التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، والعبادلة الأربعة (ابن عمر ، وابن عباس ، وابن عمرو ، وابن الزبير) ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة.

وذكر من الأنصار : عبادة بن الصامت ، ومعاذا أبا حليمة ، ومجمّع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلمة بن مخلّد.

وكان من أشهر الحفاظ : عثمان ، وعلي ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري.

الجمع الثاني في عهد أبي بكر :

لم يجمع القرآن في مصحف واحد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لاحتمال نزول وحي جديد ما دام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّا ، ولكن كانت كل آيات القرآن مكتوبة في الرقاع والعظام والحجارة وجريد النخل. ثم استحّر القتل في القراء في وقعة اليمامة في عهد أبي بكر ، كما روى البخاري في فضائل القرآن في الجزء السادس ، فارتأى عمر بن الخطاب جمع القرآن ، ووافقه أبو بكر ، وكلّف زيد بن ثابت بهذه المهمة ، وقال أبو بكر لزيد : «إنك شاب عاقل لانتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه» ، ففعل زيد ما أمر به وقال : «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف (١) ، وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة ـ أي مكتوبة ـ مع خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع غيره : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة ٩ / ١٢٨] ، حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر» (٢).

__________________

(١) العسب : جمع عسيب : وهو جريدة من النخل كشط خوصها. واللّخاف : حجارة بيض رقاق ، واحدتها لخفة.

(٢) صحيح البخاري : ٦ / ٣١٤ ـ ٣١٥.

٢١

يتبين من هذا أن طريقة الجمع اعتمدت على أمرين معا : هما المكتوب في الرقاع والعظام ونحوها ، وحفظ الصحابة للقرآن في صدورهم. واقتصر الجمع في عهد أبي بكر على أنه جمع القرآن في صحف خاصة ، بعد أن كان متفرقا في صحف عديدة ، ولم يكتف زيد بحفظه القرآن ، وإنما اعتمد أيضا على حفظ غيره من الصحابة وهم العدد الكثير الذي يحصل به التواتر ، أي اليقين المستفاد من نقل الجمع الكثير الذي يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب.

الجمع الثالث ـ في عهد عثمان بنسخ المصاحف على خط واحد :

اقتصر دور عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه على كتابة ست نسخ من المصاحف على حرف واحد وطريقة واحدة ، ووزعها في الأمصار الإسلامية ، فأرسل ثلاثة منها إلى الكوفة ودمشق والبصرة ، وأرسل اثنين إلى مكة والبحرين ، أو إلى مصر والجزيرة ، وأبقى لديه مصحفا بالمدينة. وأمر بإحراق المصاحف الأخرى المخالفة في العراق والشام فقط. وظل المصحف الشامي محفوظا بجامع دمشق (الجامع الأموي) عند الركن ، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد رآه ابن كثير كما ذكر في كتابه (فضائل القرآن) في آخر تفسيره ، إلى أن أصابه الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة ١٣١٠ ه‍ ، ورآه قبل الحريق كبار علماء دمشق المعاصرين.

وسبب هذا الجمع يظهر فيما رواه لنا البخاري في فضائل القرآن في الجزء السادس عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه : «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان :

يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة ، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.

٢٢

فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة :

إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم.

ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرّق (١).

وأصبح المصحف العثماني أساسا في نشر وطبع المصاحف المتداولة الآن في العالم ، فبعد أن كان الناس يقرءون بقراءات مختلفة ، إلى وقت عثمان ، جمع عثمان الناس على مصحف واحد ، وحرف واحد ، وجعله إماما ، ولهذا نسب إليه ، ولقّب بأنه جامع القرآن.

والخلاصة : إن جمع القرآن في عهد أبي بكر كان جمعا له في نسخة واحدة موثوقة ، وجمع القرآن في عهد عثمان كان نسخا من صحف حفصة ، لمصاحف ستة بحرف واحد. وكان هذا الحرف ملائما للأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.

وأصبح لقراءة رسم المصحف طريقان : موافقة للرسم المكتوب حقيقة ، وموافقة للرسم احتمالا أو تقديرا.

ولا خلاف بين العلماء في أن ترتيب آيات السور توقيفي منقول ثابت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أن ترتيب السور أيضا توقيفي على الراجح. أما دليل ترتيب

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٣١٥ ـ ٣١٦.

٢٣

الآيات فقول عثمان بن العاص رضي‌الله‌عنه : «كنت جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ شخص ببصره ثم صوّبه ، ثم قال : «أتاني جبريل ، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [النحل ١٦ / ٩٠]».

وأما دليل ترتيب السور فهو حضور بعض الصحابة كابن مسعود ممن حفظوا القرآن عن ظهر قلب ، مدارسة القرآن بين جبريل عليه‌السلام والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهدوا بأنها كانت على وفق هذا الترتيب المعهود في السور وفي الآيات.

وأركان قرآنية الآية أو الكلمة أو القراءة المقبولة ثلاثة : الموافقة للرسم العثماني ولو احتمالا ، التوافق مع قواعد النحو العربي ولو بوجه ، النقل المتواتر بواسطة جمع عن جمع عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ما يعرف بصحة السند.

ثانيا ـ طريقة كتابة القرآن والرسم العثماني :

الرسم : طريقة كتابة الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها ، والوقوف عليها.

والمصحف : هو المصحف العثماني الإمام الذي أمر بكتابته سيدنا عثمان رضي‌الله‌عنه ، والذي أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم (١).

والرسم العثماني : هو الطريقة التي كتبت بها المصاحف الستة في عهد عثمانرضي‌الله‌عنه. وهو الرسم المتداول المعمول به بعد البدء بطباعة القرآن في البندقية سنة ١٥٣٠ م ، وما تلاها من طبعة إسلامية خالصة للقرآن في سانت بترسبوغ ، في روسيا ، سنة ١٧٨٧ م ، ثم في الآستانة سنة ١٨٧٧ م.

__________________

(١) المصاحف للسجستاني : ص ٥٠

٢٤

وللعلماء رأيان في طريقة كتابة القرآن أو الإملاء (١) :

١ ـ رأي جمهور العلماء ومنهم الإمامان مالك وأحمد : أنه يجب كتابة القرآن كما وردت برسمها العثماني في المصحف الإمام ، ويحرم مخالفة خط عثمان في جميع أشكاله في كتابة المصاحف ، لأن هذا الرسم يدلّ على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة.

٢ ـ رأي بعض العلماء (وهم أبو بكر الباقلاني وعز الدين بن عبد السلام وابن خالدون) : أنه تجوز كتابة المصاحف بالطرق أو الرسوم الإملائية المعروفة للناس ، لأنّه لم يرد نص في الرسم ، وإن ما في الرسم من زيادات أو حذوف لم يكن توقيفا أوحى الله به على رسوله ، ولو كان كذلك لآمنا به وحرصنا عليه ، وإذا كتب المصحف بالإملاء الحديث أمكن قراءته صحيحا وحفظه صحيحا.

وقد رأت لجنة الفتوى بالأزهر وغيرها من علماء العصر (٢) الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف ، احتياطا لبقاء القرآن على أصله لفظا وكتابة ، وحفاظا على طريقة كتابته في العصور الإسلامية السابقة ، دون أن ينقل عن أحد من أئمة الاجتهاد تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولا ، ولمعرفة القراءة المقبولة والمردودة ، فلا يفتح فيه باب الاستحسان الذي يعرض القرآن للتغيير والتحريف ، أو للتلاعب به ، أو البعث بآياته من ناحية الكتابة. لكن لا مانع في رأي جماهير العلماء من كتابة القرآن بطرق الإملاء الحديثة في مجال الدرس والتعليم ، أو عند الاستشهاد بآية أو أكثر في بعض المؤلفات الحديثة ، أو في كتب وزارة التربية والتعليم ، أو أثناء عرضه على شاشة التلفاز.

__________________

(١) تلخيص الفوائد لابن القاصّ : ص ٥٦ وما بعدها ، الإتقان للسيوطي : ٢ / ١٦٦ ، البرهان في علوم القرآن للزركشي : ١ / ٣٧٩ ، ٣٨٧ ، مقدمة ابن خالدون : ص ٤١٩.

(٢) مجلة الرسالة : العدد ٢١٦ ، سنة ١٩٣٧ ، ومجلة المقتطف تموز سنة ١٩٣٣

٢٥

ثالثا ـ الأحرف السبعة والقراءات السبع :

روى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه» (١) أي سبعة أوجه ، وهو سبع لغات ولهجات من لغات العرب ولهجاتهم ، يجوز أن يقرأ بكل لغة منها ، وليس المراد : أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه وإنما لا يخرج عنها ، فإما أن تكون بلغة قريش ، وهو الغالب ، وإما أن تكون بلغة قبيلة أخرى ، لأنها أفصح ، وتلك اللغات التي كانت مشهورة شائعة عذبة اللفظ هي : لغة قريش ، وهذيل ، وتميم ، والأزد ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد بن بكر. وهذا هو الأشهر والراجح.

وفي رأي آخر : المراد بالسبعة : أوجه القراءات القرآنية ، فاللفظ القرآني الواحد مهما يتعدد أداؤه وتتنوع قراءته لا يخرج التغاير فيه عن الوجوه السبعة الآتية وهي (٢) :

١ ـ الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها ، أو يغير معناها ، مثل (فتلقى آدم) قرئ (آدم).

٢ ـ الاختلاف في الحروف ، إما بتغير المعنى مثل (يعلمون وتعلمون) ، وإما بتغير الصورة دون المعنى مثل (الصراط) و (السراط).

٣ ـ اختلاف أوزان الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها وتذكيرها وتأنيثها ، مثل (أماناتهم) و (أمانتهم).

__________________

(١) أخرجه الجماعة : البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود والنسائي (جامع الأصول : ٣ / ٣١).

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٤٢ ـ ٤٧ ، تفسير الطبري : ١ / ٢٣ وما بعدها ، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة : ص ٢٨ وما بعدها ، تاريخ الفقه الإسلامي للسايس : ص ٢٠ وما بعدها ، مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي صالح : ص ١٠١ ـ ١١٦

٢٦

٤ ـ الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يغلب أن تكون إحداهما مرادفة للأخرى مثل (كالعهن المنفوش) أو (كالصوف المنفوش) وقد يكون بإبدال حرف بآخر مثل (ننشزها) و (ننشرها).

٥ ـ الاختلاف بالتقديم والتأخير ، مثل (فيقتلون ويقتلون) قرئ (فيقتلون ويقتلون).

٦ ـ الاختلاف بالزيادة والنقص ، مثل (وما خلق الذكر والأنثى) قرئ (والذكر والأنثى).

٧ ـ اختلاف اللهجات في الفتح والإمالة ، والترقيق والتفخيم ، والهمز والتسهيل ، وكسر حروف المضارعة ، وقلب بعض الحروف ، وإشباع ميم الذكور ، وإشمام بعض الحركات ، مثل (وهل أتاك حديث موسى) و (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) قرئ بإمالة : (أتى) ، (وموسى) ، (وبلى) وقوله تعالى : (خبيرا بصيرا) بترقيق الراءين ، و (الصلاة) و (الطلاق) بتفخيم اللامين. وقوله تعالى : (قد أفلح) بترك الهمزة ونقل حركتها من أول الكلمة الثانية إلى آخر الكلمة الأولى ، وهو ما يسمى (تسهيل الهمزة). وقوله تعالى : (لقوم يعلمون ، نحن نعلم ، وتسود وجوه ، ألم أعهد) بكسر حروف المضارعة في جميع هذه الأفعال. وقوله تعالى : (حتى حين) قرأه الهذليون (عتى عين) بقلب الحاء عينا. وقوله تعالى : (عليهم دائرة السّوء) بإشباع ميم جمع الذكور. وقوله تعالى : (وغيض الماء) بإشباع ضمة الغين مع الكسر.

والخلاصة : إن الأحرف السبعة : هي اللغات السبع التي اشتملت عليها لغة مضر في القبائل العربية ، وليست هي القراءات السبع أو العشر المتواترة المشهورة ، فهذه القراءات التي انتشرت كثيرا في عصر التابعين ثم اشتهرت في القرن الرابع بعد ظهور كتاب في القراءات للإمام المقرئ ابن مجاهد ، تعتمد على غير

٢٧

الأصل الذي يتعلق بالأحرف السبعة ، وتتفرع من حرف واحد من الأحرف السبعة ، كما أبان القرطبي.

ثم إن الكلام على الأحرف السبعة أصبح تاريخيا ، فقد كانت تلك الأحرف السبعة توسعة في النطق بها على الناس في وقت خاص للضرورة ، لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم ، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم ، ثم زال حكم تلك الضرورة ، وارتفع حكم تلك الأحرف السبعة ، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد ، ولم يكتب القرآن إلا بحرف واحد منذ عهد عثمان ، مما قد تختلف فيه كتابة الحروف ، وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن ، كما أوضح الطحاوي وابن عبد البر وابن حجر وغيرهم (١).

رابعا ـ القرآن كلام الله وأدلة الإثبات بوجوه الإعجاز :

إن القرآن العظيم المسموع والمكتوب : هو كلام الله القديم العزيز العليم ، ليس شيء منه كلاما لغيره من المخلوقين ، لا جبريل ، ولا محمّد ولا غيرهما ، والناس يقرءونه بأصواتهم (٢). قال الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٢ ـ ١٩٥] وقال عزوجل : (قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَهُدىً ، وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل ١٦ / ١٠٢].

والدليل على أن القرآن كلام الله : هو عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه ، وهذا هو المراد بإعجاز القرآن : أي عجز البشر عن الإتيان بمثله ، في بلاغته ، أو تشريعه أو مغيباته. قال الله تعالى مستثيرا العرب المعروفين بأنهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة ، ومتحديا لهم بأن يأتوا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٤٢ ـ ٤٣ ، فتح الباري : ٩ / ٢٤ ـ ٢٥ ، شرح مسلم للنووي : ٦ / ١٠٠

(٢) فتاوى ابن تيمية : ١٢ / ١١٧ ـ ١٦١ ، ١٧٢

٢٨

بمثل القرآن في نظمه ومعانيه وبيانه المشرق البديع الفريد ولو بمثل سورة منه : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ تَفْعَلُوا ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٣ ـ ٢٤].

وتتكرر آي القرآن في مناسبات مختلفة مطالبة بمجاراة القرآن وتحدي العرب الذين عارضوا الدعوة الإسلامية ، ولم يؤمنوا بالقرآن ، ولم يقرّوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال تعالى : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي معينا [الإسراء ١٧ / ٨٨]. وإذ عجزوا عن الإتيان بالمثيل ، فليأتوا بعشر سور مثله ، فقال سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ، قُلْ : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود ١١ / ١٣ ـ ١٤].

ثم أكد الحق سبحانه التحدي أو المعارضة بمثل سورة من القرآن بعد العجز عن المثل الكامل أو عن عشر سور منه ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ قُلْ : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس ١٠ / ٣٨].

قال الطبري (١) : إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته ، بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله ، ولا لأمة من الأمم قبلهم ، وذلك أن كل كتاب أنزله جلّ ذكره على نبي من أنبيائه قبله ، فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كالتوراة

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٦٥ ـ ٦٦

٢٩

التي هي مواعظ وتفصيل ، والزبور الذي هو تمحيد وتمجيد ، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير ، لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق.

والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحوي معاني ذلك كله ، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب ، غيره منها خال. ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب : نظمه العجيب ، ووصفه الغريب ، وتأليفه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء ، وكلّت عن وصف شكل بعضه البلغاء ، وتحيرت في تأليفه الشعراء ، وتبلدت قصورا عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء ، فلم يجدوا له إلا التسليم والإقرار بأنه من عند الله الواحد القهار ، مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب وترهيب ، وأمر وزجر ، وقصص وجدل ومثل ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء.

ومظاهر الإعجاز أو أوجه الإعجاز كثيرة : منها ما يخص العرب في روعة بيانه وبلاغة أسلوبه وجزالة ألفاظه أو نظمه ، سواء في اختيار الكلمة القرآنية أو الجملة والتركيب ونظم الكلام ، ومنها ما يشمل العرب وغيرهم من عقلاء الناس بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ، وعن الماضي البعيد من عهد آدم عليه‌السلام إلى مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالتشريع المحكم الشامل لكل شؤون الحياة العامة والخاصة. وأكتفي هنا بإيجاز مظاهر الإعجاز وهي عشرة كما ذكر القرطبي (١) :

أ ـ النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيره ، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٧٣ ـ ٧٥ ، وانظر دلائل الإعجاز في علم المعاني ، للإمام عبد القاهر الجرجاني : ص ٢٩٤ وما بعدها ، إعجاز القرآن للباقلاني : ص ٣٣ ـ ٤٧ ، إعجاز القرآن للرافعي : ص ٢٣٨ ـ ٢٩٠ ، تفسير المنار : ١ / ١٩٨ ـ ٢١٥

٣٠

٢ ـ الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.

٣ ـ الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال ، وتأمل ذلك في سورة (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وقوله سبحانه : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى آخر سورة الزمر ، وكذلك قوله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) إلى آخر سورة [إبراهيم ١٤ / ٤٢].

٤ ـ التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي ، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.

٥ ـ الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله على قلب النّبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها ، والقرون الخالية في دهرها ، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه ، وتحدوه به من قصة أهل الكهف ، وشأن موسى والخضر عليهما‌السلام ، وحال ذي القرنين ، فجاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو أمي من أمة أمية ، ليس لها بذلك علم ، بما عرفوا من الكتب السالفة ، فتحققوا صدقه.

٦ ـ الوفاء بالوعد ، المدرك بالحس في العيان ، في كل ما وعد الله سبحانه ، وينقسم : إلى أخباره المطلقة ، كوعده بنصر رسوله عليه‌السلام ، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه. وإلى وعد مقيد بشرطه ، كقوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٣] و (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن ٦٤ / ١١] و (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق ٦٥ / ٢] و (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال ٨ / ٦٥] وشبه ذلك.

٧ ـ الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي ، ولا يقدر عليه البشر ، ولا سبيل لهم إليه ، من ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه‌السلام أنه سيظهر دينه على الأديان ، بقوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ

٣١

بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة ٩ / ٣٣] ، ففعل ذلك. ومنه قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران ٣ / ١٢]. ومنه قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ، إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح ٤٨ / ٢٧]. ومنه قوله تعالى : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ، سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم ٣٠ / ١ ـ ٣].

فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين ، أو من أوقفه عليها رب العالمين ، وقد عجز الزمان عن إبطال شيء منها ، سواء في الخلق والإيجاد أم في بيان أخبار الأمم ، أم في وضع التشريع السوي لكل الأمم ، أم في توضيح كثير من المسائل العلمية والتاريخية ، مثل (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر ١٥ / ٢٢] وآية (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء ٢١ / ٣٠] ، وآية (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات ٥١ / ٤٩] وآية (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) [الحجر ١٥ / ١٩] وآية إثبات كروية الأرض : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر ٣٩ / ٥] والتكوير : اللف على الجسم المستدير. واختلاف مطالع الشمس في آية (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) إلى قوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس ٣٦ / ٣٨ ـ ٤٠].

٨ ـ ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام ، في الحلال والحرام ، وفي سائر الأحكام ، فهو يشتمل على العلوم الإلهية ، وأصول العقائد الدينية وأحكام العبادات ، وقوانين الفضائل والآداب ، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي الموافقة لكل زمان ومكان.

٩ ـ الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.

١٠ ـ التناسب في جميع ما تضمنه القرآن ظاهرا وباطنا ، من غير اختلاف ،

٣٢

قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ٤ / ٨٢].

يظهر من بيان هذه الأوجه في إعجاز القرآن أنها تشمل الأسلوب والمعنى.

أما خصائص الأسلوب فهي أربعة :

الأولى ـ النسق البديع والنظم الغريب ، والوزن العجيب المتميز عن جميع كلام العرب ، شعرا ونثرا وخطابة.

الثانية ـ السمو المتناهي في جمال اللفظ ، ورقة الصياغة ، وروعة التعبير.

الثالثة ـ التآلف الصوتي في نظم الحروف ورصفها ، وترتيبها ، وصياغتها ، وإيحاءاتها ، بحيث تصلح خطابا لكل الناس على اختلاف المستويات الفكرية والثقافية ، مع تسهيل سبيلها وحفظها لمن أراد ، قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر ٥٤ / ١٧].

الرابعة ـ تناسب اللفظ والمعنى ، وجزالة اللفظ وإيفاء المعنى ، ومناسبة التعبير للمقصود ، والإيجاز والقصد دون أي تزيّد ، وترسيخ المعاني بصور فنية محسوسة تكاد تلمسها ، وتتفاعل معها ، بالرغم من تكرارها بصورة جذابة فريدة.

وأما خصائص المعنى فهي أربعة أيضا :

الأولى ـ التوافق مع العقل والمنطق والعلم والعاطفة.

الثانية ـ قوة الإقناع ، واجتذاب النفس ، وتحقيق الغاية بنحو حاسم قاطع.

الثالثة ـ المصداقية والتطابق مع أحداث التاريخ ، والواقع المشاهد ، وسلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف ، خلافا لجميع كلام البشر.

٣٣

الرابعة ـ انطباق المعاني القرآنية على مكتشفات العلوم والنظريات الثابتة. ويجمع هذه الخصائص آيات ثلاث في وصف القرآن ، وهي قوله تعالى : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود ١١ / ١] وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤١ ـ ٤٢] وقوله عزوجل : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢١].

وسيظل القرآن الكريم ناطقا بالمعجزات في كل عصر ، فهو ـ كما قال الرافعي (١) ـ كتاب كل عصر ، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز ، وهو معجز في تاريخه دون سائر الكتب ، ومعجز في أثره الإنساني ، ومعجز كذلك في حقائقه ، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء ، فهي باقية ما بقيت.

خامسا ـ عربية القرآن وترجمته إلى اللغات الأخرى :

القرآن كله عربي (٢) ، نزل بلسان العرب ، وما من لفظ فيه إلا وهو عربي أصلا ، أو معرّب خاضع لموازين اللغة العربية وقوالبها ومقاييسها ... وقد زعم بعض الناس أن القرآن ليس عربيا خالصا ، لاشتماله على بعض كلمات من أصل أعجمي (غير عربي) ، مثل (سندس) و (إستبرق) وأنكر بعض العرب ألفاظ (قسورة) و (كبّارا) ، و (عجاب) فدخل شيخ طاعن في السن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم ، ثم قال له : اقعد ، كرر ذلك

__________________

(١) إعجاز القرآن : ص ١٧٣ ، ١٧٥

(٢) تفسير الطبري : ١ / ٢٥

٣٤

مرات ، فقال الشيخ : أتهز أبي ، يا ابن (قسورة) ، وأنا رجل (كبارا) ، إن هذا الشيء (عجاب)! فسألوه ، هل هذا في اللغة العربية؟ فقال : نعم.

وكان الإمام الشافعي رحمه‌الله أول من رد بكلامه الفصيح ، وحجته القوية على هذا الزعم ، مبينا أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ، مفندا حجج هؤلاء الزاعمين وأهمها ثنتان :

الأولى ـ أن في القرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب.

والثانية ـ أن في القرآن ما ينطق به غير العرب.

ورد على الحجة الأولى : بأن جهل بعض العرب ببعض القرآن ليس دليلا على عجمة بعض القرآن ، بل هو دليل على جهل هؤلاء ببعض لغتهم ، فليس لأحد أن يدعي الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربي ، لأنه أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها لفظا ، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي.

ثم رد على الحجة الثانية : بأن بعض الأعاجم قد تعلم بعض الألفاظ العربية ، وسرت إلى لغاتهم ، ويحتمل أن يوافق لسان العجم أو بعض الألسنة قليلا من لسان العرب ، وقد يكون بعض الألفاظ العربية من أصل أعجمي ، لكن هذا القليل النادر من أصل غير عربي قد سرى قديما إلى العرب ، فعرّبوه ، وأنزلوه على طبيعة لغتهم ، وجعلوه صادرا من لسانهم ، بحسب حروفهم ومخارج تلك الحروف وصفاتها في لغة العرب ، وذلك مثل الألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها ، وإن كانت في الأصل تقليدا في تغمتها للغات الأخرى (١).

وتضافرت الآيات القرآنية بالتصريح بأن القرآن كله عربي ، جملة

__________________

(١) الرسالة للإمام الشافعي : ص ٤١ ـ ٥٠ ، ف ١٣٣ ـ ١٧٠ ، وانظر المستصفى للغزالي : ١ / ٦٨ ، وروضة الناظر : ١ / ١٨٤

٣٥

وتفصيلا ، وأنه نزل بلسان العرب قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منها قوله تعالى : (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف ١٢ / ١ ـ ٢] ومنها قوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٢ ـ ١٩٥] ومنها : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) [الرعد ١٣ / ٣٧] ومنها : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى ٤٢ / ٧] ومنها : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف ٤٣ / ١ ـ ٣] ومنها : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر ٣٩ / ٢٨].

ورتب الشافعي على عربية القرآن حكما مهما جدا ، فقال : فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ويتلو به كتاب الله ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير ، وأمر به من التسبيح والتشهد ، وغير ذلك.

وكان من مزية عربية القرآن وفضله على العرب أمران عظيمان هما :

الأول ـ إن تعلم القرآن والنطق به على أصوله يقوّم اللسان ، ويفصّح المنطق ، ويصحح الكلام ، ويساعد على فهم لغة العرب ، فليس هناك شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة ، حين تتأثر باللهجات العامية المختلفة.

الثاني ـ كان للقرآن الفضل الأكبر في الحفاظ على اللغة العربية ، في مسيرة القرون الأربعة عشر الغابرة ، بما اشتملت عليه من فترات ضعف وتخلف وتسلط المستعمرين الأوربيين على بلاد العرب ، بل إن القرآن عامل أساسي في توحيد العرب ، وباعث قوي ساعد في انتفاضة العرب ضد المحتل الغاصب والمستعمر البغيض ، مما أعاد الصحوة الإسلامية إلى أوطان العرب والإسلام ، وربط بين

٣٦

المسلمين برباط الإيمان والعاطفة القوية الصادقة ، لا سيما في أوقات المحنة والحروب ضد المحتلين.

ترجمة القرآن :

يحرم ولا يصح شرعا ترجمة نظم القرآن الكريم ، لأن ذلك متعذر غير ممكن ، بسبب اختلاف طبيعة اللغة العربية التي نزل بها القرآن عن سائر اللغات الأخرى ، ففي العربية المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والصور الفنية التي لا يمكن صبها بألفاظها في قوالب لغة أخرى ، ولو حدث ذلك لفسد المعنى ، واختل التركيب ، وحدثت العجائب في فهم المعاني والأحكام ، وذهبت قدسية القرآن ، وزالت عظمته وروعته ، وتبددت بلاغته وفصاحته التي هي سبب إعجازه.

لكن يجوز شرعا ترجمه معاني القرآن أو تفسيره ، على أنه ليس هو القرآن ، فلا تعد ترجمة القرآن قرآنا ، مهما كانت الترجمة دقيقة ، ولا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية ، لأن فهم المراد من الآيات يحتمل الخطأ ، وترجمتها إلى لغة أخرى يحتمل الخطأ أيضا ، ولا يصح الاعتماد على الترجمة مع وجود هذين الاحتمالين (١).

ولا تصح الصلاة بالترجمة (٢) ، ولا يتعبد بتلاوتها ، لأن القرآن اسم للنظم والمعنى ، والنظم : هو عبارات القرآن في المصاحف. والمعنى : هو ما تدل عليه العبارات ، ولا تعرف أحكام الشرع الثابتة بالقرآن إلا بمعرفة النظم والمعنى.

__________________

(١) وهذا هو الحادث الآن ، فقد ترجم القرآن الكريم إلى زهاء خمسين لغة ، وكلها ترجمات ناقصة ، أو مشوهة ، وغير موثوقة ، وحبذا لو صدرت ترجمة من ثقات العلماء المسلمين.

(٢) تفسير الرازي : ١ / ٢٠٩

٣٧

سادسا ـ الحروف التي في أوائل السور ـ الحروف المقطعة :

بدأ الحق سبحانه وتعالى بعض السور المكية أو المدنية القرآنية ببعض حروف التهجي أو الحروف المقطعة ، منها البسيط المؤلف من حرف واحد ، وذلك في سور ثلاث : صاد وقاف والقلم ، إذ افتتحت الأولى بحرف : (أَحْرَصَ) والثانية بحرف : (بَرْقٌ) ، والثالثة بحرف : (ن).

ومنها فواتح عشر سور مؤلفة من حرفين ، سبع منها متماثلة تسمى : الحواميم ، لابتدائها بحرفي : (لَحْمَ) ، وهي سور : غافر ، وفصلت ، والشورى ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، وتتمة العشر : هي سور : طه ، وطس ، ويس.

ومنها فواتح ثلاث عشرة سورة مركبة من ثلاثة أحرف ، ست منها بدئت بالم وهي سور : البقرة ، وآل عمران ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة. وخمس منها بلفظ الر : وهي سور : يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر. واثنتان منها بدئت بطسم ، وهما سورتا الشعراء والقصص.

ومنها سورتان افتتحتا بأربعة أحرف ، وهما سورة الأعراف وفاتحتها (المص) وسورة الرعد وفاتحتها (المر).

ومنها سورة واحدة افتتحت بخمسة حروف هي سورة مريم ومستهلها : (كهيعص). فصارت مجموعة الفواتح القرآنية تسعا وعشرين ، وهي على ثلاثة عشر شكلا ، وحروفها أربعة عشر ، وهي نصف الحروف الهجائية (١)

وقد اختلف أهل التأويل المفسرون في بيان المقصود من فواتح السور (٢) ،

__________________

(١) مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح : ص ٢٣٤ وما بعدها.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ١٥٤ وما بعدها.

٣٨

فقال جماعة : هي سرّ الله في القرآن ، ولله في كل كتاب سر ، وهي مما استأثر الله بعلمه ، فهو من المتشابه الذي نؤمن به ، على أنه من عند الله ، دون تأويل ولا تعليل ، لكنه أمر مفهوم عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال جماعة : لا بد أن يكون لذكره معنى وجيه ، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب وتثبيته في أسماعهم وآذانهم ، بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله ، علما بأن القرآن مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم.

فكأنه يقول لهم : كيف تعجزون عن الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه؟ مع أنه كلام عربي ، مكون من حروف هجائية ، ينطق بها كل عربي : أمي أو متعلم ، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة ، ويعتمدون على هذه الحروف في الكلام : نثره وشعره وخطابته وكتابته ، وهم يكتبون بهذه الحروف ، ومع هذا فقد عجزوا عن مجاراة القرآن الذي نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقامت الحجة عليهم أنه كلام الله ، لا كلام بشر ، فيجب الإيمان به ، وتكون الفواتح الهجائية تقريعا لهم وإثباتا لعجزهم أن يأتوا بمثله.

لكنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ، كانوا مكابرين معاندين في عدم الإيمان به ، وقالوا ببلاهة وسخف ، وسطحية وسذاجة عن محمد والقرآن : محمد ساحر ، شاعر ، مجنون ، والقرآن : أساطير الأولين. وذلك كله آية الإفلاس ، ومظهر الضعف ، وفقد الحجة ، وكذب المعارضة والممانعة ، وكفر المقلّدة ، والعكوف على التقاليد العتيقة البالية ، والعقائد الوثنية الموروثة الخرقاء.

والرأي الثاني هو رأي جماهير المفسرين والمحققين من العلماء ، وهو المعقول المقتضي فتح الأسماع ، واستماع القرآن ، والإقرار بأنه كلام الله تعالى.

سابعا ـ التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية في القرآن :

إن القرآن الكريم الذي نزل بلسان العرب ، لم يخرج عن طبيعة اللغة العربية

٣٩

في استعمال اللفظ بطريق الحقيقة تارة (وهي استعمال اللفظ فيما وضع له من المعنى في اصطلاح التخاطب) واستعماله بطريق المجاز (استعمال الكلمة في معنى آخر غير ما وضعت له ، لعلاقة بين المعنى الأصلي للكلمة ، والمعنى الآخر الذي استعملت فيه) ، واستخدام التشبيه (وهو أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر بأداة هي الكاف ونحوها ، ملفوظة أو ملحوظة) والاعتماد على الاستعارة (وهي تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه ، وعلاقته دائما المشابهة) (١).

أما التشبيه : فكثير في القرآن ، سواء أكان بحسب وجه الشبه مفردا أم مركبا ، فمن التشبيه المفرد أو غير التمثيل (وهو ما لا يكون وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد ، بل من مفرد ، مثل زيد أسد ، انتزع وجه الشبه من مفرد ، وهو أن زيدا أشبه الأسد من جهة الشجاعة) : قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٥٩].

ومن التشبيه المركب أو تشبيه التمثيل (وهو ما كان وجه الشبه منتزعا فيه من متعدد، أو هو كما قال السيوطي في الإتقان : أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض) قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة ٦٢ / ٥] فالتشبيه مركب من أحوال الحمار ، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع ، مع تحمل التعب في استصحابه. وقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها ، وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ، أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً ، فَجَعَلْناها حَصِيداً ، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس ١٠ / ٢٤] فيه عشر جمل ، وقع التركيب من مجموعها ، بحيث لو سقط منها شيء ، اختل التشبيه ، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة

__________________

(١) انظر مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح : ص ٣٢٢ ـ ٣٣٣

٤٠