التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة : متقين موحدين ، وجاحدين معاندين ، ومنافقين مذبذبين ، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله ، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان ، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله ، وأنه نزل من عنده ، بدليل أنه معجز ، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله ، مع أن العرب فرسان البلاغة ، وأساطين الفصاحة ، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعرا ونثرا وخطابة ، وبما أنهم عجزوا ، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن ، فقد ثبت صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ادعاه من النّبوة ، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان منكر نبوته ورسالته مستحقا العقاب والجزاء في نار جهنم.

التفسير والبيان :

إن كنتم أيها العرب وغيركم من الجاحدين في شك من صدق القرآن ، الذي أنزله الله على عبده ورسوله النّبي الأميّ محمد بن عبد الله ، وزعمتم أنه من كلام البشر ، فأتوا بمثله ، كما يقدر سائر البشر ، وذلك إن كنتم صادقين في أنه مختلق ومن كلام البشر ، وأنكم تقدرون على المعارضة لقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال ٨ / ٣١] ، واستعينوا بمن شئتم من الرؤساء والأشراف والآلهة المزعومة ، لمعارضة القرآن ، فإنه لا يقدر أن يأتي بمثله إلا الله ، وحيث عجزتم ولم تقدروا على الإتيان بسورة تماثل القرآن في البيان الغريب والبلاغة المتفوقة ، وعلو حسن النظم ، وسلامة المنطق ، وروعة التشريع والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان ، والإخبار بالمغيبات ، ويظل العجز دائما في المستقبل ، فلن تقدروا على الإتيان بمثله ، مع أنه كلام عربي من جنس كلام العرب في الشعر والخطابة والنثر والأسلوب ، وفي العرب البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء وأعلام البيان والقول.

١٠١

وحيث ظهر العجز فعلا ، فارجعوا إلى الحق ، والإيمان بالقرآن ، والتصديق برسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي ذلك وحده النجاة من عذاب الله في النار التي وقودها الناس الكفار والحجارة (الأصنام) مادة الاشتعال ، فهي لا يماثلها أعلى فرن ناري عالي التوتر لصهر الحديد وغيره من المواد الصلبة ، ولا تقدّر درجات حرارتها بأفران الدنيا على الإطلاق ، وقد أعدها الله وهيأها للكافرين الجاحدين المنكرين رسالة الإسلام ، جزاء وفاقا لكفرهم وجحودهم. قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء ٢٩ / ٩٨].

والخلاصة : إذا بان العجز التام عن الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن ، مع المحاولة وبذل الجهود واستمرار التحدي في المستقبل ، فاحذروا العناد ، واعترفوا بكون القرآن من عند الله ، لئلا تكونوا مع أصنامكم وقودا لنار جهنم التي أعدت لأمثالكم الكافرين.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت آية (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ..) على صحة نبوة نبيّنا عليه الصلاة والسلام من وجوه :

الوجه الأول ـ أنه تحداهم بالإتيان بمثل القرآن ، وقرّعهم بالعجز عنه ، مع ما هم عليه من الأنفة والحميّة ، وأنه كلام موصوف بلغتهم ، فلو قدروا على معارضته لكانت معارضته أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه. فلما ظهر عجزهم عن معارضته ، دلّ ذلك على أن القرآن من عند الله الذي لا يعجزه شيء ، وأنه ليس في مقدور العباد مثله. وهذه معجزة باقية لنبيّنا عليه الصلاة والسلام بعده إلى قيام الساعة ، وقد كانت هذه المعجزة تتناسب مع اعتزاز العرب بالفصاحة والبلاغة بما لم يتهيأ لغيرهم ، فجعل الله تعالى آية محمد الكبرى كتابا معجزا لهم ولسائر الخلق في نظمه وأسلوبه ، وفصاحته وبلاغته ،

١٠٢

فكانت عليهم الحجة بأقوى مما قامت به المعجزات المادية السابقة مثل عصا موسى ويده في عصر السحر ، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عصر الطب.

والوجه الثاني ـ كان معلوما عند الناس قاطبة : المؤمنين والجاحدين لنبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان من أتمّ الناس عقلا ، وأكملهم خلقا ، وأفضلهم رأيا ، فما طعن عليه أحد في كمال عقله ، ووفور حلمه ، وصحة فهمه ، وجودة رأيه ، فلا يجوز على من كان هذا وصفه أن يدّعي النّبوة ، ويجعل علامة نبوته كلاما يقدر كل واحد من العرب على مثله ، فيظهر حينئذ كذبه ، وبطلان دعواه ، فدلّ ذلك على أنه تحداهم بكلام هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله.

والوجه الثالث ـ أخبر تعالى بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) أنهم لا يعارضونه ، وذلك إخبار بالغيب ، وتحقق الخبر مع مضي الزمان. قال أبو بكر الجصاص (١) : وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ١٧ / ٨٨] ، فلما ظهر عجزهم قال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود ١٤ / ١٣] ، فلما عجزوا قال : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [الطور ٥٢ / ٣٤] ، فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه ، فلما ظهر عجزهم عن ذلك ، وقامت عليهم الحجة ، وأعرضوا عن طريق المحاجة ، وصمموا على القتال والمغالبة ، أمر الله نبيه بقتالهم.

والخلاصة : أن التحدي كان متنوعا ، مرة بالنظم والمعنى ، ومرة بالنظم دون المعنى ، بافتراء شيء لا معنى له ، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٩

١٠٣

وأرشدت الآية : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ..) على ظهور العجز التام عن المعارضة ، وعلى استحقاق الكافرين النار لإنكارهم نبوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعدم تصديقهم بالقرآن ، وعلى أن من اتقى النار ترك المعاندة ، وعلى أن النار حاليا ومن القديم مخلوقة مهيأة موجودة معدّة للعصاة والفسّاق والكفّار. قال القرطبي (١) : فيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافا للمبتدعة في قولهم : إنها لم تخلق حتى الآن.

جزاء المؤمنين العاملين

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

الإعراب :

(مُتَشابِهاً) منصوب على الحال من الضمير في (بِهِ) والعامل فيه : (أُتُوا) أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ، ويختلف في الطعم. (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. (مُطَهَّرَةٌ) نعت للأزواج ، ومطهرة في اللغة : أجمع من طاهرة وأبلغ. (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) «هم» : مبتدأ ، و «خالدون» خبره ، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب «خالدين» على الحال.

والسبب في تنكير جنات وتعريف الأنهار : أن الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من تلك

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٣٦

١٠٤

الجنان. وأما تعريف الأنهار : فلأن إيراد الجنس ، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفاكهة ، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو المراد أنهارها ، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم ١٩ / ٤] ، أو لأنه يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ..) [محمد ٤٧ / ١٥].

لمفردات اللغوية :

(وَبَشِّرِ) أخبر. (الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا بالله. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الفروض والنوافل. (أَنَ) أي بأن. (جَنَّاتٍ) حدائق ذات شجر ومساكن ، وهي دار الخلود للمؤمنين ، وسميت جنة ، لأنها تجنّ من فيها أي تستره بشجرها. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت أشجارها وقصورها. (الْأَنْهارُ) المياه فيها. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ) أطعموا من تلك الجنات. (رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي قبله في الجنة لتشابه ثمارها. (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا لونا ويختلف طعما. (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) من الحور وغيرها. (مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والبصاق وسائر الأقذار. (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون ، والخلود : البقاء ، ومنه جنة الخلد.

المناسبة :

يعقد القرآن عادة مقارنات بين الأشياء المتضادة ، فلما ذكر الله جزاء الكافرين والعصاة ، أردف ذلك ببيان جزاء المؤمنين الأتقياء الأطهار ، ليظهر الفرق بين الفريقين ، وليكون ذلك أدعى للعبرة والعظة ، والامتثال من مقارنة الأحوال.

التفسير والبيان :

بشّر يا محمد أنت وورثتك من العلماء : المؤمنين المتقين ، الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات والحسنات أن لهم حدائق ذات أشجار ومساكن ، تجري من تحت

١٠٥

قصورها ومساكنها أنهار الجنة (١) ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، وفيها ـ كما ورد في الصحيحين ـ ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهو معنى قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٧].

فيها الأرزاق الدائمة والثمار الشهية المتنوعة ، كلما قدمت لهم ثمرة منها في أول النهار وآخره ، قالوا متعجبين : هذه الثمرة كالتي رزقناها في الدنيا ، فإذا أكلوها وجدوا لها طعما غير الطعم المعتاد ، وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في المنظر والشكل والجنس فقط ، وتختلف في الذوق والطعم والحجم ، فهي مما لم يروه أبدا ، وجيئوا بها مشابهة لثمار الدنيا المألوفة ، مع اختلاف المادة والطعم ، قال ابن عباس : «ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء» ، وقال الطبري (٢) : «أولى التأويلات تأويل من قال : وأتوا به متشابها في اللون والمنظر ، والطعم مختلف ، يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون ، مختلفا في الطعم والذوق.

ومن الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله أن في الجنة للمؤمنين زوجات من الحور العين ، مقصورات في الخيام ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، مطهرات من الأقذار والأدناس المنفرة : الحسية والمعنوية ، كالحيض والنفاس ، والحدث من البول والغائط ، والتنّخم أو البصاق ، وشرور النفس والهوى. روى مسلم أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ولا يتفلون ولا يبولون ، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون ، قالوا : فما بال الطعام؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك ، ويلهمون التسبيح والتحميد ، كما تلهمون النّفس».

__________________

(١) روى أبو هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال أو من تحت جبال المسك».

(٢) تفسير الطبري : ١ / ١٣٥ وما بعدها ، ومثله تفسير الرازي : ٢ / ١٣٠

١٠٦

لكن ورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنّ يوم القيامة أفضل من الحور العين ، المذكورات في قول الله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً* لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة ٥٦ / ٣٥ ـ ٣٨]. روى الترمذي عن أم سلمة : «.. قلت : يا رسول الله ، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين ، كفضل الظهارة على البطانة. قلت : يا رسول الله ، وبم ذاك؟! قال : بصلاتهن وصيامهم وعبادتهن الله عزوجل» (١). وثبت في الصحيح أيضا : أن لكل رجل في الجنة زوجتين اثنتين. قال العلماء : إحداهن من نساء الدنيا ، والأخرى من نساء الجنة.

وتمتاز الجنة عن الدنيا بأنها دار الخلود أي الدوام والبقاء والمكث الطويل ، الذي لا بديل عنه ، وهو تمام السعادة ، وأمل المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

تتوالى البشائر القرآنية المفرحة للنفوس ، المحرّكة للقلوب ، بأن الجنة دار النعيم الدائم المقيم هي المخصصة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. والإيمان بمجرده لا يكفي ، بل لا بدّ من أن ينضم إليه الطاعة والعمل الصالح. ونعيم الجنة غير محدود ورزقها لا ينقطع ، وإنما أراد الله أن يقرب لعقولنا ما أعدّ فيها ، بهذه الآية وغيرها ، وبما أن طبيعة البشر تتعلق عادة بالماديات ، أغراهم الله بما تميل إليه نفوسهم ، فوعدهم بالحقائق المادية ، المعبر عنها في آية أخرى بإيجاز : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] ، ويظل الإنسان في عالم الآخرة إنسانا لا ملكا ، وإنما تكون لذاته الإنسانية أكمل مما كان في الدنيا ، وأسلم من المنغصات.

وأما الأعمال الصالحة التي تبوّئ أصحابها الجنان : فهي كل خير أقره العرف

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٩١

١٠٧

والشرع والعقل والفطرة السليمة ، منها المذكور في أوائل سورة «المؤمنون» : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ ، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١ ـ ١١].

وخلود المؤمنين في الجنة ، وخلود الكفار في النار : معناه في الشرع : الدوام الأبدي ، أي لا يخرجون منها ، ولا هي تفنى بهم ، فيزولوا بزوالها ، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها.

فائدة ضرب الأمثال للناس في القرآن

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

١٠٨

الإعراب :

(لا يَسْتَحْيِي) جملة فعلية منفية في موضع رفع خبر (إِنَ). (أَنْ يَضْرِبَ) في موضع نصب بفعل (يَسْتَحْيِي) وحذف حرف الجر هنا ، لأن (إِنَ) هنا مصدرية. (مَثَلاً) مفعول أول ، و (ما) في قوله (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) إما زائدة لتأكيد الخسة أي مثلا بعوضة ، و (بَعُوضَةً) بالنصب على البدل من مثل ، وإما نكرة موصوفة بما بعدها بدل من مثل أي مثلا شيئا بعوضة فهو مفعول ثان ، وإما بمعنى «الذي» و «بعوضة» مرفوع خبر مبتدأ مقدّر ، أي الذي هو بعوضة. (فَما فَوْقَها) ما : عطف على (ما) الأولى ، أو على (بَعُوضَةً) إن جعلت «ما» زائدة. (فَأَمَّا) حرف فيه معنى الشرط ، فوقع في جوابها الفاء. (ما ذا) إما كلمة واحدة للاستفهام في موضع نصب بأراد ، والمعنى : أيّ شيء أراد الله بهذا المثل. وإما أن تجعل (ذا) بمعنى «الذي» فتكون (ما) في موضع مبتدأ ، وما بعدها الخبر ، فهو استفهام إنكاري. (مَثَلاً) إما منصوب على التمييز ، أو منصوب على الحال من «ذا» في «هذا».

(أَنْ يُوصَلَ) إما في موضع نصب على البدل من (ما) أو في موضع جرّ على البدل من الهاء في (بِهِ). و (الَّذِينَ) نعت. و (أَنْ يُوصَلَ) بدل من ضمير (بِهِ).

البلاغة :

(لا يَسْتَحْيِي) المعنى : لا يترك ، فعبر بالحياء عن الترك ، لأن الترك من ثمرات الحياء ، ومن استحيا من فعل شيء تركه ، كما قرر الزمخشري في (تفسيره : ١ / ٢٠٤) فهو مجاز من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.

(يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) فيه استعارة مكنية ، حيث شبه العهد بالحبل ، وحذف المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه ، وهو النقض ، وسمي العهد حبلا على سبيل الاستعارة ، لما فيه من ثبات الصلة بين المتعاهدين ، كما قال الزمخشري : ١ / ٢٠٧ ، أي أن أصل استعمال النقض هو في الحبل ، ثم استعمل في العهد ، لأنّه يشبهه.

المفردات اللغوية :

(لا يَسْتَحْيِي) لا يترك ضرب المثل. والحياء : تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب عليه ويذم ، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى ، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. (أَنْ يَضْرِبَ) يجعل (مَثَلاً) المثل في اللغة : الشبيه والنظير ، وضرب المثل في الكلام : أن يذكر لحال ما يناسبها ، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا. (بَعُوضَةً) الناموسة المعروفة. (فَما فَوْقَها) ما زاد عليها أو كان أكبر منها ،

١٠٩

أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم. (الْحَقُ) هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته ، ولا يجد العقل سبيلا لإنكاره. والفسق لغة : الخروج ، يقال : فسقت الرطبة عن قشرها : إذا خرجت. والنقض : الفسخ وفكّ التركيب لحبل وغزل ونحوهما. والميثاق : ما يوثق به الشيء ، ويكون محكما يعسر نقضه. وميثاق العهد : توكيده ، والمراد : العهد المؤكد باليمين. وعهد الله : ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار ، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر. وطريق الإيمان : استخدام نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم.

ونقض الميثاق : عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له ، حتى كأنهم فقدوها أو عطلوها ، فالمراد بقوله : (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) توكيده عليهم. والمأمور بوصله : هو الإيمان بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرحم وغير ذلك. والإفساد في الأرض : بالمعاصي والتعويق عن الإيمان.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره : ١ / ١٣٨ عن جماعة من الصحابة : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين : قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ، وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) الآيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً ...) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١). قال السيوطي في الجلالين : هذا القول أصح إسنادا وأنسب بما تقدم أول السورة.

التفسير والبيان :

إن الله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ونحوها بما هو دونها أو أكبر منها ، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها ، فلا غرابة ولا حرج ولا عيب في الإتيان بالأمثال والأشباه سواء أكانت صغيرة أم كبيرة ، لأن العظمة فيها جميعها شيء واحد وهو الخلق والإبداع ، ولأن المثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد ، وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء

__________________

(١) انظر أيضا تفسير القرطبي : ١ / ٢٤١ ، أسباب النزول للواحدي : ص ١٢

١١٠

المحسوسة لتأنس بها النفوس ، وتنكشف أمامها الغوامض ، وتزول الأوهام عن معارضة العقل. والله الحكيم يفعل ما يحقق المصلحة بضرب المثل في العظائم والمحقرات حسب الأحوال والمناسبات ، فإن كان الأمر عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء ، وإن كان الأمر مهينا حقيرا كالأصنام ضرب مثله في عدم النفع وانعدام الفائدة بما يشبهه من الذباب والبعوض والعنكبوت.

فأما المؤمنون الذين يصدقون بأن الله خالق الأشياء كلها صغيرها وكبيرها ، فيقولون : هذا كلام الله حق ، لا يقول غير الحق ، والكل لديه سواء ، وهذا المثل لمصلحة وحكمة. وأما الكافرون الذين يستهزئون بالأمثال بالمحقرات فيقولون متعجبين : ماذا أراد الله بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ فهم في حيرة من أمرهم ، وخسارة في نهايتهم ، ولو آمنوا لعرفوا الحق ووجه الحكمة في ذلك ، قال تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر ٧٤ / ٣١].

ثم ردّ الله تعالى على المتسائلين بأن هذا المثل كان سببا في زيادة ضلال كثير من الكافرين لكفرهم بالله ، وزيادة هداية كثير من المؤمنين لإيمانهم بالله ، ولا يضلّ بضرب المثل أو بغيره من القرآن ، إلا الفاسقون : الخارجون عن طاعة الله وعن سنته في خلقه وجحد آياته ، وتعطيل عقولهم ومشاعرهم عن إدراك المصالح والغايات.

وفي هذا إشارة إلى أن علّة إضلالهم خروجهم عن السّنن الكونية التي جعلها الله عبرة لمن تذكر ، فإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب ، لأنه لما ضرب المثل ، فضلّ به قوم ، واهتدى به قوم ، تسبب لضلالهم وهداهم (١). قال

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٠٦ وما بعدها.

١١١

تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٣] ، والعالمون : هم المؤمنون المهتدون بهدي الحق.

ثم أردف تعالى ذلك ببيان أوصاف هؤلاء الفاسقين ، فهم ينقضون الميثاق ، فلا يستعملون مواهبهم من عقل ومشاعر وحواس لإرشادهم إلى المقصود ، وينقضون ما عاهدوا الله عليه عهدا فطريا (١) من الإيمان بمحمد والتصديق به وبجميع الرسل الكرام ، والعمل بشرائع الله ، قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٩].

وهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان بالله بعد قيام الأدلة الكونية على وجوده ، فقطعوا الصلة بين الدليل والمدلول ، والإيمان بجميع الأنبياء ، ففرقوا بين نبي ونبي ، وقد أمر الله بوصل الإيمان بجميع الأنبياء ، وهم لا يصلون الرحم والقرابات المادية بين الأقارب ، والمعنوية بين الرسل وموالاة المؤمنين. ومشركو العرب بتكذيبهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقضوا عهد الفطرة ، وأهل الكتاب نقضوا العهدين : عهد الفطرة والعهد الديني الذي أخذه الله عليهم في كتبهم من الإيمان بالنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ١٤٦] ، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم ، فهو ناقض لعهد الله تعالى.

وهم يفسدون في الأرض بالمعاصي ، والفتن بين الناس ، والصدّ عن الإيمان ،

__________________

(١) العهد الفطري أو عهد الله : هو ما ركز في قلوب ومشاعر وعقول الناس قاطبة من ظهور الحجة على توحيد الإله ، وهو بمثابة أمر وصاهم الله به ووثقه عليهم ، وهو معنى قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى شَهِدْنا)[الأعراف ٧ / ١٧٢]. والعهد الديني : هو أخذ الميثاق على أهل الكتاب بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته. صدقوه واتبعوه.

١١٢

والتضليل في العقائد ، وإثارة الشبهات حول القرآن ، إبقاء على نفوذهم ومراكزهم.

وهم في النهاية الخاسرون في الدنيا بافتضاحهم وتخبطهم وخزيهم ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وغضب الله عليهم ، فلا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم ، لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والنار بالجنة ، والنقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن اشتمال القرآن الكريم على ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل ونحوها من المحقرات مما قد لا يليق ـ في زعم المشركين ـ بكلام الفصحاء ، لا يقدح في فصاحة القرآن ، ولا يخلّ بكونه معجزا ، لأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة. وهذا وجه متناسبة الآية لما قبلها.

وإذا ورد الحياء في حق الله تعالى ، فليس المراد منه الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. وكذلك ليس المراد بالغضب في حقّ الله تعالى شهوة الانتقام وغليان دم القلب ، بل المراد تلك النهاية ، وهو إنزال العقاب. وهذا هو القانون الكلي في هذا الباب (١).

وكلام الله حقّ مطلق ، لا نقص فيه في حدّ ذاته ، ولا في جانب من جوانبه ، وإنما هو حق ، لأنه مبين للحق ومقرر له ، وسائق إلى الأخذ به ، بما له من التأثير في النفس.

وضرب الأمثال والأشباه في القرآن الكريم يراد به كشف الغوامض ، وتنبيه

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢ / ١٣٢ وما بعدها.

١١٣

الأذهان إلى الحقائق ، وإبانة المصالح ، وتقرير الحكم البالغة ، وهو من الأمور المستحسنة في العقول والتربية والتعليم. وأما الذين كفروا فيجادلون في الحق بعد ما تبيّن ، ويمارون بالبرهان وقد تعيّن ، فيخرجون من الموضوع ، ويعرضون عن الحجة.

وليس الإيمان أو الكفر أمرا وراثيا ، أو قهريا جبريا ، وإنما للإرادة والاختيار والعقل دخل فيه ، وسببه هو استخدام طاقات الإنسان من حواس ومشاعر وأفكار ، وليس للمثل ـ كما يزعم الكفار ـ تأثير في تفريق الناس إلى ضلالة وهدى ، فالله تعالى لا يضلّ أحدا من المؤمنين المهتدين بهداية العقل والدين ، وإنما يضلّ الفاسقين الخارجين عن الطاعة وصراط الله السوي ، الذين سبق في علم الله تعالى أنهم غير هداة ، فيكون إسناد الإضلال إلى الله تعالى من قبيل إسناد الفعل إلى السبب ، لأنه لما ضرب المثل ، فضلّ به قوم ، واهتدى به قوم ، كان ذلك سببا في ضلال الناس وهداهم ، فكانت علة ضلالهم : هي الفسوق ، أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه ، التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر ، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه.

وصفات الفاسقين الذين أضلوا أنفسهم بأنفسهم كثيرة منها ما ذكرته الآية (٢٧) : نقض عهد الله من بعد توكيده : وهو وصية الله تعالى إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله. ونقضهم ذلك: ترك العمل به.

ومنها : قطع ما أمر الله به أن يوصل : وهو الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده ، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل ، وهو قول الجمهور. والرحم : جزء من هذا.

ومنها : الإفساد في الأرض : أي عبادة غير الله تعالى ، والجور في الأفعال ،

١١٤

واتّباع الشهوات ، وهذا غاية الفساد.

والفسق موجب حتما للخسارة ، كما أن الطاعة توصل إلى الربح ، وليس المراد بالفاسقين هنا ما هو معروف شرعا وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي ، فإنه لا يصح هنا.

وفي الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ، ألزم المرء نفسه به ، هو أمر واجب شرعا وعقلا ، فلا يحلّ له نقضه ، سواء أكان بين مسلم أم بين غيره ، لذمّ الله تعالى من نقض عهده ، وقد قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة ٥ / ١] ، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال ٨ / ٥٨] ، فنهاه عن الغدر ، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد.

والمؤمنون المهتدون على قلتهم أجل فائدة وأكثر نفعا وأعظم آثارا من أولئك الكفار الفاسقين الضالين ، على كثرتهم. فإذا أشعرت الآية بأن المهتدين في الكثرة كالضالين ، مع أن هؤلاء أكثر ، فليس الظاهر مرادا : لأن العبرة بالكيف لا بالكم ، قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ٣٤ / ١٣].

وقدم الله تعالى الإضلال على الهداية في قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) لأن سببه ومنشأه من الكفر متقدم في الوجود ، فكان ذلك مناسبا لحال الكفرة ، ليكون أول ما يقرع سمعهم من الجواب أمرا يفتّ في أعضادهم ، ويهزّ جنابهم ، وعبّر عن ذلك بصيغة المضارع المفيدة للاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار.

١١٥

مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وإماتته وخلق الأرض والسماء

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

الإعراب :

(كَيْفَ) اسم استفهام ، منصوب هنا على الحال بتكفرون. (جَمِيعاً) نصب على الحال من الموصول الثاني : (ما).

(سَبْعَ سَماواتٍ) إما منصوب على البدل من الهاء والنون في (فَسَوَّاهُنَ) أو منصوب على أنه مفعول «سوّى» على تقدير : فسوّى منهن سبع سماوات ، فحذف حرف الجر ، فصار (فَسَوَّاهُنَ) مثل قوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف ٧ / ١٥٥] أي من قومه ، ثم حذف حرف الجر ، فاتصل الفعل : (فَسَوَّاهُنَ) بما بعده ، فنصبه ، وأعاد الضمير بلفظ الجمع على السماء. وقال الزمخشري : الوجه العربي أن ضمير (فَسَوَّاهُنَ) مبهم. وكلمة (ثُمَّ اسْتَوى) لا للتراخي في الوقت هنا ، وإنما لبيان ما بين الخلقين من التفاوت ، وفضل خلق السموات على خلق الأرض. وإنما كان العطف الأول بالفاء ، والبواقي بثم ، لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخ ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة ، وعن الحياة الثانية.

البلاغة :

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ) التفات من كلام الغيبة إلى الحضور للتوبيخ والتقريع.

(عَلِيمٌ) من صيغ المبالغة التي وصف تعالى نفسه بها ، مثل : عالم وعلام ، ومعناه : الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء. ولا يجوز وصف الله تعالى بعلّامة ، التي أدخل العرب عليها الهاء للمبالغة. (فَسَوَّاهُنَ) أتمّ خلقهن مستويات ، لا تشقق فيهن ولا عوج ، فمعنى تسويتهن : تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن. (ثُمَّ اسْتَوى) الاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء. (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بأحوالهن إجمالا وتفصيلا ، بعد أن خلق

١١٦

السموات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت ، وخلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.

المفردات اللغوية :

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ) يا أهل مكة ، مثله في قولك : «أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان؟» والاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو للتوبيخ.

(كُنْتُمْ أَمْواتاً) نطفا في الأصلاب. (فَأَحْياكُمْ) في الأرحام والدنيا ، بنفخ الروح فيكم. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انتهاء آجالكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالبعث ، فيجازيكم بأعمالكم. ودخلت الواو على جملة (كُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى آخر الآية ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله ، وقصتكم هذه ، وحالكم أنكم كنتم أمواتا ، نطفا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم أحياء ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يحاسبكم.

(ما فِي الْأَرْضِ) الأرض وما فيها. (جَمِيعاً) لتنتفعوا به وتعتبروا. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) بعد خلق الأرض : قصد وعمد إليها بإرادته تعالى ، قصدا مستويا خاصا بها.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن ، وجّه الخطاب إلى الكفار في هاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم ، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان : وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه ، من إحيائهم بعد الإماتة ، ثم الإماتة والإحياء ، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها ، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح ، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته؟!

لتفسير والبيان :

عجيب حالكم أيها الكفار ، كيف تنكرون وجود الله وقدرته مع أن الله

١١٧

سبحانه أوجدكم في هذه الحياة بعد الموت ، وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ، ووهبكم أفضل مقومات الحياة من العقل والحواس والمشاعر ، وأمدكم بالأرزاق التي تكفل بقاء الحياة ، ثم أماتكم عند انقضاء الأجل ، ثم يحييكم بالبعث من القبور ، ثم ترجعون إلى الله وحده للحساب والجزاء ، ليجزي كل امرئ بما قدّم ، ولتحاسب كل نفس على النعمة التي أنعم الله بها عليكم. فهاتان موتتان وحياتان ، لا تدع لكم عذرا في البقاء على الكفر ، والاستهزاء بأمثال القرآن ، وإنكار نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن عباس وابن مسعود : أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا ، فأحياكم ـ أي خلقكم ـ ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة. ويؤيده آية أخرى : (قالُوا : رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر ٤٠ / ١١]. قال ابن عطية : وهذا القول : هو المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ، ثم للإحياء في الدنيا ، ثم للإماتة فيها ، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها (١).

ثم بعد ذكر المبدأ والمنتهى ، ذكر الله تعالى برهانا على البعث ، وعلى توجيه النفوس نحو الإيمان ، فأبان أنه خلق لكم الأرض وما فيها ، لتنتفعوا بكل ما فيها ، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق ، فيكون الانتفاع إما ماديا بالاستفادة من الموجودات العينيّة في حال المعيشة ، وإما معنويا بالنظر والاعتبار فيما لا سلطة لأيديكم عليه ، ويتم في الحالتين غذاء الأجساد والأرواح.

ومكّن الله تعالى للإنسان الحياة في الأرض بإظلاله بالسقف المحفوظ وهو السموات السبع ، التي رفعها بقدرته ، وسوّاها محكمة البناء ، وأوجدها بحكمته ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٤٩.

١١٨

وأودع فيها بدائع الكواكب والنجوم لإنارة الأرض في الليل ، وعلم سبحانه وحده حقيقتها وروائع ما فيها ، والله عالم بكل ما خلق في الأرض وفي السماء ، وذلك كله دليل القدرة الباهرة الدالة على وجود الإله الخالق ، وهو وحده ، القادرة على إعادة الخلق والحياة. فهل بعد هذا يسوّغ الكفر أو الإلحاد وإنكار وجود الله؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

وصف الكفر ينطبق على كل من لم يصدّق بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به ، وإن آمنوا بكتاب سماوي سابق ، لأنهم لم يقرّوا بأن القرآن من عند الله ، ومن زعم أن القرآن كلام البشر ، فقد أشرك بالله ، وصار ناقضا للعهد. وقالت المعتزلة : آية (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) تدلّ على أن الكفر من قبل العباد (١).

والأدلة على قدرة الله ووجوده كثيرة منها ما ذكرته هذه الآية : وهو خلق الأرض وما فيها ، والسماوات وما أبدع فيها ، وخلق الإنسان من العدم ، ثم إماتته ، ثم إحياؤه ، ثم حسابه على ما قدم في مسيرة الحياة البشرية ، كما قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٤] ، فإعادتهم كابتدائهم ، فهو رجوع ، فيكافأ المؤمنون بالجنان ، لإيمانهم وعملهم الصالح ، ويعذب الكفار لكفرهم.

والترتيب في قوله تعالى (ثُمَ) التي تقتضي التراخي ، ليس مرادا ، وإنما المقصود من كلمة (ثُمَ) ترتيب الإخبار وتعديد النعم ، فهي لا تعارض آية : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ٧٩ / ٣٠] ، لأن كلمة (بَعْدِ) فيها بعدية في الذكر وترتيب الإخبار ، لا في الزمان ولا لترتيب الأمر في نفسه ، مثاله : قول الرجل لغيره : أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت الخصوم عنك؟ وربما يكون بعض ما أخره متقدما حدوثه.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢ / ١٤٩

١١٩

وقد يجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء ، ودحيت بعد ذلك ، فلا تعارض ، كما ذكر ابن جزي. لكن قال ابن كثير : هذه الآية (أي ٢٩ من البقرة) دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة [فصلت ٤١ / ٩ ـ ١٠] : (قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...) الآية ، فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء ، إلا ما نقله ابن جرير الطبري عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لآية : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١) [النازعات ٧٩ / ٣٠].

ونبهت آية (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) على القدرة الإلهية المهيئة للأرض من أجل نفع الإنسان وتحقيق مصلحته ورعاية حاجة الخلق ، وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بما في الأرض وتصريف المخلوقات (٢) ، كما قال تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت ٤١ / ٩ ـ ١٠] ، فالمراد بالآية الاعتبار والاتعاظ بدليل ما قبلها وما بعدها من الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتهن.

ولكن وإن كان الهدف الأصلي من إيراد الآية هو ما ذكر ، فقد استدل بها علماء الأصول أيضا على أن «الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي دليل الحظر» (٣) ، أي أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق الله في الأرض ، حتى يأتي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري : ١ / ١٥٢ وما بعدها ، تفسير القرطبي : ١ / ٢٥٥ وما بعدها ، تفسير ابن كثير : ١ / ٦٨

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٤ ، تفسير الرازي : ٢ / ١٥٤

(٣) تفسير القرطبي : ١ / ٢٥١

١٢٠