البقرة الجلّالة) فأكل لحمها منهي عنه بلحاظ عنوان الجلّالية. هذا مثال للوصف المفارق ، اذ عنوان الجلّالية يزول عنها بالاستبراء المقرّر شرعا. ونحو (لا تنكح الأمة من غير اذن سيدها ومالكها) فنكاحها منهي عنه بلحاظ عدم الوصف الملازم للنكاح ، وهو اذن السيد والمالك.

كما ان تفصيل اقوال الاصوليين في دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته عليه ليس بمهم لنا لانها تزيد على العشرة ، والمقام لا يسع تفصيلها. هذا أولا.

وثانيا : ان اكثرها مردود عند المصنف قدس‌سره فلا جدوى للنقض والابرام فيها. فالمهم لنا بيان قول الحق في المسألة. وتحقيق الحق على نحو يظهر الحال في الأقوال ، أي على نحو ينقدح فسادها ، ولا بد من بسط المقال والبحث في مقامين :

المقام الأول : في العبادات

قدّم المصنف بحث العبادات على بحث المعاملات لأشرفيتها ، فقال متوكلا على الله تعالى ومعتمدا عليه : ان النهي المتعلق بنفس العبادة أو بجزئها من حيث كونه عبادة كتعلق النهي بقراءة العزائم الأربع. فالقراءة جزء عبادي لاشتراط قصد القرب عقلا فيها ، فيلحظ عنوان العبادية في الجزء والشرط والوصف يدل على فسادها.

اما اذا تعلق النهي بنفس العبادة نحو (لا تصل في الدار المغصوبة) فهي فاسدة ، لان النهي يدل على حرمتها ذاتا وعلى مبغوضيتها ، كما يدل على حرمة المنهي عنه ذاتا في سائر الموارد كالقتل والغصب وما شابههما من المحرمات الشرعية. واذا كانت محرمة ذاتا فلا يتمشى ممن المكلف قصد القربة في مقام

٢٨٠