التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

والإضلال نوعان (١) :

أحدهما ـ أن يكون سببه الضلال : إما بأن يضل عنك الشيء كقولك : أضللت البعير ، أي ضلّ عني ، وإما أن تحكم بضلاله. والضلال في هذين سبب الإضلال.

والثاني ـ أن يكون الإضلال سببا للضلال : وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضلّ.

وإضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين : إما الحكم عليه بالضلال ، أو التّمكين من البقاء في الضلال.

والأول ـ سببه الضلال : وهو أن يضل الإنسان ، فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا ، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة ، وذلك إضلال هو حق وعدل ، لأن الحكم على الضال بضلاله والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدل وحق.

والثاني ـ سببه اختيار الإنسان : وهو أن يختار الإنسان طريق الانحراف ، فيمده الله في ضلاله ، ويمكّنه من البقاء في طغيانه ، ويخلق له القدرة على الاستمرار في كفره وفساده ، لذا نسب الله الإضلال للكافر والفاسق ، دون المؤمن ، بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن ، فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) [التوبة ٩ / ١١٥] ، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ) [محمد ٤٧ / ٤ ـ ٥] ، وقال في الكافر والفاسق : (فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٨] ، (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة ٢ / ٢٦] ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٧٤] ، (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم ١٤ / ٢٧] ، وعلى هذا النحو

__________________

(١) مفردات الراغب للأصفهاني : ص ٣٠٧

٦١

تقليب الأفئدة في قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) [الأنعام ٦ / ١١٠] ، والختم على القلب في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة ٢ / ٧] ، وزيادة المرض في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة ٢ / ١٠] ، فمن اختار الضلالة ، أبقاه الله فيها ، ومنع عنه نفوذ الهداية إلى قلبه ، عقابا له من الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

لا يوجد في القرآن آية بدون معنى أو فائدة أو حكمة أو تشريع ، فهو كلام الله المعجز دستور الحياة البشرية ، وبناء عليه ، يقصد بالآيات القرآنية تحقيق فائدة الإنسان في حياته الدينية والدنيوية والأخروية ، وتربطه بالحياة. وتكون بالتالي الأحكام المستفادة من معاني الآيات مرتبطة ارتباطا وثيقا إما بالعقيدة أو بالعبادة أو بالأخلاق والسلوك أو بالتشريع الصالح للفرد والجماعة ، وهذا المعنى الأعمّ هو الذي عنيته بفقه الحياة في القرآن الكريم.

والمعاني أو الأحكام المستفادة من الفاتحة تشمل صلة الإنسان بالله ، وتحدد طريق مناجاته ، وترسم له نوع مسيرته في الحياة ، وتلزمه باتّباع المنهج الأقوم والطريق الأعدل ، الذي لا انحراف فيه قيد أنملة عن جادّة الاستقامة ، ولا قبول بأي لون من ألوان الضلال والغيّ والانحراف. ومعنى البسملة في الفاتحة : أنّ جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام وغيرها هو لله ومنه ، ليس لأحد غير الله فيه شيء.

١ ـ كيفية حمد الله : الفاتحة ذلك النشيد العاقد للصلة مع الله ، والذي علّمنا الله إياه ، يقرؤه المؤمن في كل المناسبات ، في الصلاة وغيرها ، لأن بدايته على تأويل : قولوا : الحمد لله ربّ العالمين ، وذلك يقضي أن الله أمرنا بفعل الحمد ، وعلمنا كيف نحمده ونثني عليه ، وكيف ندعوه ، ويفهم منه أنّ من آداب الدعاء : أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة.

٦٢

٢ ـ قراءة الفاتحة في الصلاة : للعلماء رأيان في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.

الرأي الأول ـ للحنفية : وهو عدم وجوب قراءة الفاتحة ، وإنما الواجب للإمام والمنفرد مطلق قراءة ، وهو قراءة آية من القرآن ، وأقلها عند أبي حنيفة آية بمقدار ستة أحرف ، مثل : (ثُمَّ نَظَرَ) [المدثر ٧٤ / ٢١] ولو تقديرا ، مثل : (لَمْ يَلِدْ) إذ أصله : «لم يولد» [الإخلاص ١١٢ / ٣]. وقال الصاحبان : فرض القراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة.

واستدلوا بالكتاب والسنة والمعقول.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل ٧٣ / ٢٠] ، وهو أمر بمطلق قراءة ، فتتحقق بأدنى ما يطلق عليه اسم القرآن.

وأما السنة : فحديث المسيء صلاته : «إذا قمت إلى الصلاة ، فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، فكبّر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» (١). وأما حديث : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (٢) ، فمحمول على نفي الفضيلة ، لا نفي الصحة ، أي لا صلاة كاملة.

وأما المعقول : فهو أنه لا تجوز الزيادة بخبر الواحد الظني على ما ثبتت فرضيته بالدليل القطعي في القرآن ، ولكن خبر الواحد يقتضي وجوب العمل به ، لا الفرضية ، فقالوا بوجوب قراءة الفاتحة فقط ، أي أن الصلاة تصح بتركها ، مع الكراهة التحريمية.

ولا قراءة مطلقا على المقتدي عند الحنفية ، سواء أكانت الصلاة سرية أم

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، وهو حديث متواتر.

(٢) رواه الأئمة الستة عن عبادة بن الصامت رضي‌الله‌عنه.

٦٣

جهرية ، واستدلوا أيضا بالكتاب والسنة والقياس.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٠٤] ، وهي تأمر بالاستماع والإنصات ، والاستماع خاص بالجهرية ، والإنصات يعمّ السريّة والجهريّة.

وأما السّنة : فقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى خلف إمام ، فإن قراءة الإمام له قراءة»(١) ، وهو يشمل السرية والجهرية.

وأما القياس : فهو أنه لو وجبت القراءة على المأموم ، لما سقطت عن المسبوق ، كسائر الأركان ، فقاسوا قراءة المؤتم على قراءة المسبوق في حكم الصلاة ، فتكون غير مشروعة.

الرأي الثاني ـ للمالكية والشافعية والحنبلية : وهو وجوب قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة للإمام والمنفرد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وحملوا النفي على نفي الحقيقة ، لأن الأصل والأقوى أن النفي على العموم ، أي لا صلاة صحيحة ، ونفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة. وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا : «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (٢) ، ولفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلمكما روى مسلم ، مع خبر البخاري : «صلوا كما رأيتموني أصلي». قال القرطبي : الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر ، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة ، لكل أحد على العموم.

وتتعين عند الشافعية قراءة الفاتحة ، في كل ركعة ، للإمام والمأموم والمنفرد ، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية ، فرضا أم نفلا ، لحديث :

__________________

(١) رواه أبو حنيفة عن جابر رضي‌الله‌عنه ، وهو ضعيف ، كما ذكر القرطبي (تفسير القرطبي : ١ / ١٢٢).

(٢) رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحهما.

٦٤

«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وحديث : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف ، قال : إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم؟» قال : قلنا : يا رسول الله ، إي والله ، قال : «لا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ فيها»(١) ، فهو نص صريح خاص بقراءة المأموم ، دال على فرضيتها ، وظاهر النفي متجه إلى الإجزاء ، أي لا تجزئ ، وهو كالنفي للذات في المآل ، وقراءة الفاتحة مستثناة من النص القرآني الآمر بالاستماع إلى القرآن والإنصات له.

ورأى المالكية والحنابلة : أنه لا يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية ، وإنما يستحب أن يقرأها في السرية ، لأن الأمر القرآني بالاستماع والإنصات للقرآن خاص بالصلاة الجهرية ، بدليل «أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : هل قرأ أحد منكم آنفا؟ فقال رجل : نعم ، يا رسول الله ، قال : فإني أقول : ما لي أنازع القرآن ، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يجهر فيه من الصلوات بالقراءة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢). وهذا صريح في كراهة القراءة للمؤتم حالة الجهر.

وأما دليلهم على استحباب القراءة في حالة السرّ : فهو قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أسررت بقراءتي فاقرءوا» (٣).

٣ ـ استحضار معاني الفاتحة : على المصلي أن يستحضر في صلاته كل معاني الفاتحة من كون الله أعظم من كل عظيم ، وأكبر من كل شيء ، وأن كل ثناء جميل هو لله تعالى استحقاقا وفعلا ، من حيث إنه الرّب خالق العالمين ومدبّر جميع

__________________

(١) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان.

(٢) رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة ، وقال : حديث حسن.

(٣) رواه الدار قطني والترمذي.

٦٥

أمورهم ، وأنّ رحمة الله مقرونة بعظمته وملكه وسلطانه وتصرفه دون غيره يوم الحساب ، فهو المستحق للعبادة وحده ، ومنه وحده تطلب المعونة على العبادة وعلى جميع الشؤون ، وهو سبحانه الدّال بتوفيقه ومعونته إلى طريق الخير والحق في العلم والعمل ، وللمؤمن في مناجاته قدوة حسنة وهم أولئك الذين أنعم الله عليهم بالإيمان والعمل الصالح ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، كما أن أمامه عبرة وعظة وهم الذين غضب الله عليهم بإيثارهم الباطل على الحق ، وترجيحهم الشّر على الخير ، والضّالون عن طريق الحق والخير بجهلهم ، الذين ضلّ سعيهم في الحياة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فمصيرهم إلى جهنم وساءت مصيرا.

وأما الذين جاءوا على فترة من الرّسل كأهل الفترة في عصر الجاهلية ، فلا يكلفون في رأي الجمهور بشريعة ، ولا يعذبون في الآخرة ، لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ٧ / ١٥]. وقال جماعة من العلماء : إنهم يكلّفون ويعذّبون ، لأن العقل وحده كاف في التكليف ، فمتى أوتيه الإنسان ، وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض ، والتدبّر والتفكّر في خالق الكون ، وما يجب له من عبادة وإجلال ، بقدر ما يهديه عقله ، ويصل إليه اجتهاده ، وبذلك ينجو من العذاب.

٤ ـ قراءة غير العربي : أجمع الفقهاء على أنه لا تجزئ قراءة القرآن بغير العربية ، ولا الإبدال بلفظها لفظا عربيا ، سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن ، لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف ١٢ / ٢] ، وقوله سبحانه : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٥] ، ولأن القرآن معجزة بلفظه ومعناه ، فإذا غيّر خرج عن نظمه ، فلم يكن قرآنا ولا مثله ، وإنما يكون تفسيرا له ، والتفسير غير المفسر ، وليس هو مثل القرآن المعجز المتحدي بالإتيان بسورة مثله.

٦٦

وأجاز القرطبي المالكي للعاجز عن العربية أن يذكر في موضع القراءة ما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله. وأجاز الكاساني لعاجز عن القراءة بالعربية أن يقرأ الفاتحة بغير العربية (١).

٥ ـ تأمين المصلي : يؤمن المنفرد اتّفاقا. وأما الإمام : فيؤمن سرّا عند أبي حنيفة وفي الراجح عند المالكية ، لأنه دعاء. وروي عن مالك أنه قال :لا يؤمن وإنما يقول ذلك من خلفه ، وقال الشافعية والحنابلة : يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية ، كما بيّنا سابقا. وقال ابن العربي والقرطبي (٢) : والصحيح تأمين الإمام جهرا ، فإن ابن شهاب الزهري قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : آمين ، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، وفي البخاري : حتى إن للمسجد للجّة (٣) من قول الناس : آمين. وأما المأموم : فيؤمّن سرّا عند الحنفية والمالكية ، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة ، ويخفيه فيما يخفي فيه القراءة عند الشافعية والحنابلة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ١٢٦ ، البدائع : ١ / ١١٢

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٧ ، تفسير القرطبي : ١ / ١٢٩

(٣) اللجة : الجلبة ، يعني أصوات المصلين.

٦٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البقرة

مدنيّة إلا آية ٢٨١ فنزلت بمنى في حجّة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة

ما اشتملت عليه السورة :

سورة البقرة أطول سورة في القرآن ، وهي مدنية ، قال عكرمة : «أول سورة أنزلت بالمدينة : سورة البقرة» (١). وتعنى كغيرها من السور المدنية بالتشريع المنظم لحياة المسلمين في المجتمع الجديد بالمدينة ، مجتمع الدين والدولة معا ، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر ، وإنما هما متلازمان تلازم الجسد والروح ، لذا كان التشريع المدني قائما على تأصيل العقيدة الإسلامية ، ومبدؤها الإيمان بالله ، وبالغيب ، وبأن مصدر القرآن هو الله عزوجل ، والاعتقاد الجازم بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين ، وبأن العمل الصالح ترجمان ذلك الإيمان ، ويتمثل العمل بعقد صلة الإنسان مع ربه بواسطة الصلاة ، وبتحقيق أصول التكافل الاجتماعي بواسطة الإنفاق في سبيل الله.

ويقتضي تقرير العقيدة التحدث عن صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين ، لعقد مقارنة بين أهل النجاة وبين أهل الدمار والهلاك. كما يقتضي التحدث عن قدرة الله عزوجل ، ببدء الخليقة وتكريم آدم أبي البشر بسجود الملائكة له ، وترتيب المولى ما حدث معه وزوجه في الجنة ، ثم الهبوط إلى الأرض.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري : ص ١١

٦٨

واستوجب التحذير الإلهي للمؤمنين التحدث في هذه السورة بما يزيد عن ثلثها عن جرائم بني إسرائيل ، من الآية ٤٧ ـ ١٢٣ ، فهم كفروا بنعمة الله ، ولم يقدّروا نجاتهم من فرعون ، وعبدوا العجل ، وطالبوا موسى عليه‌السلام بطلبات على سبيل العناد والمكابرة والتحدي ، وبالرغم من تحقيق مطالبهم المادية كفروا بآيات الله ، وقتلوا الأنبياء بغير حق ، ونقضوا العهود والمواثيق ، فاستحقوا إنزال اللعنة وغضب الله عليهم ، وجعلهم الله أذلاء منبوذين مطرودين من رحمته.

ثم انتقلت السورة من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب أهل القرآن ، بالتذكير بما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد عليهما‌السلام من نسب إبراهيم والاتفاق على فضله ، واستئصال كل مزاعم الخلاف على القبلة ، وبيان الأساس الأعظم للدين وهو توحيد الألوهية ، بتخصيص الخالق بالعبودية ، وشكر الإله على ما أنعم به من إباحة الاستمتاع بطيبات الرزق وإباحة المحرّمات حال الضرورة ، وبيان أصول البرّ في آية : (لَيْسَ الْبِرَّ) [في البقرة ٢ / ١٧٧].

ثم أوضحت السورة أصول التشريع الإسلامي للمؤمنين به ، في نطاق العبادات والمعاملات ، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والجهاد في سبيل الله وتنظيم أحكام القتال ، واعتماد الأشهر القمرية في التوقيت الديني ، والإنفاق في سبيل الله ، لأنه وسيلة للوقاية من الهلاك ، والوصية للوالدين والأقربين ، وبيان مستحقي النفقات ، ومعاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة ، وتنظيم شؤون الأسرة في الزواج والطلاق والرضاع والعدة ، والإيلاء من النساء ، وعدم المؤاخذة بيمين اللغو ، وتحريم السحر ، والقتل بغير حق وإيجاب القصاص في القتلى ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل ، وتحريم الخمر والميسر والربا ، وإتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث وإنجاب النسل ، أي في الدبر.

٦٩

وتضمنت السورة آية عظيمة في العقيدة والأسرار الإلهية ، وهي آية الكرسي ، وحذرت من يوم القيامة الرهيب في آخر ما نزل من القرآن ، وهي آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٨١].

وتضمنت هذه السورة أطول آية في القرآن هي آية الدّين ، التي أبانت أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال فيها ، والرهان ، ووجوب أداء الأمانة ، وتحريم كتمان الشهادة.

وختمت السورة بالتذكير بالتوبة والإنابة إلى الله ، وبالدعاء العظيم المشتمل على طلب اليسر والسماحة ، ورفع الحرج والأغلال والآصار ، وطلب النصرة على الكفار.

فالسورة كلها منهاج قويم للمؤمنين ، ببيان أوصافهم ، وأوصاف معارضيهم ومعاديهم من الكفار والمنافقين ، وتوضيح مناهج التشريع في الحياة الخاصة والعامة ، واللجوء في الخاتمة إلى الله والدعاء المستمر له في التثبيت على الإيمان ، والإمداد بالإحسان والفضل الإلهي ، وتحقيق النصر على أعداء الله والإنسانية.

ومن توجيهات السورة أن مناط السعادة في الدنيا والآخرة هو اتباع الدين ، وأصول الدين ثلاثة : هي الإيمان بالله ورسوله ، والإيمان باليوم الآخر ، والعمل الصالح. والولاية العامة يجب أن تكون لأهل الإيمان والاستقامة ، لكن الإكراه على الدين ممنوع.

سبب التسمية :

سميت هذه السورة «سورة البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة ، التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها ، لاكتشاف قاتل إنسان ، بأن يضربوا الميت بجزء منها ،

٧٠

فيحيا بإذن الله ، ويخبرهم عن القاتل ، والقصة تبدأ بالآية [(٦٧) من سورة البقرة] وهي قصة مثيرة فعلا ، يعجب منها السامع ، ويحرص على طلبها.

فضلها :

فضل هذه السورة عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها : «فسطاط القرآن» لعظمها وبهائها ، وكثرة أحكامها ومواعظها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» (١) وقال أيضا : «اقرؤوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة» (٢) أي السحرة. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام».

صفات المؤمنين وجزاء المتقين

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

__________________

(١) رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة.

(٢) رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي.

٧١

الإعراب :

(الم) أحرف مقطعة مبنية غير معربة ، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور.

(ذلِكَ) ذا : اسم إشارة مبني في موضع رفع ، وهو إما مبتدأ و (الْكِتابُ) خبره ، وإما خبر مبتدأ مقدر ، وتقديره : هو ذلك الكتاب. و (الْكِتابُ) بدل من ذلك أو عطف بيان. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا : نافية للجنس ، و (رَيْبَ) اسمها المنصوب. و (فِيهِ) متعلق بمحذوف خبر تقديره : كائن. (هُدىً) إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر ، وتقديره : هو هدى ، أو منصوب على أنه حال من «ذا» أو من (الْكِتابُ) أو من الضمير في (فِيهِ).

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) إما بالجر صفة للمتقين أو بدل منهم ، وإما بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره (أُولئِكَ عَلى هُدىً) أو على أنه خبر مبتدأ مقدر ، وتقديره هم الذين وإما بالنصب على تقدير «أعني» و (يُؤْمِنُونَ) صلته.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً) بالرفع على أنه مبتدأ ، و (عَلى هُدىً) خبره ، أو خبر (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) إذا جعل (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) مبتدأ.

البلاغة :

(ذلِكَ الْكِتابُ) الإشارة بالبعيد عن القريب للتنبيه على علو شأنه.

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مجاز مرسل أو عقلي ، أسند الهداية للقرآن ، لأنه سبب الهداية ، والهادي في الحقيقة هو الله تعالى.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) للعناية بشأن المتقين. (رَبِّهِمْ) للحصر فيهم (١).

المفردات اللغوية :

(الْكِتابُ) القرآن العظيم. (ذلِكَ الْكِتابُ) قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) : هذا الكتاب (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في أنه من عند الله (هُدىً) هداية ورشاد (لِلْمُتَّقِينَ) الذين وقوا أنفسهم مما يضرها ، فالتزموا الأوامر الإلهية وتجنبوا النواهي والمحظورات.

__________________

(١) ملاحظة عامة : اعتمدت في الإعراب على كتاب «البيان في غريب إعراب القرآن» لأبي البركات بن الأنباري ، واستفدت كثيرا في البلاغة من كتاب «صفوة التفاسير» للأستاذ محمد علي الصابوني ، والمعول في الأصل على تفسير الكشاف والقرطبي وغيرهما في الأمرين.

٧٢

(يُؤْمِنُونَ) الإيمان : هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها ، ويدل عليه العمل. و (بِالْغَيْبِ) ما غاب عن الإنسان من حساب وجزاء وجنة ونار وغيرها. (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الإتيان بها مستكملة شروطها وأركانها.

(يُوقِنُونَ) اليقين : هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك ، وهو حقيقة العلم.

التفسير والبيان

معنى البسملة إعلان بأن جميع ما في السورة من الله تعالى ، لا من إنسان ، أنزلها برحمته لهداية الناس إلى ما فيه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. وهي لا شك آية من القرآن بإجماع الصحابة الذين حرصوا عند جمع المصحف ألا يكتبوا فيه أي شيء من غير القرآن.

وقد استفتح الله هذه السورة بالحروف المقطعة ، تنبيها لوصف القرآن وإشارة إلى إعجازه ، وتحديا دائما على الإتيان بأقصر سورة من مثله ، وإثباتا قاطعا إلى أنه كلام الله الذي لا يضارعه شيء من كلام البشر ، فكأن الله يقول للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم : كيف تعجزون عن الإتيان بمثله ، مع أنه كلام عربي ، مركب من الحروف الهجائية التي ينطق بها كل عربي ، ومع ذلك عجزتم عن مجاراته. هذا هو رأي المحققين من العلماء الذين قالوا : إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها ، بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبونبها(١).

قال الزمخشري : ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن ، وإنما كررت ليكون

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٨

٧٣

أبلغ في التحدي والتبكيت ، كما كررت قصص كثيرة ، وكرر التحدي بالصريح في أماكن(١).

ومما يدل على كون (الم) مكونة من الحروف المقطعة : قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، لكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف» (٢).

ثم وصف الله تعالى القرآن بأوصاف ثلاثة :

الأول ـ أنه الكتاب الكامل في كل ما اشتمل عليه من معان ومقاصد وقصص وعبر وتشريعات غير قابلة للنقض.

والثاني ـ أنه لا شك في كونه حقا من عند الله ، لمن أمعن النظر وأصغى بقلبه.

والثالث ـ أنه مصدر هداية وإرشاد للمؤمنين المتقين ، الذين يتقون عذاب الله ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فهم المنتفعون به.

ثم أبان الله تعالى أربع صفات للمتقين الذين ينتفعون بالقرآن ، وهم الذين يؤمنون ويصدقون بالغيبيات التي أخبر عنها القرآن من البعث والحساب والصراط والجنة والنار وغيرها ، فلا يقفون عند مجرد الماديات والمحسوسات التي يدركها العقل إدراكا قريبا ، وإنما يدركون أيضا ما وراء المادة من عوالم أخرى كالروح والجن والملائكة ، وعلى رأسها وجود الله ووحدانيته.

ثم يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وآدابها وخشوعها ،

__________________

(١) تفسير الكشاف : ١ / ٧٩

(٢) رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه.

٧٤

فالصلاة بدون خشوع وتأمل في المقروء فيها وتدبر للمعاني القرآنية وخشية لله جسم بلا روح.

ثم ينفقون في وجوه البر والإحسان من الأموال كالزكاة والصدقة وسائر النفقات الواجبة شرعا ، فيتحقق الرخاء لجميع الناس ، وتتطهر الأموال مما شابها من شبهات ، ويكتمل البناء المنشود شرعا : بناء الفرد بالصلاة التي هي عماد الدين ، وبناء المجتمع بالزكاة وتوابعها التي هي أساس التقدم ورقي الحياة وسعادة الأمة. فالآية عامة في كل غيب أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كائن ، وعام في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا ، وعام في كل نفقة.

ثم إن أولئك المتقين هم الذين يصدقون بجميع ما أنزل على النّبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، ويصدقون أيضا تصديقا جازما لا شك فيه بالآخرة وما تضمه من بعث الأجساد والأرواح معا من القبور ، وحساب وجزاء وميزان وصراط وجنة ونار.

وهؤلاء الموصوفون بما ذكر من الإيمان الحق بالغيب ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والاعتقاد باليوم الآخر ، والإيمان بالقرآن وبالكتب المنزلة قبله (وهي التوراة والإنجيل والزبور والصحف) ، هم على نور وهداية من ربهم ، وعلى منزلة عالية عند الله ، وهم الفائزون بالدرجات العالية في جنات الخلود.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه صفات المؤمنين ومنهاجهم وقانونهم في الحياة الإسلامية : إيمان شامل كامل بكل ما غاب علمه عنهم ، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة ، مما أخبر عنه القرآن العظيم وأرشد إليه الدليل السليم ، والإيمان مقرون بالعمل الصالح : وهو إقامة الصلاة المفروضة ، والإنفاق في سبيل الله في الجهاد ، وعون

٧٥

الفقراء والمساكين وصدقة التطوع ، والنفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى. ولا يتجزأ الإيمان بما أنزل الله ، فلا بد من الإيمان التفصيلي بكل ما أنزله الله تعالى في القرآن ، والإيمان الإجمالي بالكتب والصحف السماوية السابقة ، هذا مع العلم بأنه لا يعتد بما دون اليقين في الإيمان.

وأرشدت الآيات إلى أن التقوى : وهي الخوف من المخالفة ، فيها جماع الخير كله ، وهي وصية الله في الأولين والآخرين ، وهي خير ما يستفيده الإنسان ، كما قال أبو الدرداء.

فمن اتصف بأوصاف المؤمنين المذكورة ، كان القرآن هدى له ، أي أنه إمامه في أعماله وأحواله ، لا يحيد عن نهجه ، وقد ضمن لنفسه النجاة في عالم الآخرة ، والسعادة والطمأنينة في الدنيا. والمشار إليه عند الجمهور وهم المؤمنون واحد ، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى ، وأنهم هم المفلحون. قال مجاهد : في أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين.

صفات الكافرين

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

الإعراب :

(سَواءٌ) إما مبتدأ ، وخبره : (أَأَنْذَرْتَهُمْ ..) ، أو خبر (إِنَ) وما بعده ، والتقدير فيه : إن الذين كفروا مستو عليهم الإنذار وتركه. وإنما وحّد (سَمْعِهِمْ) ولم يجمعه

٧٦

ك (قُلُوبِهِمْ) و (أَبْصارِهِمْ) إما لأن السمع مصدر ، والمصدر : اسم جنس يقع على القليل والكثير ، أو على تقدير مضاف بلفظ الجمع ، أي مواضع سمعهم ، أو اكتفاء باللفظ المفرد لما أضافه إلى الجمع ، وهو يفيد العموم ، والمراد به الجمع.

البلاغة :

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ..) فيه التيئيس من إيمان الكفار ، بسبب عدم استعدادهم للإيمان.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) استعارة تصريحية ، شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق بالوعاء المختوم عليه ، واستعارة لفظ الختم بطريق الاستعارة التصريحية ، للتصريح بلفظ المشبه به وحذف المشبه وأداة التشبيه ووجه الشبه.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) : التنكير فيه للتعظيم والتهويل ، ثم وصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حدّ العظمة كمّا وكيفا ، فهو شديد الإيلام ، وطويل الزمان.

المفردات اللغوية :

الكفر : ستر الشيء وتغطيته ، ومن كفر فقد غطى الحقيقة وستر نعم الله عليه ، وكل من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر.

(أَأَنْذَرْتَهُمْ) الإنذار : الاعلام مع التخويف.

(خَتَمَ اللهُ) طبع الله عليها بالخاتم ، والمراد : أغلقت قلوبهم ، فلا يدخلها إيمان ونور. (غِشاوَةٌ) غطاء وستر ، والمقصود : التعامي عن النظر إلى آيات الله.

المناسبة وسبب النزول :

أتبع الله تعالى هذه الآية بعد بيان أحوال المؤمنين ، لعقد مقارنة بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر ، لأن الكفر ضد الإيمان ، والمؤمنون ناجون ، والكفار هالكون خالدون في نار جهنم.

وسبب النزول في أصح الروايات : ما أخرجه الطبري عن ابن عباس والكلبي أن هاتين الآيتين نزلتا في رؤساء اليهود ، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٨٤ ، تفسير القرطبي : ١ / ١٨٤

٧٧

التفسير والبيان :

إن الذين كفروا وجحدوا بآيات الله وكذبوا بالقرآن ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستوي عندهم الإنذار وعدمه ، فلا تتأثر قلوبهم به ، لأنها مغلقة لا يصل إليها النور الإلهي ، ولا يشرق فيها إيمان ، بسبب تعاميهم عن الحق وآيات الله ، فلا ينفذ إليها أثر الهداية والموعظة ، ولأنهم عطلوا وسائل المعرفة والنظر والتفكير وإعمال السمع والبصر ، فأصبحوا يرون الحق فلا يتبعونه ، ويسمعونه فلا يعونه ، فكان جزاؤهم عذابا عظيما شديدا لا ينقطع ، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

في هاتين الآيتين تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب قومه له ، فلا تحسّر عليهم ، ولا طمع في إيمانهم ، ولا لوم عليه فيهم.

والختم على القلوب بمعنى عدم وعي الحق ، وإلقاء الغشاوة على المسامع والأبصار : بمعنى عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم ، أو بمعنى عدم نظرهم في مخلوقات الله ، أو بمعنى أنهم دعوا إلى وحدانية الله فلم يؤمنوا ، وكل ذلك إنما كان بسبب كفرهم وجحودهم ، لا بسبب في القرآن أو تقصير من محمد أو أحد بعده في هدايتهم ، فهم المتسببون لكل ذلك ، المعرضون عن استخدام وسائط المعرفة السليمة في اعتقاد الحق والعمل به.

فدلّ تعبير الختم والطبع على القلوب والأسماع والأبصار على تمكّن الكفر في قلوبهم ، حتى فقدوا الدّواعي والأسباب التي ترشدهم إلى النظر والتفكّر في أدلّة الإيمان ومحاسنه ، وأصبحوا في هيئة أو عادة تألف الجحود والعصيان. وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى أسماعهم وأبصارهم إلى الله تعالى ، تنبيها على سنة الله في أمثالهم ، لا على أنهم مجبورون على الكفر ، ولا على منع الله تعالى إياهم من الإيمان بالقهر ، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرّسهم على الكفر وإعماله في قلوبهم ،

٧٨

بأنه استحوذ عليها وملك أمرها ، حتى لم يعد فيها استعداد لغيره ، وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن خذله وأمدّ له في ضلاله ، إذ لم يمنعه حقا وجب له ، فتزول صفة العدل ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم ، لا ما وجب لهم.

ويوضحه آيتان أخريان هما : (وَقالُوا : قُلُوبُنا غُلْفٌ ، بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ، فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة ٢ / ٨٨] ، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ، (وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت ٤١ / ٤ ـ ٥] ، فهم باستكبارهم وعنادهم لا يخرجون عن سلطان الله ، وأن الله سبحانه خالق كل شيء من الهدى والضلال ، والكفر والإيمان ، والإنسان هو الذي يختار أحد المنهجين.

صفات المنافقين

ـ ١ ـ

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

الإعراب :

(مَنْ يَقُولُ) وحد الضمير في الفعل مراعاة للفظ «من» وتجوز مراعاة المعنى ، فيجمع.

(يُخادِعُونَ اللهَ) أي نبيّ الله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء تتعلق بفعل مقدّر ، أي استقر لهم. و «ما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر ، أي بكونهم يكذبون.

٧٩

البلاغة :

(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) المتبادر أن يقال : «وما آمنوا» ليطابق قوله (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم ، لإخراجهم من عداد المؤمنين ، وأكده بالباء مبالغة في تكذيبهم.

(يُخادِعُونَ اللهَ) استعارة تمثيلية ، شبه حالهم مع ربهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر بحال رعية تخادع سلطانها ، وأستعير المشبه به للمشبه بطريق الاستعارة.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كناية ، كنّى بالمرض في القلب عن النفاق ، لأن المرض فساد للجسد ، والنفاق فساد للقلب.

المفردات اللغوية :

(بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى ، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. والنفاق : اسم شرعي جعل سمة لمن يظهر الإيمان ويسرّ الكفر.

(يُخادِعُونَ) يعملون عمل المخادع ، والخداع : صرف الغير عما يقصده بحيلة ، والمراد هنا : إظهار الإسلام وإضمار الكفر.

(مَرَضٌ) المرض : العلة ، والمراد هنا شك ونفاق وتكذيب وجحود. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) : شكّا.

التفسير والبيان :

هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس ، وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين ، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وفضحهم ، واستهزأ بهم ، وتهكم بفعلهم ، ودعاهم صمّا بكما عميا ، وضرب لهم الأمثال ، فهم أشدّ خطرا على الإسلام من الكفار صراحة.

ولا تقتصر أوصاف المنافقين على المعاصرين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، بل في كل عصر إذا وجدت صفاتهم.

وأول هذه الصفات النطق بالإيمان باللسان ، وامتلاء القلب بالكفر والضلال. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين في عصر النّبوة ، وكان

٨٠