التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

الناس. وما كان ينبغي لهؤلاء المخربين أو المعطلين أن يدخلوها إلا بخشية ومهابة وخوف من عظمة الله والدين وسطوة الإسلام والمسلمين. وقد توعدهم الله بالذل والهوان في الدنيا ، كما حل بالرومان الذين تشتت ملكهم ، وبالعذاب الشديد في الآخرة في جهنم وبئس المصير.

وإذا حيل بين المسلم وبين المساجد ، فله أن يصلي في أي مكان ، وأينما توجه المصلي فهو متجه إلى الله ، فلله جهة المشرق والمغرب أي أن ذلك له ملك وخلق ، فتجوز الصلاة إليه ، والله تعالى عنه راض ، مقبل عليه ، وهو معه ، لأن الله تعالى واسع لا يحده مكان ، ولا ينحصر ولا يتحدد بجهة ، وواسع العلم يعلم كل من اتجه إليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن تدمير المساجد أو الصد عنها جرم عظيم ، لا يرتكبه إلا من فقد الإيمان ، وعادى جوهر الدين ، واتبع الأهواء ، وحارب الأخلاق والفضائل ، ولم يقدم على تلك الجريمة في الماضي أو في العصر الحاضر ، سواء في ديار الإسلام أو غيرها إلا الملحدون المارقون من الدين ، الذين يبتغون نشر الإلحاد وتقويض دعائم الدين والإسلام.

ومن حمد الله أن دين الإسلام دين السعة واليسر ، وبلاد الله تسع المؤمنين ، فلا يمنعهم تخريب مساجد الله أن يولوا وجوههم نحو قبلة الله ، أينما كانوا في أرض الله.

وقد نزلت الآية (١١٥) ـ كما ذكر ابن جرير الطبري ـ قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة ، وفيها إبطال ما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد.

وبعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة يظل المقصود من الآية قائما ، فهي تقرر

٢٨١

أمرا اعتقاديا له صلة بالإيمان الذي يعمر به قلب المؤمن ، فأينما كان المؤمنون من شرق وغرب ، فثمّ وجه الله الذي أمرنا باستقباله ، وهو الكعبة.

والحكمة من الاتجاه إلى القبلة ، بالرغم من أن القصد هو الله الذي لا يحده مكان ، هو توحيد وجهة العابدين ، وتجميع مشاعرهم وعواطفهم في إطار هدف واحد ، ولأنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود ، وهو بهذه الطريقة محال على الله ، لأن ذاته تعالى ليست محصورة في شيء من خلقه ، شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه ، وجعل استقباله كاستقبال وجه الله تعالى.

قال ابن العربي : إن الله تعالى أمر بالصلاة عبادة ، وفرض فيها الخشوع استكمالا للعبادة ، وألزم الجوارح السكون ، واللسان الصمت إلا عن ذكر الله تعالى ، ونصب البدن إلى جهة واحدة ، ليكون ذلك أنفى للحركات ، وأبعد للخواطر ، وعينت له جهة الكعبة تشريفا له (١).

والخلاصة : هل الآية (١١٥) منسوخة؟ للعلماء رأيان (٢) :

رأي يقول : إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذنا من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة وشدة الخوف.

ورأي الجمهور : أنها منسوخة ، وفيها تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة ، وفارقوا مسجدهم ومصلاهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس ، والكعبة بين يديه. فلما قدم المدينة ، وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ، ولهذا

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٣٥

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ١٥٧ وما بعدها.

٢٨٢

يقول تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة ٢ / ١١٥].

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ : قال ابن عباس : أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا ـ والله أعلم ـ شأن القبلة ، قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ..) الآية.

فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلّى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه إلى بيته العتيق ، ونسخها ، فقال : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة ٢ / ١٥٠].

حكم الخطأ في الاتجاه لغير القبلة :

إذا صلّى الإنسان في أثناء الغيم لغير القبلة مجتهدا ، ثم بان له بعدئذ أنه صلّى لغير القبلة ، فإن صلاته جائزة عند الجمهور (أبي حنيفة ومالك وأحمد) ، لكن في رأي مالك تستحب له الإعادة في الوقت ، وليس ذلك بواجب عليه ، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر ، والكمال يستدرك في الوقت ، استدلالا بالسنة فيمن صلّى وحده ، ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة ، أنه يعيد معهم. ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرّق أو غرّب جدا مجتهدا. وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا ، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.

وقال الشافعي : لا يجزيه ، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة.

صلاة النافلة على الراحلة :

لا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة ، لما أخرجه مسلم عن ابن عمر ، قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ، وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته ، حيث كان وجهه ، قال : وفيه نزلت : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة ٢ / ١١٥].

٢٨٣

واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة (أقل من ٨٩ كم) ، فقال المالكية والثوري : لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة ، لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يتطوع فيها ، كانت مما تقصر فيه الصلاة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وداود الظاهري : يجوز التطوع على الراحلة ، خارج المصر ، في كل سفر ، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أم لا ، لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر ، فكل سفر يجوز فيه ذلك ، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له (١).

الصلاة على الغائب :

أجاز الشافعي الصلاة على الغائب ، بدليل أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بأصحابه سنة تسع من الهجرة على النجاشي ملك الحبشة ـ واسمه أصحمة ، وهو بالعربية : عطية ، وقد تساءل الصحابة : كيف نصلي على رجل مات ، وهو يصلي لغير قبلتنا؟ فنزلت الآية : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) [آل عمران ٣ / ١٩٩](٢) لكن هذا الخبر غريب جدا وهو مرسل أو معضل.

المقصود بوجه الله في القرآن والسنة :

اختلف الناس في تأويل الوجه المصاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة (٣) ، فقال جماعة : ذلك من مجاز الكلام ، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد (المخلوق) وأجلها قدرا. والمراد بمن له الوجه : أي الوجود ، وعليه يتأول قوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الدهر ٧٦ / ٩]. المراد به : لله الذي له الوجه.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٨٠ ـ ٨١

(٢) المصدر السابق

(٣) المصدر السابق : ٢ / ٨٣

٢٨٤

وكذلك قوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل ٩٣ / ٢٠]. أي الذي له الوجه. قال ابن عباس : الوجه : عبارة عنه عزوجل ، كما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٧] ، ومعنى (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) : فثمّ الله.

وهذا يدل على نفي الجهة والمكان عنه تعالى ، لاستحالة ذلك عليه ، وأنه في كل مكان بعلمه وقدرته.

وقال بعض الأئمة : تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى وهذا أولى وأحوط.

افتراءات أهل الكتاب والمشركين

بنسبة الولد لله والمطالبة بتكليمه الناس

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

الإعراب :

(بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّما) رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور ، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. (فَيَكُونُ) قرئ بالرفع والنصب ، فمن قرأ بالرفع جعله عطفا على قوله تعالى : (يَقُولُ) تقديره : فهو يكون. ومن قرأ بالنصب ، اعتبر لفظ الأمر ، وجواب الأمر بالفاء منصوب ، والنصب ضعيف ، لأن «كن» ليس بأمر في الحقيقة.

٢٨٥

البلاغة :

(سُبْحانَهُ) جملة اعتراضية لإبطال دعوى الظالمين الذين زعموا لله الولد. (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) استعمال صيغة جمع العقلاء في (قانِتُونَ) للتغليب أي تغليب العقلاء على غيرهم للتشريف.

المفردات اللغوية :

(سُبْحانَهُ) تنزيها له عما يصفون ، وتعجبا مما يقول الجاهلون. (قانِتُونَ) منقادون ، والقنوت : الخضوع والانقياد.

(بَدِيعُ) مبدع ، والإبداع : هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق.

(قَضى) أراد. (أَمْراً) أي إيجاده.

(لَوْ لا) هلا. والآية : الحجة والبرهان. والتشابه : التماثل. واليقين : هو العلم القاطع بالدليل والبرهان.

المناسبة وسبب النزول :

دلت الآيات السابقة على زعم اليهود أن الجنة خاصة بهم ، وزعموا أيضا كما تفيد الآية هنا أن عزيرا ابن الله ، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله ، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله ، فأكذبهم الله جميعا بالدليل القاطع.

فهذه الآية (١١٦) نزلت في اليهود حيث قالوا : عزير ابن الله ، وفي نصارى نجران حيث قالوا : المسيح ابن الله ، وفي مشركي العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله.

وأما سبب نزول الآية (١١٨) : فهو ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن خزيمة لرسول الله : إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله : فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية.

٢٨٦

وحكى القرطبي : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد ، قال ابن كثير : وهو ظاهر السياق (١).

التفسير والبيان :

قالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، ولا فرق بين أن يصدر هذا القول من الجميع أو البعض ، فإن أفراد الأمة متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون. سبحانه وتعالى تنزيها له عما يدعون ، فليس لله حاجة إلى المعونة ، وله كل ما في السموات والأرض ، الكل خاضع لسلطانه ، منقاد لإرادته. وهو الذي أبدع وابتكر السموات والأرض لا على مثال سبق ، ومالك ما فيهن ، وإذا أراد أمرا أوجده فورا أسرع مما بين حرفي «كن» من غير امتناع. والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية ، عبر عنهما بما يقربهما للفهم بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ). وإذا اختار الله بعض خلقه للنبوة أو الرسالة كالرسل والملائكة ، فلا يتجاوز حد مرتبة المخلوق ، ويظل الكل عبيدا لله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ١٩ / ٩٣] فمن كان له ما في السموات والأرض خلقا وملكا ، ومن كان له كل ما في الكون منقاد لأمره ، ومن أبدع السماء والأرض ، ومن له أمر التكوين والإيجاد الفوري ، أيحتاج إلى الولد والوالد؟!

ويؤيد هذه الآية قول الله تعالى عن مشركي العرب : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] وقوله تعالى : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠ ـ ٩٣] وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٩٢ ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٦١

٢٨٧

الْمَلائِكَةُ ، أَوْ نَرى رَبَّنا) الآية [الفرقان ٢٥ / ٢١] وقوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [القيامة ٧٥ / ٥٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به ، وإنما هو الكفر والمعاندة ، كما قال من قبلهم من أمم أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وغيرهم ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ، فَقالُوا : أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء ٤ / ١٥٣] وقال تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ : يا مُوسى ، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة ٢ / ٥٥].

أما الذين لا يعلمون من المشركين ، لأنه لا كتاب لهم ، ولا هم أتباع نبي يبين لهم ما يليق بالألوهية فقالوا : هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا ، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك ، كما يرسله إليك ، أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة ، وليس مرادهم من هذه المطالب إلا الاستكبار والعتو والعناد ، والاستخفاف بالآيات البينات ، والجحود بالقرآن.

ومثل هذه الأسئلة التي يراد منها التعنت ، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية ، كما ذكرنا في الآيات المؤيدة لهذه الآية.

قال أهل الكتاب سابقا مثل قول المشركين ، وقد تماثلت قلوبهم وأرواحهم ، وأشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في العمى والقسوة والعناد والكفر ، والألسنة ترجمان القلوب ، فما في القلب يعبر عنه اللسان. والحق واحد ، ومخالفته هي الضلال وهو واحد ، وإن تعددت طرقه ، واختلفت وجوهه ، وآثاره تتشابه ، حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم ، كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات ٥١ / ٥٣].

والله سبحانه بيّن الآيات وأوضح الدلالات على صدق الرسل أحسن بيان

٢٨٨

وأتمه ، بما لا يدع مجالا للشك لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان ، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين ، وعندهم الفهم الصحيح بسبب إنصافهم وصفاء نفوسهم ، وبعدهم عن العناد والمكابرة ، وقد كان هذا شأن الصحابة يسألون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لم يعرفوا دليله ، لمحبتهم الحق ، ووقوفهم عند البينة والدليل ، فهم نماذج المنصفين الموقنين الذين اتبعوا الرسل بقناعة وعقل ، وفهموا ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى.

وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة ، فأولئك قال الله فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن الاستجابة لنداء الإيمان تتطلب إعمال العقل وتفتح الكفر ، وصفاء النفس ، وإدراك حقائق الكون ، ولو إدراكا بسيطا ، وتقتضي تجردا عن الحظوظ النفسية ، والأهواء الشخصية ، وترك العناد. فإذا توافرت هذه الاستعدادات ، تسارع نور الإيمان إلى القلب ، فملأ النفس بهجة وسعادة وطمأنينة : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد ١٣ / ٢٨].

أما نسبة الولد لله فهذا جهل بحقيقة الألوهية التي تمتاز بسمو الاتصاف بشيء فيه نقص من خصال البشر ، ولا تحتاج إلى أحد من الخلق ، فالله هو الأحد الواحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد. ولا يكون الولد إلّا من جنس الوالد ، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٩١] فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث ، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت ، فهو سبحانه القديم الأزلي ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، كما ذكر.

٢٨٩

والمخلوقات كلها تقنت لله ، أي تخضع وتطيع ، والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم.

قال الجصاص عن قوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : فيه دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده ، لأنه نفى الولد بإثبات الملك بقوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني ملكه ، وليس بولده (١).

وقال القرطبي : والله تعالى مبدع السموات والأرض أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال سبق. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له : مبدع. ومنه أصحاب البدع ، وسميت البدعة بدعة ، لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام ، وفي البخاري : «ونعمت البدعة هذه» يعنى قيام رمضان.

وكل بدعة صدرت من مخلوق ، فلا يخلو إما أن يكون لها أصل في الشرع أو لا ، فإن كان لها أصل ، كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه ، وحض رسوله عليه ، فهي في حيّز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف ، فهذا فعله من الأفعال المحمودة ، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي‌الله‌عنه : «نعمت البدعة هذه» لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله ، فهي في حيز الذم والإنكار. وهو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته : «وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة» يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة ، أو عمل الصحابة رضي‌الله‌عنهم. وقد بيّن هذا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ في الإسلام سنة حسنة ، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي : ١ / ٦٥

٢٩٠

ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (١).

أما الخلق والإيجاد فيحدث بمجرد الأمر الإلهي ، فإذا قضى أمرا أوجده فورا ، أي إذا أراد إحكام أمر وإتقانه ـ كما سبق في علمه ـ قال له : كن. قال ابن عرفة : قضاء الشيء : إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه ، ومنه سمي القاضي ، لأنه إذا حكم ، فقد فرغ مما بين الخصمين.

ويلاحظ أن «قضى» لفظ مشترك ، يكون بمعنى الخلق ، كما في قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصّلت ٤١ / ١٢] أي خلقهن ، ويكون بمعنى الاعلام ، كما قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) [الإسراء ١٧ / ٤] أي أعلمنا ، ويكون بمعنى الأمر ، كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٢٣] ، ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام ، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص ٢٨ / ٢٩] ، ويكون بمعنى الإرادة ، كقوله تعالى : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد خلق شيء.

قال ابن عطية : «قضى» معناه قدّر ، وقد يجيء بمعنى أمضى (٢).

وبمناسبة قوله سبحانه (إِذا قَضى أَمْراً) ذكر العلماء أن الأمر يأتي في القرآن على أربعة عشر وجها :

الأول ـ الدّين ، قال الله تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٤٨] يعني دين الإسلام.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٨٦ ـ ٨٧

(٢) المصدر السابق : ٢ / ٨٨

٢٩١

الثاني ـ القول ، ومنه قوله تعالى : (إِذا جاءَ أَمْرُنا) [هود ١١ / ٤٠] يعني قولنا ، وقوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) [طه ٢٠ / ٦٢] يعني قولهم.

الثالث ـ العذاب ، ومنه قوله تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [إبراهيم ١٤ / ٢٢] يعني : لما وجب العذاب بأهل النار.

الرابع ـ عيسى عليه‌السلام ، قال الله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً) [مريم ١٩ / ٣٥] يعني عيسى من غير أب.

الخامس ـ القتل ببدر ، قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) [غافر ٤٠ / ٧٨] يعني القتل ببدر ، وقوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال ٨ / ٤٢] يعني قتل كفار مكة.

السادس ـ فتح مكة ، قال الله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة ٩ / ٢٤] يعني فتح مكة.

السابع ـ قتل بني قريظة وجلاء بني النضير ، قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة ٢ / ١٠٩].

الثامن ـ القيامة ، قال الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل ١٦ / ١].

التاسع ـ القضاء ، قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [الرعد ١٣ / ٢] يعني القضاء.

العاشر ـ الوحي ، قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السجدة ٣٢ / ٥] أي ينزل الوحي من السماء إلى الأرض ، وقوله : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ١٢] يعني الوحي.

الحادي عشر ـ أمر الخلق ، قال الله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى ٤٢ / ٥٣] يعني أمور الخلائق.

الثاني عشر ـ النصر ، قال الله تعالى : (يَقُولُونَ : هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) [آل عمران ٣ / ١٥٤] يعنون النصر ، (قُلْ : إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) يعني النصر.

الثالث عشر ـ الذنب ، قال الله تعالى : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) [الطلاق

٢٩٢

٦٥ / ٩] يعني جزاء دينها.

الرابع عشر ـ الشأن والفعل ، قال الله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود ١١ / ٩٧] أي فعله وشأنه ، وقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور ٢٤ / ٦٣] أي فعله.

التحذير من اتباع اليهود والنصارى

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))

الإعراب :

(بَشِيراً) حال من كاف (أَرْسَلْناكَ) و (نَذِيراً) عطف عليه (وَلا تُسْئَلُ) قرئ بالرفع على أن (لا) نافية ، والجملة خبرية حال ، وقرئ بالجزم تسأل على أن (لا) ناهية.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ) فيه وجهان : أحدهما ـ أن يكون التقدير فيه : مالك من عذاب الله من ولي ، والثاني ـ أن يكون المعنى : مالك الله وليا ولا نصيرا ، والعرب تقول مثل هذا بحرف الجر ، كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) [النحل ١٦ / ١٠] أي ماء لكم هو شراب.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ ، و (آتَيْناهُمُ) صلته ، و (يَتْلُونَهُ) جملة فعلية منصوبة على الحال من ضمير (آتَيْناهُمُ). و (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) خبره. (حَقَّ تِلاوَتِهِ) منصوب على المصدر.

البلاغة :

(أَصْحابِ الْجَحِيمِ) التعبير عن الكافرين والمكذبين بذلك إيذان بأنه لا يرجى منهم الرجوع

٢٩٣

(هُوَ الْهُدى) تعريف الهدى مع اقترانه بضمير الفصل يفيد قصر الهداية على دين الله ، فهو قصر الصفة على الموصوف. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) من باب التهييج.

المفردات اللغوية :

(الْجَحِيمِ) النار : وهي جهنم ، وأصحابها هم الكفار.

(مِلَّتَهُمْ) دينهم (هُدَى اللهِ) هو الإسلام (وَلَئِنِ) لام قسم (مِنَ الْعِلْمِ) الوحي من الله (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يحفظك (وَلا نَصِيرٍ) يمنعك منه.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي بالكتاب المؤتى ، بأن يحرفه (الْخاسِرُونَ) الهالكون.

سبب نزول الآيات (١١٩ ـ ١٢١):

قيل : نزلت في أبوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن الحديث مرسل غير ثابت. وقال مقاتل فيما رواه بسنده : إن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ).

٣. وأما الآية (١٢٠) : فقال المفسرون : إنهم كانوا يسألون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدنة ، ويطمعون أنه إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه ووافقوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال ابن عباس : هذا في القبلة ، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة ، شق ذلك عليهم ، فيئسوا منه أن يوافقهم على دينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأما الآية (١٢١) : فقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي : نزلت في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة ، كانوا أربعين رجلا من الحبشة وأهل الشام. وقال الضحاك : نزلت فيمن آمن من اليهود. وقال قتادة وعكرمة : نزلت في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٩٤

المناسبة :

لمّا بيّن الله الآيات ، ذكر من بينت على يديه ، فأقبل عليه وخاطبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم أنه هو صاحب الآيات ، وبعد إثبات الوحدانية أردفه بإثبات النبوة.

التفسير والبيان :

هذه الآية (١١٩) إيناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يضيق صدره ، فهي تقرر له أنه أرسله للناس رسولا يبشر المؤمنين وينذر الكافرين ، ويسعد الناس بالعقيدة المطابقة للواقع ، وبالشرائع والأحكام التي تسعد الناس قاطبة ، ويبشر من أطاعه بالجنة ، وينذر من عصاه بالنار ، وأن مهمته تبليغ الرسالة دون شيء بعدها ، فلا حرج عليه إن أصروا على الكفر والعناد : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ٦ / ٥٢](فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٣٥ / ٨](فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦].

ولا تسأل عن أصحاب النار ، فلا يضرنك تكذيبهم لك ، ولا تأس عليهم ولا تحزن ، فأنت لم تبعث مكرها ولا جبارا ، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا ، بل بعثت معلما ومبلغا وهاديا بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢].

وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجو أن يؤمن أهل الكتاب برسالته ، لموافقتهم له في أصل الدين ، من توحيد الله ، وتقويم الاعوجاجات والتقاليد الفاسدة ، فعز عليه إعراضهم عن إجابة دعوته ، ولسان حالهم يقول : يا محمد مهما تأتنا من بينة ، ومهما فعلت لإرضائنا ، فلن نرضى حتى تتبع ملتنا.

والملة : هي الطريقة المشروعة للعباد ، والكفر كله ملة واحدة ، وتسمى دينا ، لأن العباد انقادوا لمن سنها. وتسمى شريعة ، لأنها مورد إلى ثواب الله ورحمته.

٢٩٥

فرد الله عليهم : إن هدى الله ودينه الذي هو الإسلام والذي أنزله على الأنبياء هو الهدى الواجب اتباعه وحده ، أما غيره فمبني على الهوى والشهوة ، وهو ما أضافه إليه اليهود والنصارى ، فإن اتبعت يا محمد أهواءهم ، وما أضافوه إلى دينهم ، بعد ما استقر في قلبك من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي الذي نزل عليك ، ومنه أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل ، فالله لا ينصرك ولا يؤيدك ، وإذا لم ينصرك الله ويتولاك ، فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟. وفي هذا قطع الأمل للنبي عليه‌السلام في إسلامهم ، لأن رضاهم عنه معلق بمستحيل : وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم.

وهذا الإنذار للنبي والوعيد هو في الحقيقة خطاب للناس كافة ، ممثلين في شخص النّبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه الإمام والقائد والقدوة.

ثم استدرك الحق سبحانه على ما ذكر قبل ، حتى لا ييأس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأسا دائما من إيمان أهل الكتاب ، فأخبر بأن بعض الكتابيين يتلون التوراة تلاوة تدبر وإمعان ، ويفهمها حق الفهم ، ولا يتعصب تعصبا أعمى ، ولا يحرفون ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يبيع آخرته بدنياه ، ويسأل الله الجنة ، ويتعوذ من النار ، فهؤلاء يدركون أن ما جئت به الحق ، فيؤمنون بالتوراة دون تحريض ، ومن يؤمن بها يؤمن بالقرآن والنبي ، مثل عبد الله بن سلام وأشباهه ، ومن يكفر بكتابه من المحرفين ، فلا يؤمن بك أصلا ، أولئك هم الهالكون ، وكثير ما هم ، وهم الذين خسروا سعادة الدنيا والآخرة ، وحق عليهم العذاب ، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، فما أصبرهم على النار؟! فالمقصود بكلمة (الْكِتابَ) التوراة ، وقال قتادة : المقصود به القرآن ، قال القرطبي : والآية تعم. وعلى كلا الحالين ، المقصود بقوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) : يتبعونه حق اتباعه ، باتباع الأمر والنهي ، فيحللون حلاله ، ويحرمون حرامه ، ويعملون بما تضمنه.

٢٩٦

فقه الحياة أو الأحكام :

إن دين الله وتكاليفه يسر لا عسر ، فهو يمتاز بشيئين أساسيين هما : التعقل والمنطق ، والقيام بالواجب قدر الطاقة والوسع ، دون إعنات ولا إرهاق. وليست مهمة الأنبياء لقسر الناس وإكراههم على الإيمان والاعتقاد الحق ، وإنما هي محصورة بالتبليغ والبيان ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، والنّبي بعد التبليغ لا يكون مسئولا عنهم ولا مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار.

وإن المساومات الرخيصة على العقيدة الحقة لا تفيد شيئا ، ولا تحقق هدفا. وإن من يتمسك بدينه الأصلي حتى ولو كان من اليهود والنصارى فلا بد من أن يؤديه دينه الذي لم يبدله ولم يحرفه إلى الاستمساك بالقرآن والإقرار بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلم : لأن دين الله في الأصل ذو جوهر واحد ، وعباداته وشرائعه تلتقي عند غاية واحدة ، وهي توحيد الإله والاعتراف بربوبيته ، والأخلاق والفضائل الإنسانية الصحيحة لا يختلف فيها اثنان. وليس غرض اليهود والنصارى بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا ، بل لو أتاهم بكل ما يسألون عنه لم يرضوا عنه ، وإنما يرضيهم ترك ما هو عليه من الإسلام ، واتباعهم.

وفي كل ذلك عبرة للأجيال ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف ١٢ / ١١١]. وإن تلاوة كتاب الله ينبغي أن تكون بتدبر وفهم وإمعان ، لا لمجرد التلاوة ، كما قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد ٤٧ / ٢٤] وقال : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص ٣٨ / ٢٩].

والفائدة المنشودة من القرآن هي العمل به ، فهو كما ثبت في الحديث الصحيح : «والقرآن حجة لك أو عليك» ومن يتلو القرآن ، وهو معرض عن آياته والعمل به ، يكون كالمستهزئ بربه. أما الأمي فعليه سؤال العلماء لشرح

٢٩٧

معنى القرآن ، وإفهامه مراده : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٤٣].

هذا .. وقد استدل بالآية (١٢٠) أبو حنيفة والشافعي وداود الظاهري وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : (مِلَّتَهُمْ) فوحد الملة ، وبقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون ١٠٩ / ٦] ، وبقوله عليه‌السلام : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» على أن المراد به الإسلام والكفر ، بدليل قوله عليه‌السلام : «لا يرث المسلم الكافر».

وذهب الإمام مالك ، وأحمد في الرواية الأخرى : إلى أن الكفر ملل ، فلا يرث اليهودي النصراني ، ولا يرثان المجوسي ، أخذا بظاهر قوله عليه‌السلام : «لا يتوارث أهل ملتين». وأما قوله تعالى : (مِلَّتَهُمْ) فالمراد به الكثرة ، وإن كانت موحدة في اللفظ ، بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة ، كما تقول : أخذت عن علماء أهل المدينة ـ مثلا ـ علمهم ، وسمعت عليهم حديثهم ، يعني علومهم وأحاديثهم.

والخطاب في قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) إما للرسول ، لتوجه الخطاب إليه ، وإما للرسول ، والمراد به أمته. وإذا كان الرسول هو المخاطب فأمته أولى ، لأن منزلتهم دون منزلته.

وسبب الآية : أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدنة ، ويعدون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإسلام ، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأمره بجهادهم.

واستدل الإمام أحمد بقوله : (مِنَ الْعِلْمِ) على كفر من اعتقد أن القرآن مخلوق ، فإنه سئل عمن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر ، قيل : بم كفّرته؟ فقال : بآيات من الله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [الرعد ١٣ / ٣٧] والقرآن من علم الله ، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.

٢٩٨

والمقصود من تلاوة كتاب الله حق التلاوة : اتباعه حق الاتباع ، كما بينا ، قال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة ، وقال الحسن البصري : هم الذين يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.

تذكير بالنعمة وتخويف من الآخرة

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

المفردات اللغوية

(وَاتَّقُوا) خافوا (لا تَجْزِي) تغني (عَدْلٌ) فداء (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله.

التفسير والبيان :

يكرر المولى سبحانه للتأكيد تذكير اليهود بالنعم التي أنعم الله بها عليهم ، لتجديد ثقتهم ونشاطهم ، وتشجيعهم وحفز هممهم ، وبعث نفوسهم على الإيمان وحثهم على اتباع النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ، ثم قرن الله تعالى بالعظة والتذكير التخويف من حساب يوم القيامة.

ففي الآية الأولى يعظ الله اليهود الذين كانوا في عصر التنزيل ، ويذكرهم بالنعم الكثيرة الدنيوية والدينية التي أنعم بها على آبائهم ، بإنقاذهم من أيدي عدوهم ، وإنزاله المن والسلوى عليهم ، وتمكينهم في البلاد بعد المذلة والقهر ، وإرساله الرسل منهم ، وتفضيلهم على عالمي زمانهم ، حين كانوا مطيعين للرسل ،

٢٩٩

مصدقين لما جاءهم من عند ربهم ، حتى يتركوا ضلالهم ، ويثوبوا إلى رشدهم. ومن أجل النعم التوراة المنزلة عليهم ، فمن شكر النعمة وآمن بجميع ما فيها ، آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبشر به فيها.

وفي الآية الثانية يحذرهم الله من عذاب يوم القيامة بسبب تحريف التوراة ، والتكذيب برسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذلك اليوم الذي لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها ، فلا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ، ولا تدفع عنها شيئا ، ولا يؤخذ منها فدية تنجو بها من النار ، ولا يشفع بما يجب عليها شافع ، ولا ناصر ينصرهم ، فيمنع عنهم عذاب الله.

فقه الحياة أو الأحكام :

تؤكد هذه الآية ما جاء في صدر السورة ، لحث اليهود وغيرهم على اتباع الرسول النبي الأمي المطابقة صفته لما في التوراة ، وتأمرهم ببواعث الإيمان : وهي تذكر النعم الدينية والدنيوية التي أنعم الله بها على آبائهم ، والإقلاع عن حسد بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال خاتم النبيين منهم ، وألا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه.

فإن أبوا فإن مصيرهم المحتوم هو الحساب الشديد يوم القيام ، المحقق الوقوع والنتيجة أو الأثر وهو العقاب ، دون أن ينفع الوسطاء أو الشفعاء ، والبدل أو الفداء ، والنصر أو المنع من العذاب ، ويكون كل امرئ مسئولا عن نفسه ، ولا يسأل أحد عن غيره ، كما قال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١](وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤].

٣٠٠