تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

وجعلوها حسابا لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلّا بعض الفصول ، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية ، وقد كان الحساب الشمسي معروفا عند القبط والكلدانيين ، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر ، وتعيين الشمسية للأعياد ، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين ، فأمّا ضبط الأشهر. فيرجع إلى الحاجي. فألهم الله البشر ، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم ، أن اتّخذوا نظاما لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت ، وأن جعلوه مستندا إلى مشاهدات بيّنة واضحة لسائر الناس ، لا تنحجب عنهم إلا قليلا في قليل ، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة ، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاما مطردا. وذلك كواكب السماء ومنازلها ، كما قال في بيان حكمة ذلك (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥] ، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستندا إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم ، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر ، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك ، وبذلك تنظم اليوم والليلة ، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالا إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شهر آخر ، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاة بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة ، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذو شكل من النجوم سمّوه بالمنازل. وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد ، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمر أو الكلأ الذي ابتدءوا في مثله العدّ وهي أوقات الفصول الأربعة ، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهرا فسمّوا تلك المدّة عاما ، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهرا ، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدءوا فيه الحساب أوّل مرّة ، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعا للغلط ، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم ، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم ، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعيادا دورية تكون مرّة في كلّ سنة ، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبنيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر ، وجعل لهم زمنا محترما بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم ، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب ، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها ، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها ، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها ، كان ذلك كلّه مرادا عنده فلذلك قال : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ

٨١

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

فمعنى قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) : أنّها كذلك في النظام الذي وضع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر ، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلا لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئا مكرّرا.

و (عِنْدَ اللهِ) معناه في حكمه وتقديره ، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد ، وهو ظرف معمول ل (عِدَّةَ) أو حال من (عِدَّةَ) و (فِي كِتابِ اللهِ) صفة ل (اثْنا عَشَرَ شَهْراً).

ومعنى (فِي كِتابِ اللهِ) في تقديره ، وهو التقدير الذي به وجدت المقدورات ، أعني تعلّق القدرة بها تعلّقا تنجيزيا كقوله : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥] أي قدرا محدّدا ، فكتاب هنا مصدر.

بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقا لحساب الزمان كما قال : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] ولذلك قال هنا (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ف (يَوْمَ) ظرف ل (كِتابِ اللهِ) بمعنى التقدير الخاصّ ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلق هذا النظام المنتسب بين القمر والأرض.

ولهذا الوجه ذكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات ، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر ، وكان بها القمر مجزّأ أجزاء ، منذ كونه هلالا ، إلى ربعه الأول ، إلى البدر ، إلى الربع الثالث ، إلى المحاق ، وهي مقادير الأسابيع ، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض. ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكتل من الكواكب ، التي تبدو للعين مجتمعة ، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع ، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبل أحد عشر طلوعا من أي وقت ابتدئ منه العد من أوقات الفصول ، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية.

فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنتها حاصلا من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات ، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها ، ولذلك ذكرت الأرض

٨٢

والسماوات معا.

وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب ، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم ، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ ، ألا ترى قول لبيد:

حتى إذا سلخا جمادى ستة

جزءا فطال صيامه وصيامها

أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية.

وقرأ الجمهور (اثْنا عَشَرَ) بفتح شين (عَشَرَ) وقرأه أبو جعفر (اثْنا عَشَرَ) بسكون عين (عَشَرَ) مع مدّ ألف اثنا مشبعا.

والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم : ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب ، إلّا ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رجبا ، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى ، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تحلّ أشهر السنة كلّها ، وهي قضاعة. وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) «ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه‌السلام لمصلحة الناس ، وإقامة الحجّ ، كما قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٩٧].

واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس ، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة ، والأخلاق الكريمة ، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل ، الواقعة فيه ، أو المقارنة له. فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه ، أو باطلاع على مراده ، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه ، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات ، أو مضاعفة الحسنات ، كما قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٣] أي من عبادة ألف شهر لمن قبلنا من الأمم ، وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام» والله العليم

٨٣

بالحكمة التي لأجلها فضّل زمن على زمن ، وفضّل مكان على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شئون وأحوال أرادها الله ، فقدّرها ، فأشبهت الأمور الكونية ، فلا يبطلها إلّا إبطال من الله تعالى ، كما أبطل تقديس السبت بالجمعة ، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلا في أوقات دينية : لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية ، ولا يكون لها اعتبار إلّا إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنة أو أمكنة أو ناس.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى المذكور : من عدّة الشهور الاثني عشر ، وعدّة الأشهر الحرم. أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل ، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّم فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة.

والدين : النظام المنسوب إلى الخالق الذي يدان الناس به ، أي يعاملون بقوانينه. وتقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) في سورة آل عمران [١٩] ، كما وصف بذلك في قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم : ٣٠].

فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه (فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

وكون أربعة من تلك الأشهر أشهرا حرما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرما اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي ، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية.

وجملة : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) معترضة بين جملة (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) وجملة (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

تفريع على (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فإنّها ، لما كانت حرمتها ممّا شرعه الله ، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها.

٨٤

فالضمير المجرور بفي عائد إلى الأربعة الحرم : لأنّها أقرب مذكور ، ولأنّه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها ، وإلّا لكان مجرّد اقتضاب بلا مناسبة ، ولأنّ الكسائي والفرّاء ادّعيا أنّ الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلّة من المؤنث مثل هنّ كما قال هنا (فِيهِنَ) إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل (ها) يعاملان معاملة الواحد كما قال : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ومعلوم أنّ جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث ، وقال الكسائي : إنّه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي «خلون» وفيما فوقها «خلت». وعن ابن عبّاس أنّه فسرّ ضمير فيهنّ بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده : فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية ، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين فيها وفيهن وأنّ الاختلاف بينهما في الآية تفنّن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعّد عليه ، فإنّ فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب ، فكان ظلما للنفس قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) [النساء : ٦٤] الآية وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠].

والأنفس تحتمل أنّها أنفس الظالمين في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا) أي لا يظلم كلّ واحد نفسه. ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي : أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة ، فإن لم يكن أحد متلبّسا بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي ، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أنّ المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهيا عنها ، بل المراد أنّ المعصية فيها أعظم وأنّ العمل الصالح فيها أكثر أجرا ، ونظيره قوله تعالى : (وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] فإنّ الفسوق منهي عنه في الحجّ وفي غيره.

ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء ، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين ، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أنّ الأمّة كالنفس من الجسد على حدّ قوله تعالى: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية ، وكقوله : (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر ، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٩٧] وإنّما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيدا لمنطوق قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] ولمفهوم قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ

٨٥

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] وهي مقيّدة بقوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) [التوبة : ٧] وقوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤]. ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياما من ذي القعدة لأنهم ابتدءوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم ، فاستمرّت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة ، وما كان ليكفّ القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدءوهم أوّل مرّة ، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود.

والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور ، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة : فقال ابن المسيّب ، وابن شهاب ، وقتادة ، وعطاء الخراساني حرّمت الآية القتال في الأشهر الحرم ثم نسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات ، فتكون هذه الآية مكمّلة لما بقي من مدّة حرمة الأشهر الحرم ، حتّى يعمّ جميع بلاد العرب حكم الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضرب الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود. وقال عطاء بن أبي رباح : يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلّا أن يبدأ العدوّ فيها بالقتال ولا نسخ في الآية.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

أحسب أنّ موقع هذه الآية موقع الاحتراس من ظنّ أنّ النهي عن انتهاء الأشهر الحرم يقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدءوا بقتال المسلمين ، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله : (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي ، أو باعتدائكم على أعدائكم ، فإن هم بادءوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم ، وتعليله بأنّهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين.

و (كَافَّةً) كلمة تدلّ على العموم والشمول بمنزلة (كلّ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكّد من أفراد وتثنية وجمع ، ولا من تذكير وتأنيث ، وكأنّه مشتق من الكفّ عن استثناء بعض الأفراد ، ومحلّها نصب على الحال من المؤكّد بها ، فهي في الأول تأكيد لقوله (الْمُشْرِكِينَ) وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين ، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنّه تبع لعموم الذوات ، أي كلّ فرق المشركين ، فكلّ فريق وجد في حالة ما ، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال ، فالمسلمون مأمورون بقتاله ، فمن ذلك : كلّ فريق يكون

٨٦

كذلك في الأشهر الحرم ، وكلّ فريق يكون كذلك في الحرم.

والكاف في (كَما يُقاتِلُونَكُمْ) أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلّته ، لأنّه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨].

وجملة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين ، لأنّ المعية هنا معية تأييد على العمل ، وليست معية علم ، إذ لا تختصّ معيّة العلم بالمتّقين.

وابتدئت الجملة ب (اعْلَمُوا) للاهتمام بمضمونها كما تقدّم في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال : ٤١] الآية ، بحيث يجب أن يعلموه ويعوه.

والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتّقين ، دون أن يقال واعلموا أنّ الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم ، فيفيد أنّ المتّصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين ، لئلا يكون ذكر جملة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) غريبا عن السياق ، فيحصل من ذلك كلام مستقلّ يجري مجرى المثل وإيجاز يفيد أنّهم حينئذ من المتّقين ، وأنّ الله يؤيّدهم لتقواهم ، وأنّ القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى ، وأنّ المشركين حينئذ هم المعتدون على حرمة الأشهر ، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ٣٦] الآية لأنّ ذلك كالمقدّمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه.

والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمته وجعلت لشهر آخر فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من نسأ المهموز اللام ، ويطلق مصدرا بوزن فعيل مثل نذير من قوله : (يْفَ نَذِيرِ)(١) [الملك : ١٧] ، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز ، أي أخّر ، فالنسيء ـ

__________________

(١) في المطبوعة (فكيف كان نذير) وهو غلط.

٨٧

بهمزة بعد الياء ـ في المشهور. وبذلك قرأه جمهور العشرة. وقرأه ورش عن نافع ـ بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامها في أختها ، والإخبار عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٠٢].

والنسيء عند العرب تأخير يجعلونه لشهر حرام فيصيرونه حلالا ويحرّمون شهرا آخر من الأشهر الحلال عوضا عنه في عامه.

والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سنتهم قمرية تبعا للأشهر ، فكانت سنتهم اثني عشر شهرا قمرية تامة ، وداموا على ذلك قرونا طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء.

وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل (١) أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكنّ. وسكت المفسّرون عمّا نشأ بعد قول العرب هذا ، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أنّ أوّل من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأنّ جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغّل في القدم والذي يجب اعتماده أنّ أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم ـ (ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا). وهو الملقب بالقلمّس ولا يوجد ذكر بني فقيم في «جمهرة ابن حزم» وقد ذكره صاحب «القاموس» وابن عطية. قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير (كذا ولعلّه سري) بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة. وفي ابن عطية خلاف ذلك قال : انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ لهم الشهور. ثم خلفه ابنه عبّاد. ثم ابنه قلع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلام قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسّك بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب. وفي «تفسير القرطبي» عن الضحّاك عن ابن عباس أول من نسأ عمرو بن لحي (أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيّب السائبة). وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة.

قال ابن حزم : كلّ من صارت إليه هذه المرتبة (أي مرتبة النسيء) كان يسمّى

__________________

(١) هكذا يؤخذ من مجموع كلام الطبري وابن عطية والقربي مع حذف المتداخل.

٨٨

القلمس. وقال القرطبي : كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترئيس العرب إيّاه. وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إنّي ناسئ الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب (١). اللهم أنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخّر انفروا على اسم الله تعالى. وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إنّ أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب. ولا مرد لما يقول فيقولون أنسئنا شهرا ، أي أخّر عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرّم وينادي : ألا إنّ آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرّمونه ذلك العام فإذا حجّوا في ذي الحجّة تركوا المحرّم وسمّوه صفرا فإذا انسلخ ذو الحجّة خرجوا في محرّم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنّه صار صفرا فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرّم ذا الحجّة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجّون في شهر صفر عامين ولاء ثم كذلك.

وقال السهيلي في «الروض الأنف» إنّ تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري ، تحريا منهم للسنة الشمسية ، فكانوا يؤخّرونه في كلّ عام أحد عشر يوما أو أكثر قليلا ، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة ، فيعود إلى وقته ونسب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أنّ ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعلّه تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي ، وأحسب أنّه اشتباه.

وكان النسيء بأيدي بني فقيم (٢) من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم.

وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنّه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة ، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة.

وصيغة القصر في قوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداء والغارات فهو قصر حقيقي ، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ

__________________

(١) وقع في «اللسان» و «القاموس» وفي «تفاسير» ابن عطية والقرطبي والطبري (ولا أجاب). بجيم ولعل معناه لا يجيبني أحد فيما أقوله أي لا يرد عليه.

(٢) فقيم بصيغة التصغير اسم جد.

٨٩

الذين وضعوه ليسوا إلّا كافرين وما هم بمصلحين ، وما الذين تابعوهم إلّا كافرون كذلك وما هم بمتّقين.

ووجه كونه كفرا أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقّته بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط ، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه ، ويسمّونه بغير اسمه ، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له ، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسما مشتقّا من مادة النّساء وهو التأخير ، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته ، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى ، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلّ لشهر حرام والحرمة لشهر غير حرام ، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به ، فلذلك يشبه جعلهم لله شركاء ، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر ، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل.

وحرف (فِي) المفيد الظرفية متعلّق «بزيادة» لأنّ الزيادة تتعدّى بفي (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : ١] فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابه للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شئون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفرا وهذا كما يقول السلف : إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ، أي صلاتكم. على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غير الاعتقاد لا تقتضي إيمانا ولا كفرا.

وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف ، أي زيادة في أحوال أهل الكفر ، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦]. وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار ، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجاز حذف بتقدير مضاف.

٩٠

وجملة (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد.

وجملة (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) بيان لسبب كونه ضلالا.

وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار ، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه ، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى ، ومواطأة عدّة ما حرم الله.

وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّردا بين جميع المشركين من العرب فما وقع في «تفسير الطبري» عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدءوا بمتابعته.

وقرأ الجمهور (يُضَلُ) ـ بفتح التحتية ـ وقرأه حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف ، ويعقوب ـ بضمّ التحتية ـ على أنّهم يضلّون غيرهم.

والتنكير والوحدة في قوله : (عاماً) في الموضعين للنوعية ، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام ، فهو كالوحدة في قول الشاعر :

يوما بحزوى ويوما بالعقيق

وليس المراد أنّ ذلك يوما غبّ يوم ، فكذلك في الآية ليس المراد أنّ النسيء يقع عاما غبّ عام كما ظنّه بعض المفسّرين. ونظيره قول أبي الطيّب :

فيوما بخيل تطرد الروم عنهم

ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا

(يريد تارة تدفع عنهم العدوّ وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب) وإنّما يكون ذلك حين حلول العدوّ بهم وإصابة الفقر والجدب بلادهم ، ولذلك فسّره المعري في كتاب «معجز أحمد» بأن قال : «فإنّ قصدهم الروم طردتهم بخيلك وإن نازلهم فقر وجدب كشفته عنهم بجودك وإفضالك».

وقد أبقي الكلام مجملا لعدم تعلّق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء ، ولعلّ لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين.

ومحلّ الذمّ هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة ، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة ويتعلّق

٩١

قوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) بقوله : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة.

والموطأة الموافقة ، وهي مفاعلة عن الوطء شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق [في] وطئ الأرجل ومن هذا قولهم (وقوع الحافر على الحافر).

و (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة.

وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضرب من المعذرة ، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم ، ولكن ذكره ليرتّب عليه قوله : (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله ، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين ، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم ، ويفرّطون في نفس الحرمة فيحلون الشهر الحرام ، ثم يزيدون باطلا آخر فيحرّمون الشهر الحلال. فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود.

وتوجيه عطف (فَيُحِلُّوا) على مجرور لام التعليل في قوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل ، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

والإتيان بالموصول في قوله : (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم ، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيما. ففيه تعريض بالتهكّم بهم.

والإظهار في قوله : (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) دون أن يقال فيحلوه ، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم ، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالهم حرمة بعض الأشهر الحرم ، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظا على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى.

وجملة (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا : لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تملئوه فقيل : لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم ، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح.

والتزيين التحسين ، أي جعل شيء زينا ، وهو إذا يسند إلى ما لا تتغيّر حقيقته فلا

٩٢

يصير حسنا ، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس. وتقدّم التزيين في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) في سورة البقرة [٢١٢]. وقوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في سورة الأنعام [١٠٨].

وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها.

وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) عطف على جملة (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة ، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب ، حتّى يقلعوا عن ضلالهم ، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم ، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق ، الذين بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه ، جزاء لهم على ما أسلفوه من الكفر ، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية.

والإظهار في مقام الإضمار بقوله : (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم ، أي : هذا شأن الله مع جميع الكافرين.

واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تتلقّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسنّ له نظامه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض ، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغيير تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق ، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس ، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحيّ.

وقد أوحى الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ العام الذي يحجّ فيه يصادف يوم الحجّ منه يوم تسعة من ذي الحجة ، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض ، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجّة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» ، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء ، فجاءت حجّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يوم خلق السماوات والأرض.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى

٩٣

الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨))

هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله ، بطريقة العتاب على التباطؤ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد ، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية : «لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتابا على تخلّف من تخلّف عن غزوة تبوك ، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون» فالكلام متّصل بقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ـ وبقوله ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة : ٢٩ ـ ٣٥] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات.

وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة ، وكان ذلك في وقت حرّ شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، حين نضجت الثمار ، وطابت الظلال ، وكان المسلمون يومئذ في شدّة حاجة إلى الظهر والعدّة. فلذلك سمّيت غزوة العسرة كما سيأتي في هذه السورة ، فجلى رسول الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم ، وأخبرهم بوجهه الذي يريد ، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلّا ورّى بما يوهم مكانا غير المكان المقصود ، فحصل لبعض المسلمين تثاقل ، ومن بعضهم تخلّف ، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد.

فإنّ نحن جرينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة ، وأنّه بعد غزوة تبوك ، كما هو الأرجح ، وهو قول جمهور المفسّرين ، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت (إِذا) مستعملة ظرفا للماضي ، على خلاف غالب استعمالها ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ) [التوبة : ٩٢] الآية ، فإنّ قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٥] صالح لإفادة ذلك ، وتحذير من العودة إليه ، لأنّ قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا) و (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) و (انْفِرُوا خِفافاً) مراد به ما يستقبل حين يدعون إلى غزوة أخرى ، وسنبيّن ذلك مفصّلا في مواضعه من الآيات.

وإن جرينا على ما عزاه ابن عطية إلى النقاش : أنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) هي أول آية نزلت من سورة براءة ، كانت الآية عتابا على تكاسل وتثاقل ظهرا على بعض الناس ، فكانت (إِذا) ظرفا

٩٤

للمستقبل ، على ما هو الغالب فيها ، وكان قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٩] تحذيرا من ترك الخروج إلى غزوة تبوك ، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في «السيرة» وما ترجّح في نزول هذه السورة.

و (ما) في قوله : و (ما لَكُمْ) اسم استفهام إنكاري ، والمعنى : أي شيء ، و (لَكُمْ) خبر عن الاستفهام أي : أي شيء ثبت لكم.

و (إِذا) ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى : أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه : انفروا ، وليس مضمّنا معنى الشرط لأنّه ظرف مضيّ.

وجملة (اثَّاقَلْتُمْ) في موضع الحال من ضمير الجماعة ، وتلك الحالة هي محل الإنكار ، أي : ما لكم متثاقلين. يقال : ما لك فعلت كذا ، وما لك تفعل كذا كقوله : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) [الصافات : ٢٥] ، وما لك فاعلا ، كقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨].

والنّفر : الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمر يحدث ، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب ، ومصدره حينئذ النفير.

وسبيل الله : الجهاد ، سمّي بذلك لأنّه كالطريق الموصّل إلى الله ، أي إلى رضاه.

و (اثَّاقَلْتُمْ) أصله تثاقلتم قلبت التاء المثنّاة ثاء مثلّثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام ، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه.

(والتثاقل) تكلّف الثقل ، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض.

والثقل حالة في الجسم تقتضي شدّة تطلّبه للنزول إلى أسفل ، وعسر انتقاله ، وهو مستعمل هنا في البطء مجازا مرسلا ، وفيه تعريض بأنّ بطأهم ليس عن عجز ، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم.

وعدّي التثاقل ب (إِلَى) لأنّه ضمن معنى الميل والإخلاد ، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها.

والأرض ما يمشي عليه الناس.

ومجموع قوله : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعذر عن الجهاد كسلا وجبنا بحال من يطلب منه النهوض والخروج ، فيقابل ذلك الطلب

٩٥

بالالتصاق بالأرض ، والتمكّن من القعود ، فيأبى النهوض فضلا عن السير.

وقوله : (إِلَى الْأَرْضِ) كلام موجه بديع : لأنّ تباطؤهم عن الغزو ، وتطلّبهم العذر ، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم ، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى أرضكم ودياركم.

والاستفهام في (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) إنكاري توبيخي ، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين.

و (مِنَ) في (مِنَ الْآخِرَةِ) للبدل : أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلا عن الآخرة. ومثل ذلك لا يرضى به والمراد بالحياة الدنيا ، وبالآخرة : منافعهما ، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة.

واختير فعل (رَضِيتُمْ) دون نحو آثرتم أو فضّلتم : مبالغة في الإنكار ، لأن فعل (رضي بكذا) يدلّ على انشراح النفس ، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار «فشرب حتّى رضيت».

والمتاع : اسم مصدر تمتّع ، فهو الالتذاذ والتنعّم ، كقوله : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٣٢] ووصفه ب (قَلِيلٌ) بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه.

ويحتمل أن يكون المتاع هنا مرادا به الشيء المتمتّع به ، من إطلاق المصدر على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة.

وحرف (فِي) من قوله : (فِي الْآخِرَةِ) دالّ على معنى المقايسة ، وقد جعلوا المقايسة من معاني (فِي) كما في «التسهيل» و «المغني» ، واستشهدوا بهذه الآية أخذا من «الكشاف» ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو «الكشّاف» ، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد [٢٦] (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث مسلم «ما الدنيا في الآخرة إلّا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع» وهو في التحقيق (من) الظرفية المجازية : أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلا بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة ، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلّا عند ما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها ، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعمال حرف الظرفية ، وليس معنى موضوعا له حرف (في).

٩٦

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

هذا وعيد وتهديد عقب به الملام السابق ، لأنّ اللوم وقع على تثاقل حصل ، ولمّا كان التثاقل مفضيا إلى التخلّف عن القتال ، صرّح بالوعيد والتهديد أن يعودوا لمثل ذلك التثاقل ، فهو متعلّق بالمستقبل كما هو مقتضى أداة الشرط. فالجملة مستأنفة لغرض الإنكار بعد اللوم. فإن كان هذا وعيدا فقد اقتضى أنّ خروج المخاطبين إلى الجهاد الذي استنفرهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وجب على أعيانهم كلّهم بحيث لا يغني بعضهم عن بعض ، أي تعيّن الوجوب عليهم ، فيحتمل أن يكون التعيين بسبب تعيين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم للخروج بسبب النفير العام ، وأن يكون بسبب كثرة العدوّ الذي استنفروا لقتاله ، بحيث وجب خروج جميع القادرين من المسلمين لأنّ جيش العدوّ مثلي عدد جيش المسلمين. وعن ابن عباس أنّ هذا الحكم منسوخ نسخه قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] فيكون الجهاد قد سبق له حكم فرض العين ثم نقل إلى فرض الكفاية.

وهذا بناء على أنّ المراد بالعذاب الأليم في قوله : (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) هو عذاب الآخرة كما هو المعتاد في إطلاق العذاب ووصفه بالأليم ، وقيل : المراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا كقوله : (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) [التوبة : ٥٢] فلا يكون في الآية حجّة على كون ذلك الجهاد واجبا على الأعيان ، ولكنّ الله توعّدهم ، إن لم يمتثلوا أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بأن يصيبهم بعذاب في الدنيا ، فيكون الكلام تهديدا لا وعيدا. وقد يرجح هذا الوجه بأنّه قرن بعواقب دنيوية في قوله : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ). والعقوبات الدنيوية مصائب تترتّب على إهمال أسباب النجاح وبخاصّة ترك الانتصاح بنصائح الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، كما أصابهم يوم أحد ، فالمقصود تهديدهم بأنّهم إن تقاعدوا عن النفير هاجمهم العدوّ في ديارهم فاستأصلوهم وأتى الله بقوم غيرهم.

والأليم المؤلم ، فهو فعيل مأخوذ من الرباعي على خلاف القياس كقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [لقمان : ٢] ، وقول عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الداعي السّميع

أي المسمع.

٩٧

وكتب في المصاحف (إِلَّا) من قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا) بهمزة بعدها لام ألف على كيفية النطق بها مدغمة ، والقياس أن يكتب (إن لا) بنون بعد الهمزة ثم لام ألف.

والضمير المستتر في (يُعَذِّبْكُمْ) عائد إلى الله لتقدّمه في قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٨]. وتنكير (قَوْماً) للنوعية إذ لا تعيّن لهؤلاء القوم ضرورة أنّه معلّق على شرط عدم النفير وهم قد نفروا لمّا استنفروا إلّا عددا غير كثير وهم المخلّفون.

و (يَسْتَبْدِلْ) يبدل ، فالسين والتاء للتأكيد والبدل هو المأخوذ عوضا كقوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) [البقرة : ١٠٨] أي ويستبدل بكم غيركم.

والضمير في (تَضُرُّوهُ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (يُعَذِّبْكُمْ) والواو للحال : أي يعذّبكم ويستبدل قوما غيركم في حال أن لا تضرّوا الله شيئا بقعودكم ، أي يصبكم الضرّ ولا يصب الذي استنفركم في سبيله ضرّ ، فصار الكلام في قوة الحصر ، كأنّه قيل : إلّا تنفروا لا تضرّوا إلّا أنفسكم.

وجملة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل للكلام لأنّه يحقّق مضمون لحاق الضرّ بهم لأنّه قدير عليهم في جملة كلّ شيء ، وعدم لحاق الضرّ به لأنّه قدير على كلّ شيء فدخلت الأشياء التي من شأنها الضرّ.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا).

استئناف بياني لقوله : (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة : ٣٩] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مضرّا بالله ورسوله ، يثير في نفس السامع سؤالا عن حصول النصر بدون نصير ، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه ، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم ، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئا.

٩٨

والضمير المنصوب ب (تَنْصُرُوهُ) عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأنّه واضح من المقام.

وجملة (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) جواب للشرط ، جعلت جوابا له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدّر لكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف : فإنّ مضمون (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) قد حصل في الماضي فلا يكون جوابا للشرط الموضوع للمستقبل ، فالتقدير : إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذ ينصره حين لا تنصرونه. وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الآية.

ويتعلّق (إِذْ أَخْرَجَهُ) ب (نَصَرَهُ) أي زمن إخراج الكفار إيّاه ، أي من مكة ، والمراد خروجه مهاجرا. وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال: ٣٠] ، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين ، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة ، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين ، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج ، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم ، وجعلوا لمن يظفر به جزاء جزلا ، كما جاء في حديث سراقة بن جعشم.

كتب في المصاحف (إِلَّا) من قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) بهمزة بعدها لام ألف ، على كيفية النطق بها مدغمة ، والقياس أن تكتب (إن لا) ـ بهمزة فنون فلام ألف ـ لأنّهما حرفان : (إن) الشرطية و (لا) النافية ، ولكنّ رسم المصحف سنّة متبعة ، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها ، ومثل ذلك كتب (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) في سورة الأنفال [٧٣]. وهم كتبوا قوله : (بَلْ رانَ) في سورة المطففين [١٤] بلام بعد الباء وراء بعدها ، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها.

وقد أثار رسم (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) بهذه الصورة في المصحف خشية توهّم متوهّم أنّ (إِلَّا) هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في «مغني اللبيب» : «تنبيه ليس من أقسام (إلّا) ، (إلّا) التي في نحو (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) وإنّما هذه كلمتان (إن) الشرطية و (لا) النافية ، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في «شرح التسهيل» من أقسام إلّا ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على «المغني» ولا الشمني. وقال الشيخ محمد

٩٩

الرصاع في كتاب «الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب» «وقد رأيت لبعض أهل العصر (١) المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب ـ أي «التسهيل» ـ أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال». وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على «المغني» ليس ما في «شرح التسهيل» نصّا في ذلك وهو يوهمه فإنّه عرّف المستثنى بالمخرج ب (إلّا) وقال «واحترزت عن (إلا) بمعنى إن لم ومثّل بالآية ، أي فلا إخراج فيها». وقلت عبارة متن «التسهيل» «المستثنى هو المخرج تحقيقا أو تقديرا من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها» ، ولم يعرّج شارحه المرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على «تسهيله» ، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله : إلّا تكون استثناء وتكون حرف جزاء أصلها «إن لا» نقله صاحب «لسان العرب». وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه.

و (ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال من ضمير النصب في (أَخْرَجَهُ) ، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى من ، أي ثانيا من اثنين ، والاثنان هما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر : بتواتر الخبر ، وإجماع المسلمين كلّهم. ولكون الثاني معلوما للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره ، وأيضا لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد.

و (إِذْ) التي في قوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من (إِذْ) التي في قوله : (إِذْ أَخْرَجَهُ) فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج ، باعتبار الخروج ، والكون في الغار.

والتعريف في الغار للعهد ، لغار يعلمه المخاطبون ، وهو الذي اختفى فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجرين إلى المدينة ، وهو غار في جبل ثور خارج مكة إلى جنوبيها ، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال ، في طريق جبليّ.

والغار الثقب في التراب أو الصخر.

و (إِذْ) المضافة إلى جملة (يَقُولُ) بدل من (إِذْ) المضافة إلى جملة (هُما فِي الْغارِ) بدل اشتمال.

والصاحب هو (ثانِيَ اثْنَيْنِ) وهو أبو بكر الصديق. ومعنى الصاحب : المتّصف

__________________

(١) أواخر القرن التاسع أن الرصاع توفي سنة ٨٩٤ أربع وتسعين وثمانمائة.

١٠٠