البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

لا يستغني عن الضمير من حيث موضوعيته للحكم ، لأن العام مبتدأ ، والمبتدأ يحتاج إلى الخبر ، وعليه فلا ريب في تخصيصه به في المثال الأخير لأن المفروض كون الحكم واحدا وهو أحقية الرد ، وكون موضوعه الخاص لا العام ، والأمر دائر بين التصرف في العام بارادة خصوص ما اريد من الضمير الراجع اليه وهو خصوص الرجعيات ، وبين التصرف في ناحية الضمير على احد النحوين ، اما بارجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجع الضمير إما بارجاع الضمير إلى تمام ما هو المراد من المرجع. فاذا أرجع الضمير إلى بعض المراد من المرجع كان هذا تصرفا في ناحية الضمير ، لأن وضع الضمير أن يكون المراد به ما يراد من الاسم الظاهر والمرجع ، فاذا اريد من المطلقات العموم فقد أريد من الضمير العموم ايضا ، لا الخاص والخصوص ، فاذا أرجع الضمير إلى تمام ما هو المراد من المرجع ، كان هذا توسعا في الاسناد المتحقق باسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة ، إلى الكل توسعا وتجوزا. وعليه فلا يكون تصرف في الضمير ولا في مرجعه إذ يراد من الضمير المعنى العام الذي وضع له لفظ المطلقات.

وليعلم ان التوسع على اقسام :

احدها : التوسع في المكان كالظروف والجار والمجرور ولهذا لا فرق فيهما التقدم والتأخر.

وثانيهما : التوسع من حيث آلة الظرفية إذا كان الظرف زمانا ، مثل كلمة (في) الدالة على الظرفية ، سواء كان مبهما أم كان محدودا وكظرف المكان ، إذا كان مبهما نحو (صمت دهرا) و (يوم الجمعة) و (صليت خلف زيد) ، كما يقال (في دهر في يوم الجمعة في خلفه).

وثالثها : التوسع في الاعراب نحو (دخلت الدار) كما يقال في الدار.

ورابعها : التوسع في الاسناد نحو (جمع الامير الصاغة) والحال انه جمع بعض الصاغة لا كلها.

٤٦١

فان قيل : الاسناد في هذا المثال إلى الامير لا إلى الصاغة كي يكون توسعا في الاسناد.

قلنا : ان للتوسع في الاسناد في هذا المثال طريقان : تارة المراد من اللام في الفاعل للاستغراق ، أي جمع كل الامير الصاغة والمراد منه بعض الامير لا كله ، واخرى نقلب الفعل المعلوم إلى المجهول ، أي جمع كل الصاغة ، والمراد بعضهم لا كلهم (١) ، كانت اصالة العموم في طرف العام وهو (المطلقات) سالمة عن معارضة اصالة الظهور في جانب الضمير ، أي لا تصلح لمعارضة اصالة الظهور في طرف العام اصالة الظهور في جانب الضمير ، لأن اصالة الظهور حجة في تنقيح المراد وتعيينه عند الشك فيه لا في تعيين انه حقيقة أو مجاز مع العلم بالمراد. وحيث ان الشك بالاضافة إلى العام ، شك في المراد به وانه العموم أو الخصوص كانت اصالة الظهور حجّة فيه. وان الشك ، بالاضافة إلى الضمير ، شك في انه حقيقة أو مجاز مع العلم بالمراد من الضمير وان موضوع حكمه هو الخاص لا غير بقرينة أحقية الرد فليست اصالة الظهور بحجة فيه ، أي في اصالة عدم الاستخدام.

وعلى طبيعة الحال فلا مجال للتعارض وهذا واضح.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى انه لو بني على حجية اصالة الظهور حتى مع العلم بمراد المتكلم من اللفظ ، فاللازم تقديم اصالة الظهور في طرف العام على اصالة الظهور في جانب الضمير لأن التصرف في ناحية العام بارادة خصوص الرجعيات منه تصرف في ناحية الضمير أيضا ، لأن المضمر وضع لما كان المرجع ظاهرا فيه على قول فلما كان (المطلقات) ظاهرة في العموم لكونها جمعا محلّى باللام. فانه يتحقق المجاز في المضمر أيضا على فرض تخصيص العام لكونه مرادا بالضمير ،

__________________

(١) والصاغة جمع مكسر الصائغ في الاصل كانت (صوغة) فأعلّ كإعلال (قال).

٤٦٢

ولكن التصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في العام بارادة الرجعيات من العام حين ارجاع الضمير اليه على نحو الاستخدام فالتصرف في الضمير معلوم فلا مجال للرجوع فيه إلى اصالة الظهور وإلى اصالة عدم الاستخدام. والتصرف في العام مشكوك فالمرجع فيه إلى اصالة الظهور وإلى اصالة العموم.

لكن تقديم اصالة الظهور في طرف العام على اصالة الظهور في ناحية المضمر ثابت ، إذا انعقد للعام ظهور في العموم وهو مبنى على عدم اقتران بما يمنع عن الانعقاد المذكور كما فيما نحن فيه ، إذ الضمير يصلح لعدم انعقاد الظهور لأنه راجع إلى بعض العام فهذا يصلح للقرينية عرفا له ، أي لعدم انعقاد الظهور للعام في العموم.

نعم لو لم يعدّ الكلام الذي اشتمل على الضمير الراجع إلى بعض افراده مما يكتنف بالكلام عرفا لا نعقد الظهور للعام في العموم فتجري اصالة الظهور واصالة العموم في العام.

وإلا فيحكم على الكلام بالاجمال لأنا لا نعلم هل المراد من العام هو العموم أم المراد منه هو الخصوص ، ويرجع بالاضافة إلى حكم الافراد المغايرة للمراد من الضمير إلى الاصول العملية من البراءة او الاحتياط ان لم يكن دليل اجتهادي على الحكم المذكور ، إلّا ان يقال باعتبار اصالة الحقيقة تعبدا ، بان لا يكون حمل اللفظ على معناه الحقيقي من باب الأخذ بالظاهر بشرط ان لا يمنع مانع عن انعقاد الظهور للفظ ، بل هو اصل برأسه يجب العمل على طبقه عند الشك في ارادة المعنى الحقيقي وان لم ينعقد له ظهور في المعنى الحقيقي لاقترانه بما يصلح للقرينية على المجاز ، كما في المقام وهو ضمير في بردّهن الراجع إلى خصوص الرجعيات بقرينة احقية الرد والارجاع قال بهذه المقالة صاحب الحاشية على المعالم قدس‌سره وهو أخ لصاحب الفصول رضى الله عنه.

٤٦٣

تتمة

والاستخدام على انحاء :

أحدها : ان يذكر اللفظ ويراد منه المعنى الحقيقي. ولكن يراد منه المعنى المجازي حين ارجاع الضمير اليه مثل : (رأيت أسدا وهو يتكلم).

ثانيها : ان يذكر اللفظ ويراد منه المجازي ، ولكن يراد منه الحقيقي حين ارجاع الضمير اليه نحو (رأيت اسدا يرمي وهو أبخر).

ثالثها : ان يذكر اللفظ ويراد منه الحقيقي ، ولكن يراد منه المعنى الحقيقي الآخر حين ارجاع الضمير اليه نحو (رأيت عينا جارية وهي مسكوكة).

رابعها : ان يذكر اللفظ ويراد منه المعنى المجازي ، ولكن يراد منه المعنى المجازي الآخر حين ارجاع الضمير اليه نحو (رأيت أسدا يرمي أو في الحمام وهو صائد للطائر) ، أي الهرة الشجاع. والمقام من قبيل القسم الأول ، كما لا يخفى.

هل يخصص العام بالمفهوم المخالف أم لا؟

قوله : فصل : قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف ...

قد اتّفق الاصوليون رحمهم‌الله تعالى ، على تخصيص العام بالمفهوم الموافق. والسر في ذلك رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعموم ، حيث لا يمكن رفع اليد عن المفهوم الموافق لاستلزامه رفع اليد عن المنطوق فاذا بنينا على المنطوق فانا نقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق وإلا لم يكن المفهوم هو المفهوم الموافق ، فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام ، ولا ريب في وجوب تقديم الخاص على العام كما سبق هذا. مثلا

٤٦٤

قال الحكيم في كتابه الكريم : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ...)(١). ثم قال : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ...)(٢) فهذا يشمل جميع غير المذكورات في الآية السابقة ، ولكن روى أديم بياع الهروي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في حديث انه قال عليه‌السلام : «والذي يتزوج المرأة في عدتها وهو يعلم لا تحل له أبدا» (٣). فمنطوق هذا الحديث يتعارض مع عموم (أحلّ لكم ما وراء ذلكم) فله مفهوم موافق وهو حرمة تزويج ذات البعل أبدا إذ لا ريب في أولوية حرمة تزويج ذات البعل من حرمة تزويج المعتدة فلا يمكن رفع اليد عن هذا المفهوم إذا بنينا على منطوقه ، فيكون المنطوق والمفهوم متحدين في الحكم لفرض كون المفهوم موافقا مع المنطوق في الحكم ، فيقع التعارض بين المنطوق والعام بالاضافة إلى حرمة تزويج المعتدة ، فالعام دال بحليته والحديث دال بحرمته ولكن التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام ولا ريب في وجوب تقديم الخاص على العام من باب تقديم النص على الظاهر كما سبق ، فمفهومه يكون مخصصا للعام كما ان منطوقه مخصص له بلا خلاف ، فيصير تقدير الآية الشريفة (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) إلا ذات البعل).

اما المفهوم المخالف فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق فيدور الأمر بين رفع اليد عن المفهوم ورفع اليد عن عموم العام.

فقال جمع بالأول وبعض بالثاني. وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور. واستدل القائل بتقدم العموم على المفهوم بان دلالة العام على العموم ذاتية اصلية ، ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية ، ومن الطبيعي ان الدلالة الاصلية تتقدم على

__________________

(١) البقرة : آية ٢٣.

(٢) البقرة : آية ٢٤.

(٣) الوسائل : ج ١٤ الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح ١.

٤٦٥

الدلالة التبعية في مقام المعارضة والتعارض.

ولكن يرد عليه ان دلالة اللفظ على المفهوم اما مستندة إلى الوضع او إلى مقدمات الحكمة ، ولا ثالث في البين. والمفروض ان دلالة العام على العموم مستندة إلى الوضع او إلى مقدمات الحكمة ايضا ، فاذن لا معنى للقول بأنّ دلالة العام على العموم اصلية ذاتية ودلالة القضية على المفهوم تبعية ، بل هما متساويتان من حيث الدلالة.

واحتجّ القائل بتقدم المفهوم على العموم ، بان دلالة القضية على المفهوم عقلية لازمة للخصوصية التي كانت في المنطوق ، ومن الطبيعي ان رفع اليد عن المفهوم لا يعقل بدون رفع اليد عن تلك الخصوصية التي كانت في المنطوق ، مثلا لا يعقل رفع اليد عن حرمة ضرب الوالدين بلا رفع اليد عن حرمة التأفّف لاستحالة انفكاك اللازم وهو الخصوصية المستتبعة للمفهوم عن الملزوم وهو نفس المفهوم ، والخصوصية في المقام هي كون موضوع الحرمة في المنطوق اضعف ايذاء ، وكون الموضوع في المفهوم الذي ثبت بلحن الخطاب وفحوى الخطاب اشد ايذاء وملاكا ، فرفع اليد عن تلك الخصوصية يكون بلا موجب إذ انها ليست بطرف للمعارضة مع العام وانما الطرف معه فيها هو المفهوم فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول كما لا يخفى.

ولكن يرد عليه ان التعارض بين المفهوم والعام في المقام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام ، أي منطوق الحديث المذكور والعام ، أي عموم الآية الشريفة ، فحرمة تزويج ذات البعل لازم عقلي لحرمة تزويج المعتدة لوجود المناط فيه على النحو الأكمل وهو اختلاط المياه الموجب لاختلاط الانساب.

ومن الطبيعي الواضح ان انتفاء الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم ، كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فلا يعقل انفكاك بينهما. فالخصوصية لا تنفك عن المنطوق ، فالمفهوم لا ينفك عن المنطوق لانه لازم الخصوصية والخصوصية لازمة

٤٦٦

للمنطوق ، فالمفهوم لازم للمنطوق ، لأن (لازم اللازم لازم).

فبالنتيجة : يكون العام معارضا لكليهما معا وهما معارضان له ، وكذا العكس ، أي ما يكون معارضا للازم فبطبيعة الحال يكون معارضا للملزوم بشرط ان يكون اللازم مساويا للملزوم في الوجود والتحقق الخارجي ولا يكون اعم منه أو أخص منه ، كالزوجية للاربعة والفردية للثلاثة مثلا ، هذا مثال اللازم الأعم.

وأما مثال اللازم الأخص فكالضحك بالفعل للانسان. واما مثال اللازم المساوي فكالضحك بالقوة للانسان. والمفهوم الموافق من قبيل الثالث.

وفي ضوء هذا فلو رفعنا اليد عن المفهوم بدون رفع اليد عن المنطوق للزم انفكاك اللازم المساوي عن الملزوم وهذا محال عقلا.

وفي ضوء هذا فالمدعى حق إذ لا ريب في تقدم الموافق على عموم العام لكون دلالته على الحكم اظهر من دلالة العام عليه من جهة كون دلالته عليه بالمطابقة ودلالة العام عليه بالتضمن ، ولا ريب ان الدلالة المطابقية اظهر من الدلالة التضمنية ، ولكن الدليل مردود وهذا واضح مما سبق تفصيله.

ولكن التحقيق في المقام عند المصنّف قدس‌سره يتوقف على بيان أمرين ونقطتين ، ولا يخفى ان تحقيقه يشتمل على نقطتين :

الأولى : أن يكون العام وما له من المفهوم في كلام واحد ، أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد لاتصال كلّ واحد منهما بالآخر ، فلا يخلوان حينئذ من أن تكون دلالة كلّ واحد منهما على مدلوله بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، أو بالوضع ، أو احدهما بالوضع والآخر بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، فتكون الصور أربعا الاثنان منها متوافقتان ، والآخريان متخالفتان ، فعلى الاولى والثانية لا ينعقد الظهور لشيء منهما.

اما على الأولى فلأن انعقاد الظهور في كلّ منهما في مدلوله يتوقف على تمامية مقدّمات الحكمة ، والمفروض انّها غير تامّة في المقام لأنّ كلّ واحد منهما

٤٦٧

مانع عن جريانها في الآخر.

واما على الثانية فلفرض ان كلّا منهما يصلح أن يكون قرينة على الآخر. وفي ضوء هذا ، يدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ومع هذا لا ينقص الظهور لشيء منهما فإذا يكون المرجع في مورد المعارضة هو الاصول العملية. ففي الأولى لا تتمّ مقدّمات الحكمة لوجود المانع عنها ، كما ذكر آنفا.

وفي الثانية لا ينقص الظهور لكلّ منهما من جهة مزاحمة ظهور كلّ واحد منهما بالآخر فيكون المرجع هو الأصول العملية مثلا فإذا قال المولى (اكرم العلماء) وقال أيضا بلا فصل طويل (ان عدل العلماء فاكرمهم) ودار الأمر في العالم الفاسق بين تخصيص العام بالمفهوم كي لا يجب اكرامه ؛ وبين رفع اليد عن المفهوم حتى يجب اكرامه فلا بد حينئذ من الرجوع إلى أصل البراءة ، إلّا إذا فرض كون أحدهما أظهر من الآخر فيؤخذ به من باب تقديم الأظهر على الظاهر. هذا كلّه إذا كان ما له العموم وما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين ليس بينهما فصل طويل.

واما على الثالثة فما كانت دلالته على مدلوله بالوضع يتقدّم على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة لأن ظهور ما كانت دلالته بالوضع في مدلوله لا يتوقف على شيء لفرض دلالته بالوضع ، دون ذاك لفرض دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة وهي غير جارية في المقام من جهة ان ظهور أحدهما في مدلوله بالوضع مانع عن جريانها.

وكذا حال الصورة الرابعة حرفا بحرف إذ هي عكس الثالثة ، لأنا إذا فرضنا دلالة العام على العموم بالوضع ودلالة المفهوم بالاطلاق ومقدّمات الحكمة فقد فرضنا الصورة الرابعة وبالعكس.

الثانية : ان يكونا في كلامين منفصلين أي يكون بينهما فصل طويل ، فتارة تكون دلالة كلّ منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، وأخرى تكون بالوضع ، وثالثة : تكون احدهما بالوضع والاخرى بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.

٤٦٨

فعلى الفرض الأول والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر من جهة استلزامه ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح إلّا أن يكون أحدهما أقوى ظهورا من الآخر ، بحيث يكون بنظر العرف قرينة على التصرف في الآخر ، فحينئذ يتقدّم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر وكان الجمع عرفيا ، كما إذا كان أحدهما خاصّا والآخر عامّا. وعلى الفرض الثالث بتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، وهذا واضح كما سبق.

فالنتيجة : إذا كانا في كلام واحد وكان أحدهما أظهر من الآخر فالأظهر مانع عن انعقاد الظهور في الآخر ـ واما إذا كانا في كلامين بحيث يعدّ أحدهما قرينة متصلة للآخر بنظر العرف ، وكان أحدهما أظهر من الآخر فالأظهر مانع عن استقرار الظهور في الآخر أيضا ، مع كون الأظهر مرتبطا بنظر العرف بالآخر.

ومن بيان تعارض المفهوم مع عموم العام إذا كانا في كلام واحد أو إذا كانا في كلامين بحيث لا يكون بينهما فصل طويل وكان أحدهما يصلح للقرينية على التصرف في الآخر ـ ظهر الحال في المورد الذي لا يكون فيه بنيهما ذاك الارتباط والاتصال ، بأن يكون بينهما فصل طويل بحيث لا يعدّ أحدهما بنظر العرف قرينة للآخر ، فلا بد حينئذ ان يعامل كلّ منهما معاملة المجمل فانّه وان انعقد لكلّ منهما ظهور مستقر حينئذ إلّا انّه بعد التعارض أي تعارض الظهورين ، يرجع إلى الأصول من البراءة أو الاستصحاب أو التخيير أو الاحتياط على حسب الموارد ، نظير تعارض العامين من وجه بشرط أن لا يكون أحدهما أظهر من الآخر لا إلى المرجحات ، كما سيأتي بيانه.

واما إذا كان أحدهما أظهر من الآخر فعليه المعوّل وهو قرينة على التصرف فيه وقدم الأظهر وكان الجمع بينهما عرفيا بما لا يخالف الظاهر الأظهر في العمل. وان خالفه بحسب الحكم مثلا إذا قال المولى (انا مجوّز لك اكرام النحاة ، وموجب عليك اكرام عدولهم بقولي «اكرم النحاة العدول») فمفهوم الوصف وهو (لا تكرم

٤٦٩

فساقهم) يعارض مع عموم اكرام النحاة ، فيحمل المفهوم على الكراهة لا على الحرمة ، كي لا ينافي العام فيكون النهي في (لا تكرم فساقهم) تنزيهيا.

ومن الواضح ان الكراهة لا تنافي الجواز ، وعلى طبيعة الحال يكون إكرام الفسّاق جائزا مكروها كما ان اكرام العدول واجب. وبعد اللتيا والتي لا بد من ذكر المثال للتوضيح وان كان المثال غير مسئول عن المحرّر المؤلف. وهو :

انّه ورد في الشريعة المقدّسة : الماء كلّه طاهر بذاته مطهّر لغيره. وورد أيضا : الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء. فمفهوم الثاني وهو (إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه شيء) يعارض عموم العام وهو (الماء كلّه طاهر) فهذا يخالف المنطوق في الايجاب والسلب ويأتي التفصيل السابق هنا والخلاف بين الأعلام قدس‌سرهم.

الاستثناء المتعقب لجمل متعاطفة

قوله : فصل : الاستثناء المتعقب لجمل متعاطفة هل الظاهر رجوعه إلى الكل ...

فالاستثناء إذا تعقب جملا متعاطفة فهل الظاهر رجوعه إلى الجميع أو خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في واحد من الكل والاخيرة ، بل لا بد في تعيين المراد منه إلى قرينة لفرض الاجمال فيه؟ فالأقوال المهمة في المقام ثلاثة :

الأول : رجوعه الى الجميع قال به الشافعي.

الثاني : رجوعه إلى خصوص الأخيرة قال به أبو حنيفة.

الثالث : القول بالوقف بمعنى لا ندري ان الاستثناء حقيقة في أيّ الأمرين :

ولا بد في المقام من توضيح أمور :

الأول : لا فرق في هذا الحكم بين الاستثناء وبين غيره من أنواع المخصصات كالوصف والشرط والغاية والحال والتمييز.

الثاني : ان يصحّ عوده إلى الجميع عقلا وعرفا.

٤٧٠

الثالث : ان تكون الجمل متعاطفة سواء كان الحكم متعددا نحو (اكرم العلماء واعط الفقراء وجالس الامراء إلّا الفسّاق منهم) فتعدد الحكم انما يكون باعتبار تعدد متعلقه وهو (الاكرام والاعطاء والمجالسة).

ام كان واحدا نحو (اكرم العلماء واكرم الفقراء واكرم الشعراء إلّا الفسّاق منهم) بخلاف نحو (اكرم العلماء واعط الفقراء وجالس الامراء إلّا الجهال منهم). وبخلاف مثل الجمل غير المتعاطفة إذ لا ريب حينئذ برجوعه إلى الجميع لعدم الفصل بينها بعاطف وكأنها في حكم الجملة الواحد.

الرابع : ان لا يكون بين الجمل والاستثناء فصل معتد به ، فإذا كان الأمر كذلك فيكون مخصصا منفصلا ، وهو موجب لسقوط الجميع عن الحجية للعلم الاجمالي بتخصيص بعضها اما الجميع واما خصوص الأخيرة.

فاذا تحققت هذه الامور الأربعة فالظاهر انّه لا خلاف ولا اشكال في رجوعه إلى الأخيرة سواء رجع إلى الكلّ أم رجع إلى الأخيرة لأن رجوعه إلى غير الأخيرة بلا قرينة معيّنة ان قلنا باشتراك الاستثناء بين رجوعه إلى الكلّ وبين رجوعه إلى الأخيرة وبلا قرينة مفهمة ان قلنا باشتراكه معنويا خارج عن طريقة أهل المحاورة كما هو معلوم عنده.

وكذا لا اشكال في صحة رجوعه الى الكل بأن يشتمل على المستثنى ، ك (الفاسق) مثلا ، إذ يشتمل كلّ واحد من العلماء والامراء والفقراء عليه في المثال المذكور.

وان كان المترائي من كلام صاحب المعالم رحمه‌الله حيث مهّد مقدمة طويلة لصحّة رجوعه إلى الكل ان رجوعه إلى الكل محل اشكال وتأمل.

فبالنتيجة : قال بالاشتراك المعنوي إذ أداة الاستثناء وضعت للاخراج الكلي فالاخراج عن الجميع أحد مصاديقه ، فإذا استعمل فيه فقد استعمل في أحد مصاديقه وهو جائز كاستعمال الانسان في زيد مثلا.

٤٧١

اما المصنّف قدس‌سره فقد علّل صحّة رجوعه إلى الكلّ بقوله لأن تعدد المستثنى منه مثل تعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الاداة بحسب المعنى ؛ سواء كان الموضوع له في الحروف عاما كليّا أم كان خاصّا جزئيا.

وضرورة كون المستعمل فيه الاداة في المورد الذي كان المستثنى منه ، فيه متعددا هو المستعمل فيه في المورد الذي كان المستثنى منه فيه واحدا كما لا فرق في ناحية الاداة بحسب المعنى بين تعدد المستثنى وتعدد المخرج عنه والمستثنى منه وهو لا يوجب تعدد المعنى الذي استعملت فيه الاداة ، إذ معناها يكون واحدا كليّا ووحدانيا ومثال وحدتهما وتعددهما واختلافهما وحدة وتعددا واضح غاية الوضوح. ولكن لا بأس التعرض لها أي التعرض للأمثلة.

اما مثال الأول فنحو (جاءني القوم إلّا زيدا). واما مثال الثاني فنحو (اكرم العلماء وبني تميم وبني أسد إلّا زيدا إلّا عمروا إلّا بكرا) إذا اشتمل كلّ واحد منها على كل واحد منها ، أي اشتمل كلّ واحد من المستثنيات منها على كلّ واحد من المستثنيات. واما مثال الثالث فنحو (جاءني القوم إلّا زيدا إلّا عمروا إلّا بكرا) وهذا مثال تعدد المستثنى. واما مثال تعدد المستثنى منه فنحو (اكرم العلماء والفقراء والامراء إلّا الفسّاق منهم) أو فنحو (اكرم الفقهاء واضف الشعراء واحسن إلى الطلاب إلّا زيدا) ، إذا كان المسمى بزيد مشتركا في جميعهم.

فتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد المعنى الذي استعملت فيه أداة الاخراج أي لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج تعدد المفهوم ، بل مفهوم الاداة واحد. وهو اخراج المستثنى عن حكم المستثنى منه حقيقة إذا كان الاستثناء متصلا نحو (جاءني القوم إلّا زيدا) أو اخراجه عنه حكما لا حقيقة إذا كان منقطعا نحو (جاءني القوم إلّا حمارا).

فإذا علم ان مفهوم الاداة لا يتفاوت أصلا سواء اتحد المستثنى منه والمستثنى معا أم كانا متعددين أم كانا مختلفين ظهر لك عدم ظهور أداة الاستثناء في الرجوع

٤٧٢

إلى الكل أو خصوص الأخيرة ، لأن لفظ الأداة قابل لمعنيين أحدهما هو الرجوع إلى الكل. وآخرهما هو الرجوع إلى خصوص الأخيرة ـ لم يكن له ظهور في أحدهما بلا قرينة. والمفروض في المقام عدمها.

نعم يكون رجوعها إلى الأخيرة متيقنا على كلّ تقدير أي سواء كانت الأداة راجعة إلى الكلّ أم كانت راجعة إلى الأخيرة ظاهرة في العموم وكذا الجميع ليس بظاهر فيه لاقتران كلّ واحد منهما بالاستثناء الذي لا يكون معه ظاهرا في العموم.

وعليه فلا بد في مورد الاستثناء ، كالفاسق من العلماء والامراء في غير الأخيرة من الاولى والوسطى من الرجوع إلى أصالة البراءة ان لم يكن واجب الاكرام وواجب المجالسة قبل ورود هذا الدليل وإلّا فالمحكم هو الاستصحاب لتمامية أركانه. كما لا يخفى.

فانقدح انه لا تجري اصالة العموم في الاولى والوسطى إذ لا ينعقد لهما ظهور في العموم من جهة صلاحية أداة الاستثناء للقرينة على التخصيص ، فتكونان مجملتين لكون الاستثناء موجبا للاجمال ، اللهم إلّا أن يقال ان اصالة الحقيقة حجّة تعبدا حتى في المورد الذي لا ينعقد الظهور للكلام فيه ، فعلى هذا تجري اصالة العموم فيهما بشرط أن تكون دلالتهما بالعموم بالوضع كما في مثل (العلماء والامراء والفقراء).

واما إذا كانت الدلالة على العموم بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما في مثل (لا تضرب أحدا ولا تكرم كافرا ولا تضف ظالما) فالنكرة إذا وقعت في سياق النفي أو النهي مفيدة للعموم ببركة مقدّمات الحكمة ، فلا تجري اصالة العموم في غير الأخيرة أيضا ، إذ صلاحية الاستثناء للقرينية موجبة لانتفاء إحدى مقدّمات الاطلاق أعني أن لا تكون القرينة الدالة على التعيين في البين فالاستثناء كما يصلح للرجوع إلى خصوص الأخيرة ، فكذا يصلح للرجوع إلى الجميع.

٤٧٣

قوله : فتأمل ...

وهو اشارة إلى ان من جملة مقدّمات الحكمة ان لا يكون قدر متيقن في مقام التخاطب ولكن الاستثناء يوجب كون الخاص متيقنا في مقام التخاطب (وهو خصوص عدولهم) فالفساق منهم مشكوكة من حيث الإرادة. وفي ضوء هذا فلا تتمّ المقدّمات بتمامها في هذا المقام. نعم لو لم تعتبر في الاطلاق هذه المقدمة لثبت الاطلاق للأولى والوسطى ووجب العمل به فيهما.

تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد

قوله : فصل : الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص ولا خلاف بين الطائفة الامامية في جواز تخصيص عموم الكتاب المجيد بخبر الواحد ، والمخالف في المسألة هم العامة ...

فالتحقيق ما ذهب إليه علماؤنا قدس‌سرهما من جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد الذي قام دليل على اعتباره بخصوصه ، لا ما ثبت اعتباره بدليل الانسداد كما جاز تخصيص عموم الكتاب بخاص الكتاب وبالخبر المتواتر وبخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعية الموجبة للقطع بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام بلا ارتياب وبلا خلاف.

وقد استدل المصنف قدس‌سره على اثبات مدعاه بسيرة الاصحاب والتابعين على العمل بأخبار الآحاد التي ليست محفوفة بالقرائن القطعية إلى زمان الأئمة المعصومين عليهم‌السلام في قبال عمومات الكتاب العزيز ، فهذه السيرة حجّة لاجتماع الشرائط فيها. وهي ثلاثة :

الأول : ان تكون السيرة من المتدينين.

الثاني : أن تكون متصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : ان لا يردع المعصوم عليه‌السلام المؤمنين عنها.

هذا مضافا إلى انّه قد ثبتت حجية خبر الواحد شرعا بدليل قطعي ، وهو سيرة

٤٧٤

العقلاء على العمل بأخبار الآحاد التي اطمأنوا بصدورها ، أو آية النبأ ، إذ تدلّ على عدم وجوب التبين والتفحص عند مجيء العادل بخبر ، وهذا يدل على تصديقه وقبوله والعمل على طبقه.

فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب المجيد إلّا رفع اليد عنه بالقطع لفرض انا نقطع بحجية خبر الواحد ، فالتنافي انما يكون بين عموم الكتاب وسند الخبر لكون الأول قطعي الصدور والثاني ظني الصدور ؛ ولكن ليس التنافي بين عموم الكتاب المقدس. وبين دلالته لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف ، حيث انّها تكون قرينة عند أهل العرف على التصرف فيه ، ومن الواضح انّه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذي القرينة.

مثلا ، لا تنافي بين ظهور صيغة الأمر في الوجوب وبين ظهور لا بأس بالترك في الاستحباب إذ ظهور كلمة لا بأس قرينة على التصرف فيها بحملها على الاستحباب ، فكذا في المقام ، لأن خبر الواحد قرينة على التصرف فيه بمقتضى فهم أهل العرف بحمله على الخاص الذي هو مؤدّى خبر الواحد.

وعلى هذا ، فإذا أثبتنا اعتبار سنده شرعا بدليل ، فلا محالة يكون مخصصا لعمومه ، وليس رجوع هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب المنزل ، كي يقال انّه لا يمكن لأنّه لا تنافي بين سند الكتاب العزيز ، وبين خبر الواحد لا سندا ولا دلالة ، بل التنافي بين دلالته على العموم وبين سند الخبر ، ولكن أدلة اعتبار السند حاكمة على دلالة عموم الكتاب المقدس ، حيث ان الخبر بعد اعتبار سنده مبين للمراد من الكتاب العزيز في الواقع فيكون الخبر مقدّما على عموم الكتاب وتضييقا لموضوعه من باب تقدّم الحاكم على الدليل المحكوم.

فإن قيل : انا نحتمل أن تكون سيرة أصحاب الأئمة عليهم‌السلام على العمل باخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب المبين بسبب القرينة القطعية المحفوفة بها ، توجب القطع بصدورها عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ولكنها قد خفيت علنيا. وعليه فلا

٤٧٥

يمكن لنا العمل بها في قباله.

قلنا : هذا واضح البطلان إذ لو كان عملهم بها لأجل القرينة القطعية لوصل هذا إلينا يدا بيد لكثرة الابتلاء بالعمل بها لأن كثيرا من الأحكام الشرعية قد بيّنت بسبب اخبار الآحاد ، ولكن لم يصل هذا إلينا قطعا فينتج ان عملهم بها ليس لأجل احتفافها بالقرينة المذكورة ، بل انّما يكون لأجل حجّيتها عندهم ، كما هو معلوم من سيرة الأصحاب والمتدينين ، ومن بناء العقلاء من حيث هم عقلاء.

واستدل المصنف قدس‌سره أيضا بأنّه لو لم يجز تخصيص عموم الكتاب المبين بخبر الواحد الذي هو غير محفوف بالقرينة القطعية للزم الغاء الخبر بالمرة ، أو للزم حكم الالغاء في الخبر.

اما الأول فلأنّ الخبر الذي لا يكون مخالفا لعموم الكتاب معدوم ، فلو لم يجز العمل به للزم الغاؤه بالكلية.

واما الثاني فلأن خبر الواحد الذي ليس مخالفا له نادر ، والنادر كالمعدوم والمعدوم ليس بشيء وهما كما ترى. ولا يخفى ان الثاني يلزم على تقدير عدم جواز العمل به لو سلمنا ندرة الخبر المذكور وإلّا يلزم الأول فقط) وهو الغائه بالمرة.

وفي ضوء هذا فقد اتضح ان المصنّف قدس‌سره استدلّ لاثبات جواز تخصيص عمومات الكتاب المجيد بالاخبار التي ليست بمقرونة بالقرائن القطعية التي توجب القطع بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام بوجهين :

الأول هو السيرة المستمرة إلى زمن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

الثاني : لزوم الغائها بالمرّة وكما سبق هذا.

ولكن بقي الكلام في عدّة من الشبهات من قبل المانعين كالشيخ والسيّد قدس‌سرهما ومن تبعهما من العامّة.

منها : ان الكتاب قطعي السند ، والخبر ظنّي السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعي بالظني ؛ وفيه ان القطعي انّما هو سند الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة

٤٧٦

والمفروض ان الخبر لا ينافي سنده أصلا واما دلالته على العموم فلا تكون قطيعة لأنّا نحتمل عدم إرادة الله تعالى العموم من العام الكتابي.

ولذا اشتهر ان الكتاب قطعي الصدور وظنّي الدلالة ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عن عموم الكتاب بالخبر من قبيل رفع اليد عن القطعي بالظنّي فلو كانت دلالة الكتاب قطعية لما جاز رفع اليد عن دلالة الكتاب بالخبر ، بل لا بد من طرحه في مقابلها. وعلى الجملة فحجيّة اصالة الظهور انّما تكون ببناء العقلاء.

ومن المعلوم ان بناءهم ثابت عليها إذا لم تقم قرينة على خلافها ولكن المفروض ان خبر الواحد بعد اعتباره وحجّيته يصلح أن يكون قرينة على الخلاف قطعا من دون فرق بين أن يكون الصالح للقرينية على الخلاف مقطوع الصدور ، كالكتاب والمتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية ، أو مقطوع الاعتبار كاخبار الآحاد التي ليست مقرونة بالقرينة المذكورة. ومن الطبيعي ان عمومات الكتاب لا تمتاز عن بقية العمومات من هذه الناحية أصلا ، بل حالها حالها في جواز التخصيص بها.

فالنتيجة : ان رفع اليد عن عموم الكتاب بخبر الواحد ليس من قبيل رفع اليد عن القطعي بالظني ، بل من قبيل رفع اليد عن الظني بالظني المعتبر.

فالنتيجة : كون العام الكتابي قطعيا صدورا وكون خبر الواحد ظنيّا سندا لا يمنع عن التصرف في دلالة العام الكتابي حال كونه غير القطعية من حيث الدلالة قطعا هذا قيد لا يمنع المذكور.

وإلّا لما جاز تخصيص المتواتر بخبر الواحد أيضا مع انّه جائز بالاجماع جزما والسرّ في جواز تخصيصه به ان التعارض بينهما حقيقة يقع بين اصالة العموم وبين دليل سند الخبر مع ان الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية على التصرف في اصالة العموم ولا يقع التعارض بين اصالة العموم وبين دلالة الخبر لأن خبر الواحد من حيث الدلالة خاص ، والخاص مقدّم على العام بلا ارتياب من باب تقديم النص على الظاهر.

٤٧٧

بخلاف أصالة العموم فانّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتبار الخبر إذ اعتبار أصالة العموم عند العقلاء موقوف على عدم قرينة على خلافها ، ولكن خبر الواحد صالح للقرينية بعد كونه حجة معتبرة عندهم. كما لا يخفى.

ومنها انه لا دليل على اعتبار خبر الواحد إلّا الاجماع وبما انّه دليل لبّى لا لسان له ، فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن منه ولا ريب ان القدر المتيقن هو ما إذا لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو اطلاقه ، وإلّا فلا يقين بتحقق الاجماع على اعتباره في هذا الحال ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه. ويرد عليه ان عمدة الدليل على اعتبار الخبر هو السيرة القطعية من العقلاء لا الاجماع بما هو الاجماع كي يقال بأن الاجماع متحقق على اعتبار الخبر إذا لم توجد دلالة على خلاف الخبر ، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل بالخبر.

كيف ينحصر الدليل على اعتباره بالاجماع وقد عرفت في طي دليلنا على اعتباره وحجّيته ان بناء العقلاء على العموم بالعموم أو الاطلاق انّما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلاف العموم حيث انه يكون بنظرهم قرينة على التصرف في العموم الكتابي أو إطلاقه ويشهد لذلك ان سيرة الأصحاب والمتدينين مستمرة من زمن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام إلى زماننا هذا على العمل بالأخبار في قبال عمومات الكتاب المقدس.

ومنها الأخبار الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله تعالى وان ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو انها مما لم يقل بها الامام عليه‌السلام فهي كثيرة جدّا وصريحة الدلالة على طرح المخالف للقرآن الكريم.

والجواب عنه أولا انّه لا محيص عن عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة البدوية نحو مخالفة الخاص للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما.

والنكتة فيه ان هذه المخالفة لا تعدّ مخالفة عند أهل العرف حيث انّهم يرون الخاص قرينة على التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق.

٤٧٨

ولذا يحملون العام على الخاص ويقولون ان المراد من العام هو الخاص والمراد من المطلق هو المقيد من جهة حمل المطلق على المقيد إذ لا منافاة بين القرينة وذيها.

وعليه فالمراد من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو المباينة للكتاب المجيد أو بنحو العموم والخصوص من وجه في مادة افتراق كلّ واحد منهما عن الآخر فهذه المخالفة عند أهل العرف تعدّ مخالفة حقيقة وتوجب تحيّرهم في مقام العمل ويدلّ على ذلك المطلب صدور الاخبار المخالفة لعموم الكتاب المقدس أو اطلاقه من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الأطهار عليهم‌السلام بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم عليهم‌السلام لعموماته ومطلقاته ، فلو كان مثل هذه المخالفة مشمولا لتلك الروايات لما أمكن صدرها عنهم عليهم‌السلام.

وثانيا : يحتمل احتمالا قويّا ان يكون المراد بالمخالفة في تلك الأخبار مخالفتها للكتاب الكريم في الحكم الواقعي الأوّلي وليس المراد مخالفتها له في الحكم الظاهري فالاخبار التي تخالف ظاهر الكتاب يحتمل ان تكون موافقة للحكم الواقعي ومع هذا الاحتمال لا يحرز كونها مخالفة للحكم الواقعي كي تشملها الاخبار التي تكون آمرة بطرح ما خالف الكتاب فلا يصح التمسك بها لطرحها لكون هذا التمسك تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، وهو لا يجوز عند أهل التحقيق.

فالمراد من المخالفة للكتاب ان الأئمة الأطهار عليهم‌السلام لا يقولون بغير الحكم الذي هو قول الله تبارك وتعالى واقعا وان كان قولهم عليهم‌السلام على خلاف قوله تعالى ظاهرا ، فمخالفة قولهم ظاهرا لأجل كون قولهم عليهم‌السلام شارحا لمراده الواقعي من كلامه تبارك وتعالى.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى ان هذا الاحتمال وجيه ولكن ليس منه أثر ولا عين في الأخبار المذكورة ، فهذا الاحتمال ساقط عن درجة الاعتبار.

٤٧٩

ومنها لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به أيضا حيث انّه قسم من التخصيص إذ النسخ تخصيص في الأزمان فلا فرق بينهما إلّا في ان التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الافراد العرضية وذاك تخصيص بحسب الافراد الطولية فالمانع قد ادعى الملازمة بين جواز التخصيص والنسخ وقال بأنه لو جاز التخصيص لجاز النسخ اما بيان الملازمة فان النسخ تخصيص في الازمان والتخصيص المصطلح تخصيص في الافراد ولكن اللازم باطل بإجماع الخاصّة والعامّة فالملزوم مثله.

وأجاب المصنّف قدس‌سره عنه بجوابين :

الأول : ان مقتضي القاعدة عدم الفرق بين التخصيص والنسخ إذ كلاهما تخصيص إلّا ان اجماع الخاصة والعامة قائم على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، بخلاف تخصيص العام الكتابي به فانه خلافي ، فالاجماع المذكور موجب للفرق بينهما وإلّا فلا محيص عن الجواز فيهما ، والنكتة فيه هي الحرص على صون القرآن الكريم.

الثاني : ان قياس النسخ بالتخصيص مع الفارق حيث ان الدواعي لضبط النواسخ وافرة بحيث تعرض لضبطها معظم الاصحاب والمتدينين رضي الله تعالى عنهم.

فلذلك قلّ الخلاف بين المسلمين في تعيين موارد النسخ فاذا يثبت بالتواتر فلا يثبت بخبر الواحد إذ لو كان النسخ موجودا لنقل بالتواتر لا بخبر الواحد ، بخلاف التخصيص فإن دواعي ضبطه ليست بوافرة فاذا يثبت التخصيص بخبر الواحد الذي يحصل الوثوق بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام.

فالنتيجة : ان هذا الاجماع ليس اجماعا تعبديا ، بل هو من إحدى صغريات الكبرى المسلّمة وهي ان الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان موجود البان واشتهر ولكنه لم يشتهر فإذا يكشف عدم وجود ذاك الشيء والنسخ

٤٨٠