التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

أكثر أصحابه من اليهود ، وكانوا يدّعون الإيمان ، فردّ الله عليهم دعواهم ، وأنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين ، وإن تظاهروا به ، ولا شكّ أنهم بهذا في صورة المخادعين لله ، والله يعلم عنهم ذلك ، فهم أشد ضررا من الكفار ، ولهم في الآخرة عذاب أليم بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر.

ونظرا لقصور عقولهم تصوّروا أنهم يخدعون الله تعالى ، وهو منزّه عن ذلك ، فإنه لا يخفى عليه شيء ، وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه ، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع ، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم ، والله قادر على كشف أمرهم للمسلمين.

ومع كل ذلك يأمر الله بإجراء أحكام الإسلام عليهم ، كأنه يخادعهم ، على سبيل المشاكلة والمحاكاة والمشابهة لفعلهم ، وكأن المسلمين حيث امتثلوا أمر الله فيهم مخادعون لهم ، من باب التشبيه والتمثيل ، للإشارة إلى أن المنافقين هم الخادعون المخدوعون.

والصحيح ـ كما قال ابن العربي (١) ـ أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقتلهم وأعرض عنهم لمصلحة تألف القلوب عليه ، ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير ، لئلا تنفر عنه القلوب ، وقد أشار هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا المعنى ، فقال : «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتل أصحابه» وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم ، مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن النفاق مرض خطير ، وإن المنافقين شوكة مؤذية تطعن المجتمع من الداخل ، وكان المتبادر إلى الذهن في تقديرنا أن تستأصل شأفة النفاق

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ١٢ ، وانظر تفسير القرطبي : ١ / ١٩٨ وما بعدها.

٨١

والمنافقين ، حتى ترتاح الدولة منهم ، وكذلك تفعل الدول الآن ، إلا أن للوحي الإلهي والتشريع السماوي حكمة عميقة الأثر ، بعيدة المدى ، تنتظر أحداث المستقبل ، ليظهر للناس قصور علمهم أمام سعة العلم الإلهي ، فكثيرا ما لاقى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأذى من المنافقين ولكنه انتصر في النهاية عليهم ، ولعل ذلك من أصدق البراهين التاريخية على أن النفاق واليهودية شيئان متلازمان : لأنه ينشأ عن جبن حقيقي ولؤم طبعي ، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله ، ويظهر النعومة ، ولكنها السّم الزعاف في الدسم.

وتشير الآيات إلى أن الكذب هو شعار المنافقين ، لذا حذر الله المؤمنين منه أشد التحذير ، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم ، وشاعت فيها الرذائل ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانب للإيمان» (١).

وإذا كان الكذب شعار المنافقين ، فإن الصراحة في القول ، والجرأة في العمل الموافق للاعتقاد شعار المؤمنين الصادقين ، الذين يستحقون كل تكريم ، فتكون العظة بإيراد صفات المنافقين أشد أثرا ، وأحكم أمرا للمؤمنين أنفسهم ، إذ امتازوا بالثبات على الحق ، وظل المنافقون في نفاقهم وزاد تمسكهم بما هم عليه ، وأبوا الإيمان ، وأعرضوا عن القرآن ، وازداد مرض قلوبهم ، وتحرقت نفوسهم بعد ما جاءهم البشير النذير ، وعلا مجده وكثر أتباعه ، على ما فاتهم من الزعامة ، وحسدا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه.

__________________

(١) حديث حسن رواه أحمد في مسنده ، وأبو الشيخ في التوبيخ ، وابن لال في مكارم الأخلاق عن أبي بكر.

٨٢

صفات المنافقين

ـ ٢ ـ

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

الإعراب :

(وَإِذا) إذا : ظرف زمان مستقبل ، وهو مبني لتضمنه معنى الحرف (لَهُمْ) في موضع رفع نائب فاعل لكلمة (قِيلَ) : هذا رأي ابن الأنباري ، والصحيح أنه جار ومجرور متعلق بالفعل السابق ، (إِنَّما) كافّة ، ليس للجملة بعدها موضع من الإعراب (نَحْنُ) ضمير مرفوع منفصل ، وهو مبني لأنه مضمر.

(أَلا إِنَّهُمْ) ألا : حرف استفتاح ، وكسرت «إن» لأنها مبتدأة.

(إِنَّهُمْ) ضمير فصل لا موضع له من الإعراب أو توكيد للهاء والميم في (إِنَّهُمْ).

«والمفسدون» خبر «إن».

(كَما) مصدرية تقديره : كإيمان الناس.

البلاغة :

(إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) قصر الموصوف على الصفة ، أي نحن مصلحون ليس إلا.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) تنويع التأكيد ، جاءت الجملة مؤكدة بأربعة تأكيدات هي «ألا و «إن» وضمير الفصل : «هم» و «المفسدون».

المفردات اللغوية :

(لا تُفْسِدُوا) الفساد : ضد الصلاح ، والمراد النهي عن الأسباب المؤدية إلى الفساد ، بإثارة

٨٣

الفتن ، وإفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار ، وإغرائهم بالمؤمنين ، وتنفيرهم من اتباع محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكفر والصد عن سبيل الله.

(إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) الصلاح ضد الفساد ، أي ليس شأننا الإفساد أبدا ، ولا شأن لنا إلا الإصلاح ، وإنما نحن أناس مصلحون ، بعيدون عن شوائب الإفساد ، نسعى للخير والصلاح ، باتباعنا رؤساءنا ، وهكذا شأن المفسدين في كل زمان ، يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه.

(السُّفَهاءُ) ضعفاء العقول ، والمراد هنا الجهلاء وضعفاء الناس. وأصل السفه : الخفة.

التفسير والبيان :

إذا قيل للمنافقين : إن مؤامراتكم الدنيئة ومخططاتكم الخبيثة بإثارتكم الفتن ، والتجسس لحساب الكفار ، وتأليب العرب على المسلمين فساد ، قالوا : ليس الأمر كما تزعمون ، فإنما نحن مصلحون ، لا نبغي إلا الإصلاح ، فرد الله عليهم بأنهم وحدهم هم المفسدون ، ولكنهم لا يدركون خطورة عملهم ، ولا يشعرون بهذا الإفساد ، لأنه أصبح غريزة لهم ، مركزة في طباعهم.

وكان المسلمون ينصحونهم بشتى الوسائل ، ويدعونهم إلى الإيمان ، كإيمان الذين أصغوا للعقل السليم ، وسلكوا سبيل الرشاد كعبد الله بن سلام وأشباهه ، فإذا قالوا لهم : ادخلوا في ساحة الإيمان كغيركم من الناس ، أجابوا مترفعين : أنؤمن بالقرآن وبمحمد ، كما آمن السفهاء : أتباع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضعفاء الناس من العبيد والفقراء ، وضعفاء العقل من الجهلاء؟ مع أن العاقل هو من يرى طريق الخير والنور أمامه فيسلكه. فرد الله عليهم بأنهم وحدهم هم السفهاء دون من نسبوهم إلى السفه ، فليس عندهم إدراك صحيح للإيمان ، ولا يعلمون حقيقته وأثره.

والسبب في أنه قيل في الإفساد : (لا يَشْعُرُونَ) والشعور : إدراك ما خفي ، وفي الإيمان : (لا يَعْلَمُونَ) والعلم : اليقين ومطابقة الواقع : هو أن الإفساد في الأرض أمر محسوس ، ولكن لا حسّ لهم حتى يدركوه ، وأما الإيمان

٨٤

فهو أمر قلبي ، لا يدركه إلا من علم حقيقته ، ولا يتم الإيمان إلا بالعلم اليقيني ، والعلم : معرفة المعلوم على ما هو به ، ولكن لا علم لديهم حتى يصلوا إلى حقيقة الإيمان.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن قلب الحقائق ، وتغيير الوقائع سمة الجبناء الضعفاء ، أما الأقوياء وهم المؤمنون الذين استخدموا وسائط المعرفة السليمة للوصول إلى الحقائق ، فهم الخالدون الباقون ، وهم الذين يحبون الإنسانية بحق وصدق ، فيدعونهم إلى إصلاح السلوك ، وتقويم الأخلاق ، والثبات على المبدأ الحق الذي يرشد إليه العقل ، وتقتضيه الفطرة ، وتؤيده البراهين الحسية والتاريخية.

وقد دلت الآيات : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا) على أن الإيمان ليس هو الإقرار ، دون الاعتقاد ، لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ، ونفى عنهم سمته بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(١).

صفات المنافقين

ـ ٣ ـ

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٢٥

٨٥

الإعراب :

(يَعْمَهُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من «هم» في (يَمُدُّهُمْ) والعامل فيه الفعل ، وهو «يمدّ» وتقديره : يمدهم عمهين ، وإن شئت «عامهين» فقد قالوا : عمه ، فهو عمه وعامه : إذا تحير.

البلاغة :

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ) سمى الجزاء على الاستهزاء استهزاء بطريق المجاز أو المشاكلة : وهي اتفاق الجملتين في اللفظ مع الاختلاف في المعنى ، أو هي مقابلة الكلام بمثله وإن لم يكن في معناه ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] والثانية ليست سيئة ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها ، وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة ٢ / ١٩٤] والثاني ليس باعتداء. وقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل ١٦ / ١٢٦] والأول ليس بعقاب ، وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله ومزاوجته له ، وتقول العرب : الجزاء بالجزاء ، والأول ليس بجزاء.

(اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) استعارة تصريحية ، استعار لفظ الشراء لاستبدال الغي بالرشاد ، والكفر بالإيمان ، فخسرت صفقتهم ، ثم زاده توضيحا بقوله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) وهذا هو الترشيح : وهو ذكر ما يلائم المشبه به.

المفردات اللغوية :

(خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) انصرفوا إليهم أو انفردوا معهم ، وشياطينهم : إخوانهم في الكفر ورؤساؤهم وكبراؤهم (مُسْتَهْزِؤُنَ) الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، وهذا فعل اليهود.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي أنه سيجازيهم عليه بالإمهال ، ثم بالنكال ، على سبيل المشاكلة (اتفاق اللفظ واختلاف المعنى) ليزدوج الكلام ، فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. (يَمُدُّهُمْ) يزيدهم أو يمهلهم. (طُغْيانِهِمْ) تجاوزهم الحد وغلوهم في الكفر. (يَعْمَهُونَ) أي يتحيرون أو يعمون عن الرشد ، من العمه : وهو ضلال البصيرة.

سبب نزول الآية ١٤ :

أورد المفسرون أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين إذ امتدح أبا بكر وعمر وعليا بعد أن قال فيهم لأصحابه : انظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء؟ فنزلت الآية ، لكن قال السيوطي : هذا الإسناد واه جدا.

٨٦

التفسير والبيان :

هذا في عصر النبوة موقف أو مشهد آخر من مواقف ومشاهد المنافقين من اليهود ، الذين هم كالشياطين ، بل أشد ، وهو موقف لا يحسدون عليه ، لأنه سينكشف الحق قريبا ، وتتجلى الحقيقة ، فإن كل كاذب قليل الإدراك قصير النظر ، لا ينظر إلى المستقبل. فهم إذا خلوا مع بعضهم وزعمائهم تضامنوا معهم ، وقالوا : إنا معكم. وإذا رأوا المؤمنين أعلنوا إيمانهم ، وقد فضح الله أوضاعهم ، ولم يعبأ بهم ، وسيجازيهم أشد الجزاء ، ويزيدهم حيرة وضلالا في أمورهم.

ثم إنهم بإهمالهم العقل في فهم كتاب الله ، وتركهم الطريق المستقيم ، وأدلة صحة هذا الدين حسدا وبغيا ، كأنهم أقدموا على صفقة خاسرة ، ودفعوا الهدى ثمنا للضلال ، وباعوا النور بالكفر وضلالات الأهواء ، فما ربحوا في هذه التجارة ، لما ينتظرهم من عذاب جهنم. قال ابن عباس : «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى» أي استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أورده بلفظ الشراء توسعا ، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال ، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء.

وأسند الله تعالى الربح إلى التجارة ، على عادة العرب في قولهم : ربح بيعك ، وخسرت صفقتك ، والمعنى ربحت وخسرت في بيعك. وما كانوا مهتدين في اشترائهم الضلالة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الجزاء والعقاب واقع على كل من بدل بالإيمان كفرا ، وبالهدى والقرآن والنور والمنهج المستقيم ضلالا وبطلانا وظلاما والتواء ، إذ إن هؤلاء أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة ، والاستعداد العقلي لإدراك الحقائق. ومن المعلوم أن الناس يصفون التاجر الخاسر الذي ضيع كل رأس ماله ، ولم

٨٧

يتدارك ما قد خسره في صفقة ما بأنه غبي أحمق ، وهذا هو حال المنافق. ثم إن المعول عليه في دستور القرآن الحكم بصدق الإسلام هو الإخلاص بالقلب ، لا مجرد القول باللسان.

والخلاصة : أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح المنافقين ، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي ما يأتي (١) :

١ ـ مخادعة الله ، والخديعة مذمومة ، والمذموم يجب أن يميز من غيره كيلا يفعل الذم.

٢ ـ الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج الإشاعات الباطلة.

٣ ـ الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في القلب ، الموافق للفعل.

٤ ـ التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود المعقولة ، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة ، مع أنهم هم السفهاء بحق ، لأن من أعرض عن الدليل ، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه ، ولأن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه ، ولأن من عادى محمدا عليه الصلاة والسلام ، فقد عادى الله ، وذلك هو السفيه ، فالسفه محصور فيهم ، ومقصور عليهم ، ولديهم شعور ما : بأنهم ركبوا هواهم ، ولم يتبعوا هدي سلفهم ، واعتمدوا في نجاتهم وسعادتهم على الأماني والتعلّات ، كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة ٢ / ٨٠] وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨] أي شعبه وأصفياؤه.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢ / ٦٢ ـ ٦٨

٨٨

إيراد الأمثال للمنافقين

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

الإعراب :

(اسْتَوْقَدَ) و (وَتَرَكَهُمْ) أعاد الضمير إلى الأول بالإفراد ، وإلى الثاني بالجمع ، لأنه نزّل (الَّذِي) منزلة «من» و «من» يرد الضمير إليها تارة بالإفراد ، وتارة بالجمع. و (اسْتَوْقَدَ) : إما بمعنى «أوقد» فيكون متعديا إلى مفعول واحد ، وهو قوله : (ناراً) ، وإما أن تكون السين فيه للطلب ، فيكون متعديا إلى مفعولين ، والتقدير ، استوقد صاحبه نارا. «لما» ظرف زمان ، العامل فيه : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ). (ما حَوْلَهُ) اسم موصول بمعنى الذي ، وحوله : الصلة ، وهو في موضع نصب ، لأنه مفعول «أضاءت». وأضاءت : يكون لازما ومتعديا ، والأفعال التي تكون لازمة ومتعدية تنيّف على ثمانين فعلا. (لا يُبْصِرُونَ) جملة فعلية منفية في موضع نصب على الحال ، من ضمير (تَرَكَهُمْ).

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) : مرفوع خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم.

(أَوْ كَصَيِّبٍ) أو : هاهنا للإباحة ، كصيب : مرفوع لكونه خبرا لقوله : (مَثَلُهُمْ) ، وتقديره : مثلهم كمثل أصحاب صيب ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. (فِيهِ ظُلُماتٌ) في موضع جر على الوصف لصيب. و (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) جملة فعلية في موضع جر ، صفة لأصحاب المقدر. (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله.

(يَكادُ الْبَرْقُ) مضارع كاد ، من أفعال المقاربة ، ينفي في الإيجاب ويوجب في النفي. (كُلَّما) منصوب لأنه ظرف.

٨٩

البلاغة :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) تشبيه تمثيلي ، شبه المنافق بمستوقد النار ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار. وكذلك (أَوْ كَصَيِّبٍ ..) تشبيه تمثيلي ، شبه الإسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به ، وشبه شبهات الكفار بالظلمات.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) تشبيه بليغ ، أي هم كالصم البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء ، أي رؤوس أصابعهم. «ويكذبون .. مصلحون .. يعمهون» : توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، وهو من المحسنات البديعية. والخلاصة : اشتملت الآيات على قوة التعبير وشدة التأثير وروائع التشبيه ، ففيها تشبيه القرآن بالمطر إذا أمطر يحيي الأرض ، والقرآن يحيي موات النفوس ، ويرى أصحاب الأهواء أن في القرآن شبها هي كالظلمات العارضة مع المطر. وفي الآيات أيضا وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة.

المفردات اللغوية :

«المثل» الصفة التي أضحت كالمثل ، أو مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة. (اسْتَوْقَدَ) أوقد نارا للاستدفاء والإضاءة ، أو طلب إيقاد النار (أَضاءَتْ) أظهرت ما حولها ، «ترك» صيّر.

والصم : آفة تمنع السماع ، والبكم : الخرس ، والعمى : عدم البصر عما من شأنه أن يبصر.

(كَصَيِّبٍ) الصيب : المطر الكثير. (رَعْدٌ) الرعد : صوت احتكاك الهواء الذي يسمع في السحاب عند تجمعه. والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا بسبب احتكاك الهواء واتحاد كهربية السحاب الموجبة بالسالبة. والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحيانا أثناء المطر والبرق بسبب تفريغ كهربية السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض. والخطف : الأخذ بسرعة.

(قامُوا) : وقفوا وثبتوا في أماكنهم متحيرين منتظرين تغير الحال ، للوصول إلى النجاة. والظلمات : هي ظلمة الليل وظلمة السحب وظلمة الصيّب نفسه.

سبب نزول الآية ١٩ :

أخرج الطبري عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في نزول هذه الآية : قالوا : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله : فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فكان كلما أضاءت لهما الصواعق ، جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق (الخوف) أن

٩٠

تدخل الصواعق في مسامعهما ، فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشوا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا ، وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا ، فنأتي محمدا ، فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه ، فأسلما ووضعا أيديهما في يده ، وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين ، مثلا للمنافقين الذين بالمدينة.

وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء ، فيقتلوا ، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمة أو فتحا ، مشوا فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دين صدق ، فاستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، وكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفارا ، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما (١).

التفسير والبيان :

ضرب الله تعالى في هذه الآيات مثلين لتوضيح حال المنافقين وبيان شناعة أعمالهم وسوء أفعالهم ، تنكيلا بهم ، وفضحا لأمورهم ، إذ كانوا فتنة للبشر ، ومرضا في الأمة. وضرب الأمثال هو منهج القرآن لتوضيح المعاني وإبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجلية ، وهذان المثلان يصوران حالة القلق والحيرة والاضطراب عند المنافقين وسرعة انكشاف أمرهم :

المثل الأول ـ لسرعة انكشاف أمرهم : وهو أن مثل المنافقين وحالهم في إظهار الإسلام زمنا قليلا وأمنهم على أنفسهم وأولادهم ، كحال الذين أوقدوا

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ١١٩

٩١

نارا ، لينتفعوا بها ، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء ، وأبصروا زمنا يسيرا ، أطفأها الله بنحو مطر شديد أو ريح عاصف ، فصيرهم لا يبصرون شيئا ، وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار ، لأن النور قد زال.

والمنافقون عطلوا مشاعرهم وإحساساتهم ، إنهم عطلوا منفعة السمع ، فلم يسمعوا عظة واعظ وإرشاد مرشد ، بل لا يفقهون إن سمعوا ، فكأنهم صمّ عن الحق لا يسمعون. وعطلوا منفعة الكلام والسؤال والمناقشة ، فلم يطلبوا برهانا على قضية ، ولا بيانا عن مسألة ، فكأنهم بكم لا يتكلمون ، وعطلوا منفعة البصر ، فلم ينظروا ولم يعتبروا بما حل بهم من الفتن وبما تعرضت له الأمم ، فكأنهم عمي عن الهدى. وهم لا يعدلون أصلا عن حالهم من الضلالة إلى الهدى ، فلا تأس عليهم ولا تحزن.

والمثل الثاني ـ لحيرتهم وقلقهم وانتهازيتهم : وهو أن القرآن قد أتاهم بالإرشادات الإلهية ، ولكنهم أعرضوا عنها ، فحالهم تشبه حال قوم نزل عليهم المطر الغزير ، المصحوب بالمخاوف من ظلمات المطر والسحب والليل ، والرعد القاصف ، والبرق الخاطف ، وفي هذا الجو القاتم تلمسوا سبيل النجاة ، وعقدوا الأمل على ما لاح في الأفق من نور ، فعزموا على اتباع الحق الذي جاءت به الآيات البينات ، ثم ما لبثوا أن وقعوا في الظلام ، فأصابهم القلق والاضطراب ، والله محيط بهم ، قادر عليهم ، فلو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد ، وأبصارهم بوميض البرق الخاطف ، ولكن لحكمة ومصلحة ، لم يشأ ذلك ، لإمهالهم وإعطائهم الفرصة ليثوبوا إلى رشدهم.

والخلاصة : قد يضيء النفاق لصاحبه الدرب حينا قصيرا ، ثم سرعان ما ينطفئ كما تنطفئ النار ، مما يجعل النفاق لا دوام له ولا استمرار. وقد يجد المنافق الأمل في نفاقه لتحقيق غرض أو مكسب مادي رخيص ، ثم تتبدد

٩٢

الآمال ، ويبقى المنافقون في قلق واضطراب ، إذ إن فرحهم الظاهري بنزول آية ، وسيرهم مع المسلمين ، يسقطه الامتحان عند ما يطالبون بالجهاد مع المؤمنين ، وإن التلون بالدعم حين الخير ، والنقمة والكفر حين الشر ، مثل المنافق غير المؤمن.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم. فما يظهره المنافقون من الإيمان الذي تثبت به أحكام المسلمين في الزواج والميراث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، واغترارهم لما آمنوا بكلمة الإسلام ، لا فائدة له في أحكام الآخرة ، لأنهم يصيرون إلى العذاب الأليم ، كما أخبر التنزيل : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء ٤ / ١٤٥] فمثل استضاءتهم بضوء إقرارهم بالإسلام مع إسرار الكفر كإضاءة النار الموقوتة أو كمثل مطر مظلم. والمنافقون عطلوا بحق وسائل المعرفة الصحيحة والإيمان الراسخ ، فهم صمّ عن استماع الحق ، بكم عن التكلم به ، عمي عن الإبصار له ، وأشد من ذلك أنهم لا يرجعون في النهاية إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم ، لا بقهر وإجبار. ومع نفاقهم فلم يعجل الله عقابهم في الدنيا ، وقد استنبط الجصاص من ذلك : أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الاجرام ، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها ، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه (١).

والقرآن ممتلئ بالخير والآيات الدالة على كونه من عند الله كالصيّب ، وما فيه من الوعيد والزجر كالرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا تبهر المنافقين كالبرق ، وما فيه من الدعوة إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل كالصواعق.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٦ ـ ٢٧

٩٣

والله محيط بجميع الكائنات وبالكافرين ، فلن يفلت من حسابه أو قدرته أو مشيئته أحد ، ولو شاء الله لأطلع المؤمنين على المنافقين ، فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وهو سبحانه المتميز بالقدرة الشاملة لكل شيء ، فهو جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم ، ويجب على كل مكلف (بالغ عاقل) أن يعلم أن الله تعالى قادر ، له قدرة بها فعل ، ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره ، ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة ، وأنه غير مستبد بقدرته.

هذه هي الآيات العشرون ، أربع منها في وصف المؤمنين ، وآيتان في وصف الكافرين ، وبقيتها في المنافقين (١).

الأمر بعبادة الله وحده والأسباب الموجبة لها

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) : يا حرف نداء ، وأي : اسم منادى مضموم ، وها للتنبيه ، وكثرة النداء في القرآن بهذا الأسلوب للتأكيد والمبالغة ، لأن كل ما نادى الله به عباده من أوامر ونواه وعظات من

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري : ص ١١

٩٤

الأمور العظام الموجبة للتيقظ. والناس : بدل من المنادي ، لأن ما فيه أل بدل من المنادي إذا كان جامدا ، ونعت أو صفة إذا كان مشتقا ، وعبارة القرطبي : الناس : مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين. (الَّذِي جَعَلَ) : إما منصوب صفة (رَبَّكُمُ) أو مفعول (تَتَّقُونَ) أو منصوب على المدح بتقدير فعل ، أو منصوب صفة للفظ الله في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ ..) (٢٠). وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الذي ، أو مبتدأ خبره : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) (٢٢) ، أو صفة لفظ (اللهُ) في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ..) (٢٠).

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنتم : ضمير مرفوع منفصل مبتدأ ، و (تَعْلَمُونَ) جملة فعلية في موضع الخبر ، والجملة من المبتدأ والخبر حال من ضمير (تَجْعَلُوا).

البلاغة :

(رَبَّكُمُ) الإضافة للمخاطبين للتعظيم.

(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ، وَالسَّماءَ بِناءً) مقابلة بين الأرض والسماء ، والفراش والبناء ، من أنواع المحسّنات البديعية.

المفردات اللغوية :

«يا» : لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل ، فإن نودي به القريب فهو بقصد تعظيم المنادي به ، وإيقاظ النفوس ، واجتذاب الأنظار ، واستمالة القلوب الغافلة ، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. وأما نداء القريب فيكون بكلمة «أي» (خَلَقَكُمْ) الخلق : الإيجاد والاختراع بلا مثال سابق.

(فِراشاً) : الفراش : البساط للاستقرار ، والمراد أنه مهد الأرض للإقامة فيها والاستقرار عليها وذلك مثل المذكور في آيتين أخريين : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) [غافر ٤٠ / ٦٤](أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ ٧٨ / ٦]. (بِناءً) سقفا مرفوعا مبنيا محكما. (أَنْداداً) جمع ند وهو النظير ، أي أمثالا من الآلهة تعبدونها من دون الله. والمراد بعبادة المؤمنين : ازديادهم منها وإقبالهم عليها وثباتهم فيها : وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد لها منه وهو الإقرار بالشهادتين ، وما لا بد للفعل منه فهو مندرج تحت الأمر به ، وإن لم يذكر ، كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرها.

مناسبة الآيات :

بعد أن ذكر الله تعالى أصناف الناس الثلاثة : وهم المؤمنون ، والكافرون ،

٩٥

والمنافقون ، أمر جميع الناس ومنهم مشركو مكة بعبادته والاستكانة والخضوع له بالطاعة ، وإفراد الربوبية والوحدانية له ، وعبادته دون الأوثان والأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها ، لأنه تعالى هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم ، ولأنه المنعم المتفضل على جميع الخلائق بخيرات الأرض والسماء.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى جميع الناس من مشركي مكة وغيرهم بعبادته وحده ، كما أمرهم على لسان الأنبياء السابقين في قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦] أي الأوثان. وأصل العبادة : الخضوع والتذلل ، ويراد بها هنا توحيد الله والتزام شرائع دينه ، ونبذ عبادة الأصنام. والسبب أن هذا الرب العظيم يستحق إفراده بالعبادة ، لأنه خالق العباد جميعهم ، المأمورين وأسلافهم ، ومدبر شؤونهم ، وواهبهم ما يحتاجونه من طرق الهداية ووسائل المعرفة. وللعبادة ثمرة مؤكدة هي الوصول للتقوى والظفر بالفوز والنجاح والهدى وبلوغ درجة الكمال ، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي ، ومن عبد الله حق العبادة تحققت تقواه التي يحبها الله من عباده. وبما أن الأصل في كلمة «لعل» للترجي والتوقع ، وهو مستحيل من الله القدير الأعلى للعبد الضعيف الأدنى ، فكان المراد به : افعلوا ذلك راجين الوصول للتقوى ، أو لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا.

والأمر بالعبادة أيضا لأنه سبحانه جعل الأرض مهادا وقرارا للاستقرار عليها ، والحياة والإقامة فيها بهدوء واطمئنان ، بالرغم من دورانها وكرويتها ، فهي ثابتة بالجبال الراسيات : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ ٧٨ / ٧] ، ولأنه جعل السماء سقفا مرفوعا فوق الأرض كالقبة ، تظلّ الناس بالخير والبركة ، وأحكم

٩٦

بناءها مع ما فيها من أفلاك وأجرام ، وأحكم النّسب بينها بسنة الجاذبية ، فلا يختل نظامها ، ولا يسقط منها جرم عظيم على الأرض ، ولا تصطدم ببعضها ، وأنزل منها أي من السحاب ماء مباركا ومطرا عذبا ينبت به الزرع والعشب ، ويحيي الأرض بعد موتها ، ويغسل به الجو الذي تلوث بالتراب وغيره من كل ما يؤذي ويضر ويعكر صفو الحياة وصفاء الهواء.

فمن اتصف بالخلق والإبداع والتكوين للإنسان ، والإمداد له بالنعم والأرزاق ، وبخلق السماء والأرض لخير البشر ، جدير بالعبادة والتعظيم والخضوع له ، فلا يليق اتخاذ الشركاء الضعفاء معه من الأصنام والبشر ، الذين لا يخلقون شيئا ولا يقدمون رزقا ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ، ولا يدفعون عن ذواتهم ضرا ، وتقدس الله تعالى عن اتخاذ الأنداد والشركاء والأولاد ، إذ لا حاجة له بهم ، فمن كانت له حقيقة القدرة ، ودلت عليه دلائل الربوبية والوحدانية هو المستحق وحده للطاعة.

وأما اتخاذ المشركين الأصنام أندادا توسلا بها إلى الله ، واتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، في التشريع وتحليل المنكرات ، وتحريم بعض الطيبات ، فهو محض الافتراء والكذب ، ومغالطة الواقع ، مع أن الكل متفقون على أن الخالق والرازق هو الله ، وحال جميع الكافرين والمنافقين يعلمون في الحقيقة بطلان شرائع وأنظمة الآلهة المزعومة ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، لَيَقُولُنَّ اللهُ ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٦١] أي يصرفون. وقال سبحانه منددا باتخاذ الوسائط إلى الله ، وبإبطال التقرب بغير ما شرع الله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

٩٧

فقه الحياة أو الأحكام :

العبادة التي هي توحيد الله والتزام شرائع دينه لا تكون إلا لله الخالق الرازق ، وملازمة العبادة الخالصة لله مدعاة لغرس أصول التقوى لله عزوجل ، فلا يجرأ المتقون على مخالفة الأوامر ، واقتحام المعاصي.

وليس المراد بكون الأرض فراشا ، أي وطاء للافتراش والاستقرار عليها ، هو الفراش المعهود المستخدم للنوم ، فمن حلف لا ينام على فراش ، فنام على الأرض ، لا يحنث في رأي الحنفية والشافعية ، لأن اللفظ لا ينصرف إليها عرفا ، والأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من الأسماء ، وليس في العادة إطلاق هذا اللفظ على الأرض. وأما المالكية فيحملون الأيمان على النية أو السبب أو بساط الحال التي جرت عليه اليمين (أي سبب اليمين) ، فإن عدم ذلك فالعرف ، فإن لم يكن شيء من ذلك فيحمل اليمين على مطلق اللفظ المراد في اللغة.

ودلت الآية على توحيد الله ، وإثبات الصانع الذي لا يشبهه شيء ، القادر الذي لا يعجزه شيء. ومن مظاهر قدرته رفع السماء ووقوفها بغير عمد نراه ، ودوامها على طول الدهر ، دون تبدل ولا تغير ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ، وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٣٢] وكذلك ثبات الأرض ووقوفها على غير سند بالرغم من تحركها ، ودورانها في الفضاء ، من أعظم الدلالات على التوحيد ، وعلى قدرة خالقها ، وأنه لا يعجزه شيء ، وفي ذلك تنبيه على الاستدلال بها على الله وتذكير بالنعمة ، فقد أخرج الله من الأرض ألوانا من الثمرات ، وأنواعا من النبات ، طعاما للإنسان ، وعلفا للدواب ، وقد بين الله هذا في قوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ، وَعِنَباً وَقَضْباً ، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ، وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبًّا)(١)(، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس ٨٠ / ٢٥ ـ ٣٢].

__________________

(١) القضب : علف رطب للدواب كالبرسيم ، والأب : الكلأ والعشب ، أو هو التبن خاصة.

٩٨

وأرشدت هذه الآية إلى أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق ، وقد أشار عليه‌السلام إلى هذا المعنى : «والله لأن يأخذ أحدكم حبلة ، فيحتطب على ظهره ، خير له من أن يسأل أحدا ، أعطاه أو منعه» (١). قال القرطبي : ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله ، بسبب الحرص والأمل ، والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرف من جعل لله ندّا (٢).

وفي قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد ، لأن المشركين يعلمون في الحقيقة أن المنعم عليهم هو الله دون الأنداد ، ويعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبروا ونظروا وأعملوا عقولهم وأفكارهم ، فلا داعي للوسائط المزعومة في قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٥ / ٣].

تحدي الجاحدين بالإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

__________________

(١) أخرجه مسلم.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٢٣٠

٩٩

الإعراب :

الهاء في (مِثْلِهِ) إما أن تكون عائدة على (عَبْدِنا) فتكون (مِنْ) ابتدائية ، وتقديره : ابتدئوا في الإتيان بالسورة من مثل محمد ، وإما أن تكون عائدة على (مِمَّا نَزَّلْنا) وهو القرآن ، فتكون (مِنْ) زائدة للبيان ، وتقديره : فأتوا بسورة مثله. و (مِنْ مِثْلِهِ) متعلق بسورة صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله. قال الزمخشري : ورد الضمير إلى المنزل أوجه ، لقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس ١٠ / ٣٨] ، (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود ١٤ / ١٣] ، (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء ١٧ / ٨٨] ، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب ، والكلام مع ردّ الضمير إلى «المنزّل» أحسن ترتيبا ، وذلك أن الحديث في المنزل ، لا في المنزل عليه.

(أُعِدَّتْ) إما حال للنار على معنى معدّة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء ٤ / ٩٠] ، أي قد حصرت ، وإما بكلام منقطع عما قبله.

البلاغة :

(عَلى عَبْدِنا) إضافة تشريف وتخصيص. (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) الأمر خرج إلى معنى التعجيز ، وتنكير السورة لإرادة العموم والشمول.

(وَلَنْ تَفْعَلُوا) يفيد دوام التحدي في الماضي والحاضر والمستقبل. (فَاتَّقُوا النَّارَ) إيجاز صارف إلى الغاية المقصودة جوهريا ، أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بالإيمان بالقرآن وبالنّبي محمد عليه الصلاة والسلام.

المفردات اللغوية :

(رَيْبٍ) شك. (عَبْدِنا) محمد. (مِنْ مِثْلِهِ) أي المنزل ، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) أحضروا آلهتكم أو نصراءكم ورؤساءكم ، أو من يشهد لكم يوم القيامة. (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره لتعينكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن محمدا قاله من عند نفسه ، فإنكم عرب فصحاء مثله. والسورة : قطعة أو طائفة من القرآن ، لها أول وآخر ، أقلها ثلاث آيات.

١٠٠