التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

بنو إسرائيل أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم ، ومع ذلك كانوا ينسون الإنذارات ، ويحرفون الشرائع ، ويتبعون أهواءهم ، ويعصون رسلهم ، إما بالتكذيب وإما بالقتل.

وهذه الآيات تذكير لهم بإعطاء موسى التوراة ، وإتباعه بالرسل : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون ٢٣ / ٤٤] وهم يوشع وداود وسليمان وعزير وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام ، وكانوا كلهم يحكمون بشريعة موسى ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ..) الآية [المائدة ٥ / ٤٤] إلا أن عيسى جاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات ـ وهي المعجزات كإحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيها ، فتكون طيرا بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه‌السلام ـ ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به ، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له ، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ، وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران ٣ / ٥٠].

وكانت النتيجة أنه كلما جاءهم رسول بما لا تميل إليه نفوسهم ، وهي لا تميل إلى الخير دائما ، كفروا به واستكبروا عليه تجبرا وبغيا ، فمنهم من كذبوه كعيسى ومحمدعليهما‌السلام ، ومنهم من قتلوه كزكريا ويحيى عليهما‌السلام ، فلا غرابة بعدئذ إن لم يؤمنوا بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن العناد من طبعهم. والخطاب لجميع اليهود ، لأنهم فعلوا ذلك في الماضي ورضي عنهم أولادهم.

ومن قبائحهم قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قلوبنا عليها غشاء ، فلا تعي ما تقوله ، ولا تفقه ما تتكلم به ، فيرد الله عليهم : لستم كذلك ، فقلوبكم خلقت مستعدة بالفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق ، لكن الله أبعدكم من رحمته ، بسبب كفركم

٢٢١

بالأنبياء وعصيانكم التوراة. ولم يظلمهم الله بهذا الإبعاد أو الطرد من رحمته ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فإيمانهم قليل جدا ، فهم آمنوا ببعض الكتاب ، وتركوا العمل بالبعض الآخر أو حرفوه ، أو أنهم لم يؤمنوا أصلا.

وكان عندهم وصف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان زمانه ، وكانوا يستنصرون به على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة.

فلما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مصدق لما معهم من التوراة ، ومؤكد وصف النّبي المعروف عندهم ، كفروا به حسدا للعرب ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، واستكبروا عن قبول دعوته وإجابته احتقارا للرسل ، وهم يعلمون أنه رسول الله ، وآثروا الدنيا على الآخرة ، فلعنة الله على كلّ كافر من اليهود وغيرهم ، لأنه كفر بدعوة الإسلام.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه صورة واضحة تبين موقف فئة من البشر من الأحكام الإلهية ، فمن أعرض عنها ، وجحد بها ، واستكبر عن قبولها ، كان مصيره المحقق المنتظر هو استحقاق العذاب والطرد من رحمة الله تعالى.

وهذا الحشد المتتابع من الرسل الذين جاؤوا لبني إسرائيل يدلّ على مزيد العناية الإلهية بأعتى البشر ، وتمكينه من العودة إلى طريق الحق ، فإذا عوقب ذلك العاتي المستكبر ، كان عقابه حقا وعدلا.

والله تعالى منزّه عن ظلم أحد ، ففي قوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة ٢ / ٨٨] بيان السبب في نفورهم عن الإيمان ، وهو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه.

٢٢٢

وكل ما ذكر من أخبار اليهود وإظهار قبائحهم وتقريعهم على ظلمهم وكفرهم واطلاع النّبي على ما كانوا يكتمونه من شريعة التوراة ، فيه دلالة على نبوته عليه‌السلام.

كفرهم بما أنزل الله وقتلهم الأنبياء

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

الإعراب :

«ما» في بئسما : إما نكرة موصوفة على التمييز بمعنى شيء ، والتقدير : بئس الشيء شيئا ، و (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) صفته ، وإما بمعنى الذي في موضع رفع ، و «اشتروا به» صلته ، وتقديره : بئس الذي اشتروا به أنفسهم ، و (أَنْ يَكْفُرُوا) في تقدير المصدر ، وهو المقصود بالذم ، وهو في موضع رفع لوجهين : أن يكون مبتدأ وما تقدم خبره ، أو أن يكون خبر مبتدأ محذوف وتقديره : هو أن يكفروا ، أي كفرهم.

(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) نصب مصدقا على الحال من الحق ، والعامل في الحال معنى الجملة ، وهذه الحال حال مؤكدة ، فالحق لا يجوز أن يفارق التصديق لكتب الله عزوجل ، ولو فارق التصديق لها لخرجت عن أن تكون حقا.

البلاغة :

(عَذابٌ مُهِينٌ) أسندت الإهانة إلى العذاب من قبيل إسناد الأفعال إلى أسبابها.

٢٢٣

المفردات اللغوية :

(اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) باعوها ، لأن «اشترى» بمعنى باع ، وبمعنى ابتاع ، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن. (بَغْياً) مفعول لأجله ليكفروا ، أي حسدا. (فَباؤُ) رجعوا. (بِغَضَبٍ) الغضب أشد من اللعن ، والتنكير للتعظيم ، والمعنى : فرجعوا وانقلبوا متلبسين بالغضب.

(وَيَكْفُرُونَ) الواو للحال. (بِما وَراءَهُ) سواه أو بعده من القرآن. (وَهُوَ الْحَقُ) حال. (مُصَدِّقاً) حال ثانية مؤكدة. (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) قتلتم ، والخطاب للموجودين في زمن نبيّنا بما فعل آباؤهم ، لرضاهم به.

التفسير والبيان :

يعلم اليهود المعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه النّبي المبشر به في التوراة : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة ٢ / ١٤٦] ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا ، فعقب الله على موقفهم بذمهم ذما شديدا ، باختيارهم الكفر على الإيمان ، وبذل أنفسهم فيه ، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع ، وكانت علة كفرهم محض العناد الذي هو نتيجة الحسد ، وخوف ضياع الزعامة والمال من أيديهم ، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده ، فأصبحت عاقبتهم أنهم قد رجعوا بغضب من الله جديد لكفرهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد كفرهم بموسى عليه‌السلام وبمن جاء بعده من الأنبياء. ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلهم الخزي وسوء الحال ، وأما في الآخرة فلهم الخلود في نار جهنم.

وإذا قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ليهود المدينة : آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله ، قالوا : إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة ، ونكفر بما سواه وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها ، وهو الحق الذي لا شك فيه. فيرد الله عليهم : إن القرآن هو الحق من عند الله المصدق للتوراة التي معكم ، وكلاهما من عند الله ، فكيف

٢٢٤

تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها؟ بل إنكم لم تؤمنوا بالتوراة التي فيها تحريم القتل ، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق ، فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟!

وقد نسب القتل إلى معاصري النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم الغابرين ، فأقروهم على القتل وغيره ، ولم يعدوه مخالفة أو معصية ، وفاعل الكفر ومجيزه سواء ، وطبع السوء ينتقل في الذرية ، وهم متضامنون متكافلون ، مصرون على إقرار أفعال السلف. فإن لم يوجد إقرار أو رضا ، فلا إثم على الأبناء ، لأن كل نفس مسئولة عن حالها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام :

ليس من العقل السليم ، بل ولا من المصلحة الحقيقية للإنسان أن يؤثر الفاني على الباقي ، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمين ، لأن دوام الخير وبقاء النعمة أصون للمنفعة ، وأكرم للنفس ، لذا ندد القرآن بأفعال اليهود ، مقررا : بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم ، حيث استبدلوا الباطل بالحق ، والكفر بالإيمان.

وإذ لم يؤمن اليهود إيمانا كاملا بالتوراة التي أنزلها الله على نبيهم موسى عليه‌السلام ، فلا أمل في إيمانهم بالقرآن.

وإن استمرارهم في طريق الكفر قديما وحديثا ، بعبادتهم العجل ، وإعنات موسى وكفرهم به ، وتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكفرهم بالقرآن ، يبوئهم العذاب المهين : وهو ما اقتضى الخلود الدائم في نار جهنم. أما تعذيب عصاة المؤمنين في النار فهو مؤقت ، وتمحيص لهم وتطهير ، كما يطهر المذنب في الدنيا بالعقاب ، مثل رجم الزاني وقطع يد السارق.

٢٢٥

تكذيب ادعائهم الإيمان بالتوراة

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

الإعراب :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ) اللام لام القسم.

(وَاسْمَعُوا) المراد به سماع تدبر وطاعة والتزام ، لا مجرد إدراك القول ، فهو مؤكد لقوله : (خُذُوا ...).

البلاغة :

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي حبّ العجل ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف ١٢ / ٨٢] أي أهل القرية وأهل العير.

وفي قوله (أُشْرِبُوا) استعارة مكنية ، شبّه حب عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب ، وحذف المشبه به ، ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو الإشراب. (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بالتوراة ، لأنه ليس في التوراة عبادة العجول ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود ١١ / ٨٧] وكذلك إضافة الإيمان إليهم. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم له (الكشاف : ١ / ٢٢٧).

المفردات اللغوية :

«البينات» المعجزات كالعصا واليد وفلق البحر. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) جعلتموه إلها معبودا. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد ذهابه إلى الميقات. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) باتخاذه.

٢٢٦

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) على العمل بما في التوراة. (الطُّورَ) الجبل. (بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد. (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) خالط حبّ العجل قلوبهم ، كما يخالط الشراب الجسد. (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي بئس شيئا ، يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالتوراة ، كما زعمتم ، والمعنى : لستم بمؤمنين بالتوراة ، وقد كذبتم محمدا ، والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه.

التفسير والبيان :

لقد كفر اليهود بالنعم التي أنعم الله بها عليهم كما بان في الآيات السابقة والتي كانت في أرض الميعاد ، وكفروا أيضا بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات التي جاء بها موسى ، والتي تدل على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله. والآيات البينات : هي التي حدثت قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة ، وهي تسع كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء ١٧ / ١٠١] ، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر والسّنون. ولم تزدهم تلك الآيات إلا توغلا في الشرك والوثنية ، ولم يشكروا نعم الله عليهم ، وقابلوها باتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله ، والعجل : هو الذي صنعه لهم السامري من حليّهم ، وجعلوه إلها وعبدوه. وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم ، فلا أمل في هدايتهم ، وهو ظلم ووضع للشيء في غير موضعه اللائق به ، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله؟

واذكر يا محمد وقت أن أخذ عليهم الميثاق بأن يعملوا بما في التوراة ويأخذوا بما فيها بقوة ، فخالفوا الميثاق وأعرضوا عنه ، حتى رفع الطور عليهم إرهابا لهم ، فقبلوه ، ثم خالفوه وكأنهم قالوا : سمعنا وعصينا ، ثم أوغلوا في المخالفة ووقعوا في الشرك ، واتخذوا العجل إلها ، وخالط حبه قلوبهم ، وتمكن الحب الشديد لعبادة العجل في نفوسهم ، بسبب ما كانوا عليه من الوثنية في مصر.

قل يا محمد لليهود الحاضرين ، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين : إن

٢٢٧

كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا ، فبئس هذا الإيمان الذي يوجه إلى هذه الأعمال التي تفعلونها ، مثل عبادة العجل ، وقتل الأنبياء ، ونقض الميثاق.

وهاتان الآيتان ردّ على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزعموا أنهم مؤمنون بالتوراة دون غيرها ، فهم في الواقع لم يؤمنوا بشيء ، لا بالتوراة ولا بالقرآن ، فاستحقوا التوبيخ والتقريع.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن الإيمان الصحيح بشيء هو الذي يدعو إلى الانسجام التام مع مقتضيات ذلك الإيمان ، فمن آمن بالتوراة بحق ، وجب عليه العمل بما فيها ، والتزام أوامرها ، واجتناب نواهيها ، وهذا يدعوه أيضا إلى الإيمان بكل ما يؤيدها ويؤكدها ويقرر مضمونها ، وقد جاء القرآن مصدقا لما في التوراة ، فلزم الإيمان به ، واتباع هديه.

أما اليهود في الماضي وفي عصر النّبوة فعجيب أمرهم ، يدّعون الإيمان بالتوراة ، وهي التي ترشد إلى توحيد الإله وعبادته ، ثم يعبدون العجل ويتخذونه إلها ، ويكفرون بآيات الله ، ويخالفون الأنبياء ، ويكفرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أكبر الذنوب وأشد الأمور عليهم ، إذ كفروا بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس جميعا.

فكيف يدّعون الإيمان لأنفسهم ، وقد فعلوا هذه الأفاعيل القبيحة من نقض الميثاق ، والكفر بآيات الله ، وعبادة العجل من دون الله؟.

ومع ذلك عفا الله عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل ، كما سبق في تعداد نعم الله عليهم.

٢٢٨

حرص اليهود على الحياة

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

الإعراب :

(خالِصَةً) إما خبر كان ، أو حال من (الدَّارُ) ويجعل (عِنْدَ اللهِ) خبر كان.

(أَحَدُهُمْ) الضمير يعود على اليهود (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) هو : ضمير مرفوع منفصل اسم «ما» وهو كناية عن أحد ، و (أَنْ يُعَمَّرَ) في موضع رفع فاعل مزحزح كأنه قال : ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره.

البلاغة :

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) أتى هنا بلن وفي سورة الجمعة بلا لأن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك ، فإنهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة ، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس.

(عَلى حَياةٍ) التنكير للتنبيه على أنها حياة مخصوصة وهي التي يعمر فيها الشخص آلاف السنين.

المفردات اللغوية :

(خالِصَةً) خاصة بكم.

(أَحْرَصَ النَّاسِ) الحرص : الطلب بشره (عَلى حَياةٍ) أي على طول العمر ، لما يعلمون من مآلهم السيء ، وعاقبتهم عند الله الخاسرة ، لأن الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر. (لَوْ يُعَمَّرُ) لو يطول عمره (بِمُزَحْزِحِهِ) مبعده.

٢٢٩

سبب نزول الآية (٩٤):

أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، فأنزل الله : (قُلْ : إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً ..) [البقرة ٢ / ٩٤].

التفسير والبيان :

أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لليهود : إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس ، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات ، وأنكم شعب الله المختار ، فاطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد ، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ، ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. قال ابن عباس : «ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه».

وروي عن ابن عباس أن المراد : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب منا ومنكم ، فأبوا ذلك وما دعوا ، لعلمهم بكذبهم.

قال ابن كثير : هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين ، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة. والقول بتمني الموت لا تظهر فيه الحجة عليهم ، إذ يقال : إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت ، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت ، وكم من صالح لا يتمنى الموت ، بل يود لو يعمر ، ليزداد خيرا ، وترتفع درجته في الجنة ، كما جاء في الحديث : «خيركم من طال عمره ، وحسن عمله» (١).

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨

٢٣٠

وعلى أي وجه أو حال : لن يتمنى الموت أحد منهم أبدا ، بسبب ما اقترفوا من الكفر والفسوق والعصيان ، كتحريف التوراة ، وقتل الأنبياء والأبرياء ، والكفر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع البشارة به في كتابهم. والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم ، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها ، وسيجازيهم على أعمالهم.

ثم يقسم الله تعالى بذاته العلية «وتا لله» لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة ، بل وأحرص من جميع الناس حتى الذين أشركوا بالله ، ولم يؤمنوا بالبعث ، فهؤلاء المشركون يفترض أن يكونوا أحرص الناس على الحياة ، إذ هي الأولى والأخيرة عندهم ، فمشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ، ولا علم لهم من الآخرة.

ولكن اليهود الحريصين على الدنيا والمادة يتمنى أحدهم أن يعيش ألف سنة أو أكثر ـ والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة ـ لأنه يتوقع عقاب الله في الآخرة ، فيرى أن الدنيا خير من الآخرة. وما بقاؤه في الدنيا ـ وإن طال ـ بمبعده عن أمر الله وتعذيبه بالعذاب الأليم ، والله عليم بخفيات أعمالهم وبما يصدر منهم ، وهو مجازيهم به ويعاقبهم عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات امتحان لمعرفة صدق إيمان اليهود ، ودحض دعاويهم الباطلة التي حكاها الله عزوجل في كتابه ، كقوله تعالى : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة ٢ / ٨٠] وقوله : (وَقالُوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة ٢ / ١١١] وقالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٠١] وموضوع الامتحان تمني الموت ليحظوا بالسعادة الأبدية ، وبذل أرواحهم في سبيل الله ، والذود عن الدين وحرماته. ونتيجة الامتحان الإخفاق المحتم ، لأن اليهود

٢٣١

قوم ماديون يحبون البقاء في الدنيا ، ويكرهون لقاء الله ، فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون ، ويظلمون في قلق وحيرة واضطراب دائم وشك يخيفهم ويزعج أعماق نفوسهم. والآية الكريمة من المعجزات المتضمنة الإخبار بالغيب ، الذي تحقق فعلا ، فلم يقع منهم تمني الموت في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال : «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار» (١).

والله سبحانه وتعالى العليم الخبير بصير عالم بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمّر ألف سنة. قال العلماء : وصف الله عزوجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب : العالم بالشيء الخبير به ، ومنه قولهم : بصير بالطب ، وبصير بالفقه ، وبصير بملاقاة الرجال.

موقف اليهود من جبريل والملائكة والرسل

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨))

الإعراب :

(مَنْ) شرطية مبتدأ ، وجملة كان واسمها وخبرها : هي خبر المبتدأ. واسم كان ضمير تقديره هو ، و (عَدُوًّا) الخبر. و (لِجِبْرِيلَ) ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة. وجواب (مَنْ) الشرطية قوله : (فَإِنَّهُ) والهاء فيه تعود إلى جبريل ، و (نَزَّلَهُ) أي القرآن ، لدلالة الحال عليه ، مثل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [الدخان ٤٤ / ٣] أي القرآن ، ومثل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٣٣. وفي بعض النسخ «ورأوا مقاعدهم»

٢٣٢

فانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦] أي الأرض ، ومثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص ٣٨ / ٣٢] أي الشمس وإن لم يسبق له ذكر. (مُصَدِّقاً) حال منصوب من هاء (نَزَّلَهُ) وكذلك (هُدىً) و (بُشْرى) حال من هاء (نَزَّلَهُ). (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)» أقام المظهر مقام المضمر ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف ١٢ / ٩٠] أي أجرهم. وجملة (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ ..) جواب الشرط.

البلاغة :

(نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) خص القلب بالذكر ، لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف.

(وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) ذكرا بعد الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام للتشريف والتنويه. (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) الجملة اسمية لزيادة التقبيح ، لأنها تفيد الثبات. وأقام الظاهر مقام المضمر لبيان صفة الكفر وهو عداوتهم للملائكة.

المفردات اللغوية :

(الْعَدُوُّ) : ضد الصديق ، يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والمثنى والجمع. (وَهُدىً) من الضلالة (وَبُشْرى) بالجنة.

(وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) عطف على الملائكة من عطف الخاص على العام (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ولم يقل : لهم ، بيانا لحالهم.

سبب نزول الآية (٩٧):

أخرج الترمذي أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي ، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل ، قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال ، ذاك عدونا! لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك ، فأنزل الله الآية إلى قوله : للكافرين (١).

قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه‌الله : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٣٦ ، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي ، انظر أسباب النزول للسيوطي : ص ٢٣ ، والواحدي : ص ١٥

٢٣٣

هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله ، قالوا ذلك.

فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة ، وما أخذ يعقوب على بنيه : لئن أنا حدثتكم عن شيء ، فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» فقالوا : ذلك لك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلوا عما شئتم» قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن ، أخبرنا : أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، وأخبرنا : كيف ماء المرأة وماء الرجل ، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم عهد الله ، لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟» فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق. فأجابهم عن الأسئلة كلها ، وحينما قال لهم : «إن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه» قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عزوجل : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ..).

وروى البخاري عن أنس بن مالك قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في أرض (يخترف) فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي :

ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال : «أخبرني بهذه جبريل آنفا» قال : جبريل؟ قال : «نعم» ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ).

«أما أول أشراط الساعة : فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما

٢٣٤

أول طعام يأكله أهل الجنة ، فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت».

قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني.

فجاءت اليهود : فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : «أرأيتم إن أسلم؟». قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا : هو شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه ، فقال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله(١).

قال ابن حجر في فتح الباري : ظاهر السياق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية ، ردا على اليهود ، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ ، قال : وهذا المعتمد ، فقد صح في سبب نزول الآية قصة عبد الله بن سلام (السابقة).

وجاء في بعض الروايات : أن أحد علماء اليهود من أحبار فدك عبد الله بن صوريا سأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي ، فقال : هو جبريل ، فقال ابن صوريا : ذاك عدونا ، ولو كان غيره لآمنا به ، وقد عادانا جبريل مرارا ، ومن عداوته أن الله أمره أن يجعل النبوة فينا ، فجعلها في غيرنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وأنذر بخراب بيت المقدس. وميكال يجيء بالخصب والسلام.

وفي رواية أن عمر بن الخطاب دخل مدراسهم (٢) ، فذكر جبريل ، فقالوا :

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٣٤٢ وما بعدها ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠

(٢) المدراس : بيت تدرس فيه التوراة.

٢٣٥

ذاك عدونا ، يطلع محمدا على أسرارنا ، وأنه صاحب كل خسف وعذاب ، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.

التفسير والبيان :

قل أيها النبي لهم : من كان عدوّا لجبريل ، فهو عدوّ لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها ، فإن الله نزله بالوحي والقرآن على قلبك بإذن الله وأمره ، والقرآن موافق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل الداعية إلى توحيد الله وأصول الأخلاق والعبادات ، وهو هداية من الضلالات ، وبشرى لمن آمن به بالجنة ، فكيف يكون طريق الخير سببا للبغض والكراهية.

ثم أكد الله سبحانه حكمه المبرم وهو من كان عدوّا لله بمخالفة أوامره ، وعدم إطاعته ، والكفر بما أنزله لهداية الناس ، وعدوّا للملائكة بكراهة العمل بما ينزلون به من وحي ورسالة يبلغونها للناس ، وعدوّا لرسل الله بتكذيبهم في دعوى الرسالة ، مع وجود الأدلة على صدقهم ، أو بقتل بعضهم كقتل زكريا ويحيى ، وعدوّا لجبريل وميكائيل بادعاء أن الأول يأتي بالنذر ، فإن الله عدوّ له ومجازيه على ذلك ، لأنه كافر به ومعاد له ، وظالم لنفسه ، وتلك العداوة كفر صريح.

فقه الحياة أو الأحكام :

تعددت اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن ، فقالوا سابقا : إنهم مؤمنون بالتوراة ، كافرون بغيرها ، وقالوا : إنهم ناجون حتما في الآخرة ، لأنهم شعب الله وأحباؤه ، وقالوا هنا : إن جبريل أمين الوحي على محمد عدوهم ، فلا يؤمنون بما جاء به. فأبطل الله تعالى مزاعمهم ، وفند حججهم ، وأظهر تناقضهم ، وأبان لهم أن معاداة الله وملائكته ورسله سبب واضح قاطع لإنزال العقاب بهم في الدنيا والآخرة ، وفي هذا وعيد شديد ، وتنديد بأن اليهود أعداء

٢٣٦

الحق والرسالات الإلهية وأعداء القرآن وسائر الكتب السماوية ، لأن معاداة أمين الوحي جبريل ، ومعاداة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعاداة الكتب السماوية ، معاداة لكل الملائكة وسائر الأنبياء والكتب ، إذ إن المقصد منها واحد ، وهو هداية الناس ، وإرشادهم إلى الخير ، ولأن رسالة جميع الأنبياء واحدة ، والغاية منها متحدة ، فلا يصح التفريق بين الملائكة والرسل والكتب ، وكلها من مصدر واحد ، وتهدف خيرا مشتركا ، وتدعو إلى توحيد الله ، وعبادته ، والالتزام بأصول الأخلاق والفضائل التي هي عنوان تقدم الفرد والجماعة.

كفرهم بالقرآن ونقضهم العهود

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

الإعراب :

(بَيِّناتٍ) حال.

(أَوَكُلَّما ..) الهمزة استفهام بمعنى التوبيخ ، والواو حرف عطف وكلما : نصب على الظرفية.

(كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الكاف حرف تشبيه ، لا موضع لها من الإعراب ، وموضع الجملة رفع وصف لفريق.

٢٣٧

البلاغة :

(رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) التنكير للتفخيم ، ووصف الرسول بأنه آت من عند الله لإفادة مزيد التعظيم (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثل يضرب للإعراض عن الشيء ، فهو كناية عن الإعراض عن التوراة بالكلية.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ) اللام لام القسم (بَيِّناتٍ) واضحات (الْفاسِقُونَ) المتمردون من الكفرة ، قال الحسن البصري : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي ، وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. واللام في (الْفاسِقُونَ) للجنس ، والأحسن ـ كما قال الزمخشري ـ أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.

(عاهَدُوا عَهْداً) على الإيمان بالنبي إن خرج ، أو النبي ألا يعاونوا عليه المشركين. (نَبَذَهُ) طرحه ، والمراد نقضه ، وهو جواب كلما ، وهو محل الاستفهام الإنكاري (بَلْ) للانتقال.

(وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله.

سبب نزول الآية (٩٩):

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فأنزل الله في ذلك : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ).

وسبب نزول الآية (١٠٠):

أن مالك بن الصيف حين بعث رسول الله ، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد قال : والله ما عهد إلينا في محمد ، ولا أخذ علينا ميثاقا ، فأنزل الله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا ..) الآية.

٢٣٨

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ما جبل عليه اليهود من خبث النفس ونقض العهد ، وتكذيب رسل الله ، ومعاداة جبريل أمين الوحي عليه‌السلام ، أعقب ذلك أن من عادة اليهود التكذيب بآيات الله ، وعدم الوفاء بالعهود ، وتكذيب الرسل ، والإعراض عن القرآن. وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث عارضوا دعوته ، وأعرضوا عن القرآن الكريم.

التفسير والبيان :

والله لقد أنزلنا إليك يا محمد دلائل واضحات تدل على صدق رسالتك ، تقترن أصولها الاعتقادية ببراهينها ، وأحكامها العملية بوجوه منافعها وغاياتها المصلحية ، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها ، فهي كالنور يظهر الأشياء ، وهو ظاهر بنفسه ، ولا يكفر بها إلا المتمردون على آياتها وأحكامها من الكفرة ، الذين استحبوا العمى على الهدى ، حسدا لمن ظهر الحق على يديه ، وعنادا ومكابرة منهم.

إنهم كفروا بالله ، وكلما عاهدوا عهدا مع الله ، أو مع رسول الله نقضه فريق منهم : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) [الأنفال ٨ / ٥٦] بل نقضه أكثرهم ، ولم يوفوا به ، فاليهود غادرون بمن ائتمنهم ، خائنون الأمانة ، ناقضون العهود أو العقود والمواثيق ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم ، فنقضوه ، وأكثرهم لا يؤمنون بالتوراة ، وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ، ولا يبالون به ، ولن يؤمنوا أيضا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن ، كأنهم لا يعلمون أن التوراة كتاب الله ، لا يدخلهم فيه شك ، يعني أن علمهم بذلك رصين ، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم.

ولما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب مصدق للتوراة في الأصول الدينية العامة ،

٢٣٩

كتوحيد الله وإثبات البعث ، والتصديق بالرسل ، ترك فريق من اليهود كتاب الله وراء ظهورهم ـ وهو تمثيل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل أي شيء يرمى به وراء الظهر ـ استغناء عنه ، وقلة التفات إليه ، لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه ، ولم يؤمنوا به إيمانا حقا كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة ، لا يكون مؤمنا بكل منهما ، وهو كناية عن الإعراض عن التوراة بالكلية.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا سجل من قبائح اليهود أوضحه الله تعالى وهو من أخبار الغيب ، التي لا يعلمها إلا علام الغيوب ، وقد رصد فيه عيوب أربعة وهي :

١ ـ التكذيب بآيات الله وبيناته وأدلته الواضحة القاطعة على وجوده ووحدانيته وربوبيته ولزوم عبادته وإطاعة أوامره واجتناب نواهيه.

٢ ـ عدم الثقة بهم في أي شيء ، لأنهم دأبوا على نقض العهود والغدر بالمعاهدين في كل زمان.

٣ ـ انقطاع الأمل وسد باب الرجاء في إيمان أكثرهم ، لأن الضلال قد استحوذ عليهم.

٤ ـ لم ينبذ فريق منهم كتاب الله «التوراة» جملة وتفصيلا ، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به ، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجيء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.

٢٤٠