التفسير المنير - ج ١

الدكتور وهبة الزحيلي

سبب نزول الآية (١٠٨) وما بعدها :

كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود ، حسدا للعرب ، إذ خصّهم الله برسوله ، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية (١٠٩).

وأخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، قال : نعم ، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل ، إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) الآية.

التفسير والبيان :

نزل القرآن منجما مفرقا على وفق المناسبات والحوادث والوقائع ، أخذا بمبدإ تربوي ناجح ألا وهو التدرج في التشريع لإصلاح المجتمع العربي الجاهلي تدريجيا ، ومراعاة للمصالح ، وتمكينا من التخلص من العادات والتقاليد الموروثة شيئا فشيئا ، وإعدادا للحكم الشرعي المستقر ، بتقبل النفوس له وتربيتها على وفق الغاية الشرعية بنحو بطيء ، واقتناع عقلي ذاتي بأفق التشريع ومراميه البعيدة ، فإذا توافرت المصلحة العامة للأمة بقي الحكم ، وإن لم تتوافر عدّل أو بدل ونسخ.

والنسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر يكون إما بنسخ لفظ الآية ومعناها ، أو أحدهما ، أو بانتهاء الحكم المستفاد منها مع بقاء نصها. كل ذلك بحسب المصلحة أو الحاجة ، كالطبيب الذي ينوّع الأدوية والأغذية باختلاف الأزمنة والأمزجة والأحوال الصحية ، والأنبياء صلوات الله عليهم هم أطباء الأمة ، ومصلحو النفوس ، يوحى إليهم بتبديل الحكم الشرعي لمراعاة الأحوال الحاضرة أو المستقبلية ، فما قد يصلح علاجا في الماضي قد لا يصلح في المستقبل. وذلك كله يدل على مرونة الإسلام.

٢٦١

وليس النسخ لظهور أو بداء المصالح الجديدة المقتضية لتغيير الحكم ، فالله سبحانه الناسخ يعلم الماضي والحاضر والمستقبل ، وهو يتدرج في معالجة الأوضاع تبعا للظروف والأحوال ، منعا من المفاجأة وأحكام الطفرة ، كالتدرج في تحريم الخمر أو الربا الذي مرّ بمراحل أربع ، والتدرج في تقرير أحكام الجهاد من سلم مطلق إلى إعداد النفوس ، إلى فرضية القتال بحسب الضعف ، ثم بحسب القوة وكثرة العدد.

ومعنى الآية : ما نغير حكم آية ، أو نجعلك تنساها فلا تذكرها ، أو نامر بتركها أو نؤجلها ، إلا أتينا بما هو خير منها للعباد بكثرة الثواب إن كان الناسخ أثقل أو تحقيق المصلحة إن كان الناسخ أخف ، أو مثلها على الأقل في التكليف والثواب.

قال الفخر الرازي : وقد جاء النسيان بمعنى الترك في قوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه ٢٠ / ١١٥] أي فترك ، وقال تعالى : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية ٤٥ / ٣٤] ، وقال تعالى : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا ، فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه ٢٠ / ١٢٦].

ونسخ الحكم قد يكون ببدل أخف وأيسر ، كنسخ عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، أو ببدل مساو كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة ، أو بأشق منه وثوابه أكثر كنسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين ، ونسخ حبس الزناة في البيوت إلى الجلد ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان لأنه كما في الحديث الثبت : «أفضل الأعمال أحمزها» أي أشقها ، وقد تكون الخيرية بإسقاط التكليف لا إلى بدل في رأي جمهور الأصوليين ، مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونسخ ادخار لحوم الأضاحي ، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان ، بقوله سبحانه : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) [البقرة ٢ / ١٨٧] ، ونسخ وجوب الإمساك بعد النوم في ليالي

٢٦٢

رمضان ، ونسخ قيام الليل في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أليس الله على كل شيء قدير؟ فالله القادر على كل شيء لا يصعب عليه نسخ الأحكام.

وأليس الله ملك السموات والأرض؟ فهو يملك كل ما في الكون أرضه وسمائه ، ويتصرف بحسب إرادته ومشيئته ، ويدبر الأمور حسبما يرى من المصلحة ، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام.

وليس لكم ولي سواه يتولى أموركم ، ولا ناصر ولا معين ينصركم ويعينكم غير الله وحده. وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به رسولهم ، وينتهوا عما نهاهم عنه.

ثم أتبع التحذير بالوعيد لمن يطلب المعجزات تعنتا وعنادا ، فمن يترك الثقة بالآيات المنزلة بحسب المصالح ، ويطلب غيرها معاندة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما طلبت اليهود من موسى عليه‌السلام أن يريهم الله جهرة ، فقد اختار الكفر على الإيمان ، وضلّ عن الحق ، وترك السبيل السوي كما قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) [يونس ١٠ / ٣٢]. ومعنى قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا) بل تريدون ، أو هي على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ، وهو يعمّ المؤمنين والكافرين ، فإنه عليه‌السلام رسول الله إلى الجميع.

وقوع النسخ :

النسخ جائز عقلا بإجماع أهل الشرائع ما عدا اليهود والنصارى ، وواقع شرعا بإجماع المسلمين ، ما عدا أبا مسلم الأصفهاني.

ودليل الجواز العقلي : أنه لا يترتب على فرض وقوعه محال ، وهو معنى الجواز ، لأن أحكام الله تعالى إن لم يراع في شرعيتها مصالح العباد ، فذلك تابع

٢٦٣

لمشيئة الله ، والنسخ فعل لله ، والله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فقد يأمر بالفعل في وقت ، وينهى عنه في وقت ، كما أمر بالصيام في نهار رمضان ، ونهى عنه في يوم العيد.

أما لو راعينا في أحكام الله مصالح العباد ، وأن التشريع قائم على أساس المصالح ، كما تقول المعتزلة ، فالمصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ، فما قد يكون مصلحة لشخص أو في زمن ، قد لا يكون مصلحة لشخص آخر أو في زمن آخر ، وما دامت المصالح تتغير ، والأحكام يراعى في تشريعها مصالح الناس ، فإن النسخ أمر ممكن غير محال ، ويكون جائزا عقلا.

وأدلة وقوع النسخ فعلا كثيرة.

منها : إجماع الصحابة والسلف على أن شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسخة لجميع الشرائع السابقة ، أي في غير أصول العقيدة والأخلاق ، مثل تحريم الشحوم ، وكل ذي ظفر على اليهود بسبب ظلمهم ، وأكلهم أموال الناس بالباطل بالربا وغيره.

ومنها : الإجماع على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس ، باستقبال الكعبة ، وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعفو عنه.

أما أبو مسلم الأصفهاني من علماء التفسير المتوفى سنة ٣٢٢ ه‍ ، فإنه أجاز النسخ مطلقا بين الشرائع ، كما هو المشهور عنه ، ولكنه منع وقوعه في الشريعة الواحدة ، مستدلا بقول الله تعالى في صفة القرآن : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٢] فلو وقع النسخ في القرآن ، لأتاه الباطل. وأجيب بأن النسخ إبطال ، لا باطل ، لأن النسخ حقّ وصدق ، والباطل ضدّ الحقّ ، كل ما في الأمر أن يصبح حكم المنسوخ غير معمول

٢٦٤

به ، فلا دلالة في الآية على مطلوب الأصفهاني.

ثم إن كل آية قيل فيها : إنها منسوخة ، فإنه يؤولها تأويلا إما بالتخصيص ، أو بانتهاء أمد الحكم الشرعي ، أو بالتقييد ببعض الأحوال ، أو الأشخاص ، ونحو ذلك ، كما فعل في آيات العدة وآيات القتال وغيرها الآتية.

أنواع النسخ :

للنسخ أحوال تسع أهمها ثلاث :

١ ـ نسخ التلاوة والحكم معا : مثل نسخ صحف إبراهيم وموسى والرسل السابقين ، ومثل نسخ عدد الرضعات من عشر إلى خمس ، قالت عائشة رضي‌الله‌عنها كما في صحيح مسلم وغيره : «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن ، فنسخن بخمس رضعات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهن فيما يتلى من القرآن» والقسم الأول منسوخ الحكم والتلاوة ، والقسم الثاني وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.

٢ ـ نسخ التلاوة دون الحكم : مثل قول عمر رضي‌الله‌عنه : «كان فيما أنزل : الشيخ والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما البتة ، نكالا من الله ورسوله» ثبت في الصحيح : أن هذا كان قرآنا يتلى ، ثم نسخ لفظه ، وبقي حكمه.

وأضاف الحنفية أمثلة أخرى من القراءات الشاذة ، مثل قراءة ابن مسعود في صوم كفارة اليمين : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقراءة ابن عباس : «فأفطر فعدّة من أيام أخر» وقراءة سعد بن أبي وقاص : «وله أخ أو أخت لأم ، فلكل واحد منهما السدس».

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة : وهو كثير ، مثل نسخ حكم آية الوصية للوالدين والأقربين ، ونسخ آية الاعتداد بحول كامل ، ونسخ آية الحبس للمرأة في

٢٦٥

البيوت ، وإيذاء الرجل باللسان في حدّ الزنا ، ونسخ آية تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويجوز بالاتفاق نسخ نص القرآن بالقرآن ، والسنة المتواترة بمثلها ، وخبر الآحاد بمثله وبالمتواتر.

ويجوز عند الأكثرين نسخ المتواتر بالآحاد أي نسخ القرآن بغير القرآن ، والمتواتر بغير المتواتر ، ونفى الشافعي وقوعه وقال : لا ينسخ القرآن بالسنة ، ولا السنة بالقرآن ، واستدل بقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) دلت الآية على أن الآتي بالبدل هو الله سبحانه ، وهو القرآن ، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن ، لا السنة ، وأيضا فإن الله جعل البدل خيرا من المنسوخ أو مثلا له ، والسنة ليست خيرا من الكتاب ولا مثلا له ، فلا تكون ناسخة له. ثم إن الآية ذيلت ببيان اختصاص ذلك التبديل بمن له القدرة الكاملة ، وهو الله تعالى ، فكان النسخ من جهته فقط ، وهو القرآن ، لا السنة. ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل ١٦ / ١٠١] حيث أسند التبديل إلى نفسه ، وجعله في الآيات.

وأجيب بأن السنة من عند الله كالقرآن ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم ٥٣ / ٣ ـ ٤] إلا أن القرآن معجز ومتعبد بتلاوته ، والسنة ليست كذلك. والمراد بالخيرية والمثلية هو في الأحكام بحسب مصلحة الناس ، لا في اللفظ ، فيكون الحكم الناسخ خيرا من الحكم المنسوخ لاشتماله على تحقيق مصالح العباد ، وقد تأتي السنة بما هو أنفع للمكلف ، مما يدل على أن هذه الآية ليست دالة على أن القرآن لا ينسخ بالسنة.

وقد وقع نسخ القرآن بالسنة في آية الوصية بالحديث المتواتر : «لا وصية لوارث».

٢٦٦

وقال الشافعي أيضا : لا يجوز نسخ السنة بالقرآن ، ويتطلب كون الناسخ سنة أيضا ، لأن الله تعالى في قوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل ١٦ / ٤٤] جعل السنة بيانا ، فلو نسخت قرآنا ، خرجت عن كونها بيانا ، وذلك غير جائز.

وأجيب : بأن المراد بالبيان هو التبليغ ، سواء بالقرآن وغيره.

المراد بالآية في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) :

ذهب الإمام محمد عبده إلى أن الآية لا يراد منها الآية القرآنية ، بل المراد المعجزات الدالة على صدق الرسل ، حيث يبدل الله معجزة الرسول السابق بالمعجزة التي يأتي بها الرسول الذي بعده ، استدلالا بقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وأجيب بأن هذه الآية جاءت للتمهيد في تحويل القبلة ، ونسخ التوجه إليها بالتوجه إلى الكعبة ، فهي في نسخ الأحكام المقررة بالآيات. والمراد بالآية إذا أطلقت : القطعة من السورة المتضمنة أمرا أو نهيا أو غير ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أجمع السلف على وقوع النسخ في الشريعة ، ودلت وقائع ثابتة على وقوعه ، بغض النظر عن التعسف في تأويل الآيات المنسوخة ، وليس النسخ جهلا بالحكم الأخير ، أو من باب البداء ، بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة ، وحكم إلى حكم ، لنوع من المصلحة التشريعية الملائمة لحاجات الناس ، إظهارا لحكمة الله ، وكمال ملكه ، ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء (الظهور بعد الخفاء أو ظهور مصلحة لم تكن ظاهرة للمشرع) لو لم يكن عالما بمآل الأمور ، وأما العالم بذلك ، فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى

٢٦٧

ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغير ، فإن ذلك محال على الله تعالى.

وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا ، والفرق بين النسخ والبداء : أن النسخ تحويل العبادة من شيء قد كان حلالا فيحرّم ، أو كان حراما فيحلّل. وأما البداء : فهو ترك ما عزم عليه ، وهذا يلحق البشر لنقصانهم.

والناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، والنسخ : إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخ عنه.

والمنسوخ : هو الحكم الثابت نفسه ، لا مثله ، كما تقول المعتزلة : بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. وقادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الحسن صفة ذاتية للحسن لا تفارقه ، ومراد الله حسن. والفرق بين التخصيص والنسخ أن الأول قصر للحكم على بعض الأفراد ، والثاني قصر له على بعض الأزمان.

وجمهور العلماء على أن النسخ يختص بالأوامر والنواهي ، وأما الأخبار فلا يدخلها النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق ، ثم تقيد في موضع آخر ، فيرتفع ذلك الإطلاق ، فليس هو من قبيل نسخ الأخبار ، وإنما هو من باب الإطلاق والتقييد ، مثل قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة ٢ / ١٨٦] ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال ، لكنه قيّد في موضع آخر ، وهو قوله تعالى : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام ٦ / ٤١].

٢٦٨

موقف أهل الكتاب من المؤمنين وكيفية الردّ عليه

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

الإعراب :

(لَوْ) مصدرية. (كُفَّاراً) إما مفعول ثان «ليردونكم» أو منصوب على الحال من الكاف والميم في «يردونكم». (حَسَداً) مفعول لأجله ، أي لأجل الحسد. (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) إما متعلق «بودّ» أو «بحسد» والوجه الأول أوجه.

المفردات اللغوية :

الحسد تمني زوال نعمة الغير. (فَاعْفُوا) اتركوهم ، والعفو : ترك العقاب على الذنب. (وَاصْفَحُوا) أعرضوا فلا تجاوزهم ، والصفح : إزالة أثر الذنب من النفس أو الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه ، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) نصره ومعونته ، وما يأمر فيهم من القتال والقتل ، وهو قتل بني قريظة ، وإجلاء يهود بني النضير وفرض الجزية عليهم. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم.

سبب نزول الآية (١٠٩):

قال ابن عباس : نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ، ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.

٢٦٩

المناسبة العامة للآية (١٠٩):

بعد أن نهى الله سبحانه في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود ورفض آرائهم ، ذكر هنا وجه العلّة ، وهي أنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإسلام ويتمنون أن يحرموا منها ، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود ، وإنما يتمنون أن يرتد المسلمون عن دينهم.

التفسير والبيان :

تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوا المسلمين عن دينهم وأن يعودوا كفارا بعد أن كانوا مؤمنين ، حسدا لهم ، عن طريق التشكيك في الدين وإلقاء الشبه على المؤمنين ، وطلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره ، ليتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان.

وسبب ذلك : الحسد الكامن والخبث الباطن في نفوسهم ، لا ميلا مع الحق ، ولا رغبة فيه. ومدعاة التمني : هو ما ظهر لهم بالدليل الواضح أن الإسلام دين الحق الصحيح ، وأن محمدا على الحق ، فاعفوا عنهم أيها المسلمون واصفحوا عن أفعالهم ، واصبروا حتى يأتي نصر الله لكم ، ويأذن الله بالقتال ، ويأتي أمره فيهم : وهو قتل بني قريظة ، وإجلاء بني النضير وإذلالهم ، والله هو القادر على تحقيق النصر : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج ٢٢ / ٤٠].

ثم نبّه الله سبحانه إلى بعض وسائل النصر الذي وعدوا به : وهو أداء الصلاة كاملة الأركان ، تامة الأوصاف ، وأداء الزكاة للفقراء ، ففي الصلاة تتوطد دعائم الإيمان ، وتتقوى الصلة بالله والثقة به ، وتتوثق روابط الأخوة بالاجتماع في المساجد ، وفي الزكاة تتحقق سعادة المجتمع بإغناء الفقراء ، وتتجلى وحدة الأمة بتكافل أبنائها ، وتعاضد فئاتها ، وثواب كل ذلك مرصود لكم في الآخرة ، فكل ما تعملونه من خير ، تجدون جزاءه الكامل عند ربكم : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ

٢٧٠

خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة ٩٩ / ٧] والله عالم بجميع أعمالكم ، بصير بقليلها وكثيرها ، لا تخفى عليه خافية ، من خير أو شرّ ، فالصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا ، وكذلك من أسباب السعادة في الآخرة ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فقه الحياة أو الأحكام :

يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من حسد المؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو ، أو الاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.

ويأمرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه. روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصّهم الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ).

والحسد نوعان : مذموم ومحمود ، فالمذموم : أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم ، سواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا. وهذا النوع الذي ذمّه الله تعالى في كتابه بقوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء ٤ / ٥٤] وإنما كان مذموما ، لأن فيه تسفيه الحق سبحانه ، وأنه أنعم على من لا يستحق.

وأما المحمود وهو المسمى بالغبطة أو المنافسة ، فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه‌السلام : «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن ، فهو

٢٧١

يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل ، وآناء النهار» وحقيقته : أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ، ولا يزول عنه خيره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلّتهم ، هم أصحاب القدرة والشوكة ، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر. أخرج ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد ـ وأصله في الصحيحين ـ : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة ٢ / ١٠٩]. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأوّل من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بالقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش.

وقد جرت سنة الله في القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة ، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد ، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع ، وكلاهما من أسباب السعادة الدنيوية والأخروية ، بدليل ما أردف الله تعالى الأمر بهما بقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ جاء في الحديث : «إن العبد إذا مات ، قال الناس : ما خلف؟ وقالت الملائكة : ما قدّم؟».

ودلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) على أنه مهما فعل الناس من خير أو شرّ ، سرا وعلانية ، فهو به بصير ، لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا ، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا ، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجدّوا في طاعته ، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده ، حتى يثيبهم عليه ، كما قال تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة ٢ / ١١٠].

وثبت في الحديث : «إذا مات الإنسان ، انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة

٢٧٢

جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (١). وجاء عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه أنه مرّ ببقيع الغرقد (٢) ، فقال : السلام عليكم أهل القبور ، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن ، ودوركم قد سكنت ، وأموالكم قد قسمت ، فأجابه هاتف : يا ابن الخطاب ، أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه ، وما أنفقناه فقد ربحناه ، وما خلفناه فقد خسرناه». وثبت مثله عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، فمن مواعظه أنه كان إذا دخل المقبرة قال : السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات ، ثم قال : أما المنازل فقد سكنت ، وأما الأموال فقد قسمت ، وأما الأزواج فقد نكحت ، فهذا خبر ما عندنا ، فليت شعري ما عندكم؟ والذي نفسي بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا : إن خير الزاد التقوى.

رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

__________________

(١) رواه البخاري في الأدب ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

(٢) بقيع الغرقد : مقبرة أهل المدينة.

٢٧٣

الإعراب :

(هُوداً) جمع هائد ، أي تائب ، من قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف ٧ / ١٥٦] أي تبنا ، وهو خبر كان المنصوب.

(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الجملة حال.

البلاغة :

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) جملة اعتراضية لإبطال دعواهم ، مكونة من مبتدأ وخبر. (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أمر للتبكيت والتقريع.

(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) خصّ الوجه بالذكر ، لأنه أشرف أجزاء الإنسان. والوجه هاهنا استعارة ، والمعنى : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، ولا يعبد سواه. (عِنْدَ رَبِّهِ) العندية للتشريف ، وإظهار اسم الرب محل الضمير لإظهار مزيد اللطف به.

(قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيه توبيخ شديد لأهل الكتاب ، لأنهم جعلوا أنفسهم بمنزلة من لا يعلم شيئا أصلا.

المفردات اللغوية :

(هُوداً) جمع هائد ، وهم اليهود. (أَوْ نَصارى) أتباع المسيح ، قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران ، لما تناظروا بين يدي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي قال اليهود : لن يدخلها إلا اليهود ، وقال النصارى : لن يدخلها إلا النصارى. (تِلْكَ) القولة (أَمانِيُّهُمْ) شهواتهم الباطلة ، الأماني : جمع أمنية ، وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه. والعرب تسمي كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا ، وضلالا وأحلاما. (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على ذلك.

(بَلى) يدخل الجنة غيرهم ، وهو (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) جعل وجهه خالصا لله ، وانقاد له ، فإسلام الوجه لله : هو الانقياد له والإخلاص له في العمل ، بحيث لا يتخذ وسيطا بينه وبين ربه. وخصّ الوجه ، لأنه أشرف الأعضاء ، فغيره أولى ، قال الفخر الرازي: إسلام الوجه لله يعني إسلام النفس لطاعة الله ، وقد يكنى بالوجه عن النفس ، كما قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٢٨ / ٨٨]. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) موحّد. (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ثواب عمله الجنة. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة.

(عَلى شَيْءٍ) معتد به ، وكفرت اليهود بعيسى ، وكفرت النصارى بموسى. (يَتْلُونَ الْكِتابَ) كل من الفريقين يتلون الكتاب المنزل عليهم ، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى ، وفي

٢٧٤

كتاب النصارى تصديق موسى. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) اي كما قال المشركون من العرب وغيرهم. (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بيان لمعنى ذلك ، أي قالوا لكل ذي دين : ليسوا على شيء. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ..) في أمر الدين ، فيدخل المحق الجنة ، والمبطل النار.

سبب نزول الآية (١١٣):

نزلت في يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران ، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل ، وقالت لهم النصارى : ما أنتم على شيء من الدين ، فكفروا بموسى والتوراة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

التفسير والبيان :

لقد نجم عن عدم إيمان أهل الكتاب بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضلال وتمزق وانقسام شديد بسبب اتباع الأهواء ، أما اليهود وهم أسوأ حالا من النصارى فلهم حالان : الأولى ـ تضليل من عداهم ، وادعاؤهم أنهم شعب الله المختار ، وأن النبوة مقصورة عليهم. والثانية ـ تضليل اليهود للنصارى ، وتضليل النصارى لهم ، مع ان التوراة شريعة للنصارى ، والإنجيل متمم للتوراة.

ومعنى الآية : أن اليهود قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، وكل طائفة منهما تكفّر الأخرى. تلك تمنياتهم الباطلة التي لا أساس لها ، ولا فائدة منها ، وإلا فهاتوا البرهان على ما تزعمون أيها اليهود والنصارى ، إن كنتم صادقين ، فليست المسألة مجرد دعوى. وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدّعى ، فهو في

__________________

(١) البحر المحيط : ١ / ٣٥٠

٢٧٥

العرف تكذيب للدعوى ، لأنه لا برهان لهم عليها. وفي هذا إيماء إلى أنه لا تقبل دعوى من دون برهان عليها.

ثم ردّ الله عليهم بقوله : (بَلى) كلمة تفيد الجواب لإثبات نفي سابق ، وردّ لما زعموه ، فإن الذي يدخل الجنة من لم يكن هودا أو نصارى ، وهو كل من انقاد لله وأخلص في عمله ، وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده ، وهؤلاء لهم الأجر عند ربهم بلا خوف ولا حزن في الآخرة ، خلافا لعبدة الأوثان والأصنام الذين هم في خوف مما يستقبلهم ، وحزن مما ينزل بهم.

والآية تدل على أن الإيمان وحده لا يكفي ، بل لا بدّ من إحسان العمل أيضا ، وجرت سنة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء ٤ / ١٢٤] وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) [الأنبياء ٢١ / ٩٤].

واشتدّ الخصام والنزاع بين أهل الكتاب ، فلم يكتفوا بما سبق ، بل قالت اليهود : ليست النصارى على شيء من الدين يعتدّ به ، فلا يؤمنون بالمسيح الذي بشّرت به التوراة ، ولا يزالون إلى اليوم يدّعون أن المسيح المبشّر به لما يأت بعد ، وينتظرون ظهوره ، وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل. وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء من الدين الصحيح ، فأنكروا تتميم المسيح لشريعة اليهود.

قالوا ذلك والحال أنهم أصحاب كتاب يدّعون تلاوته ويؤمنون به ، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتي بعد موسى ، والإنجيل يقول : إن المسيح جاء متمما لناموس (شريعة) موسى ، لا ناقضا ، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة ، والنصارى تؤمن بالإنجيل ، لما قالوا مثل ذلك ، لأن كل كتاب نزل من عند الله ، مصدقا لما

٢٧٦

سبقه ، ومبشرا لما يأتي بعده ، وكل منهما مشروع في وقت ، والمعنى : أن دينهم واحد ، ترك كل فريق منهم بعضه ، وكتاب كل منهم حجة عليهم.

وهم في هذا الموقف لا يؤمنون بشيء ، ولقد قال المشركون عبدة الأوثان الذين لا يعلمون شيئا لعدم وجود كتاب سماوي لديهم مثل مقالة أهل الكتاب ، فقالوا لأهل كل دين : لستم على شيء ، والله يحكم بين الجميع يوم القيامة بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة ، فهو العليم بما عليه كل فريق من حق أو باطل ، ويجازيهم على بطلانهم أشدّ الجزاء ، وأما الجنة : فهي لمن أخلص العبادة لله ، وانقاد له ، وأخلص نفسه لربه ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن أي عامل بأوامر الله ، متجنب نواهيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن من شأن أهل الكتاب أن يؤمن كل فريق بكتاب الآخر ، ثم يؤمنون جميعا بالقرآن ، لأنهم على علم بأصول الدين والوحي ، وإقرار بمبدإ النبوة ، واعتراف بوجود الإله ، خلافا لكفار العرب المشركين عبدة الأصنام والأوثان ، لأنهم لا كتاب لهم.

فلا مسوغ لوقوع التنازع والتناقض والتباغض والتعادي والتعاند بين اليهود والنصارى ، وما عليهم إلا أن يعملوا ويؤمنوا بكل ما جاء في كتابهم ، فيهتدوا إلى الإيمان الحق ، والتصديق برسالة كل نبيّ آت.

وطريق النجاة لكل إنسان : هو الإيمان الخالص لله ، المتضمن تمام الخضوع والانقياد لأمر الله ، المنزّه عن كل شرك ، القائم على العمل الصالح والعبادة الخالصة لله عزوجل ، فلا ينفع الإيمان وحده دون اقترانه بالعمل الصالح. وليس لأحد أو شعب أن يدّعي أنه أحق برحمة الله دون غيره ، لأن الله ربّ العالمين ، يجازي كل إنسان بما عمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. ولا تقبل

٢٧٧

دعوى أحد من غير برهان ، فمن ادّعى نفيا أو إثباتا ، فلا بدّ له من الدليل ، وتدل الآية على بطلان التقليد : وهو قبول الشيء بغير دليل. والقرآن ذاته مليء بالاستدلال على القدرة والإرادة والوجود والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية ، ويكفي دليلا على وجوده تعالى الخلق والإبداع والتكوين ، كما يكفي دليلا على وحدانيته عدم صلاح الكون والعالم بتعدّد الآلهة كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢١ / ٢٢].

ظلم مانع الصلاة في المساجد ، وصحة الصلاة في أي مكان

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

الإعراب :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) مبتدأ وخبر ، ولما كان معنى هذا الاستفهام النفي كان خبرا. (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) في منصوب : إما بدل من (مَساجِدَ) بدل اشتمال ، كقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج ٨٥ / ٤ ـ ٥] وإما مفعول لأجله ، أي لئلا يذكر فيها اسمه ، وكراهة أن يذكر فيها اسمه ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء ٢١ / ٣١] أي لئلا تميد بهم ، وكقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء ٤ / ١٧٦] أي لئلا تضلوا ، وكراهة أن تضلوا.

(ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) : (أَنْ يَدْخُلُوها) في موضع رفع ، لأنه اسم (كانَ) و (لَهُمْ) الخبر ، و (خائِفِينَ) منصوب على الحال من واو (يَدْخُلُوها).

٢٧٨

البلاغة :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام بمعنى النفي ، أي لا أحد أظلم منه. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) التنكير للتهويل أي خزي هائل لا يوصف.

(عَلِيمٌ) صيغة مبالغة ، أي واسع العلم.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام إنكاري ويفيد النفي. والظلم : وضع الشيء في غير موضعه. والمسجد : موضع العبادة لله تعالى. (وَسَعى فِي خَرابِها) تخريبها وهدمها وتعطيلها ، نزلت إخبارا عن الروم الذين خربوا بيت المقدس ، أو في المشركين لما صدوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية عن البيت. (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) خبر بمعنى الأمر ، أي أخيفوهم بالجهاد ، فلا يدخلها أحد آمنا. (خِزْيٌ) ذلّ وهوان بالقتل والسبي وفرض الجزية. (عَذابٌ عَظِيمٌ) هو النار.

(فَثَمَ) هناك. (وَجْهُ اللهِ) جهته وقبلته التي رضيها. (واسِعٌ) يسع فضله كل شيء ، فلا يحصر ولا يتحدد. (عَلِيمٌ) شامل العلم بتدبير خلقه.

سبب نزول الآية (١١٤):

هناك روايتان عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية ، ففي رواية الكلبي عنه : نزلت في ططلوس الرومي وأصحابه من النصارى ، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل ، فقتلوا مقاتلتهم ، وسبوا ذراريهم ، وحرفوا التوراة ، وخربوا بيت المقدس ، وقذفوا فيه الجيف.

وقال قتادة : هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود ، وخربوا بيت المقدس ، وأعانتهم على

ذلك النصارى من أهل الروم.

وفي رواية عطاء عن ابن عباس : نزلت في مشركي أهل مكة ، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن قريشا منعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) الآية.

٢٧٩

وأخرج ابن جرير عن أبي زيد قال : نزلت في المشركين ، حين صدوا رسول الله عن مكة يوم الحديبية.

ورجح ابن العربي أنها نزلت في صلاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بيت المقدس ، ثم عاد فصلّى إلى الكعبة ، فاعترضت عليه اليهود ، فأنزلها الله تعالى له كرامة ، وعليهم حجة ، كما قال ابن عباس.

وعلى أي حال ، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فتشمل أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ، وينطبق على ما وقع من تيطس الروماني الذي دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة ، وخربها ، وهدم هيكل سليمان ، وأحرق بعض نسخ التوراة ، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك. كما ينطبق على مشركي مكة الذين منعوا النّبي وأصحابه من دخول مكة ، وكذلك على الصليبيين الذين أغاروا على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين ، وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد ، ويتكرر الأمر من اليهود في الوقت الحاضر بتخريب كثير من مساجد فلسطين ، وإحراق المسجد الأقصى ، ومحاولات هدمه المتكررة.

المناسبة :

ذكر النصارى في قوله : (وَقالَتِ النَّصارى : لَيْسَتِ الْيَهُودُ) وذكر المشركون في قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وفي أي فريق نزلت هذه الآية بسببه ، كان ذلك مناسبا لذكرها.

التفسير والبيان :

لا ظلم ولا اعتداء على الحرمات أشد من منع العبادة في المساجد العامة ، والسعي في تخريبها وهدمها أو تعطيل وظائفها وشعائر الدين فيها ، لما في ذلك من انتهاك حرمة الدين المؤدي إلى نسيان الخالق ، وإشاعة المنكرات والفساد بين

٢٨٠