تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

أي صلب الإنسان أو البعير ، لأنّ الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلّب ، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل ، يقال : بعير ظهير ، أي قوي على الرحلة ، مثّل المعين لأحد على عمل بحال من يعطيه ظهره يحمل عليه ، فكأنّه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره ، فمن ثمّ جاءت صيغة المفاعلة ، ومثله المعاضدة مشتقّة من العضد ، والمساعدة من الساعد ، والتأييد من اليد ، والمكاتفة مشتقّة من الكتف ، وكلّها أعضاء العمل.

ويجوز أن يكون فعله مشتقّا من الظهور ، وهو مصدر ضدّ الخفاء ، لأنّ المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس ، فمثّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء ، ولذلك يعدى بحرف (على) للاستعلاء المجازي ، قال تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) [التحريم : ٤] ـ وقال ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ٨] ـ وقال ـ (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الفتح : ٢٨] ـ وقال ـ (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] أي معين.

والفاء في قوله : (فَأَتِمُّوا) تفريع على ما أفاده استثناء قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) إلخ ، وهو أنّهم لا تشملهم البراءة من العهد.

والمدّة : الأجل ، مشتقّة من المدّ لأنّ الأجل مدّ في زمن العمل ، أي تطويل ، ولذلك يقولون : ماد القوم غيرهم ، إذا أجّلوا الحرب إلى أمد ، وإضافة المدّة إلى ضمير المعاهدين لأنّها منعقدة معهم ، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ، ولكن رجّح هنا جانبهم ، لأنّ انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به ، إذ صار المسلمون أقوى منهم ، وأقدر على حربهم.

وجملة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأنّ ذلك من التقوى ، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به ، لأنّ الإخبار بمحبة الله المتّقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى.

ثم إنّ قبائل العرب كلّها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدّة فانتهت حرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

٢١

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

تفريع على قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] فإن كان المراد في الآية المعطوف عليها بالأربعة الأشهر أربعة تبتدئ من وقت نزول براءة كان قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) تفريعا مرادا منه زيادة قيد على قيد الظرف من قول : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] أي : فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين إلخ لانتهاء الإذن الذي في قوله :(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] ، وإن كانت الأربعة الأشهر مرادا بها الأشهر الحرم كان قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) تصريحا بمفهوم الإذن بالأمن أربعة أشهر ، المقتضي أنّه لا أمن بعد انقضاء الأربعة الأشهر ، فهو على حدّ قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] ، ـ بعد قوله ـ (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] فيكون تأجيلا لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر ، ثم تحذيرا من خرق حرمة شهر رجب ، وكذلك يستمرّ الحال في كلّ عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ... (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦].

وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ. وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان ، أي إزالته. ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة.

والحرم جمع حرام وهو سماعي لأنّ فعلا بضم الفاء والعين إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد. وحرام صفة. وقال الرضي في باب الجمع من «شرح الشافية» إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) في سورة البقرة [١٩٤]. وهي ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب.

وانسلاخها انقضاء المدّة المتتابعة منها ، وقد بقيت حرمتها ما بقي من المشركين قبيلة ، لمصلحة الفريقين ، فلما آمن جميع العرب بطل حكم حرمة الأشهر الحرم ، لأنّ حرمة المحارم الإسلامية أغنت عنها.

والأمر في (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) للإذن والإباحة باعتبار كلّ واحد من المأمورات على حدة ، أي فقد أذن لكل في قتلهم ، وفي أخذهم ، وفي حصارهم ، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام ، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة ، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ

٢٢

فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ١٢] والمقصود هنا : أن حرمة العهد قد زالت.

وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنّهم لا يقبل منهم غير الإسلام. وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة. وقد عمّت الآية جميع المشركين وعمّت البقاع إلا ما خصصته الأدلّة من الكتاب والسنة.

والأخذ : الأسر.

والحصر : المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين.

والقعود مجاز في الثبات في المكان ، والملازمة له ، لأن القعود ثبوت شديد وطويل.

فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظانّ تطرق العدوّ المشركين إلى بلاد الإسلام ، وفي مظان وجود جيش العدوّ وعدته.

والمرصد مكان الرصد. والرصد : المراقبة وتتبع النظر.

و (كُلَ) مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها ، تحذيرا للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدوّ منها ، أو من التفريط في بعض ممارّ العدوّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفّوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أنّ المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة ، فيؤول معنى (كُلَ) هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة :

بها كل ذيّال وخنساء ترعوي

إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

وانتصب (كُلَّ مَرْصَدٍ) إمّا على المفعول به بتضمين (اقْعُدُوا) معنى (الزموا) كقوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] ، وإمّا على التشبيه بالظرف لأنّه من حقّ فعل القعود أن يتعدّى إليه ب (في) الظرفية فشبّه بالظرف وحذفت (في) للتّوسّع.

وتقدم ذكر (كلّ) عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) في سورة الأنعام [٢٥].

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ).

٢٣

والتوبة عن الشرك هي الإيمان ، أي فإن آمنوا إيمانا صادقا ، بأن أقاموا الصلاة الدالّة إقامتها على أنّ صاحبها لم يكن كاذبا في إيمانه ، وبأن آتوا الزكاة الدالّ إيتاؤها على أنّهم مؤمنون حقّا ، لأنّ بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كفّ القتال عنهم إذا آمنوا ، وليس في هذا دلالة على أنّ الصلاة والزكاة جزء من الإيمان.

وحقيقة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) اتركوا طريقهم الذي يمرّون به ، أي اتركوا لهم كلّ طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قادمين عليكم ، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين ، فإنّهم صاروا إخوانكم ، كما قال في الآية الآتية (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : ١١].

وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلا في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم ، يقال : خلّ سبيلي ، أي دعني وشأني ، كما قال جرير :

خلّ السبيل لمن يبني المنار به

وأبرز ببرزة حيث اضطرّك القدر

وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

وجملة : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل أريد به حثّ المسلمين على عدم التعرّض بالسوء للذين يسلمون من المشركين ، وعدم مؤاخذتهم لما فرط منهم ، فالمعنى اغفروا لهم ، لأنّ الله غفر لهم وهو غفور رحيم ، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فرط منهم كما تعلمون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عمّا مضى.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

عطف على جملة : (فَإِنْ تابُوا) [التوبة : ٥] لتفصيل مفهوم الشرط ، أو عطف على جملة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] لتخصيص عمومه ، أي إلّا مشركا استجارك لمصلحة للسفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام. وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب ، وللإشارة إلى أنّ الشأن أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين.

وجيء بحرف (إِنْ) التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أنّ هذا شرط فرضيّ ؛ لكيلا يزعم المشركون أنّهم لم يتمكّنوا من لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتّخذوه عذرا

٢٤

للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون.

ووقع في «تفسير الفخر» أنّه نقل عن ابن عبّاس قال : إنّ رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب : أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل. فقال علي : لا إنّ الله تعالى قال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ). أي فأمنه حتّى يسمع كلام الله ، وهذا لا يعارض ما رأيناه من أنّ الشرط في قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) إلخ ، شرط فرضي فإنّه يقتضي أنّ مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية على أنّ هذا المروي لم أقف عليه.

وجيء بلفظ أحد من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس ، لأنّ النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي ـ إذا لم تبن على الفتح احتملت إرادة عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد ، فكان ذكر (أَحَدٌ) في سياق الشرط تنصيصا على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا.

و (أَحَدٌ) أصله «واحد» لأنّ همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنّه واحد ، كما استعمل له «فرد» في اصطلاح العلوم ، فمعنى (أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مشرك.

وتقديم (أَحَدٌ) على (اسْتَجارَكَ) للاهتمام بالمسند إليه ، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن.

وساغ الابتداء بالنكرة لأنّ المراد النوع ، أو لأنّ الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم ، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ ، لأن وقوع الخبر فعلا مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملة الفعلية ، فيعلم أنّ الفاعل مقدّم من تأخير لغرض ما. ولذلك شاع عند النحاة أنّه فاعل بفعل مقدر ، وإنّما هو تقدير اعتبار. ولعلّ المقصود من التنصيص على إفادة العموم ، ومن تقديم (أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على الفعل ، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخوله بلاد الإسلام مصلحة ، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد ، لئلّا تحمل خيانتهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) [المائدة : ٢] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولا تخن من خانك».

والاستجارة : طلب الجوار ، وهو الكون بالقرب ، وقد استعمل مجازا شائعا في

٢٥

الأمن ، لأنّ المرء لا يستقر بمكان إلّا إذا كان آمنا ، فمن ثم سمّوا المؤمّن جارا ، والحليف جارا ، وصار فعل أجار بمعنى أمّن ، ولا يطلق بمعنى جعل شخصا جارا له. والمعنى : إن أحد من المشركين استأمنك فأمنه.

ولم يبيّن سبب الاستجارة ، لأنّ ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنّه لا يستجير أحد إلّا لغرض صحيح.

ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعه القرآن ، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر ، لما هو معروف من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحرص على هدي الناس ، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدلّت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازا ، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهمّ ، أو طلب الدخول في الإسلام ، أو عرض الإسلام عليه ، فإذا سمع كلام الله فقد تمّت أغراض إقامته لأنّ بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها ، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتّى يعيد إرشاده ، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى.

وكلام الله : القرآن ، أضيف إلى اسم الجلالة لأنّه كلام أوجده الله ليدلّ على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك ، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد ، بخلاف الحديث القدسي.

ولذلك أعقبه بحرف المهلة (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) للدلالة على وجوب استمرار إجارته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه ، ولو بلغه بعد مدّة طويلة فحرف (ثم) هنا للتراخي الرتبي اهتماما بإبلاغه مأمنه.

ومعنى (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أمهله ولا تهجه حتّى يبلغ مأمنه ، فلمّا كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سببا في بلوغه مأمنه ، جعل التأمين إبلاغا فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا يتضمّن أمر المسلمين بأن لا يتعرّضوا له بسوء حتّى يبلغ بلاده التي يأمن فيها. وليس المراد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلّف ترحيله ويبعث من يبلغه ، فالمعنى : اتركه يبلغ مأمنه ، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه : «أبلعني ريقي» ، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلع ريقي ثم أكلّمك ، قال الزمخشري : قلت لبعض أشياخي : «أبلعني ريقي ـ فقال ـ قد أبلعتك الرافدين» يعني دجلة والفرات.

٢٦

و (المأمن) مكان الأمن ، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمنه السابق ، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء. وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنّه مكان الأمن الخاصّ به ، فيعلم أنّه مقرّه الأصلي ، بخلاف دار الجوار فإنّها مأمن عارض لا يضاف إلى المجار.

وجملة : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم ، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها ، أي : أمرنا بذلك بسبب أنّهم قوم لا يعلمون ، فالإشارة إلى مضمون جملة : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي لا تؤاخذهم في مدّة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنّهم قوم لا يعلمون ـ وهذه مذمّة لهم بأنّ مثلهم لا يقام له وزن ـ وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنّهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى ، فكان اسم الإشارة أصلح طرق التعريف في هذا المقام ، جمعا للمعاني المقصودة ، وأوجزه.

وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك ، وأنّ سبب ذلك الغضّ الإشراك الذي يفسد الأخلاق ، ولذلك جعلوا قوما لا يعلمون دون أن يقال بأنّهم لا يعلمون : للإشارة إلى أنّ نفي العلم مطّرد فيهم ، فيشير إلى أنّ سبب اطّراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم ، وهي عقيدة الإشراك.

والعلم ، في كلام العرب ، بمعنى العقل وأصالة الرأي ، وأنّ عقيدة الشرك مضادة لذلك ، أي كيف يعبد ذو الرأي حجرا صنعه وهو يعلم أنّه لا يغني عنه.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧))

استئناف بياني ، نشأ عن قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١] ثم عن قوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٣] ـ وعن قوله ـ (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين) [التوبة : ٥] التي كانت تدرجا في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة ، لأنّ ذلك يثير سؤالا في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر ، فلعلّ بعض قبائل العرب من المشركين يتعجّب من هذه البراءة ، ويسأل عن سببها ، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب ، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك ، وأنّه أمران : بعد ما بين العقائد ، وسبق الغدر.

٢٧

والاستفهام ب (كَيْفَ) : إنكاري إنكارا لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام ، أي دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل (يَكُونُ) مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] كما دلّ عليه قوله بعده (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ). وليس ذلك إنكارا على وقوع العهد ، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله ، وسمّاه الله فتحا في قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] وسمّي رضى المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٤].

والمعنى : أنّ الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك ، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك ، فكيف يمكن اتّفاق أهليهما ، أي فما كان العهد المنعقد معهم إلّا أمرا موقّتا بمصلحة. ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علّة الإنكار على دوام العهد معهم.

وهذا يؤيّد ما فسّرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله ، وإسناد العهد إلى ضمير المسلمين ، في قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) [التوبة : ١].

ومعنى (عِنْدَ) الاستقرار المجازي ، بمعنى الدوام أي إنّما هو عهد موقّت ، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية ، إذ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة ، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة.

واستثناء (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) ، من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام ب (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) ، أي لا يكون عهد المشركين إلا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام.

والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام : هم بنو ضمرة ، وبنو جذيمة بن الدّيل ، من كنانة ؛ وبنو بكر من كنانة.

فالموصول هنا للعهد ، وهم أخصّ من الذين مضى فيهم قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) [التوبة : ٤].

والمقصود من تخصيصهم بالذكر : التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه ويتعيّن أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمرة القضاء عند المسجد الحرام ، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم ، زيادة على دخولهم في الصلح الأعمّ ، ولم ينقضوا

٢٨

عهدهم ، ولا ظاهروا عدوّا على المسلمين ، إلى وقت نزول براءة. على أنّ معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنّة النكث لأنّ المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرّد ، كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) [التوبة : ١٢].

وليس المراد كلّ من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهّمه المتوهّم ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مأذونا بأن يعاهد فريقا آخر منهم.

وقوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) تفريع على الاستثناء. فالتقدير : إلّا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم ، أي ما داموا مستقيمين لكم. والظاهر أنّ استثناء هؤلاء ؛ لأنّ لعهدهم حرمة زائدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة.

و (فَمَا) ظرفية مضمّنة معنى الشرط ، والفاء الداخلة على فاء التفريع. والفاء الواقعة في قوله : (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) فاء جواب الشرط ، وأصل ذلك أنّ الظرف والمجرور إذا قدّم على متعلّقه قد يشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه ، ومنه قوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] لوجوب جعل الفاء غير تفريعية ، لأنّه قد سبقها العطف بالواو ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما تكونوا يولّ عليكم» بجزم الفعلين ، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول «ألك أبوان» قال : نعم قال : «ففيهما فجاهد» في روايته بفاءين.

والاستقامة : حقيقتها عدم الاعوجاج ، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحبّ ، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج ، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال ، لأنّ سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج ، فكذلك يطلق على ضدّه الاستقامة.

وجملة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل للأمر بالاستقامة. وموقع (إِنَ) أولها ، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن (إِنَ) في مثل هذا تغني غناء فاء ، وقد أنبأ ذلك ، التعليل ، أنّ الاستقامة لهم من التقوى وإلّا لم تكن مناسبة للإخبار بأنّ الله يحبّ المتّقين. عقب الأمر بالاستقامة لهم ، وهذا من الإيجاز. ولأنّ في الاستقامة لهم حفظا للعهد الذي هو من قبيل اليمين.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

٢٩

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).

و (كَيْفَ) هذه مؤكدة ل (كَيْفَ) [التوبة : ٧] التي في الآية قبلها ، فهي معترضة بين الجملتين وجملة : (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) إلخ يجوز أن تكون جملة حالية ، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) [التوبة : ٧] إخبارا عن دخائلهم.

وفي إعادة الاستفهام إشعار بأنّ جملة الحال لها مزيد تعلّق بتوجّه الإنكار على دوام العهد للمشركين ، حتّى كأنّها مستقلّة بالإنكار ، لا مجرّد قيد للأمر الذي توجّه إليه الإنكار ابتداء ، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته ، ابتداء ، لأنّهم ليسوا أهلا لذلك ، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة. وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين ، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات ، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة. فجملة : (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) معطوفة على جملة (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) [التوبة : ٧].

وضمير (يَظْهَرُوا) عائد إلى المشركين في قوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ٧] ومعنى (وَإِنْ يَظْهَرُوا) إن ينتصروا. وتقدّم بيان هذا الفعل آنفا عند قوله تعالى : (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) [التوبة : ٤]. والمعنى : لو انتصر المشركون ، بعد ضعفهم ، وبعد أن جرّبوا من العهد معكم أنّه كان سببا في قوتكم ، لنقضوا العهد. وضمير (عَلَيْكُمْ) خطاب للمؤمنين.

ومعنى (لا يَرْقُبُوا) لا يوفوا ولا يراعوا ، يقال : رقب الشيء ، إذا نظر إليه نظر تعهّد ومراعاة ، ومنه سمّي الرقيب ، وسمّي المرقب مكان الحراسة ، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد ، لأنّ من أبطل العمل بشيء فكأنّه لم يره وصرف نظره عنه.

والإلّ : الحلف والعهد ؛ ويطلق الإلّ على النسب والقرابة. وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات ، فيصحّ أن يراد هنا كلا معنييه.

والذمّة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى ، يقال : في ذمّتي كذا ، أي ألتزم به وأحفظه.

(يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ).

٣٠

استئناف ابتدائي ، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم ، كيدا ولو تمكّنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلّا ولا ذمّة. من يسمع كلاما فيأباه.

والإباية : الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة ، فقلوبهم لمّا نوت الغدر شبّهت بمن يطلب منه شيء فيأبى.

وجملة : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) في موضع الحال من واو الجماعة في (يُرْضُونَكُمْ) مقصود منها الذمّ بأن أكثرهم موصوف ، مع ذلك ، بالخروج عن مهيع المروءة والرّجلة ، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة ، فجمعوا المذمة الدينية والمذمّة العرفية. فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس ، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأنّ ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم ، ولأنّه قد عرف من وصفهم بالكفر.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩))

موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم فيصد استقلاله بالإخبار. وهذه الآية وصف القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة : من الاشتراء بآيات الله ثمنا قليلا ، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آية أخرى نزلت بعدها لأنّ نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتّى دخلوا في دين الله أفواجا ، سنة الوفود وما بعدها ، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقوا على الشرك من العرب ، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب ، ليس لهم افتراء في صحة الإسلام ونهوض حجّته ، ولكنه بقوا على الشرك لمنافع يجتنونها من عوائد قومهم : من غارات يشنّها بعضهم على بعض ، ومحبّة الأحوال الجاهلية من خمر وميسر وزنى ، وغير ذلك من المذمات واللذّات الفائدة ، وذلك شيء قليل «آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة. فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مثل مال بأيديهم ، بذلوه وفرّطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة ، فلذلك مثّل حالهم بحال من اشترى شيئا بشيء ، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة [١٦].

والمراد ب «الآيات» الدلائل ، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام ، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز والباء في قوله : (بِآياتِ اللهِ) باء التعويض. وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوّض يملكه غيره ، فجعلت آيات

٣١

الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتّباع هواهم.

والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولا لا مقتنى جار على طريق الاستعارة تشبيها لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصل من فعل (اشْتَرَوْا) ومن لفظ (ثَمَناً) استعارتان باعتبارين.

وجملة : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) مفرّعة على جملة (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) لأنّ إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبّب عليه أن يصدّوا الناس عن اتّباع الإسلام ، فمثّل حالهم بحال من يصدّ الناس عن السير في طريق تبلّغ إلى المقصود.

ومفعول (فَصَدُّوا) محذوف لقصد العموم ، أي : صدّوا كل قاصد.

وجملة : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ابتدائية أيضا ، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالإخبار ، وأنّها لا ينبغي أن تعطف في الكلام ، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها.

وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم.

و (ساءَ) من أفعال الذم ، من باب بئس ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مخصوص بالذم.

وعبّر عن عملهم ب (كانُوا يَعْمَلُونَ) للإشارة إلى أنّه دأب لهم ومتكرّر منهم.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).

يجوز أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة : ٩] لأنّ انتفاء مراعاة الإلّ والذمّة مع المؤمنين ممّا يشتمل عليه سوء عملهم ، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدئ به للاهتمام بمضمون الجملة. وقد أفادت معنى أعمّ وأوسع ممّا أفاده قوله : (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ٨] لأنّ إطلاق الحكم عن التقييد بشرط (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) [التوبة : ٨] يفيد أنّ عدم مراعاتهم حقّ الحلف والعهد خلق متأصّل فيهم ، سواء كانوا أقوياء أم مستضعفين ، وإنّ ذلك لسوء طويتهم للمؤمنين لأجل إيمانهم. والإلّ والذمّة تقدّما قريبا.

٣٢

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).

عطف على جملة : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) لمناسبة أنّ إثبات الاعتداء العظيم لهم ، نشأ عن الحقد ، الشيء الذي أضمروه للمؤمنين ، لا لشيء إلّا لأنّهم مؤمنون كقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ٨].

والقصر إمّا أن يكون للمبالغة في اعتدائهم ، لأنّه اعتداء عظيم باطني على قوم حالفوهم وعاهدوهم ، ولم يلحقوا بهم ضرّ مع تمكّنهم منه ، وإمّا أن يكون قصر قلب ، أي : هم المعتدون لا أنتم لأنّهم بدءوكم بنقض العهد في قضية خزاعة وبني الدّيل من بكر بن وائل ممّا كان سببا في غزوة الفتح.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ).

تفريع حكم على حكم لتعقيب الشدّة باللين إن هم أقلعوا عن عداوة المسلمين بأن دخلوا في الإسلام لقصد محو أثر الحنق عليهم إذا هم أسلموا أعقب به جملة : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ إلى قوله ـ (الْمُعْتَدُونَ) [التوبة : ٩ ، ١٠] تنبيها لهم على أنّ تداركهم أمرهم هين عليهم ، وفرّع على التوبة أنّهم يصيرون إخوانا للمؤمنين. ولمّا كان المقام هنا لذكر عداوتهم مع المؤمنين جعلت توبتهم سببا للأخوّة مع المؤمنين ، بخلاف مقام قوله قبله (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] حيث إنّ المعقّب بالتوبة هنالك هو الأمر بقتالهم والترصّد لهم ، فناسب أن يفرّع على توبتهم عدم التعرّض لهم بسوء. وقد حصل من مجموع الآيتين أنّ توبتهم توجب أمنهم وأخوّتهم.

ومن لطائف الآيتين أن جعلت الأخوة مذكورة ثانيا لأنّها أخصّ الفائدتين من توبتهم ، فكانت هذه الآية مؤكّدة لأختها في أصل الحكم.

وقوله : (فَإِخْوانُكُمْ) خبر لمحذوف أي : فهم إخوانكم. وصيغ هذا الخبر بالجملة الاسمية : للدلالة على أنّ إيمانهم يقتضي ثبات الأخوّة ودوامها ، تنبيها على أنّهم يعودون كالمؤمنين السابقين من قبل في أصل الأخوّة الدينية.

والإخوان جمع أخ في الحقيقة والمجاز ، وأطلقت الأخوّة هنا على المودّة

٣٣

والصداقة.

والظرفية في قوله : (فِي الدِّينِ) مجازية : تشبيها للملابسة القوية بإحاطة الظرف بالمظروف زيادة في الدلالة على التمكّن من الإسلام وأنّه يجبّ ما قبله.

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

اعتراض وتذييل ، والواو اعتراضية ، ومناسبة موقعه عقب قوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [التوبة : ٩] أنّه تضمّن أنّهم لم يهتدوا بآيات الله ونبذوها على علم بصحّتها كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣] ، وباعتبار ما فيه من فرض توبتهم وإيمانهم إذا أقلعوا عن إيثار الفساد على الصلاح ، فكان قوله : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) جامعا للحالين ، دالا على أنّ الآيات المذكورة آنفا في قوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [التوبة : ٩] آيات واضحة مفصّلة ، وأنّ عدم اهتداء هؤلاء بها ليس لنقص فيها ولكنّها إنّما يهتدي بها قوم يعلمون ، فإن آمنوا فقد كانوا من قوم يعلمون. ويفهم منه أنّهم إن اشتروا بها ثمنا قليلا فليسوا من قوم يعلمون ، فنزّل علمهم حينئذ منزلة عدمه لانعدام أثر العلم ، وهو العمل بالعلم ، وفيه نداء عليهم بمساواتهم لغير أهل العقول كقوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].

وحذف مفعول (يَعْلَمُونَ) لتنزيل الفعل منزلة اللازم إذ أريد به : لقوم ذوي علم وعقل.

وعطف هذا التذييل على جملة : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) لأنّه به أعلق ، لأنّهم إن تابوا فقد صاروا إخوانا للمسلمين ، فصاروا من قوم يعلمون ، إذ ساووا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصّلة.

ومعنى التفصيل تقدّم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) من سورة الأنعام [٥٥].

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

لمّا استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ـ إلى قوله ـ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : ٣] وإنّما كان

٣٤

ذلك لإبطانهم الغدر ، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ما استقاموا على العهد بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) [التوبة : ٤] الآيات ، والذين يستجيبون عطف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد ، ويعلنون بما يسخط المسلمين من قولهم ، وهذا حال مضادّ لحال قوله : (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) [التوبة : ٨].

والنكث تقدّم عند قوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) في الأعراف [١٣٥].

وعبر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعا للنكث ، لأنّ العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمّي العهد حلفا.

وزيد قوله : (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) زيادة في تسجيل شناعة نكثهم : بتذكير أنّه غدر لعهد ، وحنث باليمين.

والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محدد كالرمح ، ويستعمل مجازا بمعنى الثلب. والنسبة إلى النقص ، بتشبيه عرض المرء ، الذي كان ملتئما غير منقوص ، بالجسد السليم. فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شبّه بالجلد الذي أفسد التحامه.

والأمر ، هنا : للوجوب ، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدّم في قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبّا عن حرمة الدين ، وقمعا لشرّهم من قبل أن يتمرّدوا عليه.

و (أَئِمَّةَ) جمع إمام ، وهو ما يجعل قدوة في عمل يعمل على مثاله ، أو على مثال عمله ، قال تعالى : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) [القصص : ٥] أي مقتدى بهم ، وقال لبيد :

ولكلّ قوم سنة وإمامها

والإمام المثال الذي يصنع على شكله ، أو قدره ، مصنوع ، فأئمّة الكفر ، هنا : الذين بلغوا الغاية فيه ، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر.

والمراد بأئمّة الكفر : المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يقل : فقاتلوهم ، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر ، وهي أنّهم قدوة لغيرهم ، لأنّ الذين أضمروا النكث يبقون متردّدين بإظهاره ،

٣٥

فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون ، فكان الناقضون أئمّة للباقين.

وجملة : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) تعليل لقتالهم بأنّهم استحقّوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم ، فغدروا ، وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطّلعين على حكمة الأمر به ، فيكون قتالهم لمجرّد الامتثال لأمر الله ، فلا يكون لهم من الغيظ على المشركين ما يشحّذ شدّتهم عليهم.

ونفي الأيمان لهم : نفي للماهية الحقّ لليمين ، وهي قصد تعظيمه والوفاء به ، فلمّا لم يوفوا بأيمانهم ، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخصّ خواصّها وهو العمل بما اقتضته.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس عن يعقوب. أيمة بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء. وقرأ البقية : بتحقيق الهمزتين. وقرأ هشام عن عامر ، وأبو جعفر : بمدّ بين الهمزتين.

وقرأ الجمهور (لا أَيْمانَ لَهُمْ) بفتح همزة (أَيْمانَ) على أنّه جمع يمين. وقرأه ابن عامر ـ بكسر الهمزة ـ ، أي ليسوا بمؤمنين ، ومن لا إيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع.

وعطف (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) عطف قسيم على قسيمه ، فالواو فيه بمعنى (أو). فإنّه إذا حصل أحد هذين الفعلين : الذين هما نكث الأيمان ، والطعن في الدين ، كان حصول أحدهما موجبا لقتالهم ، أي دون مصالحة ، ولا عهد ، ولا هدنة بعد ذلك.

وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبئ بأنّ ذلك الطعن كان من دأبهم في مدّة المعاهدة ، فأريد صدّهم عن العود إليه. ولم أقف على أنّه كان مشروطا على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام ، في غير هذه الآية ، فكان هذا شرطا عليهم من بعد ، لأنّ المسلمين أصبحوا في قوة.

وقوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أمر للوجوب.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) يجوز أن تكون تعليلا للجملة (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا ، وظاهر أنّ القتال يفني كثيرا منهم ، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها.

ولم يذكر متعلّق فعل (يَنْتَهُونَ) ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد ، لأنّ

٣٦

عهدهم لا يقبل بعد أن نكثوا لقول الله تعالى : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) ، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين ، لأنّه إن كان طعنهم في ديننا حاصلا في مدّة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه ، وإن كان بعد أن تضع الحرب أوزارها فإنّه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم ، فتعيّن أنّ المراد : لعلهم ينتهون عن الكفر.

ويجوز أن تكون الجملة استئنافا ابتدائيا لا اتّصال لها بجملة (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) الآية ، بل ناشئة عن قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ـ إلى قوله ـ (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ٥ ـ ١٢].

والمعنى : المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون ، وقد تحقّق ذلك فإنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة ، وبعد حنين ، ولم يقع نكث بعد ذلك ، ودخل المشركون في الإسلام أفواجا في سنة الوفود.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣))

تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم ، وأسرهم ، وحصارهم ، وسدّ مسالك النجدة في وجوههم ، بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ـ إلى قوله ـ (كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥]. وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم ، وهي قوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) [التوبة : ٧] وقوله : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) [التوبة : ٨] وقوله (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) [التوبة : ٨] وقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) [التوبة : ٨] وقوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [التوبة : ٩] وقوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ١٠] وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة : ١٠] وقوله : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) [التوبة : ١٢].

فكانت جملة (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) تحذيرا من التراخي في مبادرتهم بالقتال.

ولفظ (أَلا) يحتمل أن يكون مجموع حرفين : هما همزة الاستفهام ، و (لا) النافية ، ويحتمل أن يكون حرفا واحدا للتحضيض ، مثل قوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) [النور : ٢٢]. فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكاريا ، على انتفاء مقاتلة المشركين في المستقبل ، وهو ما ذهب إليه البيضاوي ، فيكون دفعا لأن يتوهّم

٣٧

المسلمون حرمة لتلك العهود. ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا ، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب «الكشّاف» ، تقريرا على النفي تنزيلا لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه ، قال في «الكشاف» : ومعناه الحضّ على القتال على سبيل المبالغة ، وفي «مغني اللبيب» أن (أَلا) التي للاستفهام عن النفي تختصّ بالدخول على الجملة الاسمية ، وسلّمه شارحاه ، ولا يخفى أنّ كلام «الكشاف» ينادي على خلافه.

وعلى الاحتمال الثاني أن يكون (أَلا) حرفا واحدا للتحضيض فهو تحضيض على القتال. وجعل في «المغني» هذه الآية مثالا لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعلّ موجب هذا التفنّن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه : أن كثيرا من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم ، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم ، فلذلك لمّا أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنّة التثاقل عنه خشية الهزيمة ، بعد أن فازوا بسمعة النصر ، وفي قوله عقبه (أَتَخْشَوْنَهُمْ) ما يزيد هذا وضوحا.

أمّا نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدّم عند قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٤] ـ وقوله ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) [التوبة : ٤] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدّم.

وأمّا همّهم بإخراج الرسول فظاهره أنّه همّ حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة ، أي نفيه عنها لأن إخراجه من مكّة أمر قد مضى منذ سنين ، ولأنّ إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أنّ همّهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبّه المسلمين إليه. وهو أنّهم لمّا نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهّموا أنفسهم منصورين وأنّهم إن انتصروا أخرجوا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المدينة.

و (الهم) هو العزم على فعل شيء ، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرّد الهمّ بإخراج الرسول تدلّ على أنّهم لم يخرجوه ، وإلّا لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهمّ به ، كما في قوله : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة : ٤٠] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلّا لما حيل بينهم وبين تنفيذه ، فعن الحسن : همّوا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوة في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب ، أي فكفاه الله

٣٨

سوء ما همّوا به ، ولا يجوز أن يكون المراد إخراجه من مكة للهجرة لأنّ ذلك قد حدث قبل انعقاد العهد بينهم وبين المسلمين في الحديبية ، فالوجه عندي : أنّ المعنيّ بالذين همّوا بإخراج الرسول قبائل كانوا معاهدين للمسلمين ، فنكثوا العهد سنة ثمان ، يوم فتح مكة ، وهمّوا بنجدة أهل مكة يوم الفتح ، والغدر بالنّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمسلمين ، وأن يأتوهم وهم غارون ، فيكونوا هم وقريش ألبا واحدا على المسلمين ، فيخرجون الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين من مكة ، ولكنّ الله صرفهم عن ذلك بعد أن همّوا ، وفضح دخيلتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بقتالهم ونبذ عهدهم في سنة تسع ، ولا ندري أقاتلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية أم كان إعلان الأمر بقتالهم (وهم يعلمون أنهم المراد بهذا الأمر) سببا في إسلامهم وتوبة الله عليهم ، تحقيقا للرجاء الذي في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) [التوبة : ١٢] ولعل بعض هؤلاء كانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين يوم الفتح ناكثين العهد ، وأمدّوا قريشا بالعدد ، فلمّا لم تنشب حرب بين المسلمين والمشركين يومئذ أيسوا من نصرتهم فرجعوا إلى ديارهم ، وأغضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، فلم يؤاخذهم بغدرهم ، وبقي على مراعاة ذلك العهد ، فاستمرّ إلى وقت نزول هذه الآية ، وذلك قوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي كانوا البادئين بالنكث ، وذلك أنّ قريشا انتصروا لأحلافهم من كنانة ، فقاتلوا خزاعة أحلاف المسلمين.

و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) نصب على المصدرية. وإضافة (أَوَّلَ) إلى (مَرَّةٍ) من إضافة الصفة إلى الموصوف. والتقدير : مرة أولى والمرّة الوحدة من حدث يحدث ، فمعنى (بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدءوكم أوّل بدء بالنكث ، أي بدءا أول ؛ فالمرّة اسم مبهم للوحدة من فعل ما ، والأغلب أن يفسر إبهامه بالمقام ، كما هنا ، وقد يفسّره اللفظ.

و (أَوَّلَ) اسم تفضيل جاء بصيغة التذكير ، وإن كان موصوفه مؤنّثا لفظا ، لأن اسم التفضيل إذا أضيف إلى نكرة يلازم الإفراد والتذكير بدلالة المضاف إليه ويقال : ثاني مرة وثالث مرّة.

والمقصود من هذا الكلام تهديدهم على النكث الذي أضمروه ، وأنّه لا تسامح فيه. وعلى كلّ فالمقصود من إخراج الرسول عليه الصلاة والسلام : إمّا إخراجه من مكة منهزما بعد أن دخلها ظافرا ، وإمّا إخراجه من المدينة بعد أن رجع إليها عقب الفتح ، بأن يكونوا قد همّوا بغزو المدينة وإخراج الرسول والمسلمين منها وتشتيت جامعة الإسلام.

وجملة (أَتَخْشَوْنَهُمْ) بدل اشتمال من جملة (أَلا تُقاتِلُونَ) فالاستفهام فيها إنكار أو تقرير على سبب التردّد في قتالهم ، فالتقدير : أينتفي قتالكم إيّاهم لخشيكم إياهم ، وهذا

٣٩

زيادة في التحريض على قتالهم.

وفرّع على هذا التقرير جملة (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحقّ أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطر عدم الامتثال لأمره ، إن كنتم مؤمنين ، لأنّ الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردّد في نجاح الامتثال له.

وجيء بالشرط المتعلّق بالمستقبل ، مع أنّه لا شكّ فيه ، لقصد إثارة همّتهم الدينية فيبرهنوا على أنّهم مؤمنون حقّا يقدمون خشية الله على خشية الناس.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) استئناف ابتدائي للعود من غرض التحذير ، إلى صريح الأمر بقتالهم الذي في قوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ١٢] وشأن مثل هذا العود في الكلام أن يكون باستئناف كما وقع هنا.

وجزم (يُعَذِّبْهُمُ) وما عطف عليه في جواب الأمر. وفي جعله جوابا وجزاء أنّ الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحلّ إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كلّ فائدة منها الغرض الأهمّ فصرح به وجعل ما عداه حاصلا بطريق الكناية.

الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين.

الثانية : خزي المشركين وهو يستلزم عزّة المسلمين.

الثالثة : نصر المسلمين ، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم.

الرابعة : شفاء صدور فريق من المؤمنين ، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة ، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلّهم ، وتستلزم حرج صدور أعدائهم

٤٠