التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

بمعصيتهما. وكيف يطلب آدم ، مع مكانه من الله وكمال عقله ، شجرة الخلد ، وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى. ورجح الألوسي هذا الرأي.

ورد القرطبي على هذه الأدلة : بأن الجنة المعرفة بالألف واللام لا يفهم غيرها في تعارف الناس ، ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم. وأما أوصاف الجنة المذكورة في الآيات التي احتجوا بها ، فهي بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة. ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها ، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. والملائكة يدخلونها ويخرجون منها ، وقد دخلها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها ، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي.

وأجمع أهل السنة على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه‌السلام. وكيف يجوز على آدم ، وهو في كمال عقله ، أن يطلب شجرة الخلد ، وهو في دار الفناء؟! الأمر جائز تطلّعا إلى الأفضل والأكمل ، كما نتطلع الآن في الدنيا إلى الخلود في الجنة.

ثالثا ـ الشجرة: اختلف العلماء في تعيين الشجرة التي نهي عنها آدم فأكل منها (١). فقال جماعة : هي الكرم ، ولذا حرمت علينا الخمر ، وقال آخرون : هي السّنبلة ، وقيل : هي شجرة التين. والصواب كما قال القرطبي : أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة ، فخالف هو إليها ، وعصى في الأكل منها.

واختلفوا أيضا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب ، وهو قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة ٢ / ٣٥] ، فقال قوم : أكلا من غير التي أشير إليها ، فلم يتأوّلا النهي واقعا على جميع جنسها ، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر ، أي أنهما ظنّا أن المراد عين شجرة مخصوصة ، وكان المراد الجنس. وهو

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٣٠٥ وما بعدها ، أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٧ وما بعدها ، تفسير الطبري : ١ / ١٨٥

١٤١

قول حسن كما قال القرطبي ورجحه الطبري قبله.

ويقال : إن أول من أكل من الشجرة حواء ، بإغواء إبليس إياها.

رابعا ـ عصيان آدم ثم توبته : قال جمهور الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : الأنبياء معصومون من صغائر الذنوب وكبائرها معا ، لأنّا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم (١).

وبناء عليه ، أجيب عن خطيئة آدم التي كانت من الصغائر لا من الكبائر ، بأنها صدرت منه قبل النبوة ، والعصمة عن المخالفة إنما تكون بعد النّبوة.

أو بأن الذي وقع منه كان نسيانا ، فسمّي عصيانا تعظيما لأمره ، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة ، أو أن ذلك ـ على طريقة السلف ـ من المتشابه كسائر ما ورد في القصة ، مما لا يمكن حمله على ظاهره (٢). والراجح لدي أن هذه المخالفة وقعت نسيانا وسهوا ، كما قال جلّ وعزّ : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه ٢٠ / ١١٥].

وتوبة آدم كانت بقوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف ٧ / ٢٣] ، وهذا هو المروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : إنّ أحبّ الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة : «سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٣٠٨ ، تفسير الرازي : ٣ / ٧

(٢) تفسير الكشاف : ١ / ٢١٢ ، تفسير الرازي : ٣ / ٧ ، تفسير المراغي : ١ / ٩٤ ، تفسير المنار : ١ / ٢٨١

١٤٢

واكتفى القرآن بذكر توبة آدم دون توبة حواء ، لأنها كانت تبعا له ، كما طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسّنة لذلك. وقد ذكرها في آية أخرى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية السابقة (١).

ولا تكون التوبة مقبولة من الإنسان إلا بأربعة أمور : الندم على ما كان ، وترك الذنب الآن ، والعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان ، وردّ مظالم العباد وإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار إليه باللسان (٢).

خامسا ـ دخول إبليس الجنة : تساءل العلماء : كيف تمكّن إبليس من وسوسة آدم بعد أن طرده الله من الجنة بقوله : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [ص ٣٨ / ٧٧] ، فكان خارج الجنة ، وآدم في الجنة؟ وأجيب بأجوبة ، منها : أنه يجوز أن يمنع إبليس دخول الجنة على جهة التكريم ، كدخول الملائكة ، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ، ابتلاء لآدم وحواء. وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة ولم يصل إلى آدم بعد ما أخرج منها ، وإنما بوسواسه الذي أعطاه الله تعالى ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».

سادسا ـ في قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة ٢ / ٣٥] : إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة من الله تعالى ، خلافا للقدرية وغيرهم القائلين : إن العبد يخلق أفعال نفسه. ودلّت الآية (٣٨) على أن من جاءه الهدى على لسان رسول واتبعه ، فقد فاز بالنجاة في الآخرة ، ودلت الآية (٣٩) على أن الذين لم يتبعوا هدى الله ـ وهم الذين كفروا بآيات الله اعتقادا وكذبوا بها لسانا ـ جزاؤهم الخلود في نار جهنم بسبب جحودهم بها ، وإنكارهم إياها ، اتباعا لوسوسة الشيطان. (٣)

__________________

(١) تفسير الكشاف : ١ / ٢١١

(٢) تفسير الرازي : ٣ / ٢٠ ، تفسير المراغي : ١ / ٩٢

(٣) الكشاف : ١ / ٢١١ ، القرطبي : ١ / ٣١٣ ، الرازي : ٣ / ١٥

١٤٣

سابعا ـ الملائكة : الملائكة خلق من خلق الله تعالى ، لا نعلم حقيقتهم ، واعتقاد وجودهم واجب شرعا ، لإخبار القرآن والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. وهم مجبولون على الطاعة ، منزهون عن المعصية ، وهل هم أفضل من البشر؟

اختلف العلماء في شأنهم ، فرأى بعضهم أنهم أفضل من البشر ، لقوله تعالى : (قالَ : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف ٧ / ٢٠] ، وقوله تعالى عن صواحب يوسف : (وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ ، ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف ١٢ / ٣١].

ورأى بعضهم أن النوع الآدمي أفضل من الملائكة ، لأن الملائكة مجبولون على الطاعة ، والبشر فيهم نزعة الشرّ والخير ، والآدمي يجاهد شهواته وميوله.

وقال جماعة : إن عموم الملائكة أفضل من عموم البشر ، وخواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة.

وفي رأيي : أن التوقف عن الخوض في ذلك أولى ، وإن كنت أرجح تفضيل الملائكة على البشر.

قصة آدم عليه‌السلام

تكرر اسم آدم عليه‌السلام في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة ، فتحدثت عنه سورة البقرة في الآيات (٣١ ـ ٣٧) ، وآل عمران في الآيتين (٣٣ ، ٥٩) ، والمائدة في الآية (٢٧) ، والأعراف في الآيات (١١ ـ ١٧٢) ، والإسراء في الآيتين (٦١ ، ٧٠) ، والكهف في الآية (٥٠) ، ومريم في الآية (٥٨) ، وطه في الآيات (١١٥ ـ ١٢١) ، ويس في الآية (٦٠). وتنوّع التعبير عن القصة ، مرة باسمه وصفته ، كما في السّور : البقرة والأعراف والإسراء والكهف ، ومرة بصفته فقط ، كما في سورتي الحجر وص ، مما يدل على إعجاز القرآن الكريم.

١٤٤

وفي هذه القصة موضوعات ستة (١).

الأول ـ خلق آدم من طين : أبان القرآن الكريم أن أصل خلق آدم عليه‌السلام كان من طين ، من حمأ مسنون ـ متغير ـ حتى إذا أصبح صلصالا كالفخار ، نفخ الله فيه من روحه ، فإذا هو إنسان متحرّك ، ذو قدرات مادية وعقلية ومعنوية ـ أخلاقية ، وكان آدم وحواء أصل النوع الإنساني كما أخبر القرآن ، وقد أثبت العلماء زيف نظرية «دارون» التي تجعل القرد أصلا وأبا للإنسان.

الثاني ـ السجود لآدم : أمر الله تعالى إبليس والملائكة بالسجود لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس كان من الجنّ ، ففسق عن أمر ربه ، وأبى واستكبر.

الثالث ـ سبب مخالفة إبليس وعقابه : احتجّ إبليس بأنه أفضل من آدم ، وقال : أنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين ، والنار باعتبار ما فيها من الارتفاع والعلو أشرف من الطين الذي هو عنصر ركود وخمود ، فطرده الله من الجنة بسبب الكبر ونسبته الظلم إلى الله ، لكنه طلب الإنظار إلى يوم الدّين ، فأنظره الله ، وتوعد آدم بإغواء ذريته ، فردّ الله عليه بأن عباد الله المخلصين لا سلطان له عليهم ، وتوعده ومن تبعه بالنار.

الرابع ـ استخلاف آدم في الأرض : أخبر الله تعالى ملائكته أنه سيجعل آدم خليفة عنه في الأرض يكون له سلطان في التصرف في موادها ، فتساءلوا على سبيل العلم والحكمة ، كيف تجعل في الأرض المفسدين وسفاكي الدماء ، وهم ـ أي الملائكة ـ أهل الطاعة واجتناب المعصية؟ فأجابهم الحقّ سبحانه أنه يعلم في هذا المخلوق من الأسرار ما لا يعلمون ، واختصه بعلم ما لا يعلمون.

__________________

(١) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار : ص ٢ وما بعدها ، ط رابعة.

١٤٥

الخامس ـ تعليم آدم أسماء الأشياء المحسوسة : ميّز الله آدم عن الملائكة بتعليمه أسماء جميع الأشياء المادية التي يراها حوله من زروع ، وأشجار ، وثمار ، وأوعية ، وحيوان ، وجماد ، لحاجته إلى الاستفادة منها في طعامه وشرابه ، بخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء ، ثم طالب الله الملائكة بأسماء المسميات المرئية الحاضرة ، بعد أن عرض عليهم المسميات ، فلم يعلموها. وحاجة ذرية آدم إلى الأشياء تدفعهم إلى العمل والتفكير ، والتنقيب عن تلك الأشياء ، وعمارة الكون وتقدم وسائل الحياة في كل المجالات من زراعة وصناعة وتجارة.

السادس ـ سكنى آدم وزوجته الجنة وخروجهما منها : أسكن الله آدم الجنة ، وخلق له حواء ، وأباح لهما الاستمتاع بثمار الجنة إلا شجرة عينها لهما ، فوسوس لهما إبليس بالأكل منها وأغراهما ، وقال لهما : ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأن الأكل منها يجعلكما من الملائكة ، أو تكونا خالدين دون موت ولا فناء ، فرفض آدم في مبدأ الأمر ، وقاوم إغراءات الشيطان ، ولكن إبليس استمر في إلقاء وساوسه : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف ٧ / ٢١] ، حتى نسي آدم أنه عدوه الذي أبى السجود له ، فأكل آدم وحواء من الشجرة : (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [طه ٢٠ / ١٢١] ليسترا عوراتهما ، فعاتب الله آدم على مخالفة أمره والأكل من الشجرة ، فندم واستغفر الله وتاب ، فقبل توبته ، ولكنه أمره وحواء بالخروج من الجنة ، والاستقرار في الأرض.

العظة من قصة آدم :

١ ـ تفرد الله تعالى بأسرار وعلوم وحكم ، ولم يطلع عليها أحدا من الخلق ، حتى الملائكة ، فإنهم جهلوا الحكمة من استخلاف آدم ، وتساءلوا عن السبب في هذا الاختيار.

١٤٦

٢ ـ إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلا عظيما ، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشرا سويا ، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه.

٣ ـ الإنسان وإن كرّمه الله ، لكنه ضعيف ، عرضة للنسيان ، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه ، فأطاع إبليس عدوه ، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.

٤ ـ إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة ، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته ، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.

٥ ـ الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي ، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله ، فإن إبليس الذي أبى السجود ، وأصرّ على موقفه ، وعاند الله ، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله ، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد ، وأوعده بنار جهنم.

ما طلب من بني إسرائيل

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

١٤٧

الإعراب

(إِيَّايَ) ضمير منصوب بفعل مقدر ، وتقديره : إياي ارهبوا فارهبون ، وإنما وجب تقدير «ارهبوا» لأن فعل (فَارْهَبُونِ) مشغول بالضمير المحذوف وهو الياء.

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً) «ما» بمعنى الذي ، والعائد هو الضمير المحذوف تخفيفا في فعل (أَنْزَلْتُ). (مُصَدِّقاً) حال من الهاء المحذوفة ، وتقديره : أنزلته. (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أول : خبر تكونوا ، كافر : صفة موصوف محذوف ، تقديره : أول فريق كافر ، ولهذا جاء بلفظ الواحد ، والخطاب لجماعة.

(تَكْتُمُوا) إما منصوب بتقدير «أن» أو مجزوم بالعطف على (تَلْبِسُوا) وعلامة النصب والجزم في الوجهين حذف النون. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في (تَكْتُمُوا).

البلاغة :

(نِعْمَتِيَ) الإضافة للتشريف وبيان عظم قدر النعمة وسعة يسرها وحسن موقعها. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) ليس الشراء هنا حقيقيا ، بل هو على سبيل الاستعارة التصريحية ، كما في الآية السابقة (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) والمراد استبدلوا بآياتي ثمنا ، والمراد بالثمن في الأصل هو المشترى به ، أي استبدلوا بآيات الله وبالحق الكثير بدلا قليلا ومتاعا يسيرا ، فكانت مبادلة خاسرة ، لأن كل كثير أو كبير بالنسبة للحق المتروك قليل وحقير.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) و (إِيَّايَ فَاتَّقُونِ) يفيد الاختصاص ، وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياي نعبد.

تكرار الحق في قوله : (تَلْبِسُوا الْحَقَ) وقوله (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) لزيادة تقبيح المنهي عنه ، لأن التصريح للتأكيد.

إطلاق الركوع على الصلاة في قوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) مجاز مرسل ، من أنواع تسمية الكل باسم الجزء.

المفردات اللغوية :

(إِسْرائِيلَ) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم‌السلام ، وبنوه : أولاده ، وهم اليهود. ومعنى (إِسْرائِيلَ) صفي الله ، وقيل : الأمير المجاهد. (بِعَهْدِي) عهد الله: ما عاهدهم

١٤٨

عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وبخاصة محمد خاتم الأنبياء من ولد إسماعيل (بِعَهْدِكُمْ) ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان ، والتمكين من بيت المقدس ، وسعة العيش في الدنيا.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) قد يطلق كل من البيع والشراء على الآخر ، والمعنى: لا تبيعوا آياتي بثمن قليل وعوض يسير من الدنيا ، أو لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من الناس. (فَارْهَبُونِ) فخافون في نقضكم العهد وترك الوفاء به دون غيري.

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) من القرآن. (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة بموافقته في التوحيد والنبوة.

(وَلا تَلْبِسُوا) لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه ، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه.

المناسبة :

اختصت هذه الآيات من (٤٠ ـ ١٤٢) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءا كاملا ، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم ، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته ، والأمر بعبادته ، وأن القرآن كلام الله المعجز ، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض ، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين. ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة ، فبدأ باليهود ، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية ، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن ، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل ، لذا ذكرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم ، وذكرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم ، تارة بالملاينة والملاطفة ، وتارة بالتخويف والشدة ، وأحيانا بالتذكير بالنعم ، وطورا بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم.

التفسير والبيان :

يا أولاد النبي الصالح يعقوب ، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق ، وتفكروا

١٤٩

بالنعم التي أنعم الله بها على آبائكم من الإنجاء من فرعون ، وتظليل الغمام ، واشكروا الله على نعمه بامتثال أوامره وإطاعته ، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان بالله ورسله دون تفريق ، وبخاصة محمد خاتم النبيين ، أوفّ بعهدي لكم في الدنيا والآخرة ، بالتمكين لكم في الأرض المقدسة ـ في زمنهم ـ ورفع شأنكم ، وتوسيع معيشتكم ، ونصركم على أعدائكم ، وتوفير السعادة لكم في الآخرة.

وآمنوا ـ ضمن مشتملات العهد ـ بالقرآن إيمانا صادقا ، وأنه من عند الله ، وأنه نزل مؤيدا ومصدقا وموافقا للتوراة وكتب الأنبياء السابقة ، في الدعوة إلى توحيد الله ، وترك الفواحش ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي التوراة وصف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به ، فأنتم أحق الناس بالإيمان به ، لوجود دليل صدقه في التوراة. ولا تبيعوا آيات الله الدالة على صدق محمد في نبوته ودعوته بثمن دنيوي حقير ، من رياسة أو زعامة أو مال أو موروثات وعادات قديمة ، فإنه ثمن قليل بخس ، وتجارة خاسرة غير رابحة. ولا تخافوا أحدا سوى الله فهو بيده الخير كله. ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه ، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون ضرر الكتمان ، فليس جزاء العالم في الآخرة كالجاهل. وأدوا ما افترض الله عليكم من الصلاة والزكاة وأدوها جماعة مع النّبي محمد عليه‌السلام. وعبر بالركوع عن الصلاة ليبعدهم عن صلاتهم القديمة التي لا ركوع فيها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى أحكام كثيرة في العقيدة والأخلاق والعبادة والحياة الخاصة والعامة ، فأوجبت على اليهود ألا يغفلوا عن نعم الله التي أنعم بها عليهم وألا يتناسوها ، والنعمة هنا : اسم جنس ، مفردة بمعنى الجمع ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم ١٤ / ٣٤] ، ومن نعمه عليهم : أن

١٥٠

أنجاهم من آل فرعون ، وجعل منهم أنبياء ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وفجّر لهم من الحجر الماء ، واستودعهم التوراة التي فيها صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ورسالته (١) ، والنعم على الآباء نعم على الأبناء ، لأنهم يشرفون بشرف آبائهم وكانت النعم سببا في بقائهم. والتذكير بكثرة النعم يوجب الحياء عن إظهار المخالفة ، ويوجب عظم المعصية ، ويستدعي الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن.

وألزمهم الوفاء بالعهد : وهو عام في جميع أوامره تعالى ونواهيه ووصاياه ، ويدخل في ذلك الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ذكر في التوراة وغيرها ، فإذا وفّوا بعهودهم ، وفي الله لهم عهده : وهو أن يدخلهم الجنة ، على سبيل التفضل والإنعام.

وما طلب من اليهود من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا ، قال الله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة ٥ / ١](وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [النحل ١٦ / ٩١].

وأمرهم بخشية الله وحده والإيمان (التصديق) بما أنزل الله وهو القرآن ، ونهاهم عن أن يكونوا أول من كفر ، وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا ، أي على تغيير صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم رشى ، وكان الأحبار يفعلون ذلك ، فنهوا عنه.

وقد أثار العلماء في هذه الآية (٤١) ونحوها مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن (٢)، فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي ، وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣ / ٣٣ وما بعدها ، قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرون ، وعبيد المنعم قليلون ، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل بنعمه عليهم ، ولما آل الآمر إلى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرهم بالمنعم فقال : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة ٢ / ١٥٢] فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأمم.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٣٣٥

١٥١

والإخلاص ، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام ، وقد قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

وأجاز جمهور العلماء غير الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، لقوله عليه‌السلام في حديث ابن عباس ـ حديث الرّقية الذي أخرجه البخاري : «إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» والقياس على الصلاة والصيام فاسد ، لأنه في مقابلة النص ، ولأن تعليم القرآن يتعدى أثره لغير المعلّم ، فيختلف عن العبادات المختصة بالفاعل.

وهذا الخلاف جار أيضا في أداء الصلاة وغيرها من الشعائر الدينية بأجر.

ونهى الله اليهود ـ ومثلهم غيرهم ـ عن أن يخلطوا ما عندهم من الحق في الكتاب بالباطل ، وهو التغيير والتبديل ، وعن كتمان ما علموا ، ومنه أن محمدا عليه‌السلام حق ، فكفرهم كان كفر عناد ، ولم يشهد تعالى لهم بعلم في ذلك.

وفي نهاية الآيات أمرهم الله تعالى ـ والأمر للوجوب ـ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وعبر عن الصلاة بالركوع ، لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع ، ليرشدهم إلى الصلاة بالصفة الإسلامية ، والمراد بالزكاة على الأصح الزكاة المفروضة ، لمقارنتها بالصلاة ، وليس المراد هو صدقة الفطر. وفي الصلاة تطهير النفوس ، وفي الزكاة تطهير المال ، وكلاهما مظهر شكر الله على نعمه ، والزكاة تنفرد بأنها تحقق مبدأ التكافل الاجتماعي بين الناس ، فالغني بحاجة إلى الفقير ، والفقير بحاجة إلى الغني. قال الجصاص : أريد بالصلاة والزكاة ما خوطبنا به من هذه الصلوات المفروضة والزكوات الواجبة (١).

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٣٤

١٥٢

نماذج من سوء أخلاق اليهود

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

الإعراب :

(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في (تَنْسَوْنَ).

(وَإِنَّها) الهاء تعود على الصلاة ، وإنما قال : (وَإِنَّها) ولم يقل : وإنهما أي الصبر والصلاة ، لأن العرب ربما تذكر اسمين ، وتكنّي عن أحدهما ، مثل : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَلا يُنْفِقُونَها) ولم ينفقونهما ، ومثل : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة ٦٢ / ١١] ولم يقل : إليهما.

(إِلَيْهِ) الضمير يعود إلى الله تعالى.

(يَوْماً) مفعول فيه ظرف زمان لفعل (اتَّقُوا). و (لا تَجْزِي) وما بعدها من الجمل المنفية صفات ليوم ، وفي كل جملة ضمير مقدر يعود على يوم ، تقديره : فيه ، أي لا تجزي فيه .. وهكذا. وتذكير فعل (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) مع أن الفاعل مؤنث لوجود الفاصل ، وإذا وجد الفصل بين للفعل والفاعل ، قوي التذكير.

البلاغة :

(أَتَأْمُرُونَ) الاستفهام للتوبيخ. (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فيه تقريع وتبكيت. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) استفهام إنكاري (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) مبالغة في الترك.

١٥٣

ثم إن عطف (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ ..) على (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) من عطف الخاص على العام.

(وَاتَّقُوا يَوْماً) تنكير اليوم للتهويل ، وتنكير النفس في (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) لإفادة العموم.

المفردات اللغوية :

«البر» الطاعة والخير والعمل الصالح (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) تتركونها فلا تأمرونها به (الْكِتابَ) التوراة ، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) سوء فعلكم فترجعوا.

(وَاسْتَعِينُوا) اطلبوا المعونة على أموركم (بِالصَّبْرِ) حبس النفس على ما تكره (وَالصَّلاةِ) قال القرطبي وغيره : خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها ، وكان عليه‌السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (١)(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أي وإن الصلاة لشاقّة ثقيلة (الْخاشِعِينَ) الساكنين إلى الطاعة.

(يَظُنُّونَ) يعتقدون أو يوقنون (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بالبعث (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) في الآخرة فيجازيهم.

(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) بالشكر عليها بطاعتي (فَضَّلْتُكُمْ) أي آباءكم (عَلَى الْعالَمِينَ) عالمي زمانهم. (وَاتَّقُوا) خافوا (يَوْماً) يوم القيامة. (لا تَجْزِي) تقضي وتؤدي نفس. (عَدْلٌ) فداء. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله.

سبب النزول :

أخرج الواحدي والثعلبي عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية (٤٤) في يهود المدينة ، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين : اثبت على الدين الذي أنت عليه ، وما يأمرك به ، وهذا الرجل ، يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن أمره حق ، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٣٧١ ، وحزبه : نزل به مهمّ أو أصابه غم.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ص ١٣

١٥٤

وقال السدّي : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ، ويخالفون ، فعيّرهم الله عزوجل (١).

التفسير والبيان :

بان مما سبق في سبب النزول أن الآيات نزلت في أهل الكتاب وعلى التخصيص الأحبار والرهبان ، كانوا يأمرون الناس بالخير والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم ، فهذا مدعاة العجب والاستغراب ، فإن الآمر بالشيء هو القدوة ، فعليه المبادرة إلى فعل ما أمر به غيره ، وإلّا كان كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وفي هذا توبيخ وتأنيب شديد ، فكيف يليق بكم يا أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر ، وهو جماع الخير ، أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأتمرون بما تأمرون به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه من وعيد على من قصر في أوامر الله ، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؟ فتنتبهوا من رقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم.

وهذا الخطاب ، وإن كان لليهود من أهل الكتاب ، فهو موجه أيضا لغيرهم ، لأن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.

وطريق العلاج لهذا المرض أن تؤمنوا حقا ، وتستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء ، على مرضاة الله بالصبر الحقيقي وهو إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة ، وتستعينوا بالصلاة لترويض النفس على التزام جادة الاستقامة ، فمن صبر على احتمال التكاليف ، وصرف نفسه عن المعاصي ، وناجى ربه في صلاته ، وعقد الصلة مع الله فيها خمس مرات في اليوم ، كان جديرا بنصح الآخرين ، مدركا بعقله الواعي مخاطر الانحراف ، ضامنا لنفسه النجاة ، لأن الأمر بالمعروف واضح ، وهو واجب على العالم ، وأوجب منه أن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٨٥

١٥٥

يبدأ الواعظ بفعله بنفسه ، ولا يتخلف بشيء عمن أمرهم به ، قال شعيب عليه‌السلام ـ فيما حكاه القرآن : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) [هود ١١ / ٨٨].

والتزام الصلاة أمر شاق إلا على من خشعت نفوسهم لله ، وخافوا من شديد عقابه ، وعمرت قلوبهم بالإيمان وصدقوا بلقاء الله وحسابه ، فبادروا إلى الصلاة ، لإراحة أنفسهم ، وتطمين قلوبهم ، وإراحة بالهم ، وإزالة قلقهم ، وهو ما عبر عنه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» (١).

والأصح أن المراد بالصلاة التي أمر بها اليهود وغيرهم هي الصلاة الإسلامية ، بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها ، ولأن الصلاة التي أمروا بها هي المشتملة على الركوع ، كما في الآية السابقة ، وصلاتهم لا ركوع فيها ، كما بينا.

وعبر بالظن في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا يشق عليه الصلاة ، فكيف بمن يتيقنه؟! فهذا سبب آخر بعد نسيان أنفسهم وتلاوة الكتاب للتقريع والتوبيخ.

وفي مجالات الأوامر والترغيب في المأمورات يحسن التذكير بالنعم الإلهية ، لذا كرر تعالى تذكير الكتابيين بالنعم التي أنعم بها على آبائهم وعليهم ، وأنه فضلهم على غيرهم من العالم في زمانهم ، وأنه جعل فيهم الأنبياء ، والخطاب ليس موجها إلى الجماعة فقط ، وإنما إلى كل فرد أيضا ، لأن كل امرئ مسئول عن نفسه ، فليخش كل إنسان يوما مليئا بالأهوال ، لا منجاة فيه إلا بتقوى الله في السر والعلن ، ولا فائدة فيه إلا لمن عمل لنفسه ، فلا تقبل هناك شفاعة الشفعاء والوسطاء ، ولا ينفع دفع البدل أو الفداء ، ولا يمنع المقصرون من العذاب.

__________________

(١) نص الحديث بكامله : «حبّب إلي من دنياكم : النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة» أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه.

١٥٦

فقه الحياة أو الأحكام :

يستحق كل مقصر في واجبه العقاب واللوم ، فقد كان التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر ، لا بسبب الأمر بالبر ، وكان ذم اليهود لأنهم كانوا يأمرون بأعمال البر والطاعة ولا يعملون بها ، ويزداد التقريع للعالم الذي لا يعمل بما علم ، فليس من يعلم كمن لا يعلم ، ولا يتقبل العقل السليم هذه الحال من أحد.

وإطاعة الأوامر الإلهية وعدم مخالفتها تتطلب الصبر ، ومن صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة ، ومن أخص حالات الصبر : الصلاة ، فالصلاة فيها سجن النفوس ، وجوارح الإنسان فيها مقيدة بها عن جميع الشهوات ، فكانت الصلاة أصعب على النفس ، وكانت مكابدتها أشق. وتهون المصاعب كلها أمام الخاشعين المتواضعين المخبتين إلى الله ، الموقنين بلقاء الله ، المصدقين بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وليست أمور الآخرة مقيسة على أمور الدنيا ، كما كان يتوهم اليهود وغيرهم من الأمم الوثنية ، فليس في ميزان الإسلام وعدله طريق لتخليص المجرمين من العذاب بفداء أو بدل يدفع ، أو بشفاعة تشفع ، ولا ينفع في اليوم الآخر إلا مرضاة الله تعالى بالعمل الصالح ، والإيمان المستقر في النفوس ، المتجلي في أعمال الإنسان ، والحكم إلى الله العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها ، كما قال تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات ٣٧ / ٢٤ ـ ٢٦].

والشفاعة المرفوضة هي شفاعة الكافرين ، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) : النفس الكافرة ، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله ، لقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨] والفاسق

١٥٧

غير مرتضى ، وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ ٣٤ / ٢٣] وليس في الشفاعة رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع ، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعاء الشافع ، والشفاعة دعاء. وليس في إثبات شفاعة مسوغ لمغتر يتهاون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على الشفاعة ، فلا ينفع أحدا في الآخرة إلا طاعة الله ورضاه.

وأما تفضيل بني إسرائيل فهو ليس دائما ولا عاما ، وإنما هو مقصور على عالمي زمانهم ، ومرتبط بمدى تنفيذهم أوامر الله ، فالتفضيل هو مناط الأخذ بالفضائل وترك الرذائل ، والفضل إن كان بكثرة الأنبياء فيهم فهو صحيح لا شك فيه ، ولا تقضي هذه الفضيلة بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم ، ويزول الفضل إذا هم انحرفوا عن هدي أنبيائهم وتركوا سنتهم. وإن كان المراد من التفضيل هو القرب من الله بمرضاته ، فهو مختص بالأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم والتابعين لهم فيه ، ومقيد بمدة الاستقامة على العمل الذي استحقوا به التفضيل (١).

نعم الله تعالى العشر على اليهود

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ

__________________

(١) تفسير المنار : ١ / ٣٠٤ وما بعدها.

١٥٨

فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

الإعراب :

(إِذْ) معطوف على (نِعْمَتِيَ) ومنصوب بفعل محذوف تقديره : واذكروا إذ نجيناكم. وكذلك قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا) ، (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى) ، (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى). (فِرْعَوْنَ) ممنوع من الصرف للتعريف والعجمة ، ومعناه في القبطية : التمساح. (يَسُومُونَكُمْ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من آل فرعون. وكذلك (يُذَبِّحُونَ) و (يَسْتَحْيُونَ) حال منهم أيضا.

(واعَدْنا) بمعنى وعدنا ، لأن الأصل في «فاعلنا» أن تكون مشاركة من اثنين ، ولا يحسن هاهنا ، لأن الله تعالى وعد موسى ، ولم يكن من موسى وعد الله تعالى. (اتَّخَذْتُمُ) فعل يتعدى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما ، الأول منهما (العجل) والثاني مقدر وتقديره : إلها. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) جملة اسمية في موضع الحال من ضمير (اتَّخَذْتُمُ).

(ذلِكُمْ) أراد المذكور ، وهو يشمل القتل والتوبة.

البلاغة :

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) استعارة من السّوم في البيع. (بَلاءٌ) و (عَظِيمٌ) التنكير فيهما للتفخيم والتهويل.

(واعَدْنا) ليست على أصلها وهو المشاركة من اثنين ، وإنما هي بمعنى «وعدنا» كما بينا في الإعراب.

هذا وعطف الفرقان على الكتاب في آية (٥٣) من باب عطف الصفات بعضها على بعض ، لأن الكتاب هو التوراة ، والفرقان هو التوراة أيضا ، فهو كتاب منزل وفارق بين الحق والباطل.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) أي آباءكم ، تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا. وفرعون : لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة (يَسُومُونَكُمْ) يذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أشده أي العذاب الشديد. (يَسْتَحْيُونَ) يبقون نساءكم أحياء ، ويقتلون الرجال ، لقول بعض الكهنة لفرعون : إن مولودا

١٥٩

يولد في بني إسرائيل ، يكون سببا لذهاب ملكك (وَفِي ذلِكُمْ) العذاب أو الإنجاء (بَلاءٌ) ابتلاء واختبار.

(فَرَقْنا) فلقنا ، والمراد جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه ، هاربين من عدوكم.

(الْكِتابَ) التوراة. (وَالْفُرْقانَ) الشرع الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ليقتل البريء منكم المجرم (ذلِكُمْ) القتل ، وقتل منهم نحو سبعين ألفا (بارِئِكُمْ) مبدعكم ومحدثكم (فَتابَ) قبل توبتكم.

المناسبة :

هذه الآيات في تفصيل النعم العشرة التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، بعد الإشارة إليها إجمالا في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) تذكيرا لهم بضرورة شكرها.

التفسير والبيان :

اذكروا أيها اليهود الذين تعاصرون التنزيل ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النعم التي أنعم الله بها على آبائكم ، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع ، كانت سببا لبقائكم ، ولأن الإنعام على أمة إنعام يشمل كل أفرادها ، وهي نعم عشرة ، ذكر منها هنا خمسة وهي :

١ ـ النجاة من فرعون ، فإنه كان يذبح الأبناء الذكور ، ويترك البنات أحياء ، ويذيقهم العذاب الشديد ، لأن فرعون كان قد رأى نارا هالته ، خرجت من بيت المقدس ، فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر ، إلا بيوت بني إسرائيل. وفسّرت له بأن زوال ملكه يكون على يد رجل من بني إسرائيل (١). فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء ، ومع هذا نجاهم الله من هذا العذاب المهين. وفي النجاة من الهلاك اختبار من الله ، حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك. والاختبار

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٩٠

١٦٠