التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

قد يكون بالخير أو بالشر ، كما قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء ٢١ / ٣٥] وقال : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف ٧ / ١٦٨].

وأما أنواع العذاب غير القتل ، فقال ابن إسحاق : كان فرعون يعذب بني إسرائيل ، فيجعلهم خدما وخولا ، وصنفهم في أعماله ، فصنف يبنون ، وصنف يزرعون له ، فهم في أعماله ، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله ، فعليه الجزية ، فسامهم العذاب.

وفرعون : لقب لكل من ملك مصر قبل البطالسة ، مثل قيصر لملك الروم ، وكسرى لملك الفرس ، وتبّع لملك اليمن ، والنجاشي لملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك ، وبطليموس لمن ملك الهند.

ونسب الله تعالى إلى آل فرعون ـ وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه ـ لتولّيهم ذلك بأنفسهم ، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله (١). قال الطبري : فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما ، فهو مقتول عندنا به قصاصا ، وإن كان قتله إياه بإكراه غيره له على قتله(٢).

٢ ـ عبور بني إسرائيل في البحر الأحمر سالمين بعد تهيئة طريق يابس سلكوه ، وإغراق فرعون وجنوده. وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه‌السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم ، لتصديق الناس إياهم ، وهي سنة في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٣٨٥

(٢) تفسير الطبري : ١ / ٢١٤

١٦١

وأما فرعون وجنوده فتبعوهم ، حتى إذا كانوا في وسط البحر ، أطبق الله عليهم الماء ، فغرقوا.

٣ ـ قبول توبة الاسرائيلين وعفو الله عنهم ، لأن الله تعالى كثير القبول لتوبة العصاة ، ورحيم بمن ينيب إليه ويرجع ، وهذا يستدعي شكر الله تعالى ، وشكره : الإيمان به وبرسله واتباعهم فيما جاؤوا به ، وبخاصة خاتم النبيين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ إنزال التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام على موسى عليه‌السلام ، كي يهتدوا بها ، ويتدبروا ما فيها ، ويسيروا على منهجها وشرعها.

٥ ـ التخلص الجماعي من المجرمين بأمر الله نبيه موسى عليه‌السلام بعد أن اتخذ بنو إسرائيل العجل إلها ، فعبدوه من دون الله ، وظلموا أنفسهم بعد الإشراك بالله ، في وقت غيبة موسى عنهم لميقات ربه ، وصومه أربعين يوما ، فاذكر يا محمد قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه :

يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أصررتم بأنفسكم ، فتوبوا إلى خالقكم ، وتخلصوا من جهلكم ، إذ تركتم عبادة البارئ ، وعبدتم أغبي الحيوان وهو البقر. وطريق التوبة التي كانت في شريعتهم : أن يقتل البريء منكم المجرم ، فأرسل الله عليهم سحابة سوداء ، لئلا يبصر بعضهم بعضا عند القتل ، فيرحمه ، فتقاتل عبدة العجل مع المؤمنين بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى ، حتى قتل منهم سبعون ألفا ، وبعدها تضرع موسى وهارون إلى الله ، فتاب عليهم ، من قتل ومن لم يقتل ، أما المقتول فهو حي يرزق عند الله ، وأما من بقي فقد قبلت توبته ، وانتهى التقاتل ، وألقوا السلاح ، وساد السلم والأمن ، ولا عجب في هذا ، فالله هو التواب الرحيم بعباده.

والأربعون يوما في قول أكثر المفسرين : ذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

١٦٢

والخلاصة : ربما كانت هذه النعمة أجل النعم ، فالله تعالى يقول : اذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم ، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة ، وكانت أربعين يوما ، وهي المذكورة في الأعراف (١٤٢) في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.

فقه الحياة أو الأحكام :

لكل ظالم عات باغ نهاية حتمية ، كنهاية فرعون بالإغراق في البحر ، وللمظلوم فرج قريب ونصر محقق ، كإنجاء بني إسرائيل المظلومين على يد فرعون وآله. وكان الإنجاء عيدا ، مستوجبا شكر الإله ، وصار يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرّم يوم صيام الشكر ، روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا : هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرّق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكرا ، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فنحن أحق وأولى بموسى منكم ، فصامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصيامه. قال الترمذي : وروي عن ابن عباس أنه قال : صوموا التاسع والعاشر ، وخالفوا اليهود. واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.

والشكر لله ـ كما قال سهل بن عبد الله : الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية.

والمبادرة إلى التوبة سبيل التخلص من المعصية ، والله سبحانه واسع الرحمة ، كثير القبول للتوبة.

والصبر مفتاح الفرج ، قال القشيري : من صبر في الله على قضاء الله ، عوّضه

١٦٣

الله صحبة أوليائه ، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه ، فجعل منهم أنبياء ، وجعل منهم ملوكا ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين (١).

تتمة النّعم العشر على بني إسرائيل

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

الإعراب :

(جَهْرَةً) منصوب على المصدر في موضع حال من ضمير (قُلْتُمْ) وتقديره : قلتم ذلك مجاهرين ، وهذا هو الأوجه. وقيل : صفة محذوف تقديره : أرنا الله رؤية جهرة.

__________________

(١) البحر المحيط : ١ / ١٩٤

١٦٤

(سُجَّداً) جمع ساجد ، منصوب على الحال من ضمير (ادْخُلُوا). (حِطَّةٌ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : مسألتنا حطة ، أي حطّ عنا ذنوبنا. ومن نصب (حِطَّةٌ) أعمل الفعل.

(فَانْفَجَرَتْ) معطوف على فعل مقدر ، تقديره : فضرب فانفجرت ، لأن الانفجار إنما يحصل عن الضرب ، لا عن الأمر بإيجاده ، مثل : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة ٢ / ١٨٥] أي فأفطر فعدة. ومثل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة ٢ / ١٧٣] أي فأكل فلا إثم عليه.

(مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لعاملها : (تَعْثَوْا).

البلاغة :

(مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي.

(كُلُوا) إيجاز بالحذف ، أي قلنا لهم : كلوا.

(وَما ظَلَمُونا) إيجاز بالحذف أيضا تقديره : فظلموا أنفسهم بأن كفروا. والجمع بين (ظَلَمُونا) و (يَظْلِمُونَ) الماضي والمضارع للدلالة على تماديهم في الظلم.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولم يقل : فأنزلنا عليهم ، لزيادة التقبيح والمبالغة في الذم والتقريع ، بوضع الظاهر موضع الضمير. (رِجْزاً) نكّره للتهويل والتفخيم.

(مِنْ رِزْقِ اللهِ) تعظيم للنعمة والمنة ، وإيماء إلى أنه رزق حاصل من غير تعب ولا مشقة.

المفردات اللغوية :

(جَهْرَةً) عيانا واضحا بالبصر. (الصَّاعِقَةُ) الصيحة بالعذاب ، أو نار من السماء.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ما حلّ بكم.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أحييناكم. (تَشْكُرُونَ) نعمتنا بذلك.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) سترناكم بالسحاب الرقيق من حرّ الشمس في التيه. (الْمَنَ) شيء حلو لزج كالعسل. (السَّلْوى) الطائر المعروف بالسّماني ويسمى في بلاد الشام بالفري ، وكلّ من السّماني والسلوى جمع لا واحد له من لفظه.

(هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس أو أريحا. (رَغَداً) أكلا واسعا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر

١٦٥

عليه. (الْبابَ) بابها. (سُجَّداً) منحنين متواضعين متذللين لله. (حِطَّةٌ) أي سؤالنا أن تحطّ عنا ذنوبنا أو خطايانا ، والمراد : اسألوا الله المغفرة.

(رِجْزاً) عذابا من السماء ، ومن المعلوم أن العذاب نوعان : نوع يمكن دفعه : وهو عذاب المخلوقات كالهدم والغرق ، ونوع لا يمكن دفعه : كالطاعون والصاعقة والموت ، والمراد به هذا النوع الثاني.

(الْحَجَرَ) أي حجر ، كان إذا ضربه تفجر منه الماء بقدرة الله. (فَانْفَجَرَتْ) انشقت وسالت. (أُناسٍ) جماعة منهم ، وكانوا اثني عشر سبطا. (مَشْرَبَهُمْ) موضع شربهم ، فلا يشاركهم فيه غيرهم. (وَلا تَعْثَوْا) من عثي : أفسد ، أي لا تفسدوا إفسادا شديدا ، والعثو أو العثيّ : أشد الفساد ، وتكرر المعنى تأكيدا ، لاختلاف اللفظ.

التفسير والبيان :

اذكروا يا بني إسرائيل قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى عليه‌السلام حين ذهبوا معه إلى الطّور ، للاعتذار عن عبادة العجل : لن نصدق بالله وبكتابه ، علما بأنك سمعت كلامه ، حتى نرى الله عيانا بالعين المجردة بلا حاجز ، فأخذهم الله بعذابه وهو إرسال نار من السماء وهي الصاعقة فأحرقتهم وماتوا ، ومكثوا يوما وليلة ، والحي ينظر إلى الميت.

وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى ، يتمرّدون ويعاندون ، فيعذبهم الله في الأرض ، بالأوبئة والأمراض وتسليط هوامّ الأرض وحشراتها ، حتى فتكت بالعدد الكثير منهم ، ثم ينعم الله عليهم ، وها هي بقية النّعم العشر التي يذكّرهم تعالى بها :

٦ ـ ثم أحييناهم بعد الموت الحقيقي ، ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم ، فقاموا وعاشوا ينظرون إلى بعضهم (١) ، وذلك كله لتشكروا الله أيها اليهود المعاصرون على

__________________

(١) ورأى الشيخ محمد عبده أن المراد بالبعث هو كثرة النسل ، أي إنه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها ، بارك الله في نسلهم ليعدّ الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها (تفسير المنار : ١ / ٣٢٢).

١٦٦

إنعامه عليكم بالبعث بعد الموت ، وتعتقدوا أن الله قادر على كل شيء. والشكر المطلوب : هو الإيمان بالله وكتبه وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعض المفسّرين في تفسير (بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) : علمناكم من بعد جهلكم. قال القرطبي : والأول أصح ، لأن الأصل في الكلام الحقيقة ، وكان موت عقوبة ، ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ، وَهُمْ أُلُوفٌ ، حَذَرَ الْمَوْتِ ، فَقالَ لَهُمُ اللهُ : مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة ٢ / ٢٤٣](١).

٧ ـ ثم سترناكم بالسحاب الأبيض الرقيق من حرّ الشمس ، أثناء وجودكم في وادي التّيه بين الشام ومصر مدة أربعين سنة ، حيارى تائهين ، بعد أن خرج آباؤكم من مصر ، وجاوزوا البحر.

٨ ـ ثم أنعمنا عليكم بأنواع من الطعام والشراب كالمنّ الذي هو مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ، والسلوى الذي هو طير يشبه السّماني لذيذ الطعم ، وكان المنّ ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وتأتيهم السّماني ، فيأخذ كل واحد ما يكفيه إلى الغد.

وقلنا لكم : كلوا من ذلك الرزق الطيب ، واشكروا الله ، فلم يفعلوا ، وكفروا تلك النعم الجزيلة ، ولم يضروا إلا أنفسهم ، حيث قطع الله عنهم هذه النعم ، وجازاهم على مخالفتهم ، فكان. وبال العصيان عائدا عليهم.

٩ ـ واذكروا أيضا نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التّيه : ادخلوا القرية ، قال الجمهور : هي بيت المقدس ، وقيل : أريحاء من بيت المقدس ، واسكنوا فيها ، وكلوا واشربوا منها أكلا واسعا هنيئا لا حرج فيه ، وادخلوا باب القرية ساجدين لله خاضعين مبتهلين إلى الله وحده ، شكرا لله تعالى على خلاصكم

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٤٠٥

١٦٧

من التّيه ، وقولوا : يا ربّنا ، حطّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا ، وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا وأجرا جزيلا. والمحسن : من صحح أساس توحيده ، وأحسن سياسة نفسه ، وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شرّه.

فخالف الظالمون الأمر ولم يتبعوه ، معبرا عن المخالفة بالتبديل ، إشارة إلى أن المخالف كأنه أنكر الأمر وادعى أنه أمر بغيره ، ودخلوا زاحفين على أستاههم ، أي أدبارهم ، غير خاضعين لله ، فكان جزاؤهم إنزال العذاب الشديد من السماء وهو الرجز ، وهو في رأي جماعة من المفسّرين ، الطاعون ، بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله ، قيل : هلك منهم سبعون ألفا بالطاعون.

١٠ ـ واذكروا يا بني إسرائيل نعمة أخرى حين عطش آباؤكم من شدّة الحرّ في التّيه ، وطلبوا من موسى عليه‌السلام السقيا ، فأمره الله أن يضرب بعصاه أي حجر ، فضرب فانفجرت منه المياه المتدفقة بقوة ، وخرجت منه اثنتا عشرة عينا ، لكل جماعة منهم عين يشربون منها حتى لا تقع بينهم الشحناء ، وكانوا اثني عشر سبطا ، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر ، وقال الله لهم : كلوا من المنّ والسلوى ، واشربوا من هذا الماء ، من غير تعب ، ولا تفسدوا في الأرض بأن تنشروا الفساد في الأرض ، وتكونوا قدوة لغيركم فيه ، أو لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم.

وكان تفجير الماء بعصا موسى معجزة ظاهرة له ، وهي لا تكون لغير نبي ، والمراد بالحجر الجنس ، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، قال الحسن البصري : لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه ، وهذا أظهر في الحجة ، وأبين في القدرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن مخاطبة بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن وتذكيرهم بالنّعم التي أنعم

١٦٨

الله بها على أصولهم ، دليل واضح على وحدة الأمة ، وتكافل أفرادها ، وأن السعادة والشقاوة تعم الجميع من أصول وفروع ، وإن لم يسأل الفرع عما فعل أصله ، لكنه يتضرر بسوء أصله ، وينتفع باستقامة أصله ، كما قال تعالى في تعميم العذاب : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥] ، وقال سبحانه في كنز الغلامين اليتيمين تحت الجدار : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) [الكهف ١٨ / ٨٢] ، فكان صلاح الأب أو الجدّ سببا في صلاح الابن أو الحفيد نفسه ، وفي حفظ المال لذريته ، أي أن الصلاح يفيد في النفس والمال.

وفي قوله تعالى : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة ٢ / ٥٧] ، إيماء إلى أن كل ما يأمر به الله من عبادة فإنما نفعه لهم ، وما ينهاهم عنه ، فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع بهم ، وهو بمعنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس ١٠ / ٢٣] ، وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة ٢ / ٢٨٦].

أما تفجير الماء من الحجر فكان معجزة لموسى عليه‌السلام ، والمعجزات كلها من صنع الله ، وهي سنة جديدة غير ما نشاهد من العادات كل يوم ، أما المخترعات العلمية فهي مبنية على السّنن العلمية باستخدام طاقات الكون من الأثير والهواء والنفط والكهرباء وغير ذلك. وكان الله قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا ، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها ، ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة. ومثل ذلك أيضا معجزات عيسى عليه‌السلام ، كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين ، ولم يكن هناك داع لنفخ الملك في مريم ، لأن طريق القدرة (كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٤٧] ، ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرّج ، ليتبين الفرق بين الطين والطير بالحياة ، وكان خلق عيسى عليه‌السلام من نطفة الأم فقط ، ونفخ الروح كان بإذن الله وقدرته : (كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٤٧] وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة.

١٦٩

وكان إمداد اليهود بالنّعم من أجل شدهم إلى منهج الاستقامة ، وتخليصهم بالتوبة من الخطايا التي كانوا يرتكبونها ، وذلك كله على سبيل العظة والعبرة. وكان إبقاء اليهود في التّيه أربعين سنة من أجل خروج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق ، وانقراض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية وعبادة العجل.

وحينما أمر الله اليهود بالدخول في باب القرية سجّدا قائلين : حطّة ، بدلوا ودخلوا الباب ، يزحفون على أستاههم ، وقالوا : حبّة في شعرة ، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به ، فعصوا وتمردوا واستهزءوا ، فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وفي هذا دليل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يجوز إن كان التّعبد بلفظها ، لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمر به بقوله. أما إن كان التّعبد بمعناها فيجوز تبديلها بما يؤدّي ذلك المعنى ، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه. وبناء عليه أجاز جمهور العلماء للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته رواية الحديث النّبوي بالمعنى ، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للأعاجم غير العرب بلسانهم وترجمته لهم ، وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قصّ من أنباء ما قد سلف ، فقصّ قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي ، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير ، والحذف والإلغاء ، والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية ، فلأن يجوز بالعربية أولى. وأما حديث «نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي ، فبلّغها كما سمعها» فالمراد حكمها ، لا لفظها ، لأن اللفظ غير معتدّ به (١).

وأما تعذيب بني إسرائيل بإنزال الرجز (أي العذاب) من السماء ، فكان

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٤١١ ـ ٤١٣

١٧٠

بسبب فسقهم كما قال تعالى : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ، وفي سورة الأعراف : (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢) ، والفسق في الشرع : عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته. وهذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى : (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وفائدة التكرار : التأكيد ، والحق كما قال الرازي (١) : أنه غير مكرر لوجهين : الأول : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، وقد يكون من الكبائر. الثاني : يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل ، فنزل الرجز عليهم من السماء ، بسبب ذلك التبديل ، بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل ، وعلى هذا الوجه يزول التكرار.

وأفادت آية (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) تقرير سنة الاستسقاء ، بإظهار العبودية والفقر والمسكنة والذّلة مع التوبة النصوح. وقد أقرت شريعتنا سنة الاستسقاء بالخروج إلى المصلى والخطبة والصلاة في رأي جمهور العلماء ، لأن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم استسقى ، فخرج إلى المصلّى متواضعا متذلّلا مترسلا متضرعا. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنّة الاستسقاء صلاة ولا خروج ، وإنما هو دعاء لا غير ، واحتج بحديث أنس في صحيحي البخاري ومسلم. قال القرطبي : ولا حجة له فيه ، فإن ذلك كان دعاء عجّلت إجابته ، فاكتفى به عما سواه ، ولم يقصد بذلك بيان سنته ، ولما قصد البيان بيّن بفعله ، حسبما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازني ، قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلى ، فاستسقى ، وحوّل رداءه ، ثم صلّى ركعتين» (٢).

ودلّ قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، و (وَلا تَعْثَوْا) ، على إباحة النّعم وتعدادها ، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣ / ٩١ ـ ٩٢

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٤١٨

١٧١

مطامع اليهود وبعض جرائمهم وعقوباتهم

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

الإعراب :

(يُخْرِجْ) فعل متعد إلى مفعول واحد ، وهو محذوف ، وتقديره : يخرج لنا مأكولا. (مِنْ) للبيان بدل من (مِمَّا). (مِصْراً) صرفه إما لأنه أراد به مصرا من الأمصار ، لا مصر بعينها ، أو لأنه اسم البلد وهو مذكر ، أو لأنه ـ وإن كان مؤنثا معرفة ـ على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن ، فجاز أن تصرف كهند ودعد وجمل ونوح ولوط.

البلاغة :

(طَعامٍ واحِدٍ) أراد بالواحد : ما لا يختلف ولا يتبدل. (مِمَّا تُنْبِتُ) أضاف الإنبات إلى الأرض على سبيل المجاز العقلي ، وعلاقته السببية ، لأن الأرض سبب للنبات. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) استعارة بالكناية عن إحاطتهما بهم ، كما تحيط القبة بمن تحتها. (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة في التشنيع على قبح العدوان.

والقائل في قوله تعالى : (قالَ : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) هو موسى نفسه ، والاستفهام للإنكار ، والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما ذا قال لهم؟ فقيل : قال.

المفردات اللغوية :

(بَقْلِها) البقل : كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثاء هو الخيار

١٧٢

المعروف. الفوم الثوم ، بدليل قراءة ابن مسعود : «وثومها» ، ولاقتران البصل بعده. (أَدْنى) أقل مرتبة ، إما من الدّنو : وهو القرب ، أو من الدّون ، كما تقول : هذا دون ذاك ، أي أقل مقدارا ، والدّنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار. (مِصْراً) بلدا من البلدان الزراعية. (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ) جعلت ووضعت عليهم. (الذِّلَّةُ) الذّل والهوان. (الْمَسْكَنَةُ) الفقر والحاجة. (وَباؤُ بِغَضَبٍ) رجعوا متلبسين به. (ذلِكَ) أي الضرب والغضب. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم فالباء سببية. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام. (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ظلما. (يَعْتَدُونَ) يتجاوزون الحدّ في المعاصي. وكرر (ذلِكَ) للتأكيد ، وقصد بالتكرار التعليل ، وهو ردّ إلى علة الجزاء وتأكيد للإشارة إليه ، والباء في (بِما) باء السبب ، أي بعصيانهم ، والعصيان : خلاف الطاعة ، والاعتداء : تجاوز الحدّ في كل شيء.

التفسير والبيان :

واذكروا أيها اليهود إذ قال أسلافكم من قبل : يا موسى ، لا يمكن أن نستمر على طعام واحد ، وهو المنّ والسلوى ـ ومخاطبة اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم دليل على مبدأ تكافل الأمة الواحدة ـ فاطلب لنا من ربك أن يطعمنا مما تنبت الأرض من أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها ، وإنما سألوه الدعاء ، لعلمهم أن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم.

فقال موسى متعجبا وموبخا مستنكرا : أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وأهنأ ، وهو المنّ والسلوى ، الأول فيه الحلاوة المألوفة ، والثاني أطيب لحوم الطير ، وهما غذاء كامل لذيذ؟ وإذ طلبتم الأدون نفعا وخيرا ، فاهبطوا وانزلوا من التّيه (١) واسكنوا في أي بلد زراعي ، فإن لكم فيه ما طلبتم. وقد كنّوا عن المنّ والسلوى بطعام واحد ، وهما اثنان : لتكرارهما في كل يوم غذاء ، كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة : هو على أمر واحد ، لملازمته ذلك.

__________________

(١) بلاد التّيه : ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين ، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ.

١٧٣

لكن الله تعالى عاقبهم على كفران تلك النعم ، وعلى الاستهزاء بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة ، وعلى قتلهم الأنبياء ظلما ، فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير مسوغ للقتل ، وكانت عقوبتهم إلحاق الذّل والهوان بهم في الدنيا ، ذلّا وهوانا ملازما لهم ومحيطا بهم ، كما تحيط الخيمة بمن فيها ، والذليل عادة يستخذي ويستهين ، ثم استحقاق غضب الله وبلائه ونقمته في الدنيا وعذابه الأليم في الآخرة.

وكان ذلك العقاب بسبب عصيانهم أوامر ربهم عصيانا متكررا ، وتعديهم حدود دينهم ، واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء ، فعلة جزائهم أمران : أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، والعصيان : فعل المناهي ، والاعتداء : المجاوزة في حدّ المأذون فيه والمأمور به.

وضرب الذّلة والمسكنة أي الذّل والفقر والحاجة على اليهود ، وإن كانوا ذوي مال ، أمر قائم على أساس الشعور الذاتي النابع من أعماق النفس ، فهم في فقر دائم وذلّ مستمر ، وقد ورثوا صفات الذّل وضعف النّفس وامتهانها وحقارة التصرفات ودناءة الأخلاق ، فلا يكادون يحسون بغنى النفس وعزتها ، ولا تشبع نفوسهم ، ولا ترتوي من شيء ، وتظل أطماعهم وأحقادهم مسيطرة عليهم ، حتى إنهم يعبدون المادة ، ويؤلهون المال ، وذلك كله بسبب إحساسهم الداخلي بالاستزادة من الأموال.

وقيام دولة لليهود أيضا لا يصادم هذه الآية التي تقرر إلحاق الذّل والهوان بهم ، لأن مقومات الدولة الحقيقية غير متوافرة لهم ، وهم في أمسّ الحاجة دائما إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار ، مما أحوجهم إلى الدعم المستمر غير المتناهي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ، من الدول الكبرى ، وعلى رأسها أمريكا.

١٧٤

فقه الحياة أو الأحكام :

إن ترك الأفضل من المطعومات وهو المنّ والسلوى ، وطلب الأدنى مرتبة منه من بصل وثوم وعدس وخيار ونحوها ، دليل على أن النفس البشرية قد تبدل الطيب بالخبيث ، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري : كان اليهود نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس ، فنزعوا إلى عكرهم (١) عكر السّوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليهم عادتهم ، فقالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ)(٢). وقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ) يدلّ على كراهتهم ذلك الطعام. وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال ، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها.

أما أكل البصل والثوم وماله رائحة كريهة من سائر البقول ، فهو مباح في رأي جمهور العلماء ، للأحاديث الثابتة فيه ، لكن ينبغي على الآكل أن يتجنب حضور أماكن التجمع في المساجد ونحوها ، لئلا يتأذى الناس بالروائح الكريهة. روى أبو سعيد الخدري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : «أيها الناس ، إنه ليس لي تحريم ما أحلّ الله ولكنها شجرة أكره ريحها».

ودلّت الآية على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الحلوى والعسل ، ويشرب الماء البارد العذب.

وإن الجزاء الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم ، حق وعدل ومطابق لجرائهم ، وهي الاستكبار عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ، حتى إنهم قتلوهم ظلما وعدوانا بغير حق ، لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به ، فلم يأت نبي

__________________

(١) العكر : الأصل ، وقيل : العادة والديدن. والعكر (بالتحريك) : دردي كل شيء.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٤٢٢

١٧٥

قط بشيء يوجب قتله ، فصرّح تعالى بقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) على شناعة الذنب ووضوحه.

روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أشد الناس عذابا يوم القيامة : رجل قتله نبي ، أو قتل نبيا ، وإمام ضلالة ، وممثل من الممثلين» أي بالتمثيل بالقتلى.

فإن قيل : كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب ذلك كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن البصري : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكلّ من أمر بقتال نصر.

عاقبة المؤمنين بنحو عام

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

الإعراب :

(مَنْ) إما مرفوعة أو منصوبة ، فالرفع على أن (مَنْ) شرطية مبتدأ ، و (فَلَهُم) جواب الشرط ، وخبر المبتدأ ، والجملة خبر (إِنَ) والنصب على أنها بدل من (الَّذِينَ) فيبطل معنى الشرط ، وتكون الفاء في (فَلَهُمْ) داخلة لجواب الإبهام ، ويقصد بها التأكيد ، مثل قولك : «الذي يأتيني فله درهم» وتأكيد الشيء لا يغير معناه.

وروعي في ضمير «آمن ، وعمل» لفظ (مَنْ) وفيما بعده : (عِنْدَ رَبِّهِمْ ..) معناها ، وهي تقع على الواحد والتثنية والجمع ، فجاز رجوع الضمير إليها.

١٧٦

المفردات اللغوية :

(هادُوا) تهودوا ، من هاد : إذ دخل في اليهودية. (وَالَّذِينَ هادُوا) هم اليهود (وَالنَّصارى) أتباع عيسى عليه‌السلام (١)(وَالصَّابِئِينَ) طائفة من اليهود أو النصارى عبدوا الملائكة أو الكواكب (٢). (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في زمن نبينا (وَعَمِلَ صالِحاً) بشريعته (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ثواب أعمالهم.

سبب النزول :

نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي ، وكان من أهل جندسابور من أشرافهم(٣). وأخرج ابن أبي حاتم والعدني في مسنده عن مجاهد قال : سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية (٤). وأخرج الواحدي عن مجاهد قال : لما قص سلمان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة أصحابه قال : هم في النار. قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض ، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) إلى قوله : (يَحْزَنُونَ) قال : فكأنما كشف عني جبل (٥).

المناسبة :

اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية ، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب ، للفت النظر وجذب الانتباه ، وهكذا كان الأمر هنا ، فبعد أن ذكّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديما ، وأوضح مصيرهم وجزاءهم ، ليعتبر المعاصرون ، أورد مبدأ عاما

__________________

(١) سموا بالنصارى نسبة إلى قرية في فلسطين يقال لها : ناصرة ، وكان عيسى بن مريم ينزلها.

(٢) قال الطبري : والصابؤون جمع صابئ ، وهو المستحدث سوى دينه دينا كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه ، وكل من خرج من دين إلى آخر يسمى صابئا.

(٣) تفسير الطبري : ١ / ٢٥٤ ، وهذا ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.

(٤) أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين : ص ١٤

(٥) أسباب النزول للواحدي : ص ١٣ وما بعدها.

١٧٧

لكل المؤمنين : وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسك بحبل الدين المتين ، وعمل صالحا ، فهو من الفائزين ، سواء أكان من المسلمين أم من اليهود ، أم من النصارى أم من الذين تركوا دينهم مطلقا وأسلموا ، قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال ٨ / ٣٨].

التفسير والبيان :

إن المصدقين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أتى به من عند الله ، والذين تهودوا أو تنصروا ، أو بدلوا دينهم ، وآمنوا بالله وحده لا شريك له ، وبالبعث والنشور ، وعملوا صالح الأعمال ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم ، ولا خوف عليهم من أهوال القيامة ، ولا هم يحزنون على ما تركوا من الدنيا وزينتها ، إذا عاينوا النعيم الدائم في الجنة.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن مدار الفوز والنجاة هو الإيمان الصحيح المقترن بالعمل الصالح.

وليست هذه الآية منسوخة ، وإنما هي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبيعليه‌السلام.

ولا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل الكتاب ، ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم ، كما تقرر في سورة المائدة (الآية : ٥) وفرض الجزية عليهم ، كما أوضحت سورة براءة (الآية ٢٩) واختلف في الصابئين :

فقال جماعة (السدي وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة) : لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم.

وقال آخرون (مجاهد والحسن البصري وابن أبي نجيح) : لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.

١٧٨

والحاصل : أن الصابئة قوم موحدون معتقدون تأثير النجوم ، وأنها فعّالة (١).

بعض جرائم اليهود وعقابهم

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

الإعراب :

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) فيه محذوف ، تقديره : قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم ، وحذف القول كثير في كلامهم.

(مِيثاقَكُمْ) ولم يقل «مواثيقكم» لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم مثل (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر ٤٠ / ٦٧] أي يخرج كل واحد منكم طفلا.

(فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ ..) لو لا : حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره ، تقول : لو لا زيد لأكرمتك ، فيكون امتناع الإكرام وجود زيد. فضل : مبتدأ مرفوع ، وخبره محذوف تقديره : موجود أو كائن.

(كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أمر تكوين ، لا أمر تكليف ، والمراد به تكوّنهم قردة. وقردة: خبر كان. وخاسئين : إما صفة لقردة ، أو خبر بعد خبر ، أو حال من الضمير في : كونوا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥

١٧٩

(فَجَعَلْناها نَكالاً) الضمير في الفعل يعود إما على المسخة أو يعود على القردة.

وكذلك «ها» في قوله (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها). ونكالا : مفعول به ثان.

(أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي ذوي هزء ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، ويجوز أن يكون التقدير : أتتخذنا مهزوءا بهم.

البلاغة :

(خُذُوا) فيه إيجاز بالحذف كما بينا ، أي قلنا لهم : خذوا.

(كُونُوا قِرَدَةً) ليس الأمر على حقيقته ، وإنما أريد به معنى الإهانة والتحقير (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) كناية عمن أتى قبلها أو بعدها من الخلائق.

المفردات اللغوية :

(مِيثاقَكُمْ) الميثاق : العهد المؤكد ، ويراد به هنا : العهد بالعمل. بما في التوراة (الطُّورَ) الجبل المعروف في شمال فلسطين (بِقُوَّةٍ) بجد ونشاط (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل به (تَتَّقُونَ) النار أو المعاصي (تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم.

(اعْتَدَوْا) تجاوزوا الحد (السَّبْتِ) اليوم المعروف ، وقد نهاهم الله عن صيد السمك فيه ، وهم أهل أيلة وهي القرية التي كانت حاضرة البحر. (خاسِئِينَ) بعيدين عن رحمة الله ، وقد هلكوا بعد ثلاثة أيام.

فجعلناها (نَكالاً) أي تلك العقوبة عبرة تنكل من اعتبر بها ، أي تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا. (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي الأمم التي في زمانها أو بعدها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) خص المتقون بالذكر ، لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم. والمتقون : الذين اتقوا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل بالنعم الجليلة ، وأما هذه الآيات فهي تنديد بالمخالفات والمعاصي التي ارتكبوها ، فإنهم نقضوا الميثاق أو العهد مع الله ، وتجاوزوا النهي الإلهي في السبت ، فأصبحوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس. وإذا كان هذا في بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه‌السلام،

١٨٠