التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

اشتغال اليهود بالسحر والشعوذة والطلاسم

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

الإعراب :

(اتَّبَعُوا) معطوف على قوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ ..) و (تَتْلُوا) أي تتبع بمعنى : تلت ، فأقام المستقبل مقام الماضي. (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إما حال من ضمير (كَفَرُوا) أي كفروا معلمين ، أو حال من الشياطين ، أو بدل من (كَفَرُوا) لأن تعليم السحر كفر في المعنى ، أو خبر ثان للكن. (وَما أُنْزِلَ ..) ما : بمعنى الذي في موضع نصب بالعطف على السحر ، أو في موضع نصب بالعطف على (ما تَتْلُوا ..) أو في موضع جر بالعطف على (مُلْكِ سُلَيْمانَ).

(فَيَتَعَلَّمُونَ) إما معطوف على (يُعَلِّمانِ) أو معطوف على فعل مقدر ، وتقديره : يأتون فيتعلمون ، أو معطوف على (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) أي يعلمونهم فيتعلمون ، أو يكون مستأنفا ، وهو الأوجه ، والضمير لما دل عليه : من أحد.

(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) أي ما هم السحرة بضارين بالسحر أحدا ، ومن : زائدة. (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) اللام في (لَمَنِ اشْتَراهُ) لام الابتداء ، و (مِنْ) بمعنى الذي في موضع رفع ، لأنه مبتدأ ، وخبره (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ) واشتراه : صلته ، و (مِنْ) زائدة لتأكيد

٢٤١

النفي ، و (خَلاقٍ) مبتدأ ، و (لَهُ فِي الْآخِرَةِ) خبره ، والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو «من» ولام (لَمَنِ) علّقت (عَلِمُوا) أن تعمل فيما بعدها. ويجوز أن تكون «من» شرطية.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أن هاهنا مصدرية ، والتقدير : ولو وقع إيمانهم ، و (لَوْ) حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره ، وجوابه (لَمَثُوبَةٌ) و «مثوبة» مبتدأ ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة ، لأنه تخصص بالصفة وهو (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فقرب من المعرفة ، وخبره : (خَيْرٌ).

البلاغة :

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) هذا جار على الأسلوب البلاغي : وهو أن العالم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزّل منزلة الجاهل به.

(لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) عبر بالجملة الاسمية لإفادة الثبوت والاستقرار.

المفردات اللغوية :

(ما تَتْلُوا) أي تلت الشياطين على عهد ملك سليمان من السحر أي في زمان ملكه ، والمراد بالشياطين : شياطين الإنس والجن (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي وما سحر ، والسحر لغة : كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ، وسحره : خدعه ، والملكان : رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما. وبابل : بلد بالعراق في أرض الكوفة لها شهرة تاريخية قديمة (فِتْنَةٌ) اختبار وابتلاء (اشْتَراهُ) استبدل ما تتلو الشياطين (خَلاقٍ) نصيب وحظ (شَرَوْا) باعوا. المثوبة : المثوبة : الثواب. وكان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ، ويسمونها آلهة ، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها ، وهم معطّلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم ، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه ، فدعاهم إلى الله تعالى ، وحاجهم بما بهرهم به وأقام عليهم به الحجة (١).

سبب نزول الآية (١٠٢):

قال محمد بن إسحاق : قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد ، يزعم أن سليمان كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٤٣

٢٤٢

وأخرج الطبري عن شهر بن حوشب قال : قالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، أفما كان ساحرا يركب الريح؟ فأنزل الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك ، قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا ، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ).

وقال الكلبي : إن الشياطين كتبوا السحر والنّيرنجيات (تصرفات تخيل وليست حقيقة ، وهو أخذ كالسحر وليس به) على لسان آصف : هذا ما علّم آصف بن برخيا ـ كاتب نبي الله سليمان ـ الملك ، ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ، ولم يشعر بذلك سليمان. ولما مات سليمان استخرجوه من تحت مصلاه ، وقالوا للناس : إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه ، فلما علم علماء بني إسرائيل قالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان. وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعلمه ، ورفضوا كتب أنبيائهم : ففشت الملامة لسليمان ، فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل الله عذر سليمان على لسانه ، وأنزل براءته مما رمي به ، فقال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ).

المناسبة :

حين نبذ فريق من اليهود وهم أحبارهم وعلماؤهم التوراة ، وأعرضوا عنها ، لأنها تدل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان ، من صنع شياطين الإنس والجن ، وهي السحر والشعوذة والطلاسم التي نسبوها إلى سليمان ، وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.

وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين ، فصدقوهم فيما زعموا منها ،

٢٤٣

وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر. وإنما قص القرآن علينا ذلك للذكرى ، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر ، فكان شاغلا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود. وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ، ثم استخرجها الناس وتناقلوها.

التفسير والبيان :

نبذ اليهود كتاب الله ، واتبع فريق من أحبارهم وعلمائهم الذين نبذوا التوراة ، السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان ، لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ، ويضمون إليه أكاذيب ، ثم يلقنونها الكهنة ، فيعلمونها الناس ، ويقولون : إن هذا علم سليمان ، وقام ملك سليمان بهذا. فرد الله عليهم بأن سليمان ما فعل ذلك ، وما عمل سليمان بالسحر ، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتدوينه وتعليمه الناس على وجه الإضرار والإغواء ، ونسبته إلى سليمان على وجه الكذب وجحد نبوته ، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل ، وهما هاروت وماروت : وهما بشران صالحان قانتان ، أطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه. وقرأ الحسن البصري : الملكين ـ بكسر اللام تشبيها بالملوك في الخلق وسماع الكلمة.

وكان هذان الملكان يعلمان الناس السحر الذي كثرت فنونه الغريبة في عصرهم ، ليتمكنوا من التمييز بينه وبين المعجزة ، ويعرفوا أن الذين يدّعون النبوة من السحرة كذبا إنما هم سحرة ، لا أنبياء. وقد كان تعلمهما السحر بالإلهام دون معلم ، وهو المقصود بالإنزال ، والذي أنزل عليهما كان من جنس السحر ، لا عينه.

ولكن هذين الملكين اتبعا في تعليم السحر سبيل الإنذار والتحذير ، فلا يعلمان أحدا من الناس ، حتى يقولا له : إنما نحن ابتلاء واختبار من الله عز

٢٤٤

وجل ، فلا تعمل بالسحر ولا تعتقد تأثيره ، وإلا كنت كافرا ، أما إذا تعلمته لتعلمه فقط دون اعتقاد بحقيقته ولا تأثير له ولا عمل به ، فلا ضرر ، وكانا يقولان ذلك حفاظا على حسن اعتقاد الناس فيهما.

فتعلم الناس من الملكين ما يفرّق به بين المرء وزوجه ، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك من وسائل التفريق غالبا.

والمعنى في عطف (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) على قوله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) أن اليهود اتخذوا السحر من الملكين لا على الوجه المراد من توقي الناس وتحذيرهم ، وقد ألهما فنون السحر ليعلّما الناس حيل السحرة وخدعهم.

والسحر في الحقيقة لا يؤثر بطبعه ولا بقوة ذاتية فيه ، فلا يحدث الضرر منه إلا بأمر الله وإرادته ، فهو مجرد سبب ظاهري فقط ، وإذا أصيب إنسان بضرر بعمل من أعمال السحرة ، فإنما ذلك بإذن الله تعالى ، وما السحر حينئذ إلا وسيلة أو سبب قد يرتبط المسبب أو النتيجة به ، إذا شاء الله ، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب ، قال الحسن البصري : من شاء الله منعه ، فلا يضره السحر ، ومن شاء خلى بينه وبينه فضره.

ومن تعلم السحر وعمل به فإنه يتعلم ما يضره ولا ينفعه ، لأنه كان سببا في إضرار الناس ولأنه قصد الشر ، فيكرهه الناس لإيذائه ، ويعاقبه الله في الآخرة لإضراره غيره ، وإفساده المصالح ، وكل عامل يجزى بما عمل.

وتا لله لقد علم اليهود بأن من ترك كتاب الله وأهمل أصول الدين وأحكام الشريعة التي تسعد في الدارين ، واستبدل به كتب السحر ، ما له في الآخرة إلا العذاب الأليم ، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر ، وجعلت عقوبة من اتبع الجن والشياطين والكهان كعقوبة عابد الأوثان.

٢٤٥

ولبئس ما باعوا به أنفسهم باتخاذ السحر محل التوراة ، فهم جهلة لا يعلمون حرمة السحر علم اعتقاد وامتثال ، لأنهم لم يعملوا بالعلم الصحيح ، وإنما اكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس.

ولو أنهم أي اليهود آمنوا الإيمان الحق بالتوراة ، وفيها البشارة بنبي آخر الزمان ، وآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالقرآن ، وتركوا كتب السحر والشعوذة ، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه ، لاستحقوا الثواب العظيم من عند الله ، جزاء على أعمالهم الصالحة ، وهو خير لهم لو كانوا يعلمون العلم الصحيح ، ولكنهم في الواقع لم يكونوا على علم حقيقي وإنما على ظن وتقليد ، إذ لو كانوا على علم ، لظهرت نتائجه في أعمالهم ، ولآمنوا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتبعوه وصاروا من المفلحين ، ولما خالفوا كتاب الله ، واتبعوا أهواءهم. فهم حين لم يعملوا بعلمهم الأصيل ، جعلوا كأنهم غير عالمين.

فقه الحياة أو الأحكام :

السحر : أصله التمويه بالحيل والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد ، فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة بسرعة يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه.

وجاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة ، ولا سيما في قصص موسى وفرعون ، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا ، كما قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه ٢٠ / ٦٦] وقال : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف ٧ / ١١٦].

وروى مالك وأبو داود عن بريدة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن

٢٤٦

من البيان لسحرا ، وإن من العلم جهلا (١) ، وإن من الشعر حكما ، وإن من القول عيالا» أما قوله : «إن من البيان لسحرا» فالرجل يكون عليه الحق ، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه ، فيذهب بالحق. وهذا مذموم. وهو المراد بالحديث في الأصح ، أما السحر الحلال الذي أقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهو أن ينبئ شخص عن حق فيوضحه ، ويجليه بحسن بيانه ، بعد أن كان خفيا.

والسحر : إما حيلة بخفة يد ، وشعوذة ، وإما صناعة وعلم خفي يعرفه بعض الناس.

وهل للسحر حقيقة أم لا؟ اختلف الناس في ذلك (٢).

فرأى جمهور العلماء : أن للسحر حقيقة ، يخلق الله عنده ما شاء ، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر ، إما بغير معين ، أو بمعين من الأمور كالكواكب السماوية ، ويرون أن النفوس الساحرة ثلاث مراتب :

الأولى ـ المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين.

والثانية ـ بمعين من مزاج الأفلاك (أي طبيعتها) ، أو العناصر (الماء والهواء والتراب والنار) ، أو خواص الأعداد ، أي حساب الجمّل ، فلكل حرف من الأحرف الهجائية رقم حسابي معين.

والثالثة ـ تأثير في القوى المتخيلة : بأن يعمد الشخص إلى القوة المتخيلة ،

__________________

(١) ومعنىقوله «من العلم جهلا» أن يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهّله ذلك. ومعنى قوله : «إن من الشعر حكما» : هو هذه الأمثال والمواعظ التي يتعظ بها الناس. ومعنى«إن من القول عيالا» هو عرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده.

(٢) تفسير القرطبي : ٢ / ٤٤ ـ ٤٧ ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٤٥ ـ ١٤٧ ، تفسير الكشاف : ١ / ٢٣١ ، البحر المحيط : ١ / ٣٢٧

٢٤٧

فيلقي فيها أنواعا من الخيالات والصور ، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين ، بقوة نفسه المؤثرة ، فينظر الراءون كأن شيئا موجودا في الواقع ، وليس هناك شيء من ذلك.

وتنال هذه المراتب بالرياضة ، والتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة ، فهي لذلك وجهة وسجود لغير الله ، والوجهة لغير الله كفر ، فلهذا كان السحر كفرا.

ويرى المعتزلة ، وبعض أهل السنة (١) : أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو خداع وتمويه وتخيل. والسحر بهذا المعنى أنواع :

أ ـ كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها ، كما يفعل بعض المشعوذين ، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا ، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه ، لخفة حركته ، إذ إن معه اثنين أحدهما المذبوح الذي خبأه ، والآخر الذي أظهره.

وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع ، فقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين حتى خيل إلى الناس أنها تسعى ، كما قال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه ٢٠ / ٦٦] من طريق تحمية الزئبق بالنار الموضوعة في أسراب ، وتمدده بفعل الحرارة.

ب ـ ما يدعونه من حديث الجن والشياطين بالمواطأة مع قوم أعدوهم لذلك ، وإطاعتها بالرقى والعزائم. وهذا كان فعل الكهان من العرب في

__________________

(١) وهم أبو جعفر الاسترابادي من الشافعية ، وأبو بكر الرازي من الحنفية ، وابن حزم الظاهري وطائفة.

٢٤٨

الجاهلية ، كانوا يوكلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس ، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها ، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات.

ج ـ السعي بالنميمة والوشاية والإفساد ، من وجوه خفية لطيفة ، يتم فيها تحريض الناس على بعضهم بعضا (١).

وقد وفق ابن خالدون بين الرأيين : فمن قال : إن للسحر حقيقة نظر إلى المرتبتين

الأوليين ، ومن قال بأنه لا حقيقة له ، نظر إلى المرتبة الثالثة.

حكم السحر :

ليس تعلم السحر محظورا ، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به ، قيل لعمر بن الخطاب : فلان لا يعرف الشر ، قال : أجدر أن يقع فيه. نقل ابن كثير عن أبي عبد الله الرازي المعتزلي أنه قال : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور (٢).

ومن السحر : ما يكون كفرا من فاعله ، مثل ما يدّعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق ، فذلك كفر منه ، ويقتل هذا الساحر ، لأنه كافر بالأنبياء ، يدّعي مثل آياتهم ومعجزاتهم.

وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات ، فلا يقتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحدا ، فيقتل به.

ولا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات ، مما ليس في مقدور البشر ، من مرض وتفريق وزوال عقل ، وتعويج عضو ، إلى غير ذلك ، مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ١٤٥

(٢) المرجع السابق : ص ١٤٤

٢٤٩

وأجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمّل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماوات وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل المنزلة عليهم ، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.

الفرق بين معجزات الأنبياء عليهم‌السلام وبين السحر :

لا يصح لمؤمن أن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم‌السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بأفعال السحرة ، لقوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه ٢٠ / ٦٩].

وهناك فرق واضح بين المعجزة والسحر القائم على وجوه التخييلات : وهو أن معجزات الأنبياء عليهم‌السلام هي على حقائقها ، وبواطنها كظواهرها ، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها. ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها ، لظهر عجزهم عنها.

أما مخاريق السحرة وتخييلاتهم فهي نوع من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها ، فما يظهر منها ليس على الحقيقة ، ويعرف ذلك بالتأمل والبحث. ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره ، ويأتي بمثل ما قام به (١).

والسحر يوجد من الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ، ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد ، والمعجزة لا يمكّن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها (٢).

وخلاصة القول : إن الساحر لا قدرة له على شيء من الأمور الخارقة ، وإن

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٤٩

(٢) تفسير القرطبي : ٢ / ٤٧

٢٥٠

السحر يعتمد في الغالب على الخداع والتخييلات والتمويهات ، وإن السحرة نصابون يسلبون أموال الناس ، وهم في فقر دائم ، ولو كانوا قادرين على ما يدعونه لأغنوا أنفسهم ، وحققوا الأمجاد بإزالة الممالك ، واستخراج الكنوز ، والغلبة على البلدان ، والاستغناء عن طلب ما في أيدي الناس ، كما قال أبو بكر الجصاص الرازي (١).

يتبين مما ذكر ما يأتي :

١ ـ السحر في اللغة : كل ما لطف مأخذه وخفي.

٢ ـ السحر كما وصفه القرآن تخيل يخدع الأعين ، فيريها ما ليس كائنا أنه كائن.

٣ ـ السحر إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ، ومنه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسي.

٤ ـ حكاية القرآن : (يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا ، وإنما هي حكاية لما كان معروفا عندهم.

٥ ـ السحر لا يؤثر بطبعه ولا أثر له في نفسه ، وإنما هو سبب ، وما يترتب عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات بالأسباب ، كما نصت الآية : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة ٢ / ١٠٢].

٦ ـ دلت الآية على أن عمل السحر كفر وهو قول مالك وأبي حنيفة ، لقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي من السحر ، وقوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي بعمل السحر ، وقوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي به وبتعليمه ، وقوله عن هاروت وماروت : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٨

٢٥١

ورأى الشافعي أن السحر معصية : إن قتل بها قتل ، وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والرأي الأول أصح ، لأن السحر كلام يعظم به غير الله تعالى ، مثل سحر أهل بابل الذي كان تعظيما للكواكب ، وهو رأي عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى الأشعري وقيس بن سعد وسبعة من التابعين.

لكن تكفير السحرة محصور بمن يعظم الكواكب ، ويسند الحوادث إليها ، أو يزعم أنه يقدر على خوارق العادات ، لأنه يدعي أنه يقدر على مثل معجزات الأنبياء.

أما الإفساد بالنميمة أو خفة اليد ، دون ادعاء ما ذكر ، فلا يكون كفرا ، ولا يعد فاعله كافرا.

٧ ـ عقوبة الساحر : للعلماء رأيان في قتل الساحر ، قال الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) : يقتل الساحر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدّ الساحر ضربه بالسيف» (١) وإذا عمل المسلم السحر ، كان مرتدا ، فيقتل لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه».

ويقتل الساحر ولا تقبل توبته في رأي أبي حنيفة ، سواء أكان مسلما أم ذميا ، لأن الساحر جمع إلى كفره السعي في الأرض بالفساد ، فأشبه المحارب (قاطع الطريق). ولا يقتل الساحر الذمي في رأي مالك إلا أن يقتل بسحره ، ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه (٢).

٧ ـ أجاز سعيد بن المسيب والمزني أن يطلب من الساحر حل السحر عن المسحور ، قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبّه : أن يأخذ سبع ورقات من

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن جندب ، لكنه ليس بالقوي ، انفرد به إسماعيل بن مسلم ، وهو ضعيف.

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٥٠ وما بعدها ، تفسير القرطبي : ٢ / ٤٧ وما بعدها.

٢٥٢

سدر أخضر ، فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ عليه آية الكرسي ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ، ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.

٨ ـ تساءل ابن العربي بمناسبة (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) فقال : كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر؟ ثم قال : كل خير أو شر أو طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر منزّل من عند الله تعالى ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : ماذا فتح الليلة من الخزائن؟ ماذا أنزل الله تعالى من الفتن؟ أيقظوا أصحاب الحجر ، ربّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة (١).

٩ ـ هل هاروت وماروت ملكان؟ اختلف العلماء ، فقال جماعة : هما ملكان بعثهما الله يبينان للناس بطلان ما يدعون حقيقته ، ويكشفان لهم عن وجوه الحيل التي يخدعون بها الناس ، وينهيانهم عن العمل بها ، يقولان : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فكانا يعلمانهم للتحرز لا للعمل ، لأن الملائكة أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم ٦٦ / ٦] ، (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧] ، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء ٢٠ / ٢٠].

قال الزمخشري : والذي أنزل على الملكين هو علم السحر ، ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به ، كان كافرا ، ومن تجنبه أو تعلمه ، لا ليعمل به ، ولكن ليتوقاه ولئلا يغتربه ، كان مؤمنا :

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

 وروي عن الحسن البصري : أنه كان يقرأ : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) بكسر

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٢٨ ، وانظر أيضا تفسير ابن كثير : ١ / ١٤٨

٢٥٣

اللام ، ويقول : كانا علجين (١) أقلفين (غير مختونين) ملكين ببابل ، يأمران بالسحر ويتمسكان به.

أدب الخطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومصدر الاختصاص بالرسالة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

الإعراب :

(راعِنا) جملة فعلية في موضع نصب ب (تَقُولُوا) ومن قرأ «راعنا» بالتنوين ، نصبه ب (تَقُولُوا) على المصدر ، أي لا تقولوا رعونة.

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من للبيان (مِنْ خَيْرٍ) من زائدة ، والتقدير : خير من ربكم.

البلاغة :

(مِنْ رَبِّكُمْ) الإضافة للتشريف ، وفيها تذكير للعباد بتربيته لهم. ومن لابتداء الغاية. (وَاللهُ يَخْتَصُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ) التصدير في الجملتين بلفظ الجلالة ، للإيذان بفخامة الأمر.

المفردات اللغوية :

(راعِنا) أمر من المراعاة ، أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا ، وكان يقولون له ذلك ، وهي بلغة اليهود سب من الرعونة وهي الجهل

__________________

(١) العلج : الواحد من كفار العجم.

٢٥٤

والحمق ، فسّروا بذلك ، وخاطبوا بها النبي ، فنهي المؤمنون عنها. وأمروا أن يقولوا بدلها : (انْظُرْنا) أي انظر إلينا ، أو انتظرنا وتأنّ علينا وأمهلنا (أَلِيمٌ) مؤلم وهو النار.

سبب نزول الآية (١٠٤):

قال ابن عباس في رواية عطاء : وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها ، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعجبهم ذلك ، وكان «راعنا» في كلام اليهود سبا قبيحا ، فقالوا : إنا كنا نسب محمدا سرا ، فالآن أعلنوا السب لمحمد ، فإنه من كلامه ، فكانوا يأتون نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : يا محمد راعنا ، ويضحكون ، ففطن بها رجل من الأنصار ، وهو سعد بن معاذ ، وكان عارفا بلغة اليهود ، وقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، والذي نفس محمد بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه ، فقالوا : ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا : راعِنا) الآية (١).

سبب نزول الآية (١٠٥):

قال المفسرون : إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : هذا الذي تدعوننا إليه ، ليس بخير مما نحن عليه ، ولوددنا لو كان خيرا ، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم.

التفسير والبيان :

خاطب الله المؤمنين في هذه الآية في شأن مشترك بينهم وبين اليهود ، موجها لهم إلى ما هو الأمثل في اختيار اللفظ الذي يبدأ به الكلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٨ ويلاحظ أن الواحدي ذكر «سعد بن عبادة» والذي عليه المفسرون أنه «سعد بن معاذ».

٢٥٥

فكانوا يقولون إذا ألقى عليهم شيئا من العلم : راعنا سمعك ، أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ، ونراجعك القول لنفهم عنك.

وكانت الكلمة (راعِنا) عند اليهود كلمة سب قبيح من الرعونة ، فكانوا يخاطبون بها النبي قاصدين معنى السب والشتم ، وأصلها في العبرية «راعينوا» أي شرير ، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة ، وأمرهم بكلمة تماثلها في المعنى ، وتختلف في اللفظ ، وهي (انْظُرْنا) التي تفيد معنى الإنظار والإمهال ، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين. وإجمال المعنى : أقبل علينا وانظر إلينا.

واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول وتدبر وإمعان ، وللكافرين ومنهم اليهود عذاب مؤلم شديد ، وفيه إشارة إلى أن ما صدر منهم من سوء أدب في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر ، لأن من يصف النبي بأنه شرير ، فقد أنكر نبوته. فهذا أدب للمؤمنين ، وتشنيع على اليهود.

وأنتم أيها المؤمنون الذين عرفتم شأن اليهود مع أنبيائهم كونوا على حذر ، فما يود أهل الكتاب ومشركو العرب أن ينزل عليكم خير من ربكم كالقرآن والرسالة ، والكتاب الكريم أعظم الخيرات ، فهو الهداية العظمى ، وبه جمع الله شملكم ووحد صفوفكم ، وطهر عقولكم من زيغ الوثنية ، وأقامكم على سنن الفطرة ، وهم يودون نزول الشر بكم وانتهاء أمركم وزوال دينكم.

وحسد الحاسد لا يمنع نعم الله ، والله العليم القدير الحكيم يختص بالنبوة والرحمة والخير من يشاء من عباده : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] ويعلم من يؤدي واجبه بشأنها خير أداء ، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه ، وفضل أوتيه من عند ربه ، فالله وحده صاحب الفضل العظيم.

٢٥٦

فقه الحياة أو الأحكام :

هاتان الآيتان تذكران شيئا من جهالات اليهود وقبائحهم ، كما سبق ، والمقصود نهي المسلمين عن مثل أفعال اليهود ، وترسيخ عقيدتهم بأن مصدر الخير والرحمة واختيار من هو أهل للنبوة والرسالة هو الله تعالى ، فلا يصح لأحد أن يحسد أحدا على ما آتاه الله من فضله ، وبدئت الآية الأولى بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة ، من ثمانية وثمانين موضعا من القرآن ذكر فيها هذا الخطاب الدال على إقبال الله على المؤمنين ، وتذكيرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بأتم طاعة وأحسن امتثال.

وموضوع هذا الأدب الجميل : هو أن يتجنب المؤمن في مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قد يوهم الانتقاص أو الاستهزاء ، ومنعا من استغلال الأعداء استعمال لفظة أو غيرها ، وقد كان اليهود يعنون بكلمة (راعِنا) السب والشتم ، ويخاطبون بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويضحكون فيما بينهم ، فقال لهم سعد بن معاذ ، وكان يعرف لغتهم : عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله ، لأضربنّ عنقه.

وفي تعبير (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) إيماء إلى أن ما صدر من اليهود من سوء الأدب في خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر لا شك فيه ، لأن من يصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه «شرير» فقد أنكر نبوته ، ومن فعل ذلك فقد كفر.

ففي هذه الآية (١٠٤) دليلان :

أحدهما ـ على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض من قدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يؤكد مذهب المالكية ـ وفي رواية عن أحمد ـ القائلين بوجوب حد القذف حال التعريض بالقذف ، وخالفهم الحنفية والشافعية ، وأحمد

٢٥٧

في ظاهر الرواية عنه حين قالوا : التعريض محتمل للقذف وغيره ، والحد مما يسقط بالشبهة.

الثاني ـ التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب الإمامين مالك وأحمد ، والذريعة: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه ، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع ، أي أن كل وسيلة مباحة أدت إلى محظور أو ممنوع فهي حرام ، وكل وسيلة أدت إلى مطلوب شرعا فهي مطلوبة ، أي أن وسيلة الحرام حرام ، ووسيلة الواجب واجبة ، ووسيلة المباح مباحة.

وقوله تعالى : (لا تَقُولُوا : راعِنا) نهي يقتضي التحريم ، سدا للذرائع ، حتى لا يتخذ اللفظ المحتمل ذريعة لشيء قبيح. وقوله سبحانه : (وَقُولُوا : انْظُرْنا) أمر للمؤمنين أن يخاطبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإجلال. وقوله عزوجل : (وَاسْمَعُوا) يفيد وجوب السماع لما أمر به ونهى جل وعز.

ودل قوله تعالى : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) على سد باب الحسد ، قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) أي بنبوته ، خص بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا. ورحمة الله لعباده : إنعامه عليهم وعفوه عنهم.

إثبات نسخ الأحكام الشرعية

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

٢٥٨

الإعراب :

(ما نَنْسَخْ) ما شرطية في موضع نصب بفعل «ننسخ» و «ننسخ» مجزوم بها.

و (نُنْسِها) حذف منه المفعول الأول ، وتقديره «ننسكها» أي نأمر بتركها ، وهو مجزوم بالعطف على «ننسخ» المجزوم بما الشرطية ، وجواب الشرط : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي بالإضافة إلى مصالح العباد إليها في نفسها.

(كَما سُئِلَ) الكاف في موضع نصب ، لأنها صفة لمصدر محذوف ، أي : أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى. و «ما» في «كما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر ، أي : كسؤال موسى ، والمصدر مضاف إلى المفعول.

البلاغة :

(أَلَمْ تَعْلَمْ) الاستفهام للتقرير ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد : أمته ، بدليل قوله تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). أما إظهار لفظ الجلالة بدل الضمير في قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ) و (مِنْ دُونِ اللهِ) فهو لتكوين المهابة في النفوس.

(ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) من إضافة الصفة للموصوف ، أي الطريق السوي ، وفيه تشنيع على من ظهر له الحق ، فعدل عنه إلى الباطل.

المفردات اللغوية :

(ما نَنْسَخْ) النسخ في اللغة : الإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل ، أي أزالته. وفي الاصطلاح الشرعي : رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه. والإنساء : إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تبليغه إياها ، فمعنى (نُنْسِها) نبح لكم تركها ، من نسي : إذا ترك ، ثم تعدّى بالألف. (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر. (أَوْ مِثْلِها) في التكليف والثواب. (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه النسخ والتبديل.

(وَلِيٍ) الولي : القريب والصديق. والنصير : المعين ، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبيا عمن ينصره.

(تَسْئَلُوا) السؤال : الاقتراح المقصود به التعنت. (يَتَبَدَّلِ) بدل وتبدل واستبدل : جعل شيئا موضع آخر. (ضَلَ) عدل وجار وأخطأ الطريق الحق. (سَواءَ السَّبِيلِ) السواء من كل شيء في الأصل : الوسط. ومنه قوله تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات ٣٧ / ٥٥] والسبيل : الطريق.

٢٥٩

سبب نزول الآية (١٠٦):

قال المفسرون : إن المشركين قالوا : أترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، ما في هذا القرآن إلا كلام محمد ، يقوله من تلقاء نفسه ، وهو كلام يناقض بعضه بعضا ، مثل تغيير حد الزاني بالتعيير باللسان : (فَآذُوهُما) والزانية بالإمساك في البيوت : (فَأَمْسِكُوهُنَّ ...) إلى الجلد ، فأنزل الله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) الآية [النحل ١٦ / ١٠١] وأنزل أيضا : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) [البقرة ٢ / ١٠٦].

سبب نزول الآية (١٠٧):

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي كعب ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبا ، ووسع لنا أرض مكة ، وفجّر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال المفسرون : إن اليهود وغيرهم من المشركين تمنوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن قائل يقول : يأتينا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة ، ومن قائل يقول : وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي : ائتني بكتاب من السماء ، فيه من رب العالمين : إلى ابن أبي أمية ، اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس ، ومن قائل يقول : لن نؤمن لك ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رافع بن حزيمة ووهب بن زيد لرسول الله : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء ، نقرؤه ، أو فجّر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله في ذلك : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) إلى قوله : (سَواءَ السَّبِيلِ).

٢٦٠