التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

يَظُنُّونَ) : يكذبون ويحدثون ، لأنه لا علم لهم بصحة ما يتلون ، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرءون به. وقد أجمع السلف في صدر الإسلام وأهل القرون الثلاثة على بطلان التقليد في العقائد. وإنما كان الجاهل في تلك القرون يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها ، والأحكام بروايتها ، ولا يتقلد رأيه كيفما كان ، من غير بينة ولا برهان (١).

وأومأ الخطاب في هذه الآيات لليهود المعاصرين للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أنه لا أمل في إيمان اليهود بالقرآن وبدعوة الرسول محمد ، فالمعاصرون توارثوا طبائع الآباء وأخلاقهم ، وتأصلت فيهم روح التمرد والإعراض عن كلام الله ، وكان آباؤهم أكثر الناس مراء وجدالا في الحق ، وإن كان بينا باهرا ، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش ، وغشا وتدليسا وتلبيسا ، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ، وأفضل الناس ، كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدّتهم عن قبول الإسلام (٢).

تحريف أحبار اليهود وافتراءاتهم

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

__________________

(١) تفسير المنار : ١ / ٣٥٩

(٢) المصدر السابق : ١ / ٣٦٠

٢٠١

الإعراب :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ) مبتدأ وخبر ، وجاز أن يكون «ويل» مبتدأ وإن كان نكرة ، لأن في الكلام معنى الدعاء ، كقولهم : سلام عليكم.

(بَلى) حرف يأتي في جواب الاستفهام في النفي ، و «نعم» يأتي في جواب الاستفهام في الإيجاب. فإذا قال : ألست فعلت كذا؟ فجوابه : بلى ، أي إني قد فعلت ، كقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) [الأعراف ٧ / ١٧٢] أي بلى أنت ربّنا ، ولو قالوا : نعم ، لكفروا ، لأنه يصير المعنى : نعم لست ربّنا. وإذا قال في الإيجاب : هل فعلت؟ فجوابه : نعم ، كقوله تعالى : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا : نَعَمْ) [الأعراف ٧ / ٤٤]. (مَنْ كَسَبَ) من شرطية مبتدأ ، والفاء في «أولئك» جواب الشرط ، و (فَأُولئِكَ) مبتدأ ثان ، و (أَصْحابُ النَّارِ) خبره ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وهو (مَنْ). و (هُمْ فِيها خالِدُونَ) جملة اسمية حال من (أَصْحابُ) أو من (النَّارِ). و (فِيها) في موضع نصب ، وتقديره : خالدون فيها.

البلاغة :

تكرار (فَوَيْلٌ) ثلاث مرات في الآية (٧٩) للتوبيخ والتقريع وتقبيح جريمتهم وهي التحريف.

(وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) استعار لفظ الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات ، حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء نزل بقوم من كل جانب.

المفردات اللغوية :

(فَوَيْلٌ) الويل : شدة العذاب والهلاك ، أو واد في جهنم (بِأَيْدِيهِمْ) أي مختلقا من عندهم (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا ، وهم اليهود غيّروا صفة النبي في التوراة ، وآية الرجم ، وغيرهما ، وكتبوها على خلاف ما أنزل. (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من المختلق ، (مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الرشا : جمع رشوة.

(لَنْ تَمَسَّنَا) تصيبنا (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قليلة أربعين يوما مدة عبادة آبائهم العجل.

(أَتَّخَذْتُمْ) حذفت منه همزة الوصل ، استغناء بهمزة الاستفهام (عَهْداً) ميثاقا منه بذلك. (أَمْ تَقُولُونَ ..) بل.

(كَسَبَ سَيِّئَةً) المراد بها هنا الكفر أو الشرك. (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) بالإفراد

٢٠٢

والجمع ، أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب ، بأن مات مشركا (فَأُولئِكَ) روعي فيه معنى : من.

سبب النزول :

نزلت الآية (٧٩) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس ، أو في أحبار اليهود كما قال العباس : «الذين غيّروا صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدلوا نعته» ، وكانت صفته في التوراة : أكحل ، أعين ، ربعة ، جعد الشعر ، حسن الوجه ، فمحوه حسدا وبغيا ، وقالوا : نجده طويلا أزرق ، سبط الشعر.

ونزلت الآية (٨٠) كما قال ابن عباس : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، ويهود تقول : إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما يعذب الناس في النار ، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة ، فإنما هي سبعة أيام ، ثم ينقطع العذاب ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) إلى قوله (خالِدُونَ). وروى الطبري عن ابن عباس : أن اليهود قالوا : لن ندخل النار ، إلا تحلة القسم ، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة ، فإذا انقضت ، انقطع عنا العذاب ، فنزلت الآية (١)

التفسير والبيان :

الهلاك والعذاب الشديد أو العقوبة العظيمة لمن حرفوا التوراة ، وكتبوا الآيات المحرفة بأيديهم ، وغيّروا صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كانت مكتوبة عندهم في التوراة ، والعذاب أيضا لهم لأخذ الرشوة وفعلهم المعاصي ، ونسبتهم الافتراءات إلى الله تعالى ، ليأخذوا بهذا الكذب أو الافتراء ثمنا دنيويا حقيرا من مال أو رياسة أو جاه ، فويل لهم مما كسبوا ، لأنه كانت لليهود جنايات ثلاث : تغيير

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٤ ، للسيوطي بهامش الجلالين : ص ١٧ ـ ١٨ ، تفسير الطبري : ١ / ٣٠٢ وما بعدها ، تفسير القرطبي : ٢ / ١٠

٢٠٣

صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والافتراء على الله ، وأخذ الرشوة ، فهددوا على كل جناية بالويل والهلاك.

ومن مزاعم اليهود : ادعاؤهم أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة ، هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل ، وأكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام فقط ، لأن عمر الدنيا في زعمهم سبعة آلاف سنة ، فمن عذب في النار ولم يحظ بالنجاة ، يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم. فرد الله عليهم : هل عهد بذلك ربكم إليكم ، ووعدكم به وعدا حقا ، فلن يخلف الله وعده ، أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به؟ أي أن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن عهد من الله ، أو افتراء وتقوّل عليه ، وبما أنه لم يحدث العهد من الله وهو الوحي والخبر الصادق ، فأنتم كاذبون في دعواكم ، مفترون حين تدعون أنكم أبناء الله وأحباؤه. وقد أكدت السّنّة دعواهم في النجاة من النار بعد أيام قليلة.

روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن الليث بن سعد ، والحافظ بن مردويه والبخاري عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «لما فتحت خيبر ، أهديت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة فيها سمّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجمعوا لي من كان من اليهود هنا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أبوكم؟ قالوا : فلان ، قال : كذبتم ، بل أبوكم فلان ، فقالوا : صدقت وبررت. ثم قال لهم : هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا ، كما عرفته في أبينا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أهل النار؟ فقالوا : نكون فيها يسيرا ، ثم تخلفونا فيها ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اخسؤوا ، والله لا نخلفكم فيها أبدا. ثم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم ، قال : هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا : نعم ، قال : فما حملكم على ذلك؟ فقالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيا لم يضرّك».

٢٠٤

ليس الأمر أيها اليهود كما زعمتم أو تمنيتم واشتهيتم ، بل أو بلى ستخلدون في نار جهنم بسبب ارتكاب المعاصي التي أحاطت بكم ، كالكفر ، وقتل الأنبياء بغير حق ، وعصيان أوامر الله ، والاسترسال في الأهواء والافتراءات. وقد علمنا أن بلى : لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق ، ومعناه إبطاله وإنكاره. والكسب : جلب النفع ، واستعماله هنا في السيئة من باب التهكم. والسيئة : الفاحشة الموجبة للنار ، والمراد بها هنا : الشرك بالله.

وسبب الخلود في النار : هو ما تضمنه القانون العام لكل الخلائق في شرع الله : أن من اقترف خطيئة غمرت جميع جوانبه من قلبه ولسانه وأعضائه ، وليست له حسنة ، بل جميع أعماله سيئات ، فهو من أهل النار.

وأما من آمن (صدق) بالله ورسله واليوم الآخر ، وعمل صالحا ، فأدى الواجب ، وترك الحرام ، فهو من أهل الجنة. قال ابن عباس : «من آمن بما كفرتم ، وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم الجنة ، خالدين فيها» يخبرهم أن الثواب بالخير ، والشر مقيم على أهله أبدا ، لا انقطاع له.

وكل من الجزاءين المذكورين : وعد للمؤمنين ، ووعيد للكافرين ، شبيه بقوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ، وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤].

لكن من تاب من العصاة توبة نصوحا ، فأقلع عن الذنب ، وندم عليه ، وعزم على ألا يعود لمثله في المستقبل ، تبدل حاله من أهل النار إلى أهل الجنة.

روى الترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا أذنب ذنبا ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقل

٢٠٥

قلبه. وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن : (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين ٨٣ / ١٤]».

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب لهم مثلا ، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق ، فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادا ، وأججوا نارا ، فأنضجوا ما قذفوا فيها.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآية (٧٩) والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله ، فكل من بدل وغيّر أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ، فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد ، والعذاب الأليم ، وقد حذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ، لما قد علم ما يكون في آخر الزمان ، فقال : «ألا ، إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة» الحديث. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه ، فيضلّوا به الناس.

وأبانت الآية (٧٩) أن كل عوض ـ وإن كثر ـ عن تحريف كتاب الله ، لا بركة فيه ولا خير ، فقد وصف الله تعالى ما يأخذه أحبار اليهود بالقلة إما لفنائه وعدم ثباته ، وإما لكونه حراما ، لأن الحرام لا بركة فيه ، ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي : كانت صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم : ربعة أسمر ، فجعلوه : آدم سبطا طويلا ، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة النّبي الذي يبعث في آخر الزمان ، ليس يشبهه نعت هذا.

ودلت الآية (٨١) : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) على أن

٢٠٦

المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصّلت ٤١ / ٣٠]. والخلود في النار : سببه الشرك بالله.

وأرشدت الآية (٨٢) إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح معا ، كما ر

وى مسلم «أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي ، وقد قال له : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا ، لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم».

والجمع بين الآيتين المذكورتين (٨١ ، ٨٢) هو منهج القرآن الكريم في البيان ، فإن الله سبحانه يقرن عادة بين الوعد والوعيد ، ويذكر أهل الخير وأهل الشر ، وأصحاب الجنة وأصحاب النار ، لما تقتضيه الحكمة ، وإرشاد العباد ، بالترغيب مرة والترهيب أخرى ، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر : إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال.

مخالفة اليهود المواثيق

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

الإعراب :

(لا تَعْبُدُونَ) مرفوع لأنه جواب لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا ...) لأنه في معنى القسم ، بمنزلة والله ، فكأنه قال : استحلفناهم لا يعبدون ، كما يقال : حلف فلان لا يقوم ، أو لأنه في موضع الحال ، أي أخذنا ميثاقهم غير عابدين إلا الله ، ومثل ذلك (لا تَسْفِكُونَ). (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إما معطوف على الباء المحذوفة وأن في قوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ) أو في موضع نصب

٢٠٧

بفعل مقدر ، وتقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وقوله : ((إِحْساناً) إما منصوب على المصدر بالفعل المقدر الذي تعلق به الجار والمجرور في قوله : (بِالْوالِدَيْنِ) وتقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو منصوب ، لأنه مفعول فعل مقدر ، وتقديره : واستوصوا بالوالدين إحسانا. (حُسْناً) مفعول به منصوب لفعل : قولوا ، وتقديره : قولوا قولا ذا حسن ، أو صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : قولا حسنا (إِلَّا قَلِيلاً) منصوب على الاستثناء الموجب من ضمير (تَوَلَّيْتُمْ).

البلاغة :

(لا تَعْبُدُونَ) خبر في معنى النهي ، وهو أبلغ من صريح النهي ، لأن حق المنهي عنه المبادرة إلى تركه ، فكأنه انتهى عنه ، وجاء بصيغة الخبر. (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وقع المصدر موقع الصفة ، أي قولا حسنا أو ذا حسن للمبالغة ، فإن العرب تضع المصدر مكان اسم الفاعل أو الصفة بقصد المبالغة ، فيقولون : هو عدل.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ) واذكر إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة (مِيثاقَ) الميثاق : العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة ، علما بأن العهد نوعان : عهد خلقة وفطرة ، وعهد نبوة ورسالة ، وهذا هو المراد هنا.

(لا تَعْبُدُونَ) خبر بمعنى النهي. (إِحْساناً) تحسنون إلى الوالدين إحسانا ، أي برا.

(وَذِي الْقُرْبى) صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. (حُسْناً) أي وقولوا للناس قولا حسنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصدق في شأن محمد ، والرفق بهم. (تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الوفاء به ، فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب ، والمراد : آباؤهم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عنه كآبائكم.

المناسبة :

تنوع الأسلوب القرآني في معالجة مساوئ اليهود وقبائحهم ، وترويضهم ، ونقلهم إلى حال أفضل من حالهم في الماضي والحاضر ، ففي الآيات السابقة عدّد الله النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل ، كتفضيلهم على العالمين ، وإنجائهم من الغرق ، وإنزال المن والسلوى عليهم ، ثم ما يحدث إثر كل نعمة من مخالفة ، فعقوبة ، فتوبة.

٢٠٨

ثم تذكّرهم هذه الآية بالعهد الذي أخذه الله على آبائهم بالعمل بما أمروا به من عبادات ومعاملات ، ثم إهمالهم له ، وتركهم اتباعه. وهذا كله ليبين الله لرسوله انقطاع الأمل في إيمان اليهود المعاصرين له ، لأنهم يتوارثون عادة التطبع بقبائح أسلافهم ، فهي تمنعهم من الهدى والرشاد

التفسير والبيان :

اذكر أيها النّبي حين أخذنا الميثاق على بني إسرائيل ، أنهم لا يعبدون إلا الله سبحانه ، فلا يشركون به سواه من ملك أو صنم أو بشر بدعاء أو غيره من أنواع العبادات ، وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا ، بأن يرعوهما حق الرعاية ، ويعطفوا عليهما ، ويطيعوهما فيما لا يخالف أوامر الله ، وقد جاء في التوراة : أن من يسب والديه يقتل ، وأن يحسنوا بالمال إلى ذي القرابة والأيتام والمساكين بسبب ضعفهم وعجزهم وحاجتهم ، وأن يقولوا قولا حسنا لا إثم فيه ولا شر ، بالقول الجميل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، مع حفض الجناح ولين الجانب ، وأن يؤدوا صلاتهم أداء تاما ، لأن الصلاة تصلح النفوس ، وتهذب الطباع وتحليها بأنواع الفضائل ، وتمنعها عن الرذائل ، وأن يؤتوا الزكاة للفقراء ، لما فيها من تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس ، وإسعاد الفرد والجماعة ، وإشاعة الرفاه والهناءة للجميع.

ولكن اليهود الذين اعتادوا الغدر ، واستماتوا في حب المادة ، أعرضوا قصدا وعمدا عن تنفيذ الأوامر الإلهية ، وعن العمل بالميثاق ، والخلف منهم معرض عن التوراة مثل السلف ، ما عدا نفرا قليلا منهم مثل عبد الله بن سلام وأشباهه من المخلصين العقلاء ، المحافظين على الحق بقدر الطاقة ، لكن وجود القلائل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعم البلاء ، كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥].

٢٠٩

فقه الحياة أو الأحكام :

إن الأمور التي ذكّر الله بها بني إسرائيل في هذه الآية ، أمر بها جميع الخلق ، ولذلك خلقهم ، وهي تكوّن النظام الديني والأخلاقي والاجتماعي ، وجاء الترتيب في الآية بتقديم الأهم فالأهم ، فقدم حق الله تعالى لأنه المنعم في الحقيقة على حق العباد ، ثم ذكر الوالدين لحقهما في تربية الولد ، ثم القرابة ، لأن فيهم صلة الرحم ، ثم اليتامى لقصورهم ، ثم المساكين لضعفهم ، وهي تشمل ما يلي :

١ ـ عبادة الله وحده لا شريك له : فهي برهان الاعتقاد الصحيح ودليل الإيمان من جميع الناس ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦]. قال ابن كثير : وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له. والمراد بقوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) كما قال الزمخشري الطلب ، فهو خبر بمعنى الطلب ، وهو آكد.

٢ ـ الإحسان إلى الوالدين : هذا يأتي بعد حق الله ، فإن آكد حقوق المخلوقين ، وأولاهم بذلك حق الوالدين ، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه بالتوحيد وحق الوالدين ، لأن النشأة الأولى من عند الله ، والنشء الثاني ـ وهو التربية ـ من جهة الوالدين ، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره ، فقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان ٣١ / ١٤] وقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧ / ٢٣].

والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال أمرهما ، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما ، وصلة أهل ودّهما.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود : «قلت : يا رسول الله ، أي العمل

٢١٠

أفضل؟ قال : الصلاة على وقتها ، قلت : ثم أي؟ قال : بر الوالدين ، قلت : ثم أي؟ قال : الجهاد في سبيل الله». وجاء في الحديث الصحيح : «أن رجلا قال : يا رسول الله؟ من أبرّ؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أباك ، ثم أدناك أدناك».

والحكمة في بر الوالدين واضحة : وهي المعاملة بالمثل ومقابلة المعروف بمثله ، والوفاء للمحسن ، كما قال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن ٥٥ / ٦٠] فهما بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشؤونه ، فيجب على الولد مكافأتهما على صنعهما.

٣ ـ الإحسان إلى ذي القربى : أي القرابة ، عطف ذي القربى على الوالدين ، وهو يدل على أن الله تعالى أمر بالإحسان إلى القرابات بصلة الأرحام ، لأن الإحسان إليهم مما يقوم الروابط بينهم ، فما الأمة إلا مجموعة الأسر ، فصلاحها بصلاحها ، وفسادها بفسادها. ولا يعرف فضل الأسرة إلا في وقت الشدة والكوارث ، فعندها يظهر التعاطف والتعاون وترميم الأضرار ، وإزالة العثرات.

٤ ـ الإحسان إلى اليتامى : وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء. والإحسان إلى اليتيم : بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع ، وقد ملئ الكتاب والسنة بالوصية به والرأفة به والحض على كفالته وحفظ ماله ، من ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كافل اليتيم له أو لغيره ، أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى.

٥ ـ الإحسان إلى المساكين : وهم الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم ، وقد أمر الله بالإحسان إلى المساكين ، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم ، وذلك يكون بالصدقة عليهم ، ومواساتهم حين البأساء والضراء ، روى مسلم عن

٢١١

أبي هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ـ وأحسبه قال ـ وكالقائم لا يفتر ، وكالصائم لا يفطر» قال ابن المنذر : وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.

٦ ـ الكلام الطيب ، ولين الجانب ، وإظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع في الدين والدنيا كالحلم والصفح والعفو والبشاشة.

وذلك لأن إحسان القول له تأثير فعال في النفوس ، وبه يتم التكافل الأدبي أو الأخلاقي بين الناس ، فإنه سبحانه عبر بقوله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ) ولم يقل لإخوانكم ، ليدل على أن الأمر بالإحسان عام لجميع الناس.

روى الإمام أحمد عن أبي ذر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تحقرنّ من المعروف شيئا ، وإن لم تجد ، فالق أخاك بوجه منطلق». وبهذه الفضيلة وهي القول الحسن بعد الأمر بالإحسان الفعلي إلى الناس ، يجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي.

٧ ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : الصلاة عماد الدين ، وطريق التقوى ، وهمزة الصلة بالله ، وسبيل التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل ، ولكن بشرط الإخلاص والخشوع التام لعظمة الله وسلطانه. وأما إيتاء الزكاة فضروري لإصلاح شؤون المجتمع. لكنّ كلا من الصلاة والزكاة لم يثبت فيهما عن أهل الكتاب نقل صحيح يدل على كيفيتهما ونوعهما ، روي عن ابن عباس أنه قال : الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.

٢١٢

بعض حالات مخالفة اليهود الميثاق

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

الإعراب :

(ثُمَّ أَنْتُمْ ...) أنتم مبتدأ ، و (هؤُلاءِ) خبره و (تَقْتُلُونَ) جملة فعلية حال من «أولاء». (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) أسارى : حال من ضمير الفاعل في (يَأْتُوكُمْ) وأسارى على وزن فعالى ، وأكثر ما يجيء «فعالى» في جمع فعلان نحو سكران وكسلان ، ولما كان الأسير محبوسا عن التصرف في الأمور أشبه السكران والكسلان ، لأنهما كالمحبوسين عن التصرف لاستيلاء السكر والكسل عليهما. (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) هو : أي الإخراج الذي دل عليه قوله : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً) مبتدأ ، و (مُحَرَّمٌ) خبره ، و (إِخْراجُهُمْ) بدل من (هُوَ) ويصح جعل (هُوَ) ضمير الشأن ، وهو مبتدأ أول ، وإخراجهم مبتدأ ثان ، ومحرم : خبر مقدم ، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول ومفسرة له ، وتكون جملة : هو والخبر اعتراضية (فَما جَزاءُ ..) ما : استفهامية : أي ، أي شيء جزاء من يفعل ذلك منكم ، و (فَما) مبتدأ ، و (جَزاءُ) خبره ، و (خِزْيٌ) بدل من جزاء. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف زمان منصوب ، وعامله ما بعده وهو (يُرَدُّونَ).

٢١٣

البلاغة :

(تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي بعضكم ، ومن قتل غيره فكأنما قتل نفسه ، فهو مجاز.

(أَفَتُؤْمِنُونَ) استفهام إنكاري للتوبيخ. (خِزْيٌ) تنكيره للتفخيم والتهويل.

المفردات اللغوية :

(تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) تريقونها بقتل بعضكم بعضا. (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لا يخرج بعضكم بعضا من داره. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) قبلتم ذلك الميثاق. (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على أنفسكم.

(تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يقتل بعضكم بعضا. (تَظاهَرُونَ) تتظاهرون أي تتعاونون عليهم.(بِالْإِثْمِ) بالمعصية أو الذنب : وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم. (وَالْعُدْوانِ) الظلم والاعتداء. (أُسارى) أسرى جمع أسير ، أي مأسورين. (تُفادُوهُمْ) تنقذوهم من الأسر بالفداء من مال أو غيره ، وهو مما عهد إليهم. (خِزْيٌ) هوان وذل.

(اشْتَرَوُا) استبدلوا.

المناسبة التاريخية المتجددة :

كان سفك الدماء وتقاتل اليهود وطرد بعضهم بعضا من ديارهم ظاهرة شائعة فيهم ، وظللت هذه الظاهرة إلى عصر التنزيل القرآني ، فكان يهود بني قريظة حالفوا الأوس ، ويهود بني النضير حالفوا الخزرج ، فإذا نشبت الحرب بينهم ، كان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه ، فيقتل اليهودي يهوديا آخر ، ويخرب بعضهم ديار بعض ، ويخرجونهم من بيوتهم ، وينهبون ما فيها من الأثاث والمال ، مع أن ذلك محرم عليهم بنص التوراة ، وإذا أسر بعضهم فدوهم بالمال ، وكانوا إذا سئلوا ، لم تقاتلونهم وتفدونهم ، قالوا : أمرنا ـ أي في التوراة ـ بالفداء ، فيقال : فلم تقاتلونهم؟ فيقولون : حياء أن تستذل حلفاؤنا ، فأنزل الله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(١)

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ١٢١

٢١٤

وكانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر موسى عليه‌السلام بأهم الأوامر التي أمروا بها من عبادة الله وحده والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى وغير ذلك ، أما هذه الآيات فكانت للتذكير بأهم المنهيات التي خطرت عليهم ، والخطاب للحاضرين في عصر النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو دليل على تضامن الأمة ، وأنها كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد لليهود وقت أخذنا عليهم في التوراة العهد بأن لا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه. وفي تعبير «دماءكم ، وأنفسكم ، ودياركم» إشارة إلى أن دم غيره من المجتمع كدم نفسه ، فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، وهو ما تقرره الآية (٣٢) من سورة المائدة.

ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على أسلافكم ، ولم تنكروه ، فالحجة قائمة عليكم.

ثم أنتم بعد الاعتراف بالميثاق تنقضون العهد ، فيقتل بعضكم بعضا ، كما كان يفعل من قبلكم ، فكانت بنو قينقاع أعداء بني قريظة ، وكان يهود بني قريظة حلفاء الأوس يقاتلون يهود بني النضير حلفاء الخزرج ، إذا تقاتل الأوس والخزرج ، وكان مقتضى الاتفاق في الدين واللغة والنسب بين اليهود أن يكونوا جميعا صفا واحدا.

وكذلك كان كل من اليهود يعاون حلفاءه على إخوانه اليهود بالإثم كالقتل والسلب والنهب ، والعدوان كالإخراج من الديار. وكانوا إذا تم الاتفاق على مفاداة الأسرى ، يفدي بالمال كل فريق من اليهود أبناء جنسه ، عملا بالكتاب

٢١٥

المقدس ، مع أن السبب الذي أدى إلى الأسر وهو الطرد والإجلاء محرم عليكم في التوراة كتحريم القتل ، فكيف تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون حكم مفاداة الأسرى ، وتكفرون بالأحكام الأخرى ، فترتكبون جرائم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء ، علما بأن الإيمان بشيء لا يتجزأ ، والكفر ببعضه كالكفر بكله؟

فمن آمن ببعض التوراة ، وكفر ببعضها الآخر ، ليس له جزاء على هذا الفعل المتناقض المستهجن إلا ذل وهوان في الدنيا ، وعذاب أليم دائم في الآخرة ، وما الله بغافل عن عمل إنسان ، فهو يجازيه على سيئاته.

ثم قررت الآيات حكما عاما لأولئك اليهود وغيرهم : وهو أن من آثروا الحياة الدنيا كالزعامة الفارغة وأخذ المال ، على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم ، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم بتقديم حظوظهم العاجلة الفانية على حظوظهم الدائمة الخالدة ، وبترك أوامر الله في كتابه ، فلا يخفف عنهم العذاب الأخروي ، ولا يفتر عنهم ساعة واحدة ، ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة ، فلا شافع يشفع بهم ، ولا ولي يدفع عنهم العقاب في جهنم ، لأن خطاياهم كثيرة ، أحاطت بهم ، فحجبتهم عن الرحمة الإلهية ، وأبعدتهم عن الفيض الإلهي.

وهكذا كل أمة ذات دين ، تؤدي بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج ، وتخالف أحكامه الأخرى ، فلم تؤد الزكاة وامتنع الأغنياء عن أداء حقوق الفقراء ، وشاع فيها الربا والزنا والسرقة والرشوة والبغي والظلم ، وأهملت الأسس التي يقوم عليها بنيان النظام الحكومي من العدل ، والمساواة ، والشورى ، والجهاد في سبيل الله ونصرة المؤمنين المستضعفين ، فإنها معرّضة للخزي (الهوان) في الدنيا ، والعذاب في نار جهنم في الآخرة.

٢١٦

فقه الحياة أو الأحكام :

الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين المخلصين ، والإخلال بالعهد من صفات الكافرين والمنافقين ، ومن ألزم العهود والمواثيق الواجب تنفيذها واحترامها هو عهد الله ، فمن أخل به ولم يرع جميع بنوده وأحكامه ، استحق العقاب والتوبيخ والاستهجان. وفي تعبير القرآن عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب ، ولا يبالي بنهي الله ، فهو كافر به.

وإن تجزئة أحكام الله ، بأخذ بعضها وقبوله ، ورفض بعضها والإعراض عنه ، كفر بجميع الأحكام الإلهية. قال العلماء : كان الله تعالى قد أخذ على اليهود أربعة عهود : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أساراهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى ، فقال : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) وهو التوراة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(١).

وقد أكدت شريعتنا حكم فداء الأسارى وأنه واجب ، قال علماء المالكية وغيرهم : فداء الأسرى واجب ، وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد : تضمنت الآية وجوب فك الأسرى ، وبذلك وردت الآثار عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكّهم ، وجرى بذلك عمل المسلمين ، وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال ، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٢٢

(٢) المرجع والمكان السابق ، أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٤٠

٢١٧

موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩))

الإعراب :

(أَفَكُلَّما) الهمزة استفهام بمعنى التوبيخ ، والفاء : حرف عطف ، و «كلما» ظرف زمان يفيد التكرار ، ويقتضي الجواب ، والعامل فيه جوابه وهو (اسْتَكْبَرْتُمْ). (فَفَرِيقاً) منصوب بكذبتم (وَفَرِيقاً) الثاني منصوب بتقتلون. وإنما تقدم المفعول للاهتمام به ، وإنما قال : (تَقْتُلُونَ) ولم يقل «قتلتم» مثل (كَذَّبْتُمْ) مراعاة لفواصل الآيات.

(قُلُوبُنا غُلْفٌ) مبتدأ وخبر. (فَقَلِيلاً) منصوب لأنه صفة مصدر محذوف ، و (ما) زائدة. وتقديره : فإيمانا قليلا يؤمنون. والمراد بالقلة هنا النفي ، مثل (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الأعراف ٧ / ١٠] أي لا يشكرون أصلا.

(وَلَمَّا) ظرف زمان مبني إما لأنه أشبه معنى الحرف ، أو لأنه تضمن معنى الحرف. وجواب «لما» في رأي البصريين محذوف تقديره : نبذوه أو كفروا به ، وفي رأي الكوفيين : مذكور ، وهو الفاء في قوله (فَلَمَّا) وكرر «لما» لطول الكلام.

البلاغة :

تقديم المفعول وهو «فريقا كذبتم» و «فريقا تقتلون» للاهتمام به وتشويق السامع إلى

٢١٨

ما بعده. وإنما قال : (تَقْتُلُونَ) ولم يقل «قتلتم» لتطابق «كذبتم» لأجل الفواصل ، فإن فواصل الآيات كرؤوس الأبيات ، ولأن المضارع يستعمل في الماضي الذي بلغ من الغرابة مبلغا عظيما ، كأن صورة قتل الأنبياء ماثلة أمام السامع ينظر إليها.

(عَلَى الْكافِرِينَ) ولم يقل «عليهم» : وضع الظاهر مكان الضمير ، ليبين أن سبب اللعنة هو كفرهم.

المفردات اللغوية :

(الْكِتابَ) التوراة. (وَقَفَّيْنا) أتبعناهم رسولا إثر رسول على منهاج واحد. و (عِيسَى) بالسريانية : يسوع ، ومعناه السيد أو المبارك ، و (مَرْيَمَ) بالعبرية : الخادم ، لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس. (الْبَيِّناتِ) المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. (وَأَيَّدْناهُ) قويناه. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الروح المطهرة المقدسة : جبريل عليه‌السلام ، لطهارته ، ينزل على الأنبياء ويقدس نفوسهم ويزكيها ، قال الحسن البصري : «إنما سمي جبريل (روح القدس) لأن القدس هو الله ، وروحه جبريل ، فالإضافة للتشريف» ، قال الرازي : «ومما يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى [في سورة النحل ١٦ / ١٠٢] : (قُلْ : نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ)» (١) ويطلق عليه الروح الأمين كما قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٥]. (تَهْوى) تحب. (اسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن اتباعه. (تَقْتُلُونَ) يراد به حكاية الحال الماضية ، أي قتلتم كزكريا ويحيى عليهما‌السلام.

(غُلْفٌ) عليها أغشية وأغطية ، فلا تعي ما تقول. (بَلْ) للإضراب. (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول. (بِكُفْرِهِمْ) أي ليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم. (ما يُؤْمِنُونَ) ما زائدة ، لتأكيد القلة ، أي إيمانهم قليل جدا ، أو معدوم.

(مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة ، والكتاب هو القرآن. (يَسْتَفْتِحُونَ) يستنصرون ببعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الكفار ، يقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان. (ما عَرَفُوا) من الحق ، وهو بعثة النّبي. (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وخوفا على الزعامة أو الرياسة.

سبب نزول الآية (٨٩):

قال ابن عباس : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فكلما التقوا هزمت يهود

__________________

(١) محاسن التأويل للقاسمي : ٢ / ١٨٦

٢١٩

خيبر ، فعاذت اليهود بهذا الدعاء : «اللهم إنا نسألك بحق محمد النّبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان ، إلا نصرتنا عليهم» فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به ، فأنزل الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بك يا محمد ، إلى قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب ، كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة : يا معشر اليهود : اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ، ونحن أهل شرك ، وتخبروننا بأنه مبعوث ، وتصفونه بصفته ، فقال أحد بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة ٢ / ٨٩].

وقال السدي : «كانت العرب تمرّ بيهود ، فتلقى اليهود منهم أذى ، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أنه يبعثه الله ، فيقاتلون معه العرب ، فلما جاءهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به حسدا ، وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل» (٢).

التفسير والبيان :

اليهود قساة القلوب ، عبدة المصالح المادية ، والأهواء الذاتية ، فتجددت فيهم الإنذارات الإلهية ، وأرسلت إليهم الرسل ، بعضهم إثر بعض ، فكان

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن ابن عباس.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ص ١٥ ، أسباب النزول للسيوطي : ص ١٩ وما بعدها.

٢٢٠