التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

تقضيها ، وانقراض نعيمها ، واغترار الناس بها ، بحال ماء نزل من السماء ، وأنبت أنواع العشب ، وزين بزخرفها وجه الأرض ، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة ، حتى إذا طمع أهلها فيها ، وظنوا أنها مسلمة من الجوائح ، أتاها بأس الله فجأة ، فكأنّها لم تكن بالأمس.

وأما الاستعارة التي هي من المجاز اللغوي أي في الكلمة الواحدة لا كالمجاز العقلي فكثيرة أيضا (١) ، مثل قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير ٨١ / ١٨]. أستعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند ظهور الفجر قليلا ، ومثل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ...) [النساء ٤ / ١٠] شبه مال الأيتام بالنار ، بجامع أن أكله يؤذي ، كما تؤذي النار. ومثل قوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم ١٤ / ١] أي لتخرج الناس من جهالاتهم وضلالاتهم إلى الدين القيم والعقيدة الحقة والعلم والأخلاق ، شبه الجهالة والضلالة والعداوة بالظلام ، في أن الإنسان لا يهتدي إلى الطريق الواضح في كل منهما ، وشبه الدين القيم بالنور في أن الإنسان يهتدي إلى الطريق الواضح في كل منهما.

وأما المجاز : فأنكر جماعة من العلماء وجوده في القرآن (منهم الظاهرية ، وبعض الشافعية كأبي حامد الاسفراييني وابن القاصّ ، وبعض المالكية كابن خويز منداد البصري ، وابن تيمية) وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب ، والقرآن منزه عنه ، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير ، وذلك محال على الله ، فالجدار لا يريد في قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف ١٨ / ٧٧]. والقرية لا تسأل في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف ١٢ / ٨٢](٢).

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة : ص ١٠٢ وما بعدها.

(٢) المرجع السابق : ص ٩٩

٤١

لكن الذين تذوقوا جمال الأسلوب القرآني ، يرون أن هذه الشبهة باطلة ، ولو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٩] دلت القرينة على أن المعنى الحقيقي غير مراد ، وأن الآية تنهى عن كل من التبذير والبخل.

والكناية : «وهي لفظ أريد به لازم معناه» كثيرة أيضا في القرآن ، لأنها من أبلغ الأساليب في الرمز والإيمان ، فالله تعالى رمز إلى الغاية من المعاشرة الزوجية ، وهي التناسل ، بلفظ (الحرث) في قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٣] ، ووصف الله العلاقة بين الزوجين ، بما فيها من مخالطة وملابسة ، بأنها لباس من كل منهما للآخر ، في قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة ٢ / ١٨٧] ورمز إلى الجماع بقوله سبحانه : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء ٤ / ٤٣] وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة ٢ / ١٨٧]. وكنى عن عفة النفس وطهارة الذيل بقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر ٧٤ / ٤].

والتعريض : «وهو أن تذكر اللفظ وتستعمله في معناه ، وتلوّح به إلى ما ليس من معناه ، لا حقيقة ولا مجازا» مستعمل أيضا في القرآن ، مثاله : (وَقالُوا : لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ، قُلْ : نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) [التوبة ٩ / ٨١] ليس المراد به ظاهر الكلام وهو ازدياد حر جهنم ، وكونه أشد من حر الدنيا ، ولكن الغرض الحقيقي هو التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال ، المعتذرين بشدة الحر ، بأنهم سيردون جهنم ، ويجدون حرها الذي لا يوصف. ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء ٢١ / ٦٣] نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة ، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم ، من عجز كبيرها عن ذلك الفعل ، والإله لا يكون عاجزا.

٤٢

فوائد :

القرآن ثلاثون جزءا ٣٠

عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة ١١٤

عدد آي القرآن ٦٢٣٦ على طريقة الكوفيين.

الأمر

١٠٠٠

النهي

١٠٠٠

الوعد

١٠٠٠

الوعيد

١٠٠٠

القصص والأخبار

١٠٠٠

العبر والأمثال

١٠٠٠

الحرام والحلال

٥٠٠

الدعاء

١٠٠

الناسخ والمنسوخ

٦٦

٤٣

الاستعاذة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

١ ـ معناها : أستجير بجناب الله وأعتصم به من شر الشيطان الملعون المذموم أن يغويني ويضلني أو يضرني في ديني أو دنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحضني على ما نهيت عنه ، فإنه لا يكفه ويمنعه إلا رب العالمين. والشيطان : واحد الشياطين ، وسمي بذلك لبعده عن الحق وتمرده. والرجيم : أي المبعد من الخير ، المهان ، المرمي باللعن والسب.

٢ ـ أمر الله سبحانه بالاستعاذة عند أول كل تلاوة للقرآن ، بقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل ١٦ / ٩٨] أي إذا أردت أن تقرأ ، فتعوذ ، وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ : رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون ٢٣ / ٩٦ ـ ٩٨] وهذا يوحي إلى أن القرآن جعل دفع السيئة بالحسنة علاجا لشيطان الإنس ، والاستعاذة علاجا لشيطان الجن.

وتطبيقا لهذا الأمر في السنة ورد عن أبي سعيد الخدري عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ، ثم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه» (١) وقال ابن المنذر : «جاء عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه ابن مسعود ـ أنه كان يقول قبل القراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». وهذا اللفظ هو الذي عليه جمهور العلماء في التعوذ : لأنه لفظ كتاب الله.

٣ ـ الاستعاذة مندوبة في رأي جمهور العلماء في كل قراءة في غير الصلاة.

__________________

(١) أخرجه أحمد والترمذي (نيل الأوطار : ٢ / ١٩٦ وما بعدها).

٤٤

أما في الصلاة ، فقال المالكية : يكره التعوذ والبسملة قبل الفاتحة والسورة ، إلا في قيام رمضان ، لحديث أنس : «أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» (١) وقال الحنفية : يتعوذ في الركعة الأولى فقط.

ورأي الشافعية والحنابلة : أنه يسن التعوذ سرا في أول كل ركعة قبل القراءة.

٤ ـ أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ، ولا آية منه.

__________________

(١) متفق عليه بين البخاري ومسلم.

٤٥

البسملة : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ معناها : أبدأ بتسمية الله وذكره وتسبيحه قبل كل شيء ، مستعينا به في جميع أموري ، فإنه الرب المعبود بحق ، واسع الرحمة ، الذي وسعت رحمته كل شيء ، المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، المتفضل بدوام الفضل والرحمة والإحسان.

٢ ـ حكمتها : ابتدأ الله تعالى بالبسملة سورة الفاتحة وكل سور القرآن ، ما عدا سورة التوبة ، تنبيها على أن ما في كل سورة حق ، ووعد صادق للعباد ، فهو سبحانه يفي لهم بجميع ما تضمنت السورة من وعد ولطف وبر ، وإرشادا إلى استحباب البدء بالبسملة في كل الأعمال ، التماسا لمعونة الله وتوفيقه ، ومخالفة لغير المؤمنين الذين يستفتحون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو زعمائهم.

قال بعض العلماء : إن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تضمنت جميع الشرع ، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات (١).

٣ ـ هل هي آية من السورة؟ اختلف العلماء في البسملة ، أهي آية من الفاتحة وغيرها من السور أم لا؟ على ثلاثة أقوال :

فقال المالكية والحنفية : ليست البسملة بآية من الفاتحة ولا غيرها ، إلا من سورة النمل في أثنائها ، لحديث أنس رضي‌الله‌عنه قال : «صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي‌الله‌عنهم ، فلم أسمع أحدا منهم ،

__________________

(١) وأما حديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع» فهو ضعيف ، رواه عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة.

٤٦

يقرأ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» (١) أي أن أهل المدينة كانوا لا يقرءون البسملة في صلاتهم في مسجد المدينة ، إلا أن الحنفية قالوا : يقرأ المنفرد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، مع الفاتحة ، في كل ركعة سرا ، فهي قرآن ، لكنها ليست بعض السورة ، وإنما هي للفصل بين السور. وقال المالكية : لا يقرؤها في الصلاة المكتوبة ، جهرا كانت أو سرا ، لا في الفاتحة ، ولا في غيرها من السور ، ويجوز قراءتها في النافلة. وقال القرطبي : الصحيح من هذه الأقوال قول مالك ، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد ، وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه (٢) ، لكن هذا غير ظاهر ، لأنه ليس بلازم تواتر كل آية.

وقال عبد الله بن المبارك : إنها آية من كل سورة ، لما رواه مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : «نزلت علي آنفا سورة» فقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر ١٠٩ / ١ ـ ٣ ـ].

وقال الشافعية والحنابلة : البسملة آية من الفاتحة ، يجب قراءتها في الصلاة ، إلا أن الحنابلة قالوا كالحنفية : يقرأ بها سرا ، ولا يجهر بها. وقال الشافعية : يسرّ بها في الصلاة السرية ، ويجهر بها في الصلاة الجهرية ، كما يجهر في سائر الفاتحة. ودليلهم على كونها آية في الفاتحة : ما رواه الدار قطني عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قرأتم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فاقرؤوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، إنها أم القرآن ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، و (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أحد آياتها» وإسناده صحيح.

__________________

(١) رواه مسلم وأحمد.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٩٣

٤٧

ودليل الجهر بها لدى الشافعية : ما روى ابن عباس رضي‌الله‌عنهما «أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١) ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن ، بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ ، فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة.

وتردد قول الشافعي في كون البسملة آية في سائر السور ، فمرة قال : هي آية من كل سورة ، ومرة قال : ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها ، والأصح أنها آية من كل سورة كالفاتحة ، بدليل اتفاق الصحابة على كتبها في أوائل كل سورة ، ما عدا سورة براءة ، مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصاحف ما ليس من القرآن. وبغض النظر عن الخلاف الفقهي السابق ، اتفقت الأمة على أن البسملة آية في سورة النمل ، وعلى جواز كتب البسملة في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل ، فإن كان الكتاب ديوان شعر فمنعه الشعبي والزهري ، وأجازه سعيد بن جبير وأكثر المتأخرين (٢).

فضل البسملة : قال علي كرم الله وجهه في قوله «بسم الله» : إنه شفاء من كل داء ، وعون على كل دواء. وأما «الرحمن» فهو عون لكل من آمن به ، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما «الرحيم» فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا.

ملاحظة : أثبتّ النص القرآني برسم المصحف العثماني ، فمثلا : «وأولوا» و «يتلوا» فيهما ألف ، و «الصلوة» و «يريكم» هكذا ، أما في الإملاء الحديثة فلا تكتب الألف في الكلمتين ، وتكتب «الصلاة» و «يراكم» اليوم هكذا ، وأما في شرحي أو تفسيري فأتقيد بالقواعد الجديدة.

كذلك لا أعرب بعض الكلمات المعروفة ، مثل (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) [المرسلات ١٧ ـ ١٨] لم أعرب «نتبعهم» التي هي فعل مضارع مرفوع ، لأنه كلام مستأنف ، وليس مجزوما مثل «نهلك».

__________________

(١) تكتب «بسم الله» بغير ألف ، استغناء عنها بباء الإلصاق ، في اللفظ والخط ، لكثرة الاستعمال ، بخلاف قوله تعالى : «اقرأ باسم ربك» فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٩٧

٤٨

أمل ودعاء وغاية

اللهم اجعل كل ما تعلّمته ـ حفظته أو نسيته ، وعلّمته ، طوال حياتي ، وكتبته أو ألّفته (١) من فيض فضلك ، ومن حركة القلم الذي أكتب به ، وومضة الفكر وإشعاعاته ، وإجهاد العقل ونتاجه ، وعناء النفس ليل نهار ، ونور البصيرة والبصر ، وإصغاء السمع ، ووعي القلب ... ذخرا لي عندك ، مخلصا لك فيه عملي ، ومن أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك ، وتيسير العلم لأهله على وفق أذواق العصر والمعاصرين ، وبقصد مرضاتك ووجهك الكريم ، مبعدا عني بعد المشرقين كل ما يشوب ذلك من رياء أو سمعة أو شهرة ، تفيض به علي من جودك وإحسانك ، واحتسابا للأجر والثواب الواسع من لدنك وجنابك ، فتقبّل مني يا كريم قليلي في كثيرك ، ويسيري في سعتك ، فإني في عصر لم أتمكن فيه من القيام بجهاد مثلما قام به السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وأجزل به الأجر والنفع المنشود في حياتي وبعد مماتي ، وحتى يوم العرض الأكبر عليك ، وثقّل به ميزان حسابي ، وحقق لي بفضلك ورحمتك النجاة يوم المعاد ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ، يا أكرم مسئول ، والحمد لله رب العالمين.

أ ـ د : وهبة مصطفى الزحيلي

__________________

(١) التي منها أكثر من عشرين بحثا (للموسوعة الفقهية في الكويت ، ولمؤسسة آل البيت في الأردن ، ولمجمع الفقه الإسلامي في جدة ـ موسوعة الفقه ـ وللموسوعة العربية السورية) ، ومنها الموسوعات العلمية الثلاث : أصول الفقه الإسلامي في مجلدين ، والفقه الإسلامي وأدلته في ثمانية مجلدات ، وهذا التفسير الذي ركزت فيه على فقه الحياة الأكبر في القرآن الكريم ، ومؤلفات أخرى.

٤٩
٥٠

٥١
٥٢

سورة الفاتحة

مكية وآياتها سبع

نزلت بعد المدّثّر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة معاني القرآن العظيم ، واشتملت على أصول الدين وفروعه ، وتناولت العقيدة ، والعبادة ، والتشريع ، والإيمان بالبعث وبصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء ، والإرشاد إلى طلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم ، وتجنب طريق المنحرفين عن هداية الله تعالى.

أسماؤها :

للفاتحة اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي ، وهي الصلاة ، للحديث القدسي : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» (١) ، وسورة الحمد ، لأن فيها ذكر

__________________

(١) رواه مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

٥٣

الحمد ، وفاتحة الكتاب ، لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وكتابة ، وتفتتح بها الصلوات ، وأم الكتاب في رأي الجمهور ، وأم القرآن في رأي الجمهور ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله : أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبع المثاني» (١) ، والمثاني ، لأنها تثنى في كل ركعة ، والقرآن العظيم ، لتضمنها جميع علوم القرآن ومقاصده الأساسية ، والشفاء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» (٢) ، والرّقية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن رقى بها سيد الحي : «ما أدراك أنها رقية» (٣) ، والأساس ، لقول ابن عباس : «... وأساس الكتب : القرآن ، وأساس القرآن : الفاتحة ، وأساس الفاتحة : بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، والوافية : لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ، فلو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز عند الجمهور ، والكافية ، لأنها تكفي عن سواها ، ولا يكفي سواها عنها. هذه هي أسماء سورة الفاتحة ، وأشهرها ثلاث : الفاتحة ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني. والسورة : طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات ، فأكثر ، لها اسم يعرف بطريق الرواية الثابتة.

فضلها :

ثبت في الأحاديث الصحيحة فضل الفاتحة ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي ـ كما قال الله عزوجل في الحديث القدسي ـ مقسومة بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل» (٤).

__________________

(١) رواه الترمذي عن أبي هريرة.

(٢) رواه الدارمي عن عبد الملك بن عمير ، بلفظ : «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء»

(٣) أخرجه الأئمة عن أبي سعيد الخدري.

(٤) رواه الترمذي عن أبي بن كعب ، ورواه أيضا عنه الإمام أحمد في المسند بلفظ : «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

٥٤

ومنها أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي سعيد بن المعلّى : «لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن : الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته» (١). وهذان الحديثان يشيران إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر ١٥ / ٨٧] لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة ، أي تعاد.

الإعراب :

الباء من (بِسْمِ اللهِ) زائدة بمعنى الإلصاق ، والراجح أنها بمعنى الاستعانة ، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف عند البصريين ، وتقديره : ابتدائي بسم الله ، أي كائن باسم الله ، أو في موضع نصب بفعل مقدر عند الكوفيين ، وتقديره : ابتدأت بسم الله.

و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مبتدأ وخبر ، و (رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة الله.

و (مالِكِ) مجرور على البدل ، لا على الصفة : لأنه نكرة ، بسبب أنه اسم فاعل لا يكتسب التعريف من المضاف إليه ، إذا كان للحال أو الاستقبال. و (يَوْمِ الدِّينِ) ظرف زمان.

و (إِيَّاكَ) ضمير منصوب منفصل ، والعامل فيه (نَعْبُدُ) والكاف للخطاب.

و (اهْدِنَا) سؤال وطلب ، فعل أمر يتعدى إلى مفعولين.

و (صِراطَ الَّذِينَ) بدل من الصراط الأول. و (الَّذِينَ) اسم موصول. و (غَيْرِ) مجرور على البدل من ضمير (عَلَيْهِمْ) : وهذا ضعيف ، أو من (الَّذِينَ) أو مجرور على الوصف للذين. و (لَا) في (وَلَا الضَّالِّينَ) زائدة للتوكيد عند البصريين ، وبمعنى «غير» عند الكوفيين. وأما «آمين» فدعاء ، وليس من القرآن ، وهو اسم فعل ومعناه : اللهم استجب.

البلاغة :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) جملة خبرية لفظا ، إنشائية معنى ، أي قولوا : الحمد لله ، وهي مفيدة قصر الحمد عليه تعالى.

و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ...) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وتقديم المفعول يفيد القصر ، أي لا نعبد سواك.

__________________

(١) خرّجه البخاري.

٥٥

و (اهْدِنَا الصِّراطَ) أي ثبتنا عليه ، فالمراد به دوام الطلب واستمراره.

و (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فيه حذف ، تقديره : غير صراط المغضوب عليهم.

المفردات اللغوية :

(الْحَمْدُ) الثناء بالجميل على الفعل الاختياري ، وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر يكون مقابل النعمة. (اللهِ) : علم على الذات العلية المقدسة ، ومعناه : المعبود بحق ، وقيل : إنه اسم الله الأعظم ، ولم يتسمّ به غيره. أما «الإله» فهو المعبود بحق أو باطل ، يطلق على الله تعالى وعلى غيره. (رَبِ) الرب : المالك والسيد المعبود والمصلح والمدبر والجابر والقائم ، فيه معنى الربوبية والتربية والعناية بالمخلوقات. (الْعالَمِينَ) جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنبات والذر والجن. ولفظ العالم : اسم جنس لا واحد له من لفظه ، مثل رهط وقوم.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله مشتقتان من الرحمة ، لوحظ في كل منهما معنى معين ، فالرحمن : صيغة مبالغة بمعنى : عظيم الرحمة ، وهو اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، وأكثر العلماء على أن (الرَّحْمنِ) اسم مختص بالله عزوجل ، ولا يجوز أن يسمى به غيره. و (الرَّحِيمِ) بمعنى دائم الرحمة. ولما كان في اتصافه تعالى ب (رَبِّ الْعالَمِينَ) ترهيب ، قرنه بالرحمن الرحيم.

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي مالك يوم الحساب والمكافأة والجزاء على الأعمال ، والأمر كله في قبضته يوم القيامة ، ومن عرف أن الله ملك يوم الدين ، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) نخصك بالعبادة ولا نعبد غيرك ، ومعناه نطيع ، والعبادة : الطاعة والتذلل (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي نطلب العون والتأييد والتوفيق ، ونخصك بطلب المعونة ، فأنت مصدر العون والفضل والإحسان ، ولا يملك القدرة على عوننا أحد. وقد جاء الفعلان «نعبد ونستعين» بصيغة الجمع ، لا بصيغة المفرد «إياك أعبد وإياك أستعين» للاعتراف بقصور العبد وحده عن الوقوف أمام الله ، فكأنه يقول : لا يليق بي الوقوف وحدي وبمفردي في مناجاتك ، وأخجل من تقصيري وذنوبي ، بل أنضم إلى سائر المؤمنين ، وأتوارى بينهم ، فتقبل دعائي معهم ، فنحن جميعا نعبدك ونستعين بك.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) عرفنا ووفقنا ودلنا على الطريق الموصل إلى الحق ، وأرشدنا إليه ، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. والصراط المستقيم : الطريق المعتدل : طريق الإسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك ، وختمت برسالاتهم رسالة خاتم النبيين ، وهو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني ، كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الاجتماع.

٥٦

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي طريق من أنعمت عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين السابقين ، وحسن أولئك رفيقا. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) أي لا تجعلنا مع أولئك الحائدين عن طريق الاستقامة ، المبعدين عن رحمة الله ، المعاقبين أشد العقاب ، لأنهم عرفوا الحق وتركوه ، وضلوا الطريق. ويرى الجمهور أن المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالين هم النصارى. والحق : أن المغضوب عليهم : هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده ، فرفضوه ونبذوه. والضالون : هم الذين لم يعرفوا الحق ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح ، وهم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم بنحو ناقص ..

التأمين : «آمين» دعاء ، أي تقبل منا واستجب دعاءنا ، وهي ليست من القرآن ، ولم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما‌السلام ، ويسن ختم الفاتحة بها ، بعد سكتة على نون (وَلَا الضَّالِّينَ) ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن. ودليل سنيتها ما رواه مالك والجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمّن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه».

آراء العلماء في الجهر والإسرار بالتأمين :

للعلماء رأيان : قال الحنفية ، والمالكية في الراجح : الإخفاء أو الإسرار بآمين أولى من الجهر بها ، لأنه دعاء ، وقد قال الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف ٧ / ٥٥] وقال ابن مسعود : «أربع يخفيهن الإمام : التعوذ ، والتسمية ، والتأمين ، والتحميد» أي قول : ربنا لك الحمد.

ورأى الشافعية والحنابلة : أن التأمين سرا في الصلاة السرية ، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة ، ويؤمن المأموم مع تأمين إمامه ، لحديث أبي هريرة المتقدم : «إذا أمّن الإمام فأمنوا ...» ودليلهم على هذا التفصيل : حديث أبي هريرة : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تلا : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : آمين ، حتى يسمع من يليه من الصف الأول»(١) وحديث وائل بن حجر : «سمعت

__________________

(١) رواه أبو داود وابن ماجه ، وقال : حتى يسمعها أهل الصف الأول ، فيرتج بها المسجد.

٥٧

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقال : آمين ، يمدّ بها صوته» (١).

التفسير والبيان :

أرشدنا الله تعالى إلى أن نبدأ كل أعمالنا وأقوالنا بالبسملة ، فهي مطلوبة لذاتها ، محققة للاستعانة باسمه العظيم. وعلمنا سبحانه كيف نحمده على إحسانه ونعمه ، فهو صاحب الثناء بحق ، فالحمد كله لله دون سواه ، لأنه مالك الملك ورب العوالم والموجودات كلها ، أوجدها ورباها وعني بها ، وهو صاحب الرحمة الشاملة الدائمة ، ومالك يوم الجزاء والحساب ليقيم العدل المطلق بين العباد ، ويحقق للمحسن ثوابه ، وللمسيء عقابه. فهذه الصفات تقتضينا أن نخص الله بالعبادة وطلب المعونة ، والخضوع التام له ، فلا نستعين إلا به ، ولا نتوكل إلا عليه ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ، لأنه المستحق لكل تعظيم ، والمستقل بإيجاد النفع ودفع الضر.

وقد تعصف الأهواء بالنفوس ، وتزيغ بالعقول ، فلا غاصم من التردي في الشهوات ومتاهات الانحراف إلا الله ، لذا أرشدنا الحق سبحانه إلى طلب الهداية والتوفيق منه ، حتى نسير على منهج الحق والعدل ، ونلتزم طريق الاستقامة والنجاة ، وهو طريق الإسلام القديم المستمر الذي أنعم الله به على النبيين والصديقين والصالحين. وهذا شأن العبد العابد الناسك العاقل العارف حقيقة نفسه ومصيره في المستقبل ، لا شأن الكافر الجاحد الضال المنحرف ، الذي أعرض عن طريق الاستقامة عنادا ، أو ميلا مع الأهواء ، أو جهلا وضلالا ، وما أكثر الضالين عن طريق الهداية ، المتنكبين منهج الاستقامة ، الذين استحقوا الغضب والسخط الإلهي!

__________________

(١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

٥٨

فاللهم أدم علينا البقاء في طريق الهداية ، وتقبل ثناءنا ودعاءنا واحفظنا من الغواية والضلال.

وبه تبين أن الناس فريقان : فريق الهدى ، وفريق الضلال (١). وقد منح الله تعالى للإنسان خمس هدايات يتوصل بها إلى سعادته (٢).

١ ـ هداية الإلهام الفطري : وتكون للطفل منذ ولادته ، فهو يحس بالحاجة إلى الطعام والشراب ، فيصرخ طالبا له إن غفل عنه والداه.

٢ ـ هداية الحواس : وهي متممة للهداية الأولى ، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان ، بل هما في البداية أكمل في الحيوان من الإنسان ، إذ إلهام الحيوان يكمل بعد ولادته بقليل ، ويكتمل في الإنسان تدريجيا.

٣ ـ هداية العقل : وهي أسمى من الهدايتين السابقتين ، فالإنسان خلق مدنيا بالطبع ليعيش مع غيره ، ولا يكفي الحس الظاهر للحياة الاجتماعية ، فلا بد له من العقل الذي يوجهه إلى مسالك الحياة ، ويعصمه من الخطأ والانحراف ، ويصحح له أغلاط الحواس ، والانزلاق في تيارات الهوى.

٤ ـ هداية الدين : وهي الهداية التي لا تخطئ ، والمصدر الذي لا يضل ، فقد يخطئ العقل ، وتنجرف النفس مع اللذات والشهوات ، حتى توردها موارد الهلاك ، فيحتاج الإنسان إلى مقوّم مرشد هاد لا يتأثر بالأهواء ، فتسعفه هداية الدين لإرشاده إلى الطريق الأقوم ، إما بعد الوقوع في الخطأ أو قبله ، وتظل هذه الهداية هي الحارس الأمين الذي يفيء إليها الإنسان للتزود بمفاتيح الخير ، والتسلح بمغلاق الشر ، فيأمن العثور ، ويضمن النجاة ، وتعرّفه بحدود ما يجب

__________________

(١) الضلال : العدول عن الطريق المستقيم ، ويضاده الهداية.

(٢) تفسير المنار : ١ / ٦٢ ، تفسير المراغي : ١ / ٣٥.

٥٩

عليه لسلطان الله الذي يخضع له في أعماق نفسه ، ويحس بالحاجة الملحة لصاحب ذلك السلطان ، الذي خلقه وسواه ، وأنعم عليه نعما ظاهرة وباطنة ، لا تعد ولا تحصى. فصارت هذه الهداية أشد ما يحتاج إليها الإنسان ، لتحقيق سعادته.

وقد أشار القرآن إلى تلك الهدايات في آيات كثيرة ، منها (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] أي بينا له طريقي الخير والشر ، والسعادة والشقاء.

ومنها قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت ٤١ / ١٧] أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر ، فاختاروا الثاني.

٥ ـ هداية المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة : وهي أخص من هداية الدين ، وهي التي أمرنا الله بدوام طلبها في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي دلنا دلالة ، تصحبها من لدنك معونة غيبية ، تحفظنا بها من الضلال والخطأ.

وهذه الهداية خاصة به سبحانه ، لم يمنحها أحدا من خلقه ، بل نفاها عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦] ، وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢] ، وأثبتها لنفسه في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام ٦ / ٩٠].

أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق ، فأثبتها الله للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى ٤٢ / ٥٢].

والخلاصة : الهداية في القرآن نوعان : هداية عامة : وهي الدلالة إلى مصالح العبد في معاده ، وهذه تشمل الأنواع الأربعة السابقة ، وهداية خاصة : وهي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة ، مع الدلالة ، وهي النوع الخامس.

٦٠