البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

في الدار المغصوبة. فاذا دخلها بسوء اختياره فاما ان يخرج عنها وأما ان يبقى فيها فاذا خرج عنها فقد فعل الواجب الذي هو التخلص من الحرام بواسطة المقدّمة المحرّمة ، وهي الخروج عنها. وإذا بقى فيها فقد فعل الحرام لكون البقاء من مصاديق الغصب ، فالبقاء يكون اقتحاما في ترك الواجب الذي هو التخلص من الحرام ، فالخروج مقدمة للتخلص وهو واجب عقلا لرفع الظلم عن صاحب الدار ، وشرعا بالفعل لأن البقاء حرام ومنهي عنه ، وتركه واجب وهو لا يتحقق إلا بالخروج ، ولكن المكلف أوقع نفسه بسوء الاختيار في البقاء أو الخروج المحرمين لم ينقلبا على ما هما عليه من الحرمة ، واما في الإقدام على الخروج الذي هو قبيح ذاتا وحرام شرعا بلا كلام من الخصم لو لا جهة توقف التخلص من الحرام على الخروج ، إذ هو حرام قطعا لكونه مصداقا للغصب المحرم لو لا شبهة توقف التخلص من الغصب عليه ، أي على الخروج ، كما ان الوقوع في احد المحرّمين (البقاء والخروج) بسوء الاختيار مفروض في المقام ، فالخروج محرّم إذا كان الدخول في ارض الغير بسوء الاختيار لأجل تمكن المكلف من التخلص قبل اقتحامه في الحرام بسوء الاختيار.

فالتخلص مقدور للمكلف بحيث ان شاء يفعله بأن لا يدخل الدار المغصوبة ، وان شاء لا يفعله بأن بقي فيها بعد الدخول.

غاية الأمر : ان التخلص مقدور بلا واسطة على فرض عدم الدخول والخروج مقدور بواسطة عدم الدخول ، فقول الخصم ان الخروج قبل الدخول غير مقدور كي تتعلق الحرمة به فاسد ، كما قال المصنّف.

وبالجملة : كان المكلف قبل الاقتحام في الحرام بالدخول في ارض الغير قادرا على التصرف الخروجي ، كما انه قادر على التصرف الدخولي.

غاية الأمر : يتمكن المكلف من التصرف الخروجي ، بواسطة الدخول ، ويتمكّن من التصرف الدخولي بلا واسطة.

والحال : مجرد عدم تمكنه من التصرف الخروجي إلا بواسطة التصرف

٢٠١

الدخولي لا يخرجه عن كونه مقدورا مثل البقاء ، وكلاهما مقدوران بواسطة الدخول ، فكما يكون ترك البقاء مطلوبا في جميع الأوقات حتى قبل الدخول ، وكذا ترك الخروج مطلوب في جميعها.

هذا : مضافا إلى أن الخروج مثل البقاء في كون كل واحد منهما فرعا ، والحال ان الفرعية غير مانعة عن مطلوبية ترك البقاء لا قبل الدخول ولا بعده.

وكذا الحال في فرعية الخروج ، إذ هي غير مانعة عن مطلوبية ترك الخروج مطلقا ، أي قبل الدخول وبعده فحال الخروج كحال البقاء بلا فرق بينهما في الحرمة والمقدورية بالواسطة ، والفرعية والمصداقية للغصب. نعم يحكم العقل بلزوم الخروج بعد ما كان ، أي بعد كونه كالبقاء في الحرمة ، ارشاد إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين لدوران الأمر بينه وبين البقاء ، ويترجح في نظر العقل عليه لأنه اقل المحذورين.

فالمصنّف أجاب عن استدلال الخصم نقضيا بالبقاء ، وحليا بان حكم الخروج ينقلب إلى الوجوب إذا لم يقع بسوء الاختيار ، واما إذا وقع الخروج في الخارج بسوء الاختيار فلا ينقلب بل يبقى على حرمته السابقة.

ومن حكم الخروج ظهر حكم شرب الخمر علاجا للمرض وتخلصا من التهلكة وهو واجب عقلا وشرعا ، ومطلوب على كل حال إذا لم يكن الاضطرار إلى شربه بسوء الاختيار ، وإلا فهو على ما هو عليه قبل الاضطرار إلى الشرب من الحرمة ، وان كان العقل يلزم المكلف ارشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من ترك الشرب ، كحفظ النفس عن التهلكة ، لدوران الأمر بين التهلكة المحرّمة وبين الشرب المحرّم ، والعقل يرشده إلى الشرب لكون غرض الشارع المقدس في حفظ النفس عن الهلاك اعظم من الغرض في ترك الشرب ، وبعبارة اخرى وهي انه يدور الأمر بين الأهم وبين المهم فيرجح عند العقل الأهم على المهم.

قال الشيخ الانصاري : ان الخروج مقدور بواسطة الدخول ، وهو مثل المقدور

٢٠٢

بلا واسطة في صحة التكليف من البعث والزجر ، والأمر والنهي ، نظير الأمر بالأفعال التوليدية ، لأنه يصح الأمر والنهي عنها ، كما يصح بالأفعال المباشرية والنهي عنها ، فمن ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى احد الأمرين من هلاك النفس وشرب الخمر ، بان لم يعرّض نفسه للهلاك الذي لا يندفع إلّا بشرب الخمر فيصدق عليه انه تارك للهلاك وتارك لشرب الخمر. لئلا يقع في اشد المحذورين من هلاك النفس ومن شرب الخمر وان كان صدق التركين المذكورين بترك المكلف ما لو فعل اياه من تعريض نفسه للهلاك لأدّى لا محالة إلى احدهما ، أي الهلاك او الشرب ، مثلا إذا ترك المكلف اكل الغذاء المضر الذي دواؤه شرب الخمر باعلام الطبيب الحاذق فيصدق حينئذ ان هذا الشخص ليس بهالك ولا شارب للخمر ، فهذه سالبة بانتفاء المحمول ، نظير الأفعال التوليدية التي تتولد من الأفعال المباشرية ، كاحراق الجسم الذي يتولد من القائه في النار ، ويكون عمد المكلف إلى اسبابها عمدا إلى نفسها ، كما يكون اختيار تركها بسبب عدم العمد إلى اسبابها.

فالاحراق مقدور بواسطة الالقاء ، كما ان تركه مقدور ايضا بواسطة تركه ، فيصح عقلا ان يكون الاحراق قبل الالقاء محرما ومنهيا عنه ، فكذا يحرم الخروج قبل الدخول ، ويحرم الشرب قبل الوقوع في الهلاك ، وهذا القدر من القدرة يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج والتداوي ، وان كان هذا الشرب بعد الوقوع في التهلكة لازما من باب ارشاد العقل لأجل الفرار عن الهلاك والموت ، فالزام العقل بالشرب لا ينافي حرمته شرعا ، نظير ارتكاب اقل القبيحين واخفهما ، فتصدق القضية حين ترك الايقاع في الهلاك وترك الشرب سالبة بانتفاء المحمول ، ومن المعلوم ان المكلف إذا قدر على الشرب قبل الوقوع في التهلكة فهو قادر على تركه قبل الوقوع فيها ، إذ نسبة القدرة إلى وجود الشيء المقدور وإلى عدمه سواء ، ولو سلّمنا عدم صدقها على تقدير عدم الشرب لأجل عدم الوقوع في المهلكة إلا بنحو القضية السالبة بانتفاء الموضوع ، كما اعترف به المستدل.

٢٠٣

وقال ان ترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلا ترك الدخول ، وكذا قال ان ترك الشرب بترك الوقوع في الهلاك ليس في الحقيقة إلا ترك الوقوع فيه.

فبالنتيجة : ترك الخروج قبل الدخول غير مقدور فليس بمنهي عنه وحرام ، وقد اجاب المصنّف القائل بحرمة الخروج بانا لو سلّمنا عدم صدق ترك الخروج على فرض ترك الدخول إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع فلا يكون تركه مقدورا حتى يقال انه منهي عنه.

ونقول : ان هذا الكلام غير ضائر بحرمة الخروج بعد تمكن المكلف من ترك الخروج بسبب تمكنه من ترك الدخول ، وبعد تمكنه من فعل الخروج لأجل تمكنه من الدخول الذي هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة لأنه يقال ان غير الداخل في ارض الغير ليس باقيا فيها.

ومن الواضح ان هذا التمكن من ترك الخروج عقلا ولو بواسطة ترك الدخول يكفي في صحة النهي عن الخروج عقلا وشرعا.

والبيان الواضح لكيفية التمكن من الخروج والشرب ، ان المكلف يوقع نفسه في المهلكة ، أو يدخل الدار المغصوبة بسوء اختياره ، فيعالج بشرب الخمر ويتخلص عن الغصب بالخروج أو يختار ترك الدخول.

هذا بيان لكيفية التمكن من ترك الخروج ، ومن ترك الشرب ، وترك الوقوع في المهلكة ، والدار المغصوبة لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج ، فالخروج مقدور بواسطة الدخول ، كما ان تركه مقدور ايضا من جهة ترك الدخول رأسا ، فيكون منهيا عنه وحراما ، ويكون تركه مطلوبا شرعا.

في الاشكال الثالث على المصنّف

قوله : فان قلت كيف يقع مثل الخروج والشرب ...

فاستشكل القائل بكون الخروج مأمورا به وواجبا على المصنّف بان إذا امتنع

٢٠٤

الجمع بين حرمة المقدمة ، وهي الخروج ، ووجوب ذيها ، وهو التخلص من الغصب المحرم ، فاما ان يسقط الوجوب فلا باعث على الخروج ، أو يسقط التحريم ، ولم يقل احد بسقوط وجوب التخلص عن الغصب ، فلا بد من سقوط حرمة الخروج ، وهو المطلوب ، لأنه إذا كان حراما ومنهيا عنه فلا بد من القول بسقوط وجوب التخلص عن الغصب لوجود المنافاة بين امتناع المقدمة المنحصرة شرعا ، وبين وجوب ذيها ، فحينئذ اما أن نقول بوجوب الخروج والتخلص معا ، أو بحرمتها ، أي حرمة المقدمة ، لأن ايجاب ذي المقدمة مع حرمة المقدمة الوجودية يكون تكليفا بغير المقدور وهو قبيح ، والعقل حاكم مستقلا بان الممنوع شرعا كالممتنع عادة او عقلا.

وعليه فالخروج والشرب واجبان وان كانا بسوء الاختيار.

في جواب المصنّف عنه

قلت : اولا : ان الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا في استحالة التكليف ، من جهة ان المنع الشرعي موجب لمنع العقل ، وفي ظرف المنع العقلي عن المقدمة لا يترتب البعث العقلي على ايجاب ذي المقدمة ، لتضاد حرمة المقدمة المنحصرة الوجودية ووجوب ذيها ، كما ان التضاد موجود بينهما إذا كانت المقدمة ممنوعة عقلا أو عادة. اما إذا كان العقل غير مانع من الاتيان بالمقدمة ، بل يبعث إلى اتيانها ارشادا لكونها اقل المحذورين واخف القبيحين في نظره ، فلا مانع حينئذ من ايجاب ذيها ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وثانيا : لو سلم ان الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، ولو سلم التنافي بين وجوب ذي المقدمة (كالتخلص عن الغصب وحفظ النفس) وبين حرمة المقدمة الوجودية المنحصرة حتى في مورد حكم العقل بوجوب المقدمة ، إذ يتوقف التخلص بحسب الوجود الخارجي على الخروج فقط وأنهما لا يجتمعان.

فنقول : ان الساقط هو الخطاب الشرعي والايجاب المولوي بذيها ، فالمولى

٢٠٥

لا يبعث المكلف إلى اتيانه ، ولا يسقط حينئذ لزوم اتيانه عقلا ، من جهة خروج المكلف عن عهدة التكليف الذي تنجّز عليه قبل الاضطرار من حرمة الغصب أو وجوب حفظ النفس ، فحرمته باقية على حالها بحكم العقل ، لأنّ المكلف لو لم يأت بالمقدمة المحرمة وبالخروج المحرم لوقع في المحذور الأشد ، وهو البقاء ، ولما خرج عن عهدة التكليف المنجز.

فبالنتيجة : الساقط هو الوجوب المولوي الشرعي ، بالاضافة إلى ذي المقدمة وهو التخلص ورفع الظلم ، اما الوجوب العقلي الارشادي بالاضافة اليه فهو باق على حاله لبقاء ملاكه بعد الاضطرار (بسوء الاختيار) إلى اتيان المقدمة المحرمة وهي الخروج. والزام العقل بفعل التخلص بعد الاضطرار المذكور كاف في وجوه في استحقاق العقاب على تركه ، فلا حاجة حينئذ إلى البعث الشرعي المولوي إلى التخلص. وكذا الكلام في الشرب ووجوب حفظ النفس.

قوله : فتدبر جيدا حتى ظهر لك عدم المنافاة بين حرمة المقدمة وبين وجوب ذيها عقلا ، وانما المنافاة بينها وبين وجوب ذيها شرعا ... وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به ...

لما فرغ المصنّف قدس‌سره عن جواب الشيخ الانصاري قدس‌سره القائل بكون الخروج مأمورا به بلا اجراء حكم المعصية عليه ، أي بلا استحقاق العقاب على الخروج شرعا ، في ردّ قول صاحب الفصول القائل بكون الخروج مأمورا به وواجبا مع اجراء حكم المعصية والعصيان عليه ، وقال انه يدل على كون الخروج مأمورا به كونه مقدمة للواجب الأهم وهو التخلص عن الغصب ، والمولى لم يرفع اليد عن وجوبه ولم نرفع ايدينا عن الملازمة عقلا بين وجوب ذي المقدمة ، وبين وجوب المقدمة ، وقال ايضا انه يدلّ على اجراء حكم العصيان عليه النهي عنه قبل الاضطرار بسوء الاختيار.

ولكن قال المصنّف : فقد ظهر مما سبق من ان الخروج باق على حرمته

٢٠٦

ومبغوضيته لأجل الاضطرار اليه بسوء الاختيار ، ولكن العقل يحكم ـ ارشادا ـ إلى لزوم اتيانه وتحققه في الخارج ، كما سبق في طي الجواب عن استدلال الشيخ الانصاري رضى الله عنه.

هذا مضافا إلى انه يلزم على هذا القول اتصاف فعل واحد بالوجوب الغيري والحرمة الذاتية (وهو الخروج) لفرض صاحب الفصول كون الخروج مقدمة لواجب ، ولفرض كونه من مصاديق الغصب ، وبكلمة اخرى ان المفروض تعلق النهي بالخروج المستفاد من دليل حرمة التصرف في مال الغير ، وهي وان كانت ساقطة بعد الدخول وتعلق الوجوب به ايضا لكونه مقدمة لترك البقاء الواجب.

واما كونه بعنوان واحد فلأن الخروج هو التصرف الخروجي في ارض الغير بغير إذنه ، فهو بهذا العنوان حرام للنهي عنه. إذ مآل معنى «لا تغصب ارض الغير» إلى «لا تتصرف بها» وهو يشمل باطلاقه التصرف الخروجي والتصرف الدخولي والتصرف البقائي ، وهو بهذا العنوان واجب لتوقف ترك البقاء عليه.

فان قيل : ان العنوان متعدد ، لأن الخروج بعنوان كونه تصرفا في ملك الغير حرام ، وبعنوان كونه مقدمة لترك البقاء واجب ، فلا مانع من الاجتماع حينئذ كما سبق في اول الباب.

قلنا : ان مقدمية المقدمة جهة تعليلية لا جهة تقييدية ، فالوجوب المقدمي عارض على ذات المقدمة من حيث هي هي لا من حيث كونها مقدمة حتى يتعدد العنوان. فالجهات التعليلية وسائط ثبوتية لترتب الأحكام على موضوعاتها ، وخارجة عن حقيقة الموضوعات ، ولكن ترتفع غائلة اجتماع الوجوب والحرمة فيه بعنوان واحد بسبب اختلاف زمان التحريم قبل الدخول في ارض الغير وزمان الايجاب بعده فلا تنافي بينهما.

اجاب بهذا صاحب الفصول قدس‌سره لأنه التفت إلى ورود هذا الاشكال عليه.

أما المصنّف فقال : فانه لا يرتفع الاشكال باختلاف زمان التحريم والايجاب

٢٠٧

قبل الدخول وبعد الدخول مع اتحاد زمان الفعل المتعلق للتحريم والايجاب ، كما إذا أمر المولى عبده أو ابنه في صبح يوم الاربعاء باكرام زيد يوم الجمعة ونهى في عصره عن اكرامه في يوم الجمعة أيضا ، فهذا تناقض لاتحاد زمان الاكرام وهو يوم الجمعة ، فالتنافي واضح بين وجوب اكرام زيد في يوم الجمعة وبين حرمة اكرامه فيه ، وهو لا يرتفع إلا باختلاف زمان الواجب والمحرّم ، مثلا إذا قال المولى في صبح يوم الخميس اكرم زيدا يوم الجمعة ولا تكرمه يوم السبت فهذا القول ليس بتناقض ، لاختلاف زمان الواجب والمحرم ، وان كان زمان الايجاب والتحريم واحدا ، فالصور العقلية اربع حاصلة من ضرب حالتي زمان الايجاب والتحريم من حيث الاتحاد والتعدد في زمان الواجب والمحرم من حيث الاتحاد والتعدد ايضا ، فاثنان منها متنافيان ، واثنان منها غير متنافيين.

والتفصيل : انه إذا تحد زمان الواجب والمحرم فاجتماعهما محال قطعا ، سواء اتحد زمان الايجاب والتحريم أم تعدد زمانهما ، وإذا تعدد زمان الواجب والمحرم فاجتماعهما ليس بمحال سواء اتحد زمان الايجاب والتحريم أم تعدد زمانهما ، وهذا التفصيل اوضح من ان يخفى ، وامثلة الكل واضحة.

وعليه : فاذا نهى المولى عن الخروج قبل الدخول ، وأمر به بعد الدخول ، كان نهيه وأمره متناقضين لاتحاد متعلق الوجوب والحرمة (وهو الخروج) وان تعدد زمان التحريم والايجاب من حيث قبل الدخول وبعد الدخول. فاذا حرّم المولى الخروج فهو حرام قبل الدخول وبعده ، وكل حرام مبغوض. ولو أمر به بعد الدخول أمرا مولويا لكان واجبا بعد الدخول ، وكل واجب محبوب. فثبت كونه محبوبا ومبغوضا وواجبا وحراما بعد الدخول بعنوان واحد ، فاذا خرج الداخل كان خروجه عصيانا للنهي السابق واطاعة للأمر اللاحق فعلا ، أي لكون الأمر فعليا على الفرض ، وهذا كما ترى.

وعلى طبيعة الحال فالقائل بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي

٢٠٨

عنوانين ، لا يرضى باتصاف الخروج بالوجوب والحرمة والمحبوبية والمبغوضية ، لاتحاد العنوان في هذا المقام ، فضلا عن القائل بالامتناع ، هيهات منه الرضا.

فهذا الجواب لا ينفع في رفع غائلة اجتماعهما في الخروج من حيث كونه معنونا بعنوان واحد ، كما لا ينفع في رفعها جواب آخر من جانب صاحب الفصول قدس‌سره وهو ان النهي عن الخروج مطلق شامل لحالة الدخول والاضطرار ، وعدم حالتيه وعدم الاضطرار ، والأمر به مشروط بالدخول ، إذ لا معنى للأمر بالخروج قبل الدخول ، فاذا دخل المكلف في ارض الغير عدوانا فاجتمع في الخروج الوجوب والحرمة حينئذ ، فقد يلزم اجتماع الضدين في واحد بعنوان واحد.

هذا مضافا إلى منع كون حرمة الخروج مشروطا بالدخول لأن حرمته ناشئة من حرمة البقاء وهو ، أي البقاء ، مثل الدخول في الحرمة وفي عدم الاشتراط ، إذ حرمتها مستفادة من دليل واحد وهو عبارة : (لا تغصب مال الغير) فالبقاء والدخول غير مشترطين ، فكذا الخروج. فوجوبه ـ لو سلّمناه ـ غير مشروط بالدخول ، فحرمة الخروج سارية بعد الدخول فلو كان واجبا بعد الدخول للزم محذور اجتماع الوجوب والحرمة فيه بعد الدخول بعنوان واحد لمنافاة حرمة شيء على نحو الاطلاق ، أي في جميع الازمان والحالات ، مع وجوب ذلك الشيء في بعض الازمان والحالات.

في القول الثالث :

قوله : واما القول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، أي بعد الدخول ...

واستدل على كونه منهيا عنه بان الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وعلى كونه مأمورا به بانه مقدمة لترك البقاء الواجب ، فهذا القائل ذهب إلى أن الوجوب الشرعي منحصر لها ، أي للمقدمة ، كما لا يخفى.

أجاب المصنّف عنه بجوابين :

الأول : ان الحق امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ولو تنزّلنا وسلّمنا جوازه فانما

٢٠٩

هو فيما إذا كان العنوان متعددا في البين كانت المندوحة موجودة ، ولا مندوحة هنا ، ولا تعدد للعنوان في المقام بل يمتنع الاجتماع ولو كان تعلق الأمر والنهي بعنوانين ، إذ متعلق الأحكام فعل المكلف بواقعيته لا بعناوينه العارضة عليه.

وعليه : فالمجمع واحد وجودا وذاتا كما عرفت هذا المطلب في ضمن الأمر الرابع ، وذلك مثل الخروج لأنه واحد وجودا وذاتا سواء كان متعلق الأمر أم كان متعلق النهي أم كان متعلقهما معا.

والثاني : ان الخروج بعنوان التصرف في ارض الغير بغير إذنه تعلق به الوجوب والحرمة والأمر والنهي ، فان قيل اما النهي فتعلق به لعدم اقتران الخروج باذن مالك الأرض على الفرض.

وأما الأمر فتعلق به لتوقف التخلص من الغصب عليه ، فيتعدد العنوان وتتعدد جهة الأمر والنهي ، فلا اشكال في الاجتماع.

قلنا : ان جهة توقف التخلص المذكور وجهة عدم الاقتران باذن المالك جهتان تعليليتان كمقدمية المقدمة كما سبق.

ومن الواضح : ان الجهات التعليلية وسائط ثبوتية لترتب الأحكام على موضوعاتها أو على متعلقاتها ، كوجود العلة بالاضافة إلى وجود معلولها ، من دون ان تكون اجزاء الموضوع بحيث إذا انضمت احدى الجهتين إلى الموضوع يصير شيئا وإذا انضمت الاخرى اليه يصير شيئا آخر ، حتى تتحقق الاثنينية في عنوان الموضوع الذي هو الخروج من ارض الغير.

فان قيل : ان للخروج عنوان التخلص من الغصب وعنوان الغصب المحرم ، فبلحاظ العنوان الأول تعلق به الأمر ، وبلحاظ العنوان الثاني تعلق به النهي.

قلنا : ان عنوان التخلص أمر انتزاعي ينتزع من ترك البقاء الذي يكون سببه الخروج ، فالخروج سبب ترك البقاء وهو مسببه ، فعنوان التخلص ينتزع عن المسبب ولا ربط له بالسبب حتى يكون عنوانا للخروج ، فلا تعدد في عنوانه ، بل له عنوان

٢١٠

واحد وهو التصرف المحرم ، فلا نسلم كون التخلص عنوانا للخروج.

ولو سلّمنا كونه عنوانا له ، وكون تعدد العنوان مجديا في رفع غائلة الاجتماع ، لكان الاجتماع في المقام محالا لكون الاجتماع طلب المحال حيث لا مندوحة هاهنا إذ التخلص من الغصب المحرم منحصر بالخروج المحرم ، وجه لزوم طلب المحال ان قوام البعث والزجر قصد احداث الداعي العقلي ولو كان بسوء الاختيار ، مثلا إذا وجدت العلة وجد المعلول قهرا بلا تخلل الزمان بينهما ، كما انه إذا انعدمت العلة انعدم المعلول بلا فصل الزمان بينهما ايضا ، فلا معنى للتكليف الذي هو بمعنى احداث الداعي بوجود المعلول على فرض وجود علته ، أو بتركه عند عدم علته ، فاذا تحقّق أنّ الدخول هو علة للخروج فلا موقع للتكليف بالخروج حتى يكون مأمورا به ، فاذا لم يتحقق الدخول لم يتحقق الخروج ، فلا معنى محصل للتكليف بمعنى احداث الداعي في ذهن المكلف بتركه ، إذ احداث الداعي فعلا وتركا انما يكون في ظرف القدر الذي هو ظرف الامكان عليهما ، لا في ظرف الوجوب ولا في ظرف الامتناع ، ولو كان بسوء الاختيار ، والتكرار لزيادة التوضيح.

قوله : وما قيل ان الامتناع او الايجاب بالاختيار لا ينافي ...

فاذا دخل المكلف في ارض الغير بسوء اختياره جاز التكليف بالخروج الذي اضطر المكلف اليه بسوء الاختيار ، لأن الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، كما ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، مثلا شخص الكافر يمنع باختياره صحة العبادة لعدم قبوله بالاختيار ، لأنّ الاسلام هو شرط صحة الطاعات والعبادات ، فهو مكلف بها إذا الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فكذا الشخص الداخل في ارض الغير بغير إذنه بسوء الاختيار أوجب على نفسه بالاختيار الخروج عنها ، فهو مكلف به ، فيكون مأمورا به ، لأن الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار الذي هو شرط التكليف ، فثبت المدعى وهو كون الخروج منهيا عنه لانطباق طبيعة الغصب المنهي عنه عليه ، ومأمورا به لكونه مقدمة لترك البقاء الواجب.

٢١١

فأجاب المصنّف قدس‌سره عن توهم القائل بكون الخروج منهيا عنه ومأمورا به ، بان هذا الاستدلال انما يكون في قبال الاشاعرة ، لا في مقام جواز تعلق التكليف بالواجب او الممتنع ، كما يتعلق التكليف بالممكن.

قالت الاشاعرة بان افعال العباد اضطرارية وهم مجبورون في افعالهم ، ولهذا اشتهرت بالطائفة الجبرية ، واستدلت بان الشيء ما لم يجب لم يوجد.

ومن الواضح ان مقتضي علية شيء لشيء آخر امتناع التفكيك بينهما وجودا وعدما ، فاذا وجدت العلة وجب وجود المعلول ، وإلا لم تكن علة وهو خلف ، وإذا عدمت العلة امتنع وجود المعلول وإلّا لم يكن معلولا وهو خلف ، وحيث ان العلة مرددة بين الوجود والعدم ، فالمعلول مردد بين الوجوب والامتناع ، فصحّ ان يقال ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، إذ معنى هذا القول ان الشيء اما ان يجب وجوده او لا يوجد اصلا ، فظهر من وجه الاستدلال به على كون افعال العباد غير اختيارية ، لأنهم اما أنهم ارادوا بعد اتيان مقدمتها فعل الشيء فوجد قهرا واما ان لا يريدوا فعله بعده فعدم اضطرارا بلا اختيار.

فأجاب المصنّف قدس‌سره ان الوجوب او الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إذ الوجوب مستند إلى وجود العلة ووجودها مستند إلى الاختيار ، والامتناع مستند إلى عدم العلة وعدمها مستند إلى الاختيار ، وكلاهما ، أي وجود العلة وعدمها ، مستندان إلى الاختيار ، لأن العبد بالاختيار فعل المقدمات وبالاختيار اراد فعل الشيء ، أو بالاختيار ترك المقدمات وبالاختيار لم يرد فعله.

فبالنتيجة : أوجد العلة بالاختيار او تركها بالاختيار ، فالعلة وجودا وعدما اختيارية ، وكذا المقدمات اختيارية ، فلا شبهة في صحة التكليف بالوجوب او الامتناع ، لكون العلة اختيارية. فانقدح ان المنافي للتكليف هو الوجوب او الامتناع غير المستندين إلى الاختيار ، وحينئذ يظهر أن ليس المقصود من عدم منافاة التكليف بالوجوب او الامتناع للاختيار ان الشيء في ظرف وجوبه أو امتناعه

٢١٢

اختياري يصح التكليف به ، بل المقصود من صحة التكليف بهما جواز تعلق التكليف قبل ان يصل المكلف به إلى الوجوب او الامتناع.

فالقول المذكور لا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وبغير المقدور الخارج عن ارض الغير واما غير الخارج فلا يقدر على الجمع بينهما لدوران الامر بين المحذورين وهما فعل الخروج وتركه في زمان واحد وان علقا على الدخول ، بل هو اجنبي عن هذا ولا ربط له في مقام البحث كما لا يخفى.

في استدلال المحقق القمي

قوله : فانقدح بذلك فساد الاستدلال ...

فاستدل المحقق القمي قدس‌سره لاثبات كون الخروج واجبا ومأمورا به ، وحراما ومنهيا عنه ، بأن الأمر بالتخلص من الغصب وان النهي عن الغصب دليلان يجب اعمالهما معا ، فيجب على المكلف تخلص نفسه عنه ، وهو لا يمكن إلا بالخروج بعد الدخول. فيكون الخروج واجبا غيريا عليه لمقدميته للتخلص ، ويكون حراما لكونه مصداقا للغصب ، ولا موجب لتقييد احد الدليلين عقلا مثل ان تقيّد حرمة الغصب بغير الخروج حتى يكون واجبا فقط ، أو يقيد وجوب المقدمة بغير الغصب المحرم كي يكون حراما لا غيره.

وذلك لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين. فباعتبار انطباق عنوان التخلص يكون الخروج واجبا ، وباعتبار انطباق عنوان التصرف في مال الغير بغير إذنه يكون حراما ومحرما ، لأن منشأ توهم الاستحالة ، أي استحالة اجتماع الوجوب والحرمة ، في الخروج لا يخلو من احد امرين على سبيل منع الخلو إما أن يلزم اجتماع الضدين (الوجوب والحرمة) في الخروج الشخصي. هذا إذا قلنا بان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، وان تعدد الجهة لا يوجب تعدد ذي الجهتين كما هو الاظهر.

٢١٣

واما أن يلزم التكليف بما لا يطاق وبغير المقدور إذا قلنا ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون لفرض عدم المندوحة في البين ، إذ التخلص منحصر بالخروج ، فاجتماع الضدين فيه غير لازم لتعدد الاعتبار والجهة كما سبق في طي احتجاج القول بجواز اجتماع الامر والنهي. فالتكليف بما لا يطاق ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار. ويدلّ على عدم استحالة التكليف بما لا يطاق ، إذا كان بسبب سوء اختيار المكلف ، حكم الفقهاء (رض) بوجوب الحج على من زالت استطاعته بسوء اختياره بعد حصولها.

ولا يخفى ان وجوب الحج حين زوال الاستطاعة وبعد زوالها تكليف بما لا يطاق. وهذا الاستشهاد يتمّ إذا كان المراد من الاستطاعة الفائتة العقلية منها ، واما إذا كان المراد منها هو الشرعية فلا يتمّ هذا الاستشهاد. وجه فساد الاستدلال ما عرفت سابقا من لزوم التقييد عقلا ، لاستحالة اجتماع الضدين ، سواء تعدد عنوان المجمع أم اتحد فلا بدّ من تقييد احدهما بالأهم منهما ، فان كان الخروج اهم قيّد دليل حرمة الغصب بغير الخروج وان كان البقاء اهم قيّد دليل وجوب المقدمة بغير الغصب.

فعلى الأول يكون الخروج واجبا فقط. وعلى الثاني يكون حراما فقط.

ومن ان التكليف بما لا يطاق محال سواء كان مسببا عن سوء الاختيار ، أم لم يكن مسببا عن سوء الاختيار. نعم ، لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب ، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كعقاب الكفار على الفروع وان امتنعوا بالاختيار عن قبولها بسقوط التكليف بالتحريم او الايجاب على حسب الموارد ، فالمكلف المضطر بالاختيار غير مخاطب فعلا ، ولكن هو معاقب عقابا.

فتحصّل مما علم سابقا : ان اجتماع الضدين في شيء واحد محال وان تعدد عنوانه ، فلا بد من تقييد الامر بالخروج عقلا أو من تقييد النهي عن الخروج ، وان الجهة هنا ليست بمتعدد ، إذ عنوان المقدمية ليس جهة وعنوانا لأنه جهة تعليلية لا تقييدية كما علم هذا في بحث المقدمة ، وان التكليف بما لا يطاق محال على كلّ

٢١٤

حال ولو كان بسوء اختيار المكلف والعبد ، وان قول العلماء (رض) الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار في قبال الاشاعرة ، ولا دخل له فيما نحن فيه وهو عدم جواز التكليف بما لا يطاق ، وان قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لا خطابا ولا عقابا كما في الكفار ، أو لا ينافي الاختيار عقابا ولكن ينافيه خطابا كما في المضطر إلى الخروج بسوء الاختيار عن ارض الغير ، فيصح عقابه عليه عقلا ولا يصح خطابه به فعلا للاضطرار المسقط للتكليف التحريمي لصدق عنوان الغصب والظلم عليه بسوء الاختيار ، او الايجابي.

في ثمرة الأقوال

قوله : ثم لا يخفى انه لا اشكال في صحة الصلاة مطلقا ...

شرع المصنّف قدس‌سره بهذا في تبيان ثمرة القول بالخروج عن الارض المغصوبة إذا دخلها المكلف بسوء الاختيار ، وقال انه لا اشكال في صحة الصلاة فيها من غير فرق بين كون الصلاة مع الاضطرار إلى الغصب ، كأن حبسه الظالم فيها ، او بدون الاضطرار اليه ، كأن ث دخل فيها بسوء الاختيار ، وبين كونها في حال الخروج أو في حال الدخول أو في حال البقاء فيها. ففي جميع هذه الصور تصح الصلاة فيها على القول بجواز الاجتماع لعدم سراية كل واحد من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ، فيتعدد المتعلق قهرا كما هو رأي المجوّزين.

والتفصيل : اما صحتها بدون الاضطرار إلى الغصب فواضحة ، واما مع الاضطرار إلى الغصب بسوء الاختيار فلأن المجوّز وان اعتبر المندوحة في فعلية الوجوب والحرمة ولا مندوحة في هذا الفرض ، ولكن التكليف بما لا يطاق غير قبيح إذا كان المكلف هو السبب له ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. واما إذا كان الاضطرار إلى الغصب بسوء الاختيار فلا بد من ان يلتزم بسقوط النهي عن الغصب حينئذ وبقاء الامر ، فتصح الصلاة قهرا.

٢١٥

واما على القول بالامتناع فكذلك تصح الصلاة في الارض المغصوبة مع تحقق شروط ثلاثة :

الأول : ان يكون اضطرار المكلف إلى الغصب من غير سوء اختياره ، كأن حبسه الجائر فيها ، لأن النهي عن الغصب ساقط بواسطة الاضطرار ، فأمر الصلاة باق بلا معارض.

الثاني : ان يكون الاضطرار إلى الغصب بسوء الاختيار ، كما إذا دخل فيها باختياره ، ولكن وقعت الصلاة حال الخروج موميا للركوع والسجود ، بناء على القول بكون الخروج مأمورا به بلا اجراء حكم المعصية عليه ، فكأنّ وقوعها في المكان المباح وفي الفضاء المباح.

الثالث : ان يكون الاضطرار إلى الغصب المحرم بسوء الاختيار ، ولكن لم تقع الصلاة في حال الخروج عنها فصحتها حينئذ مشروطة بشرطين :

١ ـ غلبة ملاك الأمر على ملاك النهي عند التعارض ، فيقدم الغالب منهما على المغلوب منهما ، ولا ريب ان مصلحة الصلاة غالبة على مفسدة الغصب ، فيقدم الاقوى منهما ، وإلّا لم يكن وجه لصحتها على القول بالامتناع.

٢ ـ ان تقع الصلاة في ضيق الوقت ، فاذا قدمت مصلحة الصلاة على مفسدة الغصب فاذن يسقط النهي ويبقى الأمر.

واما الصلاة في ارض الغير في سعة الوقت فالصحة وعدمها متفرعان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء على نحو الايجاب للنهي عن ضده ، وعلى اقتضائه له ، فالصلاة في الدار المغصوبة ، والصلاة في المكان المباح ، ضدان ، لانهما فردان للصلاة المأمور بها ، كما ان زيدا وعمروا ضدان لانهما فردان للإنسان ، هذا أولا.

وثانيا : لأنه يسقط الغرض ، ويحصل الامتثال باتيان كل واحد من الفردين ، فلا يبقى مجال للفرد الآخر ، مثلا إذا أتى المكلف الصلاة في المكان المباح فقد سقط الغرض وحصل الامتثال ، فلا حاجة إلى الاتيان بفرد آخر ، كما إذا أمر المولى

٢١٦

عبده باتيان انسان فأتى بزيد فقد حصل الغرض وحصل الامتثال فلا حاجة إلى الاتيان بعمرو مثلا. فالأمر المولوي متوجه إلى الصلاة في المكان المباح ، وهو يقتضي النهي عن ضده ، والنهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه.

وفي ضوء هذا ، تكون الصلاة في الدار المغصوبة فاسدة ، لأن الصلاة في الدار المغصوبة ، وان كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة إلا انه لا شبهة في ان الصلاة في غير الدار المغصوبة ضد الصلاة في الدار المغصوبة مع كون الصلاة في غير الدار المغصوبة اهم من الصلاة في الدار المغصوبة لكونها خالية من المنقصة الناشئة من اجل اتحاد الصلاة في الدار المغصوبة مع الغصب المحرم.

فتلخّص مما سبق ان مصلحتها الغالبة على مفسدتها تقتضي صحتها في الدار المغصوبة ولكن لما كان أمر الصلاة في المكان المباح فعليا منجزا وهي ضدها ، والأمر بها يقتضي النهي عن الضد ، فلا محالة تبطل في سعة الوقت على الامتناع ، لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده. والحال ان كل فرد من الصلاة متضادّ مع الفرد الآخر. فهذه الصلاة ليست بمأمور بها إذا كان الوقت موسعا وهي ممكنة في خارج الدار المغصوبة. وعلى طبيعة الحال فهي باطلة.

لكن قد عرفت في مبحث الضد أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده ، لا لفظا ولا عقلا.

وعليه فالصلاة في الأرض المغصوبة في سعة الوقت صحيحة وان لم تكن مأمورا بها فعلا ، لأن الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضده ، خلافا للمشهور حيث ذهب إلى بطلانها في سعة الوقت وإلى صحتها في ضيق الوقت ، ولكن المصنّف اختار صحتها مطلقا ، لكون مصلحتها غالبة على مفسدتها ، فيقدم الغالب على المغلوب ، وبقي ملاكها ورجحانها الذي يكفي في صحتها وفي قصد التقرب بها إلى ساحة المولى عزّ اسمه.

٢١٧

تنقيح الدليلين

قوله : الأمر الثاني قد مرّ في بعض المقدمات ...

مرّ في المقدمة التاسعة انه لا تعارض بين خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) على القول بامتناع تعارض الدليلين.

والغرض من عقد الأمر الثاني انه ليست مسألة الاجتماع من باب التعارض حتى يرجع فيها إلى المرجحات السندية او الدلالية ، بل هي من باب التزاحم ، فيرجع في هذا المورد إلى الأهم ملاكا ، فيرجح الاهم من حيث المقتضي على الأضعف من حيث المقتضي كما سيأتي. وسيأتي ايضا بيان الفرق بين التعارض والتزاحم ، فخطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) ليسا من متعارضين على القول بالامتناع كي يرجع إلى المرجحات من حيث السند او المرجحات من حيث الدلالة ، بل يكونان متزاحمين على الامتناع ، فيقدم الأهم ملاكا على المهم ملاكا ، هذا إذا علم الأهم ملاكا.

واما إذا لم يعلم الأهم فيرجع حينئذ إلى المرجحات السندية ، أو إلى المرجحات الدلالية ، حتى يكشف بطريق الإن ان الاقوى منهما سندا أو دلالة كان اهم عند الشارع المقدس ، هذا إذا كان الخطابات في بيان الحكم الفعلي.

وأما إذا كان احدهما اقتضائيا والآخر فعليا فلا ريب في تقديم الفعلي على الاقتضائي ، وبعد التساقط يرجع إلى الاصول العملية في حكم الصلاة في الدار المغصوبة فيحكم بمقتضاها بالصحة والبطلان ، فتلخص مما ذكر ان الواقع لا يخلو من ثلاثة اوجه :

الأول : ان يكون كلاهما لبيان الحكم الفعلي.

الثاني : ان يكون كلاهما لبيان الحكم الاقتضائي.

الثالث : ان يكون احدهما فعليا والآخر اقتضائيا.

٢١٨

وعلى الأول يتعين الأخذ بالأهم المعلوم ، وإلا يرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية ان كان المرجح موجودا ، وإلا يحكم بالتخيير بينهما.

وعلى الثاني : يرجع إلى الاصول العملية ، لعدم الحكم الفعلي في الواقعة.

وعلى الثالث : يؤخذ بالحكم الفعلي ، ويطرح الحكم الاقتضائي ، كما لا يخفي.

٢١٩

في بيان الفرق بين التزاحم والتعارض

لا بد أولا من تنقيح خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) على القول بالامتناع وعلى القول بالجواز.

اما على الامتناع فهما متزاحمان في مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة ، فالقانون في المتزاحمين هو الأخذ بالاقوى مناطا في مقام الامتثال وان كان اضعف دلالة ، ولا يؤخذ بالاضعف ملاكا وان كان اقوى دلالة. هذا إذا احرز الغالب ملاكا من المؤثرين واحرز الاقوى من المقتضيين. فإن لم يحرز الغالب منهما كان بين خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) في مورد الاجتماع تعارض ، فيقدم الاقوى منهما دلالة وظهورا ، أو الاقوى سندا وصدورا.

فاذا قدم الاقوى دلالة ـ ان كان موجودا في البين ـ وإلا قدم الاقوى سندا فيكشف حينئذ بطريق الإن (وهو كشف العلة عن معلولها) كما إذا كشفنا عن وجود النهار بطلوع الشمس ، او كشفنا عن وجود المصنوع بوجود الصانع ، ان الاقوى دلالة او سندا هو الاقوى مقتضيا من حيث المدلول.

وأما على الجواز فهما متزاحمان بلا اشكال في مورد وجوب الصلاة من حيث كونها مأمورا بها بالامر الايجابي ، وحرمتها من حيث كونها في الدار المغصوبة ، فلا بد من الأخذ بالاقوى ملاكا حينئذ كما تقدم هذا في صدر المسألة.

وقال المصنّف قدس‌سره هناك : ان مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجودا وماهية من صغريات كبرى باب التعارض ، وانها على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه وجودا او ماهية من صغريات كبرى باب التزاحم.

٢٢٠