التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

دليل المنع ، فليس لمخلوق حقّ في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه ، كما قال : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ : آللهُ أَذِنَ لَكُمْ ، أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس ١٠ / ٥٩].

وعلم الله واسع شامل لكل ما خلق ، وهو خالق كل شيء ، فوجب أن يكون عالما بكل شيء ، ولا يكون هذا النظام المحكم في السموات والأرض إلا من لدن حكيم عليم بما خلق ، فلا عجب أن يرسل رسولا مؤيدا بكتاب لهداية الناس ، يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته ، عظم أو صغر.

وآية (ثُمَّ اسْتَوى) وآية (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه ٢٠ / ٥] من مشكلات التفسير ، وللعلماء ثلاثة آراء فيها (١) :

الرأي الأول لكثير من الأئمة : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، روي عن مالكرحمه‌الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رجل سوء.

الرأي الثاني للمشبهة : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهو أن الاستواء : الارتفاع والعلو على الشيء ، أو الانتصاب.

وهذا باطل ، لأن ذلك من صفات الأجسام ، والله تعالى منزه عن ذلك.

الرأي الثالث لبعض العلماء : نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها.

فقيل : المعنى استوى ، كما قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ١٤٩ وما بعدها ، تفسير القرطبي : ١ / ٢٥٤ وما بعدها.

١٢١

وقيل : استوى بمعنى ارتفع ، والمراد ـ والله أعلم ـ ارتفاع أمره.

وقيل : استوى بمعنى عمد أو قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه ، واختاره الطبري : على دون تكييف ولا تحديد.

ودل القرآن في هذه الآية وغيرها على وجود سبع سموات وسبع أرضين ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ١٢] يعني أن السموات بعضها فوق بعض وأن الأرضين بعضها تحت بعض. ولكن لم يرد خبر في السنة يوضح حقيقة السموات والأرضين ، فلا فائدة في بحث طبيعة السماء ، وما علينا إلا أن نؤمن بظاهر القرآن في هذا التعداد ، ونستدل به على عظمة الخالق الذي رفع السماء ، وبسط الأرض. وقد أورد الرازي في تفسيره نظريات الفلكيين أو أهل الهيئة التي يفهم منها أن السبع السموات هي الكواكب السيارة (١) ، غير أن العلم الحديث اكتشف وجود كواكب سيارة أخرى مثل نبتون وبلوتو وأورانوس ، غير المعروفة قديما وهي القمر ، وعطارد ، والزهرة ، والشمس ، والمريخ ، والمشتري ، وزحل.

استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢ / ١٥٦

١٢٢

سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

الإعراب :

(وَإِذْ) ظرف زمان ماض ، منصوب بإضمار فعل مقدر تقديره : اذكر ، ويجوز أن ينتصب بقالوا. وهو مبني لتضمنه معنى الحرف ، لأن كل ظرف لا بد فيه من تقدير حرف ، وهو «في» أو لأنه يشبه الحرف في أنه لا يفيد مع كلمة واحدة ، وهو مبني على السكون ، لأنه الأصل في البناء. وإذ للماضي ، وإذا للمستقبل ، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. (جاعِلٌ) من جعل الذي له مفعولان ، دخل على المبتدأ والخبر ، وهما قوله : (فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فكانا مفعوليه. (أَتَجْعَلُ) تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. (وَنَحْنُ) للحال ، (بِحَمْدِكَ) الباء هنا تسمى باء الحال ، والمعنى : نسبحك حامدين لك ، ومتلبسين بحمدك ، لأنه لو لا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف ، لم نتمكن من عبادتك.

(عَرَضَهُمْ) ولم يقل : عرضها ، لأنه أراد مسميّات الأسماء ، وفيهم من يعقل ، وفيهم من لا يعقل ، فغلّب جانب العقلاء.

(سُبْحانَكَ) الصحيح أن سبحانا وكفرانا : اسمان أقيما مقام المصدر ، وليسا بمصدرين. (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أنت : إما مبتدأ ، والعليم خبره ، والحكيم صفة له ، أو خبر بعد خبر ، والجملة خبر إن ، وإما ضمير فصل لا موضع لها من الإعراب ، والعليم خبر إن ، والحكيم صفة له ، أو خبر بعد خبر.

البلاغة :

(رَبُّكَ) إضافته إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتشريف والتكريم لمقامه (لِلْمَلائِكَةِ) تقديم الجار والمجرور على المقول للاهتمام بما قدّم.

(أَنْبِئُونِي) أريد به التعجيز والتبكيت.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) فيه مجاز بالحذف ، والتقدير : فأنبأهم بها ، فلما أنبأهم.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ) من باب التغليب للعقلاء على غير العقلاء.

١٢٣

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) تكرار الفعل مع ما قبله : (إِنِّي أَعْلَمُ) للتنبيه على إحاطة علم الله تعالى بجميع الأشياء ، وهذا يسمى بالإطناب. (تُبْدُونَ) و (تَكْتُمُونَ) يسمى في علم البديع بالطباق.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ) : اذكر يا محمد. (رَبُّكَ) الرب : المالك والسيد والمصلح والجابر. (لِلْمَلائِكَةِ) : أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون. وهو جمع ملك ، وأصله : ملاك وزنه مفعل. (خَلِيفَةً) : الخليفة : من يخلف غيره ويقوم مقامه في تنفيذ الأحكام ، والمراد بالخليفة هنا آدم عليه‌السلام. (يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) يريقها بالقتل عدوانا ، كما فعل بنو الجان ، وكانوا فيها ، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة ، فطردوهم إلى الجبال والجزر. (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ننزهك عن كل نقص ، متلبسين بحمدك ، أي تقول : سبحان الله وبحمده (وَنُقَدِّسُ لَكَ) نمجدك ونعظمك وننزهك عما لا يليق بعظمتك ، فاللام زائدة ، والجملة حال ، أي فنحن أحق بالاستخلاف (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من المصلحة في استخلاف آدم. (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) واحدها اسم ، وهو في اللغة : ما به يعلم الشيء ، والمراد به : أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه ، لكونه معلوما مدلولا عليه ، بذكر الأسماء ، لأن الاسم لا بد له من مسمى.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي عرض المسميات ، وفيه تغليب العقلاء. (أَنْبِئُونِي) أخبروني ، وقد يستعمل الإنباء في الإخبار بما فيه فائدة عظيمة ، وهو المراد هنا.

(سُبْحانَكَ) تقديسا وتنزيها لك عن الاعتراض عليك. (الْعَلِيمُ) الذي لا تخفى عليه خافية ، (الْحَكِيمُ) المحكم لمبتدعاته ، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة.

المناسبة :

هذه القصة أو المحاورة بين الله تعالى وملائكته نوع من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة ، تقريبا للأفهام ، وفيها بيان مدى تكريم الله للإنسان باختيار آدم خليفة عن الله في الأرض ، وتعليمه اللغات التي لا تعلمها الملائكة ، مما يوجب على الناس الإيمان بهذا الخالق الكريم ، ولا يليق بأحد الكفر والعناد ، وهو استمرار في توبيخ الكفار ، وتذكيرهم بنعم الله عليهم.

١٢٤

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم ، حين قال الله للملائكة : إني متخذ في الأرض خليفة ، يقوم بعمارتها وسكناها ، وينفذ أحكامي فيها بين الناس ، وتتعاقب الأجيال من بعده في مهامه كلها حتى يعمر الكون ، فتساءل الملائكة متعجبين ومستعلمين : كيف تستخلف هذا الخليفة؟ وفي ذريته من يفسد في الأرض بالمعاصي ويريق الدماء بالبغي والعدوان ، لأن أفعالهم عن إرادة واختيار ، وقد خلقوا من طين ، والمادة جزء منهم ، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب.

فكيف تجعل ـ على سبيل التعجب والتعلم ، لا الاعتراض والحسد ـ مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، وأنت الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ، ولا يريد إلا الخير؟

فإن قلت : من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه ، وإنما هو غيب؟

قلت : عرفوه بإخبار من الله ، أو من جهة اللوح المحفوظ ، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون ، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم ، أو قاسوا أحد الثقلين وهم الإنس على الآخر وهم الجن ، حيث أسكنوا الأرض ، فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة (١). أو أنهم عرفوا طبيعة المادة وفيها الخير والشر ، وهو ما رجحناه أولا ، ويقال : كان هناك نوع من الخلق في الأرض قبل آدم ، أفسد وسفك الدماء ، وسيحل هذا الخليفة محله ، بدليل قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) [يونس ١٠ / ١٤] فقاس الملائكة هذا الخليفة عليه.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٠٩ ، تفسير الطبري : ١ / ١٥٧

١٢٥

ونحن الملائكة أولى بالاستخلاف ، لأن أعمالنا مقصورة على تسبيحك وتقديسك وطاعتك ، فأجابهم الله تعالى : إني أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفي عنكم ، وأعلم كيف تصلح الأرض ، وكيف تعمر ، ومن هو أصلح لعمارتها ، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها. ولعل التنافس على المصالح بين الناس وتنازع البقاء ، وحب الذات من أقوى الدواعي على تقدم الكون وتحضر العالم ، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر ، وبها تظهر حكمة إرسال الرسل ، واختبار البشر ، وجهاد النفس. وفي هذا إرشاد الملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى في غاية الحكمة والكمال.

ثم عقد الرب سبحانه امتحانا للملائكة ، لإظهار عجزهم ، وإبطال زعمهم أنهم أحق بالخلافة من خليفته ، بعد أن علّم آدم أسماء الأشياء والأجناس المادية من نبات وجماد وإنسان وحيوان ، مما تعمر به الدنيا ، ثم عرض مجموعة المسميات على الملائكة ، أو عرض نماذج منها ، أي عرض الأشخاص ، لقوله تعالى : (عَرَضَهُمْ) لأن العرض لا يصح في الأسماء ، وقال لهم : أخبروني بأسماء هؤلاء ، إن كنتم صادقين في ادعائكم أنكم أحق بالخلافة من غيركم ، فعجزوا ، وقالوا : يا رب سبحانك ، لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم بكل شيء ، الحكيم في كل صنع.

وفي هذا إشارة لتفضيل آدم على الملائكة واصطفائه ، بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة ، فلا يكون لهم فخر عليه.

ثم قال المولى جل جلاله : أخبرهم يا آدم بأسماء الأشياء التي عجزوا عن علمها ، واعترفوا بقصورهم عن معرفتها ، فلما أخبرهم بكل أسماء تلك الأشياء ، أدركوا السر في خلافة آدم وذريته ، وأنهم لا يصلحون للاشتغال بالماديات ، والدنيا لا تقوم إلا بها ، إذ هم خلقوا من النور ، وآدم خلق من الطين ، والمادة جزء منه.

١٢٦

وحينئذ قال تعالى للملائكة : ألم أقل لكم : إني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم ، وما حضر أيضا ، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا ، وأعلم ما ظهر وما بطن ، وما تظهرون وما تكتمون من نحو قولكم فيما روي عن ابن عباس : «لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا ، فنحن أحق بالخلافة في الأرض» (١). هذا وجه من التأويل ، وقال الطبري : وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس : وهو أن معنى قوله : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ). وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض ، ما تظهرون بألسنتكم ، (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وما كنتم تخفونه في أنفسكم ، فلا يخفى علي شيء ، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم : ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه ، وهو قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟).

والذي كانوا يكتمونه : ما كان منطويا عليه إبليس من مخالفة أمر الله ، والتكبر عن طاعته (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

أولا ـ دلت هذه الآيات على تكريم الإنسان الذي جعله الله خليفة في هذه الأرض في تنفيذ أوامره بين الناس ، ويؤيده قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (ص ٣٨ / ٢٦) والحكمة من جعل آدم خليفة هي الرحمة بالناس ، إذ لا طاقة للعباد على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة ، فكان من رحمته تعالى إرسال الرسل من البشر. ومع هذا اختلف المفسرون في تأويل كلمة (خَلِيفَةً) وتحديد المستخلف عنه (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٧١ ، تفسير الطبري : ١ / ١٧٧

(٢) تفسير الطبري : ١ / ١٧٦

(٣) تفسير الطبري : ١ / ١٥٦ وما بعدها ، تفسير ابن كثير : ١ / ٦٩ ، الكشاف : ١ / ٢٠٩ ، القرطبي : ١ / ٢٦٣ ، تفسير الرازي : ٢ / ١٦٥ وما بعدها.

١٢٧

فقال ابن عباس : أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا ، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، فقتلهم إبليس ومن معه ، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، ثم خلق آدم ، فأسكنه إياها ، فلذلك قال : إني جاعل في الأرض خليفة. فعلى هذا القول : إني جاعل في الأرض خليفة عن الجن ، يخلفونهم فيها ، فيسكنونها ويعمرونها ، وليس آدم أول أصناف العقلاء في الأرض.

وقال الحسن البصري : في تأويل قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله ، جيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام ٦ / ١٦٥] وقال : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل ٢١ / ٦٢] وقال : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٦٠] وقال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [الأعراف ٧ / ١٦٩].

ومن هو الخليفة؟ قيل : أريد بالخليفة آدم ، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه ، كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك : مضر وهاشم.

وقال زيد بن علي : ليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه‌السلام فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين. قال ابن كثير : والظاهر أنه لم يرد آدم عينا ، إذ لو كان ذلك ، لما حسن قول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فإنهم أرادوا : أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية المخلوقة من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة : أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ، ويردعهم عن المحارم والمآثم ، أو أنهم قاسوهم على من سبق.

والخلاصة : هناك قولان في المراد بالخليفة :

١٢٨

أحدهما ـ أنه آدم عليه‌السلام ، وقوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) المراد ذريته لا هو.

والثاني ـ أنه ولد آدم.

ثم إن هذه الآية أصل في نصب إمام حاكم ، وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ذلك ، إلا ما روي عن أبي بكر الأصم من المعتزلة أنه قال : الإمامة غير واجبة في الدين ، بل يسوغ ذلك ، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحق من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك.

وأدلة الجمهور : قول الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص ٣٨ / ٢٦] وقوله عزوجل : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥] أي يجعل منهم خلفاء.

وأجمعت الصحابة على تقديم أبي بكر الصديق ، بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في تعيين الخليفة (١).

وطرق تعيين الإمام ثلاث (٢) :

١ ـ النص على الخليفة : كما نص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي بكر بالإشارة ، وأبو بكر على عمر.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٦٤

(٢) المرجع السابق : ١ / ٢٦٨

١٢٩

٢ ـ الانتخاب بواسطة جماعة : كما فعل عمر ، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم ، كما فعل الصحابة رضي‌الله‌عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

٣ ـ إجماع أهل الحل والعقد.

ثانيا ـ الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب (١). وفي إخبار الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه في الأرض تعليم لعباده المشاورة في أمورهم. وقول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ليس على وجه الاعتراض أو الحسد لبني آدم ، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف الحكمة في ذلك.

ثالثا ـ استدل الأشعري والجبائي والكعبي بآية (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) على أن اللغات كلها توقيفية ، بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني (٢).

رابعا ـ آية تعليم آدم الأجناس التي خلقها الله ، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها ، إما في آن واحد أو آنات متعددة ، هذه الآية دالة على فضل العلم ، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه‌السلام ، إلا بأن أظهر علمه ، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم ، لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء ، لا بالعلم (٣).

وكانت الحكمة في التعليم والعرض على الملائكة تشريف آدم واصطفاءه ، كيلا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم ، وإظهار الأسرار والعلوم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢ / ١٦٦

(٢) تفسير الرازي : ١ / ١٧٥

(٣) المصدر السابق : ١ / ١٧٨

١٣٠

المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده (١).

خامسا ـ أرشدت آية (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إلى أن الدعاوي لا يؤبه بها إلا بإثباتها بالدليل ، وأن المدّعي لشيء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى.

سادسا ـ في قوله : «هؤلاء» إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها الحس ، كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.

سابعا ـ دل قول الملائكة : (قالُوا : سُبْحانَكَ) الآية ، على قصور علم المخلوقات أمام علم الخالق ، وأن فعل الخالق لا يخلو من الحكمة والفائدة ، وأن علم الملائكة محدود لا يتناول جميع الأشياء. والواجب على من سئل عن علم لم يعرفه أن يقول : الله أعلم لا أدري ، اقتداء بالملائكة والأنبياء وفضلاء العلماء.

ثامنا ـ في آيات إخبار آدم بأسماء المسميات دلالة واضحة على شرف الإنسان وتفضيله على غيره من المخلوقات ، وعلى فضل العلم على العبادة ، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم ، ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة ، وعلى أن شرط الخلافة العلم ، وعلى أفضلية آدم على الملائكة.

تاسعا ـ إن استخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء من الأرض لا يحقق حكمة استخلاف البشر في التعرف على أسرار الكون ، وعمارة الأرض ، واستخراج ما فيها من خيرات وزروع ومعادن ، ولا يؤدي إلى تقدم العلوم والفنون التي شهدنا تفوقها في القرن العشرين.

__________________

(١) تفسير المراغي : ١ / ٨٣

١٣١

التكريم الإلهي السامي لآدم بسجود الملائكة له

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

الإعراب :

«آدم» ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل عند الجمهور ، لأنه كان جنيا واحدا بين ألوف الملائكة مغمورا بهم ، فغلبوا عليه في قوله : (فَسَجَدُوا) ثم استثني منهم استثناء واحد. ويجوز أن يجعل استثناء منقطعا لأنه لم يكن من الملائكة.

البلاغة :

(وَإِذْ قُلْنا) للتعظيم بصيغة الجمع ، وهي معطوفة على قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم لإظهار المهابة والجلالة. (فَسَجَدُوا) فيه إيجاز بالحذف أي فسجدوا له. ومثله (أَبى) مفعوله محذوف أي أبى السجود.

المفردات اللغوية :

(اسْجُدُوا) السجود في اللغة : الخضوع والانحناء لمن يسجد له ، وفي الشرع : وضع الجبهة على الأرض. والسجود لله تعالى على سبيل العبادة ، ولغيره على وجه التكريم والتحية ، كما سجدت الملائكة لآدم ، وأبو يوسف وإخوته له ، فكان تحية للملوك قديما ، ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه. (إِبْلِيسَ) الشيطان أبو الجن ، كان بين الملائكة. قال تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِّ ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف ١٨ / ٥٠]. (أَبى) امتنع من السجود. (وَاسْتَكْبَرَ) تكبر عنه ، وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف ٧ / ١٢]. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) في علم الله ، من جنس كفرة الجن وشياطينهم ، فلذلك أبى واستكبر.

المناسبة :

هذا نوع آخر من تكريم الله لأبينا آدم أبي البشر ، حيث أمر الملائكة

١٣٢

بالسجود له ، كما أنه خصه بالخلافة في الأرض ، وعلمه أسماء الأشياء والأجناس واللغات ، مما يدل على تكريم النوع الإنساني بتكريم الأصل أو الأب.

التفسير والبيان :

واذكر أيضا يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة الأطهار : اسجدوا لآدم سجود خضوع وتحية وتعظيم ، لا سجود عبادة وتأليه ، كما يفعل الكفار مع أصنامهم ، فسجد الملائكة جميعا له غير إبليس ، فإنه امتنع من السجود واستكبر عنه ، قائلا : أأسجد له ، وأنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين ، فصار بإبائه واستكباره وتعاليه وغروره من الكافرين ، فاستحق اللعنة إلى يوم الدين ، لعصيانه أمر ربه ، ورفضه السجود لآدم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تتجلى العبرة من هذه القصة بأن آدم وذريته لا يليق بهم عصيان أوامر الله ، وإنما يجب عليهم عبادته وحده ، دون تلكؤ ولا تقصير ، لأنّ الله سبحانه كرم ابن آدم في قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء ١٧ / ٧٠] وجعل آدم خليفة في الأرض ، وعلمه ما لم يكن يعلم : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وقال الطبري : إن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم ، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه‌السلام مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم (١).

والملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بالناس لا نعرف حقيقته ، بل نؤمن بما ورد فيه ، دون بحث عن الكيفية والحال والمآل.

والسجود نوعان : سجود عبادة وتأليه وهو لله وحده ، وله مظهران : إما وضع الجبهة على الأرض وهو المعتاد في الصلاة ، وإما الانقياد والخضوع لمقتضى

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ١٨٠ وما بعدها.

١٣٣

إرادته ، كما قال : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن ٥٥ / ٦] وقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد ١٣ / ١٥]. وهذا بمظهريه لا يكون لغير الله إطلاقا.

والنوع الثاني : سجود تحية وتكريم من غير تأليه ، كسجود الملائكة لآدم ، وسجود يعقوب وأولاده ليوسف. وهذا في رأي أكثر العلماء كان مباحا إلى عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل : نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد ، فقال لهم : «لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين» ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السجود للبشر ، وأمر بالمصافحة ، في حديث رواه ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحة عن أبي واقد عن معاذ بن جبل رضي‌الله‌عنه (١).

والخلاصة : اتفقت الأمة على أن السجود لآدم لم يكن سجود عبادة ولا تعظيم ، وإنما كان على أحد وجهين : إما الانحناء والتحية وإما اتخاذه قبلة كالاتجاه للكعبة وبيت المقدس وهو الأقوى في رأي ابن العربي ، لقوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٢).

وأما حقيقة إبليس : فللعلماء فيها رأيان :

الأول : أنه من الجن ، والجن سبط من الملائكة ، خلقوا من نار ، وإبليس منهم. ودليله واضح من قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف ١٨ / ٥٠].

والثاني ـ أنه كان من الملائكة : لأن خطاب السجود كان للملائكة ، ولأن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٩٣

(٢) أحكام القرآن : ١ / ١٦

١٣٤

الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم ، قال ابن عباس : كان إبليس من الملائكة ، فلما عصى الله ، غضب عليه ، فلعنه ، فصار شيطانا (١). قال البغوي : وهو الأصح ، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة. وقوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة. وقال قوم : من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة (٢).

والراجح لدي هو القول الأول لصريح آية (كانَ مِنَ الْجِنِ) ولأن إبليس قد عصى أمر ربه ، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.

ويستدل من قصة الإباء عن السجود أن الامتناع عن تنفيذ أوامر الله والاستكبار والغرور مسبب للكفر ، لأنه لما كره إبليس السجود في حقه ، واستعظمه في حق آدم ، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته ، فصار من الكافرين.

واختلف ، هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل : لا ، وإن إبليس أول من كفر ، وقيل : كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا : هل كفر إبليس جهلا أو عنادا؟ على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال : إنه كفر جهلا قال : إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال : كفر عنادا قال : كفر ومعه علمه (٣).

واستنبط علماء المالكية من هذه القصة ومن علم الله بكفر إبليس سابقا : أن من أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات ، ليس

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٩٤

(٢) معالم التنزيل بهامش تفسير البغوي : ١ / ٤١

(٣) تفسير القرطبي : ١ / ٢٩٨

١٣٥

ذلك دالا على ولايته ، لأن العلم بأن الواحد منا وليّ لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا ، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا ، لم يمكنّا أن نقطع أنه ولي الله تعالى ، لأن الولي لله تعالى : من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان (١).

آدم وحواء في الجنة وموقف الشيطان منهما

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

الإعراب :

(أَنْتَ) تأكيد للضمير المستتر ليعطف عليه. (رَغَداً) منصوب لأنه صفة مصدر محذوف ، تقديره أكلا رغدا ، أو منصوب على الحال. (فَتَكُونا) حذفت النون إما للنصب بتقدير «أن» لأنه جواب النهي ، أو يكون حذفها للجزم بالعطف على (وَلا تَقْرَبا).

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) آدم : فاعل ، وكلمات : مفعول به.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في (اهْبِطُوا)

__________________

(١) المصدر السابق : ١ / ٢٩٧

١٣٦

على تقدير حذف الواو ، أي قلنا : اهبطوا وبعضكم لبعض عدو. ويجوز أن تكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

(فَإِمَّا ..) أصلها «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» للتأكيد ، وتسمى المسلّطة ، لأنها سلطت نون التوكيد على الفعل بعدها. (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) من : شرطية مبنية لأنها تضمنت معنى الشرط ، في محل رفع مبتدأ ، و (تَبِعَ) خبره ، وهو في موضع جزم «بمن» الشرطية. و (هُدايَ) مفعول به. وكرر قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا) للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). والأمر بالهبوط من الجنة إلى الأرض موجه لآدم وحواء ، والمراد هما وذريتهما ، لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم.

(هُمْ فِيها خالِدُونَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من «أصحاب أو النار» لعود الضميرين إليهما. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يكون حالا من النار ، لأن الحال لا تقع حالا من المضاف إليه ، وأجازه الآخرون ، لأن لام الملك مقدرة مع المضاف إليه.

البلاغة :

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي الأكل من ثمارها ، فيه تعليق النهي بالقرب منها لقصد المبالغة في النهي عن الأكل.

(مِمَّا كانا فِيهِ) إبهام يفيد كثرة الخيرات التي لا توصف في الجنة.

(التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) من صيغ المبالغة ، أي قابل التوبة بكثرة ، واسع الرحمة.

المفردات اللغوية :

(رَغَداً) أكلا واسعا طيبا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر عليه. (هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي بالأكل منها ، وهي الحنطة أو الكروم أو غيرهما (فَتَكُونا) فتصيرا (مِنَ الظَّالِمِينَ) العاصين.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) أوقعهما في المخالفة من الزلة وهي السقوط (اهْبِطُوا) انزلوا (مُسْتَقَرٌّ) موضع استقرار. (وَمَتاعٌ) ما يتمتع به من أنواع الطعام والشراب واللباس ونحوها.

(فَتَلَقَّى) أخذ وقبل وألهم (فَتابَ) التوبة : الرجوع ، فإذا عدّيت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية ، وإذا عديت بعلى ، كان معناها قبول التوبة.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) آمن بي وعمل بطاعتي (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.

١٣٧

(بِآياتِنا) كتبنا. (أَصْحابُ النَّارِ) أهلها. (خالِدُونَ) ملازمون لها ، ماكثون فيها أبدا ، لا يفنون ولا يخرجون منها.

المناسبة :

تستمر الآيات في بيان أنواع التكريم الإلهي للإنسان ، وهذا التكريم هنا هو المقام في الجنة في بدء الخليقة ، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية إقامته في الأرض ، وتكليفه القيام برسالة مهمة هي تعمير الكون ، وإظهار مزية الإنسان في مجاهدة الشيطان وأهوائه.

وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقي من الإنكار ، ليعلم أن المعصية من شأن البشر ، وأنهم إذا كلفوا بشيء بالرغم من تكريمهم غاية الإكرام قد لا يمتثلون.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد لقومك أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها حيث شاءا ، والأكل منهما أكلا هنيئا لا عناء فيه ، أو واسعا لا حد له ، ونهاهما عن الأكل من شجرة معينة ، فالأكل منها ظلم لأنفسهما ، ولكن الشيطان عدوهما أزلهما عنها ، فأخرجهما من ذلك النعيم ، بعد أن أغواهما بالأكل من الشجرة. أو أبعدهما وحوّلهما من الجنة ، قائلا : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ، وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف ٧ / ٢٠ ـ ٢١] فتغلبت عليهما وساوس الشيطان ، وخرجا من الجنة إلى الأرض ، وشقاء الدنيا ، وقد نشأت العداوة بين البشر والشيطان ، فإبليس عدو لآدم وزوجه حواء ولذريتهما ، والبشر أعداء له ، فاحذروا إغواءه : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر ٣٥ / ٦] فألهم الله آدم كلمات ، فعمل بها هو وزوجته وتابا توبة

١٣٨

خالصة ، والكلمات هي قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف ٧ / ٢٣] وتقبل الله التوبة ، لأنه كثير القبول للتوبة ، واسع الرحمة بالعباد ، وأصبح الناس في الأرض صنفين : صنف المؤمنين بالله العاملين بطاعته ، فهؤلاء آمنون في جنان الله في الآخرة ، وصنف الكافرين المكذبين بما أنزل الله في كتبه ، والجاحدين لرسالات الأنبياء ، فهؤلاء مخلدون في نار جهنم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تثير هذه الآيات مشكلات عديدة هي ما يأتي :

أولا ـ زوجة آدم في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) : أثار المفسرون كيفية خلق حواء ، فقالوا : إنها خلقت من ضلع آدم ، أخذا بظاهر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء ٤ / ١] وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ، لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [الأعراف ٧ / ١٨٩] ، وعملا بحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن خلقن من ضلع أعوج» وفي رواية لمسلم : «إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، لن تستقيم لك على طريقة واحدة ، فإن استمتعت بها ، استمتعت بها ، وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها» قال العلماء : ولهذا كانت المرأة عوجاء ، لأنها خلقت من أعوج ، وهو الضلع (١).

وأجيب عن الآيتين (٢) : بأن كثيرا من المفسرين كالرازي قالوا : إن المراد بقوله «منها» أي من جنسها ، ليوافق قوله في سورة [الروم ٣٠ / ٢١] :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٣٠١

(٢) تفسير المراغي : ١ / ٩٣

١٣٩

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) والمراد أنه خلق أزواجا من جنسكم ، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.

وأما الحديث فجاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها ، باعوجاج الضلوع ، فهو على حدّ قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء ٢١ / ٣٧].

هذا وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة. ونقل عن السدي : إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة.

ثانيا ـ الجنة : وهي في اللغة البستان. اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها آدم ، هي في السماء أم في الأرض (١)؟ قال الأكثرون : إنها التي في السماء ، وهي دار الخلد والثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لسبق ذكرها في السورة.

وقالت المعتزلة والقدرية : إنها جنة في الأرض غير جنة الخلد ، خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه‌السلام ، في أرض عدن ، أو بفلسطين ، أو بين فارس وكرمان. وهو رأي أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي ومذهب السلف. ودليلهم أنها لو كانت جنة الخلد ، لما وصل إليها إبليس ، فإن الله يقول : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الطور ٥٢ / ٢٣] ، وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) [النبأ ٧٨ / ٣٥] ، وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦] ، وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر ١٥ / ٤٨] ، وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس ، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها ، قد لغا فيها إبليس وكذب ، وأخرج منها آدم وحواء

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٣٠٢ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٧٨ ، تفسير الألوسي : ١ / ٢٣٣ ، البداية والنهاية لابن كثير : ١ / ٧٥ وما بعدها.

١٤٠