التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر تنزيل القرآن ألا يجحدوا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خوفا من أن يحل بهم ما حل بأسلافهم.

التفسير والبيان :

واذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة ، فرفضوا حتى رفع الله فوقهم الطور تخويفا وإرهابا ، وأمرهم أن يأخذوا بما فيها بجد ونشاط ومواظبة على العمل ، واذكروا ما في التوراة واعملوا بما فيها من الأحكام ، وتدبروا معانيها حتى تكونوا من المتقين ، لأن العلم يرشد إلى العمل ، والعمل يرسخ العلم في النفس ، ويطبع فيها سجية المراقبة لله ، وبها تصير تقية تتقي المعاصي ، نقية من الرذائل ، مرضية عند ربها ، كما قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه ٢٠ / ١٣٢].

فقبلتم إلى حين ، ثم أعرضتم بعد ذلك عن الطاعة ، فلو لا رحمة الله ولطفه بكم وإمهاله إياكم ، إذ لم يعجل عقوبتكم بما تستحقون ، لكنتم من الهالكين الخاسرين سعادتي الدنيا والآخرة.

ولقد علمتم شأن آبائكم الذين تجاوزوا الحد بصيد السمك يوم السبت ، وكان محرما فيه لقصره على العبادة ، فإن موسى عليه‌السلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم ، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم ، وأباح لهم العمل في بقية أيام الأسبوع.

وكان جزاؤهم أنهم أصبحوا في مرتبة الحيوان ، يعيشون من دون عقل ووعي وتفكير ، ويتخبطون في أهوائهم ، كالقردة في نزواتها ، والخنازير في شهواتها ، يأتون المنكرات علانية ، بعيدين عن الفضائل الإنسانية ، حتى احتقرهم الناس ، ولم يروهم أهلا للمعاشرة والمعاملة.

فمعنى صيرورتهم قردة خاسئين : تصييرهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين.

١٨١

قال مجاهد : لم يمسخوا قردة ، ولم تمسخ صورهم ، وإنما مسخت قلوبهم ، فلا تقبل وعظا ، ولا تعي زجرا. وهو مثل ضربه الله لهم ، كما مثّلوا بالحمار يحمل أسفارا ، في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة ٦٢ / ٥](١).

ورأى جمهور المفسّرين : أن صورهم مسخت بمعصيتهم ، فصارت صور القردة ، قال قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم.

والممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. وكذلك يفعل الله بمن شاء كما يشاء ، ويحوله كما يشاء (٢).

وللآية نظير آخر ، هو قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي الشيطان [المائدة ٥ / ٦٠].

قال ابن كثير : والصحيح أن المسخ معنوي صوري ، والله تعالى أعلم (٣).

وعلى أي حال فإن الله تعالى عاقب بني إسرائيل بعقوبة المسخ ، أيا كان نوعه وهو عقاب لكل فاسق خارج عن طاعة الله ، وعبرة لينكل من يعلم بها ، أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله ، وهو أيضا عظة للمتقين ، لأن المتقي الحقيقي يتعظ بها ويبتعد عن حدود الله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) [البقرة ٢ / ١٨٧] فأولى بكم أيها اليهود المعاصرون أن تتعظوا بما حل بأسلافكم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت هذه الآيات على أمور ثلاثة : رفع الطور ، والمسخ ، وعظة العصاة.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٢٦٣

(٢) المصدر السابق : ١ / ٢٦١ ، تفسير القرطبي : ١ / ٤٤٠ ـ ٤٤٣

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ١٠٦ ـ ١٠٧

١٨٢

المخالفين أوامر الله ونواهيه.

أما رفع جبل الطور فوق اليهود كالمظلة : فكان إنذارا وإرهابا وتخويفا ، وهذه الآية تفسر معنى قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف ٧ / ١٧١] قال أبو عبيدة : المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه.

واختلف في الطور : فقيل عن ابن عباس : الطور : اسم للجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه‌السلام ، وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره. وقال مجاهد وقتادة : أي جبل كان.

وسبب رفع الطور : أن موسى عليه‌السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة ، قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا. فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ (١) في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظّلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق (٢). وكان سجودهم على شقّ ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا ، فلما رحمهم‌الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله ورحم بها عباده ، فجعلوا سجودهم على شق واحد.

قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم ، لا أنهم آمنوا كرها ، وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.

__________________

(١) الفرسخ : ٣ أميال أو ٥٥٤٤ م أو ١٢٠٠٠ خطوة.

(٢) تفسير الطبري : ١ / ٢٥٧

١٨٣

وروي عن مجاهد سبب آخر لرفع الطور قال : أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ، ويقولوا : حطة ، وطوطئ لهم الباب ليسجدوا ، فلم يسجدوا ، ودخلوا على أدبارهم ، وقالوا : حنطة ، فنتق فوقهم الجبل (١).

وأما المسخ : فرأى الجمهور أن الله تعالى مسخ المعتدين من اليهود بصيد السمك يوم السبت ، وكان العمل فيه محرما من قبل موسى عليه‌السلام ، قال قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا ـ وهي الفرقة التي نهت اليهود عن المخالفة وجاهرت بالنهي واعتزلت ـ وهلك سائرهم.

وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية : أنه إنما مسخت قلوبهم فقط ، وردّت أفهامهم كأفهام القردة.

وأما عظة المخالفين : فإن الله تعالى جعل عقوبة المسخ للعصاة الذين اعتدوا في السبت وصادوا السمك فيه بحيلة ، وقد ذكرها الله تعالى في سورة [الأعراف ٧ / ١٦٣] وهي قوله سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي إنهم اتخذوا حواجز أو أحواضا أمام مدّ مياه البحر ، فإذا رجعت المياه بالجزر ، بقيت الأسماك محجوزة في الأحواض ، فيأتون في صبيحة يوم الأحد ويأخذونها.

كذلك كانت عقوبة اليهود الذين امتنعوا من العمل بالتوراة ، فنسوها وضيعوها ، ولم يتدبروها ولم يحفظوا أوامرها ووعيدها ، كانت عقوبتهم رفع جبل الطور فوقهم كالمظلة.

وهذا يدل على أن المقصود بالكتب السماوية العمل بمقتضاها ، لا تلاوتها باللسان وترتيلها ، فإن ذلك نبذ لها.

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.

١٨٤

وهذا يعني أن مجرد التغني بألفاظ القرآن ، دون الاعتبار بعظاته ، والعمل بأحكامه ، لا يفيد شيئا. روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من شرّ الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن ، لا يرعوي إلى شيء منه» فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المقصود بالكتب الإلهية العمل بها ، كما بينا.

قصة ذبح البقرة

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

١٨٥

الإعراب :

(لا فارِضٌ) إما خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : لاهي فارض ، أو صفة بقرة. و (بِكْرٌ) عطف عليه في الوجهين ، وهذان الوجهان في قوله : (عَوانٌ) وقال : (بَيْنَ ذلِكَ) ولم يقل : بين ذينك ، لأنه أراد بين هذا المذكور. (ما تُؤْمَرُونَ) أي تؤمرون به ، مثل (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر ١٥ / ٩٤] أي بالذي تؤمر به.

(ما لَوْنُها) ما : مبتدأ و «لونها» خبره ، ويجوز العكس. (صَفْراءُ) صفة لبقرة (لَوْنُها) مرفوع بفاقع ، ارتفاع الفاعل بفعله. ويجوز كونه مستأنفا مبتدأ ، وخبره : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) وجاز جعل الخبر (تَسُرُّ) بلفظ التأنيث ، إما لأن اللون بمعنى الصفرة أي صفرتها تسر ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم ، وإما لأنه أضيف اللون إلى مؤنث ، والمضاف يكتسب من المضاف إليه التأنيث ، كقراءة «تلتقطه بعض السيّارة» وقد قالوا : ذهبت بعض أصابعه.

(لا ذَلُولٌ) إما صفة بقرة ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : لا هي ذلول ، وهذان الوجهان في قوله : (مُسَلَّمَةٌ) وكذلك في قوله : (لا شِيَةَ فِيها) إلا أنه يكون خبرا ثانيا ل «هي» المقدرة ، والهاء في «شية» عوض عن الواو ، وأصله : وشي.

(الْآنَ) ظرف زمان للوقت الحاضر ، وهو مبني.

(كَذلِكَ) الكاف الأولى كاف تشبيه في موضع نصب ، لأنها صفة مصدر محذوف ، وتقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك.

(بِغافِلٍ) في موضع نصب على لغة الحجازيين ، وفي موضع رفع على لغة تميم.

البلاغة :

(فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) فيه إيجاز بالحذف ، والتقدير : فطلبوا البقرة الجامعة للأوصاف المطلوبة ووجدوها ، فلما اهتدوا إليها ذبحوها.

(وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) جملة اعتراضية بين قوله : (فَادَّارَأْتُمْ) وقوله (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ). وفائدة الاعتراض إشعار المخاطبين بأن الحقيقة ستنجلي حتما.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) استعارة تصريحية ، وصف القلوب بالصلابة والغلظ ، وأريد منه : نبوّها

١٨٦

عن الاعتبار وعدم الاتعاظ (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) تشبيه مرسل مجمل ، لأن أداة الشبه مذكورة ، ووجه الشبه محذوف.

(لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) مجاز مرسل أي ماء الأنهار من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال فيه.

المفردات اللغوية :

(هُزُواً) : مهزوءا بنا أو سخرية ، حيث تطلب منا ذبح بقرة. (أَعُوذُ) أمتنع (الْجاهِلِينَ) المستهزئين في موضع الجد.

(لا فارِضٌ) مسنة. (وَلا بِكْرٌ) فتية صغيرة (عَوانٌ) نصف بين الصغيرة والكبيرة (بَيْنَ ذلِكَ) المذكور من السنين (ما تُؤْمَرُونَ) به من ذبحها.

(فاقِعٌ لَوْنُها) شديدة الصفرة (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) إليها بحسنها ، أي تعجبهم.

(ما هِيَ) أسائمة أم عاملة (إِنَّ الْبَقَرَ) جنسه المنعوت بما ذكر (تَشابَهَ عَلَيْنا) لكثرته ، فلم نهتد إلى المقصود (إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إليها ، ورد في الحديث النبوي : «لو لم يستثنوا ـ أي يقولوا : إن شاء الله ـ لما بينت لهم آخر الأبد».

(لا ذَلُولٌ) ليست مذللة بالعمل. (تُثِيرُ الْأَرْضَ) تقلبها للزراعة أي تحرث الأرض والجملة صفة ذلول ، داخلة في النفي (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) الأرض المهيأة للزراعة (مُسَلَّمَةٌ) سليمة من العيوب وآثار العمل (لا شِيَةَ) لا لون غير لونها ، ولا لمعة فيها من لون آخر ، سوى الصفرة ، فهي صفراء كلها ، حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر : وشى وشيا : إذا خلط بلونه لونا آخر. (قالُوا : الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) نطقت بالبيان التام ، فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار بأمه ، فاشتروها بملء جلدها ذهبا (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها ، ورد في الحديث النبوي : «لو ذبحوا أي بقرة كانت ، لأجزأتهم ، ولكن شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم».

(فَادَّارَأْتُمْ) تدارأتم بمعنى تخاصمتم وتدافعتم (وَاللهُ مُخْرِجٌ) مظهر (تَكْتُمُونَ) من أمرها.

(اضْرِبُوهُ) القتيل. (بِبَعْضِها) فضرب بلسانها أو عجب ذنبها ، فحيي وقال : قتلني فلان وفلان وكانا ابني عمه ، فحرما الميراث وقتلا. (تَعْقِلُونَ) تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة ، قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.

١٨٧

المناسبة :

ترتبط هذه الآيات بما قبلها التي ذكر فيها بعض جرائم اليهود ، من نقض الميثاق ، والاعتداء في السبت ، والتمرد في تطبيق التوراة ، فهي استمرار في تعداد مساوئهم ، وهي مخالفتهم الأنبياء ومعاندة الرسل عليهم‌السلام ، والتلكؤ في امتثال أوامر الله تعالى.

سبب القصة :

روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال : «كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له ، وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ، ثم احتمله ليلا ، فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم ، حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض.

فقال ذوو الرأي منهم والنّهى : علام يقتل بعضكم بعضا ، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه‌السلام ، فذكروا ذلك له ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ..) قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم شددوا ، فشدد عليهم ، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها.

فقال : والله ، لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبا ، فذبحوها ، فضربوه ببعضها ، فقام ، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا ـ لابن أخيه ، ثم مال ميتا ، فلم يعط من ماله شيئا ، فلم يورث قاتل بعد (١) ، وفي رواية : «فأخذوا الغلام فقتلوه».

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ١٠٨

١٨٨

التفسير والبيان :

واذكروا أيها اليهود وقت قول موسى لقومه أسلافكم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أي بقرة كانت ، فلم يمتثلوا ، وشددوا ، فشدد الله عليهم. وقالوا : أتهزأ بنا يا موسى ، نسألك عن أمر القتل ، فتأمرنا بذبح بقرة! قال : ألتجئ إلى الله من الهزء والسخرية بالناس في موضع الجد ، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل.

فلما رأوه جادا ، سألوه عن صفاتها المميزة لها ، وأكثروا من الأسئلة ، فسألوه عن سنها ، فقال لهم : إنها ليست صغيرة ولا كبيرة ، بل وسط بين الأمرين ، فامتثلوا الأمر ، ولا تشدّدوا فيشدد الله عليكم.

ولكنهم تعنتوا ، فسألوه عن لونها ، فقال : إنها صفراء شديدة الصفرة تسر الناظر إليها ، فلم يكتفوا بذلك ، بل طالبوا بأوصاف مميزة أخرى ، وقالوا معتذرين : إن البقر كثير متشابه علينا ، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى المطلوب ، روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لم يستثنوا ويقولوا : إن شاء الله ، لما تبينت لهم آخر الأبد».

قال : إن الله يقول : إنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسقي ، وهي سالمة من العيوب ، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة.

قالوا : إنك الآن جئت بإظهار الحقيقة الواضحة. فطلبوها ، فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بار بأمه ، فساوموه ، فتغالى ، حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا. وما كان امتثالهم قريب الحصول. قال ابن عباس : «لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ، ولكن شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم».

واذكروا أيها اليهود المعاصرون حين قتلتم نفسا ، وهذا من قبيل التأخير لفظا والتقديم معنى للتشويق في معرفة سبب ذبح البقرة ، وأسند القتل إلى

١٨٩

المعاصرين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم من سلالة السابقين ، وهم معتزون بنسبهم ، راضون بفعلهم. وكذلك أسند القتل إلى الأمة والقاتل واحد ، لأن الأمة متضامنة ، وهي في مجموعها كالشخص الواحد ، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد ، وفيه توبيخ وتقريع للغابرين والحاضرين ، والجماعة والأفراد.

واذكروا حادثة القتل في تاريخكم ، وتخاصمكم وتدافعكم في شأنه ، فكل واحد يدرأ القتل عن نفسه ويدعي البراءة ويتهم سواه ، والله أنكر فعلهم وكتمانهم ، وأنتم اليوم تكتمون ما عندكم من أوصاف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله مظهر لا محالة ما تكتمونه وتسترونه من أمر القتل ، فقلنا : اضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة المذبوحة ، فضربوه ، فأحياه الله ، وأخبر عن القتلة. ومثل ذلك الإحياء العجيب ، يحيي الله الموتى يوم القيامة ، فيجازي كل إنسان بعمله ، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنّبي ، حيث يخبر بالمغيبات ، كي تعقلوا وتؤمنوا بالنبي والقرآن ، لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها ، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها ، وتطيعون الله فيما يأمركم به.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه القصة فيها العبرة والعظة ببيان بعض مساوئ اليهود ومواقفهم المتشددة والمعاندة ، وأهم العظات ما يلي :

١ ـ ليس التشدد في الدين محمودا ، وليس الإلحاف في كثرة السؤال مرغوبا فيه ، لذا نهانا الله تعالى عن ذلك وقت نزول القرآن ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة ٥ / ١٠١] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص : «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما : من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين ، فحرّم عليهم من أجل مسألته» وقوله عليه‌السلام فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما

١٩٠

أمرتكم به ، فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم» وقوله أيضا فيما رواه البخاري ومسلم : «... وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» والسؤال المنهي عنه : مثل السؤال عما أخفاه الله تعالى عن عباده ولم يطلعهم عليه ، كالسؤال عن قيام الساعة ، وعن حقيقة الروح ، وعن سر القضاء والقدر ، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء ، وسؤال المعجزات ، وطلب خوارق العادات عنادا وتعنتا ، والسؤال عن الأغاليط ، والسؤال عما لا يحتاج إليه ، وليس في الجواب عنه فائدة عملية ، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام.

وقد سجل الله على اليهود ذنب الوقوف في السؤال موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح.

٢ ـ كان الأمر بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان ، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ، ليهون عندهم أمر تعظيمه.

٣ ـ استهزاؤهم بأوامر الأنبياء عرّضهم للوم والتوبيخ والعقاب.

٤ ـ إحياء القتيل بقتل حي أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها. وقد ذكر الله تعالى إحياء الموتى في سورة البقرة في خمسة مواضع : في قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) ، وفي هذه القصة : (فَقُلْنا : اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) وفي قصة الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ : مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة ٢ / ٢٤٣]. وفي قصة عزير : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ، ثُمَّ بَعَثَهُ) [البقرة ٢ / ٢٥٩] وفي قصة إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة ٢ / ٢٦٠].

٥ ـ الإنكار الشديد على قتل النفس البريئة ، وإنما أخره بالذكر عن ذكر موقفهم الاستهزائي العنادي ، اهتماما واستهجانا وتقريعا لموقف العناد ، وتشويقا

١٩١

إلى معرفة سبب ذبح البقرة ، وهذا الموقف ديدن اليهود وطبيعتهم التي لا تفارقهم. والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في سرد الأحداث والوقائع ، وإنما يذكر الكلام بما يتفق مع هدفه : وهي العظة والعبرة ، واجتذاب الأنظار وإثارة الانتباه.

٦ ـ ليس هناك أشد استهجانا وغرابة من جعل الحجارة أنفع من قلوب اليهود ، لخروج الماء منها ، قال مجاهد : ما تردّى حجر من رأس جبل ، ولا تفجر نهر من حجر ، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن الكريم. وهذا يعني أن خشية الحجارة هنا حقيقية ، كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء ١٧ / ٤٤]. وحكى الطبري عن بعض المفسرين : أن خشية الحجارة من باب المجاز والاستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار ، في قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف ١٨ / ٧٧](١).

٧ ـ في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وبه قال جمهور الأصوليين غير الإمام الشافعي.

٨ ـ استدل الإمام مالك على صحة القول بالقسامة (٢) بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء ، لأن قول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، خبر يحتمل الصدق والكذب.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٢٨٩ ، وانظر تفسير القرطبي أيضا : ١ / ٤٦٥

(٢) القسامة : هي خمسون يمينا من خمسين رجلا ، يقسمها في رأي الحنفية أهل المحلة التي وجد فيها القتيل ويتخيرهم ولي الدم ، لنفي تهمة القتل عن المتهم. وعند الجمهور : يحلفها أولياء القتيل لإثبات تهمة القتل على الجاني.

١٩٢

قسوة قلوب اليهود

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

الإعراب :

(أَشَدُّ قَسْوَةً) معطوف على قوله : (كَالْحِجارَةِ) وهو في موضع رفع لأنه خبر : (فَهِيَ). و (قَسْوَةً) تمييز منصوب ، و (أَوْ) بمعنى «بل».

(لَما) اللام للتوكيد وما : اسم (إِنَ) منصوب ، والجار والمجرور : (مِنْها) والضمير يعود إلى الحجارة في موضع رفع خبر (إِنَ).

البلاغة :

(ثُمَّ قَسَتْ) ثم للترتيب مع التراخي ، والتعبير بحرف (ثُمَ) يدل على أن قسوة قلوب اليهود بلغت مرتبة بعيدة جدا عن الوضع السليم (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أو : بمعنى بل ، أي بل أشد قسوة ، كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات ٣٨ / ١٤٧].

قال الزمخشري في الكشاف ١ / ٢٢٣ : أشد : معطوفة على الكاف في (كَالْحِجارَةِ) إما على معنى : أو مثل أشد قسوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإما على : أو هي في أنفسها أشد قسوة. والمعنى : إن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلا ، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال : هي أقسى من الحجارة.

المفردات اللغوية :

(قَسَتْ) صلبت عن قبول الحق (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات (كَالْحِجارَةِ) في القسوة (يَتَفَجَّرُ) يخرج وينبع بكثرة (يَشَّقَّقُ) أصله : يتشقق ، فأدغم التاء في الشين ، أي يتفتح شقوقا طولا أو عرضا (يَهْبِطُ) ينزل من علو إلى أسفل (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وإنما يؤخركم لوقتكم.

١٩٣

التفسير والبيان :

بالرغم مما رأى اليهود من الآيات والمواعظ السابقة ، كانفجار الماء ورفع الجبل ، والمسخ قردة وخنازير ، وإحياء القتيل ، فإن قلوبهم قست وامتنعت عن قبول الحق ، فهي تشبه في الصلابة الحجارة ، بل أشد قسوة منها ، وأصبحت بفقد تأثرها بالآيات وتفاعلها بالمواعظ والعبر ، كأنها جمادات ، بل إنها تدنت عن درجة الجماد أيضا ، لأن الحجارة قد ينفجر منها الماء ، ويسيل أنهارا تحيي الأرض وتنفع النبات ، وقد تتشقق فيسيل منها ماء بسيط فيكون عينا لا نهرا ، وفي هذا منفعة للناس ، وقد تتأثر بالرياح العاتية ، ونحوها من الزلازل ، فتسقط من أعالي الجبال ، فتكسر الصخور وتدمّر الحصون ، وليس في هذا منفعة للناس.

بالرغم من كل تلك المؤثرات والعظات والعبر ، لم يزدد اليهود إلا عنادا وفسادا ، ولكن الله تعالى حافظ لأعمالهم ومحصيها لهم ، ثم يجازيهم بها. وفي هذا غاية التهديد والوعيد ، لأن قوله تعالى : (عَمَّا تَعْمَلُونَ) يشمل كل عمل صغير أو كبير ، ويؤكده قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزال ٩٩ / ٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

لم يخلق الله تعالى شيئا في هذا الوجود عبثا ، وإنما لفائدة ، ففي الآية دلالة على بعض فوائد الأحجار ونحوها من الجمادات ، وأنها تنصاع لأمر الله ، فإن تمردت فئة من المخلوقات عن الصبغة الإلهية ، وأصبحت عديمة النفع ، لعدم تأثرها بالعظات وعدم قبولها الحق ، فالله يجازيها جزاء وفاقا ، في الدنيا والآخرة ، فيسلط عليها في الدنيا بعض النقم ، إن لم تحركها النّعم ، ويعذبها في نار جهنم في الآخرة ، لإبائها الحق ولعدم طاعتها أوامر الله تعالى.

١٩٤

استبعاد إيمان اليهود

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))

الإعراب :

(أَنْ يُؤْمِنُوا) في موضع نصب ، لأن التقدير فيه : في أن يؤمنوا لكم. فلما حذف حرف الجر ، اتصل الفعل به ، فنصبه. (مِنْهُمْ) إما في موضع رفع صفة لفريق ، وجملة (يَسْمَعُونَ) خبر كان ، وإما في موضع نصب خبر كان ، ويسمعون : صفة لفريق. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) مبتدأ وخبر ، في موضع نصب حال من ضمير «يحرّفون».

(لِيُحَاجُّوكُمْ) لام كي ، تنصب الفعل بتقدير «أن».

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) مرفوع وصف لأميين.

(إِلَّا أَمانِيَ) منصوب ، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس ، لأن الأماني ليست من العلم. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي : وما هم إلا يظنون و (مِنْهُمْ) مبتدأ ، وما بعده خبره. و (إِلَّا) أبطلت عمل إن.

البلاغة :

(أَفَتَطْمَعُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تفيد الجملة الكمال في تقبيح صنيعهم ، وهو تحريف التوراة عن قصد ، لا عن جهل.

(ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) طباق بين لفظتي (يُسِرُّونَ) و (يُعْلِنُونَ).

١٩٥

المفردات اللغوية :

(فَرِيقٌ) طائفة من أحبارهم (كَلامَ اللهِ) التوراة (يُحَرِّفُونَهُ) يغيرونه ويبدلونه ، أو يؤولونه بالباطل (عَقَلُوهُ) فهموه وعرفوه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم مفترون.

(وَإِذا لَقُوا) أي منافقوا اليهود (وَإِذا خَلا) رجع ومضى إليه ، أو انفرد معه. (فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) حكم به أو قصه عليكم أو عرفكم في التوراة من نعت محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لِيُحَاجُّوكُمْ) ليخاصموكم ويجادلوكم ، واللام للصيرورة (عِنْدَ رَبِّكُمْ) في الآخرة ، أي يقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمهم بصدقه.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ) الاستفهام للتقرير ، والواو الداخل عليها للعطف ، ويراد بالاستفهام التوبيخ أو التقريع.

(أُمِّيُّونَ) عوام جهلة بكتابهم (أَمانِيَ) أكاذيب تلقوها من رؤسائهم ، فاعتمدوها ، وهي لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي. (يَظُنُّونَ) أي ما هم في جحود نبوة النّبي وغيره مما يختلقونه إلا يظنون ظنا ولا علم لهم.

سبب النزول :

قال ابن عباس ومقاتل : نزل قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ) في السبعين الذين اختارهم موسى ، ليذهبوا معه إلى الله تعالى ، فلما ذهبوا معه ، سمعوا كلام الله تعالى وهو يأمر وينهى ، ثم رجعوا إلى قومهم ، فأما الصادقون فأدّوا ما سمعوا. وقالت طائفة منهم : سمعنا الله من لفظ كلامه يقول : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا ، ولا بأس.

وعند أكثر المفسرين : نزلت الآية في الذين غيروا آية الرجم وصفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

واختلف العلماء بماذا عرف موسى كلام الله ، ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٥

١٩٦

فقيل : إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات ، وليس فيه تقطيع ولا نفس ، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر ، وإنما هو كلام رب العالمين.

وقيل : إنه لما سمع كلاما لا من جهة ، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست ، علم أنه ليس من كلام البشر.

وقيل : إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام ، فعلم أنه كلام الله.

وقيل فيه : إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله ، وذلك أنه قيل له : ألق عصاك ، فألقاها فصارت ثعبانا ، فكان ذلك دليلا على صدق الحال ، وأن الذي يقول له: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه ٢٠ / ١٢] هو الله جل وعز (١).

وسبب نزول الآية (٧٦): هو ما قاله مجاهد : قام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة تحت حصونهم ، فقال : يا إخوان القردة ، ويا إخوان الخنازير ، ويا عبدة الطاغوت ، فقالوا : من أخبر بهذا محمدا ، ما خرج هذا إلا منكم ، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ، ليكون لهم حجة عليكم ، فنزلت الآية.

وقال ابن عباس : كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا أن صاحبكم رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة. (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) : أيحدث العرب بهذا ، فإنكم كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم ، فأنزل الله : (وَإِذا لَقُوا) الآية.

وقال السدي : نزلت في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، وكانوا يأتون المؤمنين من العرب ، بما تحدثوا به ، فقال بعضهم : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٢

١٩٧

عَلَيْكُمْ) من العذاب ، ليقولوا : نحن أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم (١).

التفسير والبيان :

حرص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته على انضمام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلى دعوته والإيمان برسالته في مواجهة المشركين ، لوجود جسور التقاء معهم من الإيمان بوجود الإله والتصديق بالأنبياء وبالبعث واليوم الآخر. وقد روي أنها نزلت في الأنصار الذين كانوا حلفاء لليهود ، وبينهم جوار ورضاعة ، وكانوا يودون لو أسلموا ، فأنزل الله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ).

فجاءت هذه الآيات ، في أثناء بيان قبائح اليهود ، توضح خطابا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ما بدد الآمال والأطماع في إيمان اليهود ، لأن منهم جماعة ـ وهم فئة من الأحبار والرؤساء ـ كانوا يسمعون كلام الله ، ثم يبدلونه أو يؤولونه بحسب أهوائهم وميولهم ، وليس الحاضرون أحسن حالا من الغابرين ، لأنهم ورثوا الاستكبار من أسلافهم ، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة والواقع ، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟!

وسبب آخر يدعو إلى عدم إيمانهم هو أن منافقيهم إذا قابلوا المؤمنين قالوا : نحن مؤمنون بالله وبالنبيّ كإيمانكم ، إذ هذا النبي هو المبشر به عندنا ، فنحن معكم ، وإذا انفردوا مع بعضهم قالوا : كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا ، وهم يحتجون عليكم بكلامكم ، ويخاصمونكم به عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم؟ فيرد الله عليهم :

ألا يعلمون أن الله تعالى يعلم السر والعلن ، ويعلم الغيب والشهادة ، فسواء أعلنتم سرا أم أضمرتموه ، فإن الله سيجازيكم على أعمالكم.

__________________

(١) أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين : ص ١٦

١٩٨

ثم ذكر الله تعالى هذا شأن علماء اليهود وأحبارهم ، أما الأميون منهم ، فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها ، مثل القول بأنهم شعب الله المختار ، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، وما هم في كل ذلك إلا واهمون ظانون ظنا لا صحة له.

فلا أمل في أيمانهم ، ولا أسف على أمثالهم ، فمن كانت هذه صفاته وقبائحه ، فلا خير فيه ، ولا أسف عليه.

والمراد بما فتح الله على اليهود : الإنعام بالشريعة والأحكام ، والبشارة بالنبي عليه الصلاة والسّلام ، شبّه الذي يعطى الشريعة بالمحصور في الصلاة يفتح عليه ، فيخرج من الضيق. أو أن معنى (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) : بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ، ونصره. والمقصود بقوله (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أن المحاجة في الآخرة ، كما قال السيوطي ، ورأى المحققون أنه بمعنى : في كتاب الله وحكمه أي أن ما تحدثونهم به من التوراة موافق لما في القرآن ، فالمحاجة في الدنيا ، فهو كقوله تعالى في أهل الإفك : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النور ٢٤ / ١٣] أي في حكمه المبين في كتابه (١).

وأما الأماني : فهي الأكاذيب ، وفسرها بعضهم بالقراءات ، أي أنهم لا حظّ لهم من الكتاب إلا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل ، فهو على حد : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة ٦٢ / ٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

التحريف والتبديل لكلام الله أشد الحرام ، سواء أكان بالتأويل الفاسد ، أم

__________________

(١) تفسير المنار : ١ / ٣٥٧ وما بعدها.

١٩٩

بالتغيير والتبديل ، وقد وقع النوعان من أحبار اليهود ، وقد نعتهم الله تعالى بأنهم يبدلون ويحرفون ، فقال : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة ٢ / ٧٩] وكان للتحريف مظاهر متعددة ، ففي عهد موسى عليه‌السلام : روي أن قوما من السبعين المختارين ، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور ، وما أمر به موسى وما نهي عنه ، ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم ألا تفعلوا فلا بأس.

وفي قوله تعالى : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) قال مجاهد والسدي : هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة ، فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما ، اتّباعا لأهوائهم.

وفي عهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرفوا نعت الرسول وصفته ، وحرفوا آية الرجم ، وقالوا : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران ٣ / ٧٥] وهم العرب ، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا ، وقالوا أيضا : لا يضرنا ذنب فنحن أحباء الله وأبناؤه ، تعالى الله عن ذلك (١).

ووقع التحريف بنوعيه أيضا في الإنجيل ، كما وقع في التوراة ، والدليل واضح وهو ضياع أصل كلا هذين الكتابين ، وكتابتهما بأيدي العلماء بعد عشرات السنين ، كما قال تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء ٤ / ٤٦].

وحدث التحريف في القرآن بمعنى التأويل الباطل ، من الجهلة أو الملاحدة ، أما التحريف بإسقاط آية من القرآن ، فلم يقع ، لتعهد الله حفظ كتابه المبين في قوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر ١٥ / ٩].

وأرشدت الآية (٧٨) من سورة البقرة إلى بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام ، وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه ، لأن معنى قوله تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣ / ١٣٥ ، تفسير القرطبي : ٢ / ٦ وما بعدها.

٢٠٠