التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

اختبار إبراهيم عليه‌السلام

وخصائص البيت الحرام وفضائل مكة

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

الإعراب :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) فيه تقديم المفعول على الفاعل ، وهو واجب ، لاتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول.

(مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل منصوب من (أَهْلَهُ) بدل بعض من كل ، وضمير (مِنْهُمْ) يعود إلى المبدل منه ، لأن بدل البعض من الكل ، لا بد أن يعود منه ضمير إلى المبدل منه لفظا أو تقديرا.

(وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) : (مِنَ) إما منصوب بفعل مقدر تقديره : وأرزق من كفر ، وإما مرفوع مبتدأ ، وهي شرط ، و (فَأُمَتِّعُهُ) الخبر والجواب. و (قَلِيلاً) منصوب إما لأنه صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : تمتيعا قليلا ، أو لأنه صفة لظرف محذوف ، وتقديره : زمانا قليلا.

البلاغة :

(ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) تشريف له ، بتكليفه الأوامر والنواهي التي يظهر بها استحقاقه للإمامة.

٣٠١

(وَأَمْناً) فيه استعمال المصدر محل اسم الفاعل للمبالغة ، وتقديره : وآمنا.

و (طَهِّرا بَيْتِيَ) إضافة البيت لله عزوجل للتشريف والتعظيم ، لا أن هناك مكانا محل الله تعالى.

المفردات اللغوية :

(ابْتَلى إِبْراهِيمَ) اختبره ، والابتلاء : الاختبار ، أي معرفة حال المختبر بتكليفه بأمور يشق عليه فعلها أو تركها ، ليجازيه عليها. (بِكَلِماتٍ) أي أوامر ونواه ، قيل : هي مناسك الحج ، وقيل خصال الفطرة : وهي المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الشعر وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء. (فَأَتَمَّهُنَ) أداهن تامات. (إِماماً) قدوة في الدين أو رسولا. (ذُرِّيَّتِي) أولادي ، أي اجعل أئمة منهم. (عَهْدِي) بالإمامة. (الظَّالِمِينَ) الكافرين منهم ، دل على أنه ينال غير الظالم.

(الْبَيْتَ) بيت الله الحرام أو الكعبة. (مَثابَةً) مرجعا ومآبا يثوبون إليه من كل جانب. (وَأَمْناً) مأمنا من الظلم والإغارة الواقعة في غيره ، كان الرجل يلقى قاتل أبيه ، فلا يتعرض له (مَقامِ إِبْراهِيمَ) هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت. (مُصَلًّى) مكان صلاة ، بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف.

(طَهِّرا بَيْتِيَ) من الأوثان. (الْعاكِفِينَ) المقيمين فيه ، الملازمين له. و (الثَّمَراتِ) المأكولات التي تخرجها الأرض. والاضطرار : الإلجاء والحمل على الشيء أو الإكراه.

سبب نزول الآية (١٢٥):

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) : روى البخاري وغيره عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو أخذت من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب ، واجتمع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نساؤه في الغيرة ، فقلت لهن : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [التحريم ٦٦ / ٥] فنزلت.

٣٠٢

المناسبة العامة للآيات :

بعد أن ذكّر الله تعالى بني إسرائيل نعمه ، وأبان كيف قابلوا النعم بالكفر والجحود ، أعقب ذلك بقصة إبراهيم عليه‌السلام أبي الأنبياء ، الذي يزعم اليهود والنصارى انتماءهم إليه ، ولو صدقوا لا تبعوا النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أثر دعوة أبيه إبراهيم حين دعا لأهل الحرم ، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد لقومك المشركين وغيرهم حين اختبر الله إبراهيم ببعض التكاليف من أوامر ونواه ، فأتى بها على وجه الكمال ، وأداها خير أداء ، كما قال سبحانه : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم ٥٣ / ٣٧]. وبما أن الله تعالى عالم بصدق المختبر ، فكان المراد أنه عامله معاملة المختبر ، ليظهر ذلك للخلق.

والمراد من ذكر الوقت في قوله (وَإِذِ ابْتَلى) ما وقع فيه من الحوادث. ولم يعين القرآن الكلمات ، فقيل : هي مناسك الحج ، وقيل : إنها الكوكب والشمس والقمر التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله تعالى ، وقيل : غير ذلك.

فجازاه الله تعالى أحسن الجزاء ، وقال له : إني جاعلك للناس رسولا وإماما تؤمهم في دينهم ، ويأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون ، فدعا الناس إلى ملة التوحيد ونبذ الشرك.

قال إبراهيم : وجاعل بعض ذريتي كذلك؟ متمنيا لذريته الخير في سلوكهم ودينهم وأخلاقهم ، ولا غرو فالإنسان يتمنى أن يكون ابنه أحسن منه.

فأجابه الله تعالى : أجبتك إلى طلبك ، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس ، ولكن لا ينال عهدي بالإمامة أو النبوة الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس ، لأن الإمام قدوة للناس في حراسة الدين

٣٠٣

وأهله وحمل الأتباع على الاستقامة ، ومنع الجور ، فإذا كان الإمام ظالما لنفسه بالانحراف ، فكيف يقوّم غيره؟ والمراد بالعهد : النبوة أو الإمامة.

وفيه دليل على مقت الظلم ، والتنفير من الظالمين ، والبعد عنهم.

ثم ذكرّ الله تعالى العرب في هذه الآيات بنعم كثيرة ، منها : جعل البيت الحرام (الكعبة) مرجعا للناس يقصدونه ، ومآبا يثوبون إليه للعبادة وقت الحج وغيره ، وفي ذلك تنشيط لحركة التجارة والاقتصاد وجلب الخير ، ومنها جعله مأمنا يطمئن إليه الأفراد من المخاوف ، فمن دخله كان آمنا ، ويتخطف الناس من حوله ، كما قال سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ ، وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ؟) [العنكبوت ٢٩ / ٦٧].

ثم أمر الله المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى ، بأن يفضلوه على غيره في الصلاة ، لشرفه بقيام إبراهيم فيه ، فالأمر فيه للندب ، لا للوجوب ، والمسلمون مأمورون بذلك كما أمر به المؤمنون المعاصرون لإبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وهذا البيت طاهر مطهر ، وصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان وعبادة الأصنام التي كان عليها المشركون قبل أن يصير في يد إبراهيم عليه‌السلام ، وتطهيره من كل رجس حسي أو دنس معنوي كاللغو والرفث والتنازع فيه ، حين أداء المناسك والعبادات كالطواف والسعي بين الصفا والمروة ، والإقامة فيه ، والركوع والسجود ، وقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه لما فتح مكة ، دخل المسجد ، فوجدهم قد نصبوا على البيت الأوثان ، فأمر بكسرها ، وجعل يطعن فيها بعود في يده ، ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء ١٧ / ٨١].

وفيه أن إبراهيم ومن بعده كانوا مأمورين بهذه العبادات ، وإن لم تعرف

٣٠٤

الكيفية وطريقة الأداء. وسمي بيتا ، لأن الله جعله معبدا لأداء العبادة الصحيحة ، وأمر المصلين أن يتجهوا إليه في عبادتهم.

والحكمة في اتخاذ الكعبة مقرا لاتجاه المصلين : هو توحيد المشاعر والعواطف ، وحصر الاتجاه إلى الذات الإلهية المقدسة ، رمزا إلى حضوره تعالى ، والحضور الحقيقي محال عليه ، فكان المراد أن رحمته الإلهية تحضره. ومن ثم كان التوجه إلى الكعبة كالتوجه إلى تلك الذات العلية.

ومن نعمه تعالى على العرب التي أمر الله نبيه أن يذكّرهم بها : دعاء إبراهيم عليه‌السلام : أن يجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة ، فلا يتسلط عليه الجبارون ، ولا يعكر صفوه المجرمون الآثمون ، ويحميه سبحانه وتعالى من الخسف والزلزال والغرق والهدم ونحو ذلك من مظاهر سخط الله على بلاد أخرى.

ودعاؤه أن يرزق أهله من أنواع الثمار وأطيبها ، ومن خيرات الأرض وبركاتها وأمنها ، إما بالزرع بالقرب منه ، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة ، وقد حصل كل ذلك ، كما هو مشاهد ، وكما قال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [القصص ٢٨ / ٥٧].

وفي إجابة دعاء إبراهيم تكريم للمؤمنين ، وإن كانت رحمة الله شاملة للمؤمنين والكافرين ، فيرزق الله الجميع ، كما قال تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٠] لكن تمتيع الكافر بنعم الدنيا قصير محدود ، ثم إلى النار ، فمن كفر يرزقه الله أيضا ، ويمتعه بهذا الرزق أمدا قليلا ، وهو مدة وجوده في الدنيا ، ثم يساق إلى عذاب جهنم سوقا اضطراريا ، وبئس المصير مصيرهم الذي ينتظرهم.

وفيه ترغيب لعرب قريش بالإيمان ، وزجر عن الكفر ، وترهيب لهم

٣٠٥

ولأهل الكتاب من الإعراض عن دعوة الإسلام ، فالله تعالى خص طلب الرزق للمؤمنين ، إشارة إلى جدارتهم واستحقاقهم له.

فقه الحياة أو الأحكام :

النبوة أو الإمامة في الدين الصالحة الدائمة الأثر تتطلب الاستقامة على أوامر الله واجتناب نواهيه ، والإمامة المؤقتة القائمة على الانحراف والظلم تحفر لنفسها قبرها بيدها ، وتدمر كيانها ، وتقوض عرش وجودها. فالظلم مانع من الإمامة ومن اتخاذ الظالم قدوة للناس. ولا تكون الإمامة الصالحة أو النبوة إلا للأفاضل الذين يعملون الصالحات ، ويرشدون إلى الخير ، ويزجرون أنفسهم وغيرهم عن الشر والآثام ، ولا حظّ للظالمين في شيء من هذا ، لأن الظلم مؤذن بخراب المدنيات ، وتدمير الحضارة والعمران.

واستدل جماعة بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل ، مع القوة على القيام بذلك. فأما أهل الفسوق والجور والظلم ، فليسوا له بأهل ، لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

والذي عليه أكثر العلماء : أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء ، وشن الغارات على المسلمين ، والفساد في الأرض.

وإن تعظيم البيت الحرام بالطواف حوله والسعي فيه أمر قديم من عهد أبينا إبراهيمعليه‌السلام ، وتخصيصه بالاتجاه إليه رمز لوجوده تعالى هناك ، مع أن ذاته العلية لا تتحدد بمكان ، وحضوره تعالى معناه حضور رحمته ، وإفاضة فضله ، وإسباغ نعمه ، وإجابة الدعاء فيه.

والجدير بالرزق الإلهي : من آمن بالله واليوم الآخر ، وأطاع ربه ، واستقام على أوامر الله ، واجتنب ما نهى الله عنه.

٣٠٦

والإنسان مخير في اختيار الحق والطيّب والتزام جادة الاستقامة ، وترك الباطل والخبيث ، بما أعطاه الله من العقل ، وبما أرشده به من الوحي ، فمن حاد عن ذلك ، فقد ظلم نفسه ، وعرّضها للعذاب والشقاء ، ويكون ذلك سببا لحملة على العذاب ، وإلجائه إليه ، وصب السخط عليه والانتقام منه.

وأما الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم : فهي الوظائف التي كلفه بها ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما يسمى عيسى بالكلمة ، لأنه صدر عن الكلمة ، وهي كن ، وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز.

واختلف العلماء في بيان المراد من الكلمات على أقوال ، منها ما يأتي :

أحدها ـ أنها شرائع الإسلام ، وقد أكملها إبراهيم عليه‌السلام ، فما قام أحد بوظائف الدين مثله ، ثم قام بها بعده كثير من الأنبياء عليهم‌السلام ، وخصوصا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحدا بهن ، فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه‌السلام ، ابتلي بالإسلام ، فأتمه ، فكتب الله له البراءة ، فقال : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم ٥٣ / ٣٧].

الثاني ـ أنها الفطرة التي أقامها الله تعالى فيه. روت عائشة في الصحيح عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللّحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم (غسل عقد ظهور الأصابع لاجتماع الوسخ فيها) ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وانتقاص الماء أي الاغتراف منه ، ونسيت العاشرة ، إلا أن تكون المضمضة».

الثالث ـ أنها الكوكب والشمس والقمر ، التي رآها واستدل بأفولها على وجود الله تعالى ووحدانيته. وهذا القول هو الذي فسر به ابن كثير (الكلمات) ثم أورد قول ابن جرير الطبري وحاصله : أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه أنه المراد على

٣٠٧

التعيين إلا بحديث أو إجماع. ثم قال : ولم يصح في ذلك خبر ، بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.

الرابع ـ قال ابن عباس : «الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ، ومحاجة نمرود في الله ، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه ، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم ، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمر بذبحه» ويظهر أن هذا أصح الأقوال.

واختلف العلماء أيضا في تفسير الأمن على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه أمن من عذاب الله تعالى ، والمعنى أن من دخله معظّما له ، وقصده محتسبا الأجر ، سلم من العذاب ، ويعضده قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «من حج فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

الثاني ـ معناه : من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام ، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه ، من تركها لحق يكون لها عليه.

الثالث ـ أنه أمن من حد يقام عليه ، فلا يقتل به الكافر ، ولا يقتص فيه من القاتل ، ولا يقام الحد على المحصن والسارق ، قاله أبو حنيفة وغيره.

الرابع ـ أنه أمن من القتال ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، ولم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».

قال ابن العربي : والصحيح فيه القول الثاني ، وهذا إخبار من الله تعالى عن منّته على عباده ، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت ، وتأمين من لجأ إليه ، إجابة لدعوة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين أنزل به أهله وولده ، فتوقع عليهم الاستطالة ، أي الاعتداء ، فدعا أن يكون أمنا لهم ، فاستجيب دعاؤه (١).

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٣٨ ـ ٣٩

٣٠٨

والصحيح من اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى معناه : موضعا للصلاة المعهودة ، كما بان في سبب نزول الآية السابق ذكره عن عمر رضي‌الله‌عنه ، واتضح منه أربعة أمور : وهي أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية ، وأن المراد به الصلاة المتضمنة للركوع والسجود ، لا مطلق الدعاء ، وأن الصلاة عقب الطواف ، وأن ركعتي الطواف مطلوبتان ، وهما عند المالكية : واجبتان ، فمن تركهما ، فعليه دم.

وقال الجصاص الحنفي عن قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) هو أمر ظاهره الإيجاب ، والمراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف ، وقد روي أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلاهما عند البيت. فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف ، ودل فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لها تارة عند المقام ، وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب.

ويفهم من قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عدم جواز تولية الظالم ، أو الفاسق ، ولا فرق بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة ، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما ، كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النّبي عليه‌السلام.

قال ابن خويز منداد : وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ، ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام ، غير أنه لا يعزل بفسقه ، حتى يعزله أهل الحل والعقد.

وقال أيضا : وأما أخذ الأرزاق (المخصصات المالية) من الأئمة الظلمة فله ثلاث أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه ، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا

٣٠٩

حلالا وظلما ، فالورع تركه ، ويجوز للمحتاج. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم (١).

وقال الجصاص : دل قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على أن الإجابة وقعت له في أن ذرية إبراهيم أئمة.

واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى : (وَأَمْناً) على ترك إقامة الحد في الحرم على الزاني المحصن والسارق إذا لجأ إليه ، وعضدوا ذلك بقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران ٣ / ٩٧]. والصحيح ـ كما قال القرطبي ـ إقامة الحدود في الحرم ، وأن ترك إقامتها من المنسوخ ؛ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ، ويقتل خارج البيت.

وآية : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) استدل بها أبو حنيفة والشافعي والثوري على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت الحرام ، قال الشافعي رحمه‌الله : إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها ، فصلاته جائزة ، وإن صلى نحو الباب ، والباب مفتوح ، فصلاته باطلة ، وكذلك من صلى على ظهرها ، لأنه لم يستقبل منها شيئا.

وقال مالك : لا يصلي في البيت الفرض ولا السّنن ، ويصلي فيه التطوع (غير الرواتب) ، غير أنه إن صلى فيه الفرض ، أعاد في الوقت ، ودليله : ما رواه مسلم عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل البيت ، دعا في نواحيه كلها ، ولم يصلّ فيه حتى خرج منه ، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين.

والحاصل : لا خلاف في صحة التطوع في الكعبة ، وأما الفرض فلا يصح عند المالكية ، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة ٢ / ١٥٠].

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ١٠٩ وما بعدها.

٣١٠

وأما الصلاة على ظهر الكعبة ، فأجازها الشافعي ، وقال مالك : من صلى على ظهر الكعبة ، أعاد في الوقت. وقال أبو حنيفة : من صلى على ظهر الكعبة ، أعاد في الوقت. وقال أحمد : من صلى على ظهر الكعبة ، فلا شيء عليه.

وهل الصلاة عند البيت أفضل أو الطواف به؟ اختلفوا ، فقال مالك : الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل. والجمهور على أن الصلاة أفضل.

بناء البيت الحرام ودعاء إبراهيم وإسماعيل

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

الإعراب :

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان : ربنا تقبل منا ، فحذف «يقولان» وحذف القول كثير في كتاب الله وكلام العرب.

البلاغة :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) عبر بالمضارع عن الماضي ، لاستحضار الصورة الماضية وكأنها مشاهدة بالعصيان ، فكأن السامع ينظر ويرى إلى البنيان وهو يرتفع ، وإلى البنّاء وهو إبراهيم وإسماعيل

٣١١

عليهما‌السلام.

(التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) من صيغ المبالغة ، على وزن فعّال وفعيل.

المفردات اللغوية :

(الْقَواعِدَ) واحدها قاعدة ، وهي ما يقوم عليه البناء من الأساس أو من طبقات البناء ، فالقواعد : هي الأسس أو الجدران. ورفعها : إعلاء البناء عليها. وتقبّل الله العمل : قبله ورضي به.

(مُسْلِمَيْنِ) منقادين لك (أُمَّةً) جماعة (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) أي اجعل من أولادنا ، ومن للتبعيض ، وأتى به لتقدم قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، (مَناسِكَنا) شرائع عبادتنا أو حجنا ، واحدها منسك ـ بفتح السين ، من النسك : وهو غاية الخضوع والعبادة ، وشاع استعماله في عبادة الحج خاصة ، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله لما فيها من الكلفة والبعد عن العادة. (وَتُبْ عَلَيْنا) سألاه التوبة ، مع عصمتهما تواضعا وتعليما لذريتهما. وتاب العبد إلى ربه : إذا رجع إليه ، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه ، وتاب الله على العبد : رحمه وعطف عليه.

(وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي أهل البيت (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم ، وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهر نفوسهم من دنس الشرك وأنواع المعاصي (الْعَزِيزُ) الغالب (الْحَكِيمُ) أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

المناسبة :

بعد أن ذكّر الله تعالى العرب بما أنعم عليهم من فضائل البيت الحرام ، أردف ذلك بتذكيرهم بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم مع ابنه إسماعيل ، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل ، وتدعي أنها على ملة إبراهيم ، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.

٣١٢

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد لقومك وقت أن بنى إبراهيم وابنه إسماعيل قواعد البيت وأساسه ، والفضيلة في كون البنّاءين نبيين ، وفي تخصيصه للعبادة وسط بلاد وثنية ، لا في أفضلية أحجاره ولا موقعه ولا بأنه نزل من السماء. وجعل التوجه إليه توجها إلى الله الذي لا يحده مكان ولا تحصره جهة ، وعدّ استلام الحجر الأسود تعبديا كاستقبال الكعبة في الصلاة ، فلا مزية له في ذاته ، بل هو كسائر الأحجار بدليل قول عمر بن الخطاب عند استلامه : «أما والله ، إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبّلك ما قبّلتك ، ثم دنا فقبّله» (١).

وفي أثناء إقامة البناء يدعو إبراهيم وإسماعيل قائلين : ربنا إنك أنت السميع لدعائنا ، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا ، ربنا واجعلنا منقادين لك ، ومخلصين في الاعتقاد فلا نتوجه إلا إليك ، ولا نستعين بأحد إلا بك ، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك. ربنا واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك ، منقادة لأوامرك ، ليستمر الإسلام دائما في الأجيال. ربنا بصّرنا وعرفنا أمور عبادتنا ومواضع نسكنا ، أي أعمال الحج ، كمواقيت الإحرام ، وموضع الوقوف بعرفة ، وموضع الطواف والسعي ، واقبل توبتنا ، إنك أنت التواب الرحيم ، أي كثير التوبة على عبادك بقبولها منهم ، الرحيم بالتائبين لإنجائهم من العذاب.

وهذا منهما إرشاد لذريتهم ، وطلب للتثبت والدوام على الطاعة ، لا أنهما كان لهما ذنب ، لأن الأنبياء معصومون ، وليبينوا للناس بعد معرفة المناسك وبناء البيت أن ذلك الموقف وتلك المواضع ، مكان التطهر من الذنوب وطلب التوبة.

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم.

٣١٣

ربنا وأرسل في الأمة المسلمة رسولا منهم ، ليكون أشفق عليهم ، ويكونوا أعزّ الناس به ، وأقرب لإجابة دعوته ، وقد عرفوه معرفة تامة ، ولمسوا منه الصدق والأمانة والعفة والاستقامة ، ونحو ذلك ، يقرأ عليهم آيات دينك المشتملة على إثبات وحدانية الله ، وعلى الإقناع بالبعث والجزاء ، ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها ، وما تكمل به نفوسهم من العلوم والمعارف ، ويطهرهم من دنس الشرك والوثنية وأنواع المعاصي ، ويعملهم صالح الأخلاق ، إنك أنت القوي الذي لا يغلب ، الحكيم في كل صنع ، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، قال مالك : والحكمة : المعرفة بالدين ، والفقه بالتأويل ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

في هذه الأدعية تعليم لنا أن نطلب في ختام أعمالنا قبولها ، وأن ندعو بصلاح أنفسنا وذريتنا ليستمر الإسلام في كل زمان ، ويظهر الانقياد والخضوع لخالق السماء والأرض ، والله تعالى جعل المناسك ومواقف الحج أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله ، والله كريم رحيم. وقد أجاب الله دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل ، فأرسل خاتم النبيين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا من العرب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى أخي عيسى ، ورؤيا أمي» ، وأكرم الله أمة العرب ، فجعلها بالإسلام خير الأمم ، وكان لها السيادة والمجد والسلطة في المشارق والمغارب ، حينا من الزمان ، وكان منها ومن المسلمين غير العرب رجال هم مفخرة التاريخ في العدل والسياسة والقضاء والعلم والفكر والأدب والحضارة.

أما بناء الكعبة : فكان بالطين والحجارة ، وظل كذلك إلى أن هدمتها قريش وأعادوا بناءها ، ورفعوها عن الأرض عشرين ذراعا ، وتم وضع الحجر من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو شاب قبل البعثة ، لأنهم حكّموا أول من يطلع عليهم ، فطلع عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكّموه ، ووضع الحجر في ثوب ، ثم أمر سيد كل

٣١٤

قبيلة ، فأعطاه ناحية من الثوب ، ثم ارتقى هو ، فرفعوا إليه الحجر الأسود ، فكان هو يضعهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولم يدخلوا حجر الكعبة في البناء أي حجر إسماعيل من جهة الشمال ، لعجز النفقة لديهم ، ثم رأى النبي تجديد البناء ، لكنه كما روت عائشة رضي‌الله‌عنها قال : «لو لا حداثة عهد قومك بالكفر ، لنقضت الكعبة ، ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ، ولجعلت لها خلفا» ، يعني بابا. وفي البخاري : «لجعلت لها خلفين» يعني بابين.

ثم لما غزا أهل الشام في عهد الأمويين عبد الله بن الزبير ، ووهت الكعبة من حريقهم ، أعاد بناءها ابن الزبير ، وبناها على ما أخبرته عائشة ، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر ، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا ، فزاد في طوله عشرة أذرع ، وجعل لها بابين ، أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه ، كما روى مسلم في صحيحة.

ثم لما قتل ابن الزبير أعاد الحجاج بناء الكعبة ، ورد ما زاد فيه من الحجر إلى بنائه ، وسدّ الباب الذي فتحه ، وأعاده إلى بنائه ، بأمر الخليفة عبد الملك.

وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة ، وأن يردّه على بناء ابن الزبير ، لما جاء عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وامتثله ابن الزبير ، فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ، ألا تجعل بهذا البيت ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد منهم ، إلا نقض البيت وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس.

وأما كسوة الكعبة ، فقال العلماء : لا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء ، فإنه مهدي إليها ، ولا ينقص منها شيء.

٣١٥

سفاه من يرغب عن ملة إبراهيم

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))

الإعراب

(إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) نصب (نَفْسَهُ) إما بنزع الخافض الجار ، وتقديره : سفه في نفسه ، أو لأن (سَفِهَ) بمعنى جهل ، وهو فعل متعد بنفسه ، أو منصوب على التمييز ، وهو قول الكوفيين. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : (فِي) متعلقة بعامل مقدر ، وتقديره : وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين ، ولا يجوز أن تتعلق بالصالحين ؛ لأنه يؤدي إلى تقديم معمول الصلة على الموصول.

(وَوَصَّى بِها) الضمير يعود إلى الملة المذكورة في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).

البلاغة :

(وَمَنْ يَرْغَبُ) استفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا السفيه ، والجملة واردة لتوبيخ الكافرين. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) التأكيد ب (إن) و (الكلام) لتعلقه بأمر غيبي في الآخرة ، بخلاف حال الدنيا ، فإنه مشاهد.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ : أَسْلِمْ) التفات عن الحضور إذ السياق : (قلنا) إلى الغيبة. و (رَبُّهُ) لإظهار مزيد اللطف والاعتناء بتربيته. وجواب إبراهيم (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) دليل على قوة إسلامه ، وفيه إشارة إلى وجوب الخضوع لله تعالى ، وفيه التفات من الخطاب إلى الغائب.

٣١٦

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ يَرْغَبُ) رغب في الشيء : أحبه ، ورغب عنه : كرهه ، (سَفِهَ نَفْسَهُ) جهل أنها مخلوقة لله يجب عليها عبادته ، أو استخف بها وامتهنها أي أذلها واحتقرها. (اصْطَفَيْناهُ) اخترناه بالرسالة في ذلك الوقت.

أسلم أي انقاد لله وأخلص له العبادة والدين.

(وَوَصَّى بِها) التوصية : إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل في الدين أو الدنيا ، (فَلا تَمُوتُنَ) نهي عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى الموت.

سبب نزول الآية (١٣٠):

قال ابن عيينة : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه : سلمة ومهاجرا ، إلى الإسلام ، فقال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة ، وأبى مهاجر ، فنزلت فيه الآية.

التفسير والبيان :

بعد أن ذكر الله سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة ، أردف ذلك ببيان أن ملة إبراهيم وهي التوحيد وإسلام القلب لله ، لا يصح لأحد التحول عنها ، وبها وصى يعقوب بنيه ، ووصى بها من قبله إبراهيم.

فلا يرغب أحد عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخص أذل نفسه واستخف بها ، لأن من يترك الخير والحق والهدى ، فقد أمتهن نفسه وأذلها.

ولقد اصطفى الله إبراهيم في الدنيا ، فجعله أبا الأنبياء ، وجعله في الآخرة من المشهود لهم بالصلاح والاستقامة وإرشاد الناس للعمل بملته. وهذه بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة ووعد له بذلك.

٣١٧

اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الأدلة على وحدانية الله ، فما كان منه إلا أن بادر بالانقياد والامتثال ، وقال : أخلصت ديني لله الذي أوجد الخلق ، كما في قوله تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٧٩].

ولقد أراد إبراهيم الخير لذريته ، فأوصاهم بالملة الحنيفية ، وكذلك فعل يعقوبعليهما‌السلام ، وقالا لهم : إن الله اختار لكم هذا الدين ـ دين الإسلام ، الذي لا يتقبل الله سواه ، فاثبتوا على الإسلام لله ، ولا تفارقوه ، حتى لا تفاجأكم المنية ، وأنتم على غير الدين الحق الذي اصطفاه لكم ربكم. وفي هذا فتح باب الأمل أمام المنحرف ليعود إلى الله ويعتصم بالدين ، قبل الموت.

فانظروا أيها اليهود : هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أو لا؟

فقه الحياة أو الأحكام :

تندد هذه الآيات بكل من أعرض عن ملة إبراهيم ـ ملة التوحيد والانقياد والإخلاص لله ، وتوبخ الكافرين الذين كرهوا هذه الملة. وملة الإسلام قديمة دعا لها الأنبياء جميعا ، والإسلام في كلام العرب : الخضوع والانقياد للمسلم إليه ، وليس كل إسلام إيمانا ، لكن كل إيمان إسلام ، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله ، وليس كل من أسلم آمن بالله ، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف ، ولا يكون ذلك إيمانا ، بدليل قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ : آمَنَّا ، قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا : أَسْلَمْنا) [الحجرات ٤٩ / ١٤] فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا ، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا ، فإن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر. وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ، والإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه.

وقال القدرية والخوارج : إن الإسلام هو الإيمان ، فكل مؤمن مسلم ، وكل

٣١٨

مسلم مؤمن ، لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران ٣ / ١٩] فدل على أن الإسلام هو الدين ، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن.

ووصى بالإسلام إبراهيم ويعقوب ، لأنه الدين الحق ، وبنو إبراهيم : إسماعيل ، وأمه هاجر القبطية ، وهو أكبر ولده ، نقله إلى مكة وهو رضيع له سنتان ، وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة ، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة ، وكان سنه يوم مات أبوه إبراهيم عليهما‌السلام تسعا وثمانين سنة ، وهو الذبيح في قول مشهور. وإسحاق : أمّه سارة ، وهو الذبيح في قول آخر ، وهو الأصح في رأي القرطبي (١). ومن ولده : الروم واليونان والأرمن ونحوهم وبنو إسرائيل ، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات بالأرض المقدسة ، ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما‌السلام. ودخل يعقوب فيمن أوصى إبراهيم.

ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم ، وإنما ولد بعد موت إبراهيم ، وأوصى يعقوب بنيه كما فعل إبراهيم ، عاش يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة ، ومات بمصر ، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ، ويدفن عند أبيه إسحاق ، فحمله يوسف ودفنه عنده.

وبما أن الإسلام قديم وهو دعوة كل الأنبياء ، أوصى إبراهيم ويعقوب بالتزامه ، فقالا : الزموا الإسلام وداوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا ، فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود ، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ، ولا يدري متى ، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه ، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما.

فظاهر قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : وهو النهي عن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٥ والأصح كما سيأتي في سورة (الصافات) أن الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام.

٣١٩

الموت إلا على حالة الإسلام ، غير مراد ، وإنما المقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت ، فهو نهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف الإسلام (١).

إبطال دعوى اليهود أنهم على دين إبراهيم ويعقوب

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧))

الإعراب :

(ما تَعْبُدُونَ ما) اسم استفهام في موضع نصب ب (تَعْبُدُونَ) وتقديره : أي شيء تعبدون (مِنْ بَعْدِي) أي بعد موتي ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) في موضع جر على البدل من (آبائِكَ) ولا ينصرف للعجمة والتعريف. (إِلهاً واحِداً) إما منصوب بدل من قوله (إِلهَكَ) أو حال منه.

__________________

(١) تفسير البحر المحيط : ١ / ٣٩٩.

٣٢٠