تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

للحرب ، وواحده بياء النسب : جندي ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) في سورة البقرة [٢٤٩]. وقد يطلق الجند على الأمّة العظيمة ذات القوة ، كما في قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في سورة البروج [١٧ ، ١٨] والمراد بالجنود هنا جماعات من الملائكة موكّلون بهزيمة المشركين كما دلّ عليه فعل أنزل ، أي أرسلها الله لنصرة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، ولذلك قال : (لَمْ تَرَوْها) ولكون الملائكة ملائكة النصر أطلق عليها اسم الجنود.

وتعذيبه الذين كفروا : هو تعذيب القتل والأسر والسبي.

والإشارة ب (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) إلى العذاب المأخوذ من (عَذَّبَ).

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

(ثُمَ) للتراخي الرتبي ، عطف على جملة (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) إلى قوله (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) [التوبة : ٢٦]. وهذا إشارة إلى إسلام هوازن بعد تلك الهزيمة فإنّهم جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلمين تائبين ، وسألوه أن يردّ إليهم سبيهم وغنائمهم ، فذلك أكبر منّة في نصر المسلمين إذ أصبح الجند العدوّ لهم مسلمين معهم ، لا يخافونهم بعد ذلك اليوم.

والمعنى : ثم تاب الله عليهم ، أي على الذين أسلموا منهم فقوله : (يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) دليل المعطوف بثم ولذلك أتى بالمضارع في قوله : (يَتُوبُ اللهُ) دون الفعل الماضي : لأنّ المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم ، للإشارة إلى إفادة تجدّد التوبة على كلّ من تاب إلى الله لا يختصّ بها هوازن فتوبته على هوازن قد عرفها المسلمون ، فأعلموا بأنّ الله يعامل بمثل ذلك كلّ من ندم وتاب ، فالمعنى : ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء.

وجملة : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل للكلام لإفادة أنّ المغفرة من شأنه تعالى ، وأنّه رحيم بعباده إن أنابوا إليه وتركوا الإشراك به.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

٦١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).

استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٧] الآية ، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلّة أخرى تقتضي إبعادهم عنه : وهي أنّهم نجس ، فقد علّل فيما مضى بأنّهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، فليسوا أهلا لتعمير المسجد المبني للتوحيد ، وعلّل هنا بأنّهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته.

و (نَجَسٌ) صفة مشبهة ، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له ، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك ، فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية.

والنجاسة المعنوية : هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقّرا متجنّبا من الناس فلا يكون أهلا لفضل ما دام متلبّسا بالصفة التي جعلته كذلك ، فالمشرك نجس لأجل عقيدة إشراكه ، وقد يكون جسده نظيفا مطيّبا لا يستقذر ، وقد يكون مع ذلك مستقذر الجسد ملطخا بالنجاسات لأنّ دينه لا يطلب منه التطهّر ، ولكن تنظّفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم. والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير ، ولا شكّ أنّ خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات ، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعا عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسّيّة لإزالة خباثة نفسه ، وإنّ طهارة الحدث لقريب من هذا.

وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام ، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا.

والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة ، فقد حضر المشركون موسم الحجّ فيه وأعلن لهم فيه أنّهم لا يعودون إلى الحجّ بعد ذلك العام ، وإنّما أمهلوا إلى بقية العام لأنّهم قد حصلوا في الموسم ، والرجوع إلى آفاقهم متفاوت «فأريد من العام موسم الحجّ ، وإلّا فإنّ نهاية العام بانسلاخ ذي الحجّة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢].

وإضافة (العام) إلى ضمير (هم) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب :

٦٢

فإن كان أعجبكم عامكم

فعودوا إلى مصر في القابل

وصيغة الحصر في قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجسا ، فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلّا النجسية.

ووصف (العام) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه.

وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ) ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام. ومواجهة المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام. جعل النهي عن صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جعلوا مكلّفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب : «لا أرينّك هاهنا» فليس النهي للمشركين على ظاهره.

والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأنّ مناسك الحجّ كلّها تتقدّمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك ، ولذلك لمّا نزلت «براءة» أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينادى في الموسم أن لا يحجّ بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر. فدلّ على أنّ النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحجّ. ولو لا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

عطف على جملة النهي. والمقصود من هذه الجملة : وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحجّ فينفقون ويهدون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها ، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين.

والعيلة : الاحتياج والفقر أي إن خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائل كثيرة من الحجّ فإنّ الله سيغنيكم عن ذلك. وقد أغناهم الله بأن هدى للإسلام أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن ، فأسلموا عقب ذلك ، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكّة الطعام والميرة ، وأسلم أيضا أهل جدّة وبلدهم مرفا ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها ، فحملوا الطعام إلى مكة ، وأسلم أهل صنعاء من اليمن ، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها.

٦٣

وقوله : (إِنْ شاءَ) يفتح لهم باب الرجاء مع التضرّع إلى الله في تحقيق وعده لأنّه يفعل ما يشاء.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تعليل لقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي أنّ الله يغنيكم لأنّه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائل ، فلمّا منعكم من تمكينهم من الحجّ لم يكن تاركا منفعتكم فقدر غناكم عنهم بوسائل أخرى علمها وأحكم تدبيرها.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها ، فالكلام انتقال من غرض نبذ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام ، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوما فيوما ، واستقلّ أمره بالمدينة ، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحنه نحو المسلمين ، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها.

ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين ، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية ، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم ، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم ، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم. ففي «صحيح البخاري» عن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف ملكا من ملوك غسّان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم ينعلون الخيل لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدقّ الباب فقال: افتح افتح. فقلت : أجاء الغسّاني. قال : بل أشدّ من ذلك اعتزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه إلى آخر الحديث.

فلا جرم لمّا أمن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم ، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة

٦٤

والنضير وقد هزموا وكفى الله المسلمين بأسهم وأورثهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام.

وعن مجاهد : أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى ، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك.

و (مِنَ) بيانية وهي تبيّن الموصول الذي قبلها.

وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول ، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحب تلك الصلات ، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد ، انتفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر ، وتحريم ما حرم الله ، والتديّن بدين الحقّ. ولم يعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء.

وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى ، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر ، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به ، إذ أثبت اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة :٦٤]. وقال كثير منهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠].

وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر. وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات.

والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمت ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين.

فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ).

وأمّا قوله : (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (وَرَسُولُهُ)

٦٥

فإدماج. فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى ، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئا ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس (١) فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أمم المعروف من العالم يومئذ ، فقد كانت الروم نصارى ، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبكر ، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبكر والبحرين ، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم.

ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول ، فإن الواو لا تقيد إلّا مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مرادا به واحد فيكون كالمعهود باللام ، وقد يكون المراد به جنسا أو أجناسا ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات ، على أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية ، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياما، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ، وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٣ ـ ٦٨] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ الماصدق على

__________________

(١) المجوس أتباع (زرادشت) صاحب الدين الذي ظهر بفارس في السابع قبل المسيح. وهم يؤمنون بإلهين اثنين إله الخير واسمه (هرمز) وإله الشر واسمه (أهرمز) ، وبعضهم يقول إله النور وإله الظلمة. وقد عبدوا النار وأنكروا البعث ، وزعموا أن جزاء النفوس يكون بطريقة التجانس للأرواح بأن تظهر الروح الصالحة في الذوات الصالحة والروح الشريرة في الحيوانات الذميمة.

٦٦

طائفة خاصّة بل العبرة بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى ، والتعويل في مثل هذا على القرائن.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان لأقرب صلة منه وهي صلة (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بيانا لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه. وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم ، وإنّما دانوا بما حرفوا منه ، وما أنكروا منه ، وما ألصقوا به ، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام ، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما) آتيناكم (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ) تبغون [آل عمران : ٨١ ـ ٨٣].

وقوله : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ). بمعنى لا يجعلون حراما ما حرّمه الله فإنّ مادة فعّل تستعمل في جعل المفعول متّصفا بمصدر الفعل ، فيفيد قوله : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحا. والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحا منكرا لقوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلا لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك.

والمراد (برسوله) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلّا ما هو حقيق بالتحريم.

وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذين تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.

و (حَتَّى) غاية للقتال ، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية.

٦٧

وضمير (يُعْطُوا) عائد إلى (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

والجزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض ، بنيت على وزن اسم الهيئة ، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا ، فلذلك كان الظاهر. هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة (كزيت) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي ، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في «مفردات القرآن». ولم يذكروها في «معرّب القرآن» لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عرّفت في هذه الآية.

وقوله : (عَنْ يَدٍ) تأكيد لمعنى (يُعْطُوا) للتنصيص على الإعطاء و (عَنْ) فيه للمجاوزة. أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها ، ومحلّ المجرور الحال من الجزية. والمراد يد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب «أعطى بيده» إذا انقاد.

وجملة (وَهُمْ صاغِرُونَ) حال من ضمير يعطوا.

والصاغر اسم فاعل من صغر ـ بكسر الغين ـ صغرا بالتحريك وصغارا. إذا ذلّ ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) في سورة الأنعام [١٢٤] ، أي وهم أذلّاء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد : والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي ، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيبا لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام. وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أنّ الجزية تؤخذ منهم ، وخالف ابن وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب. وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب ، دون مشركي العرب : لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ـ وقوله ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) [التوبة : ١١] ـ وقوله ـ (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ١٥]. ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٨

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠))

عطف على جملة (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) [التوبة : ٢٩] والتقدير : ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله ، ويقول النصارى منهم : المسيح ابن الله ، تشنيعا على قائليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين.

وعزيز : اسم حبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي ، واسمه في العبرانية (عزرا) ـ بكسر العين المهملة ـ بن (سرايا) من سبط اللاويين ، كان حافظا للتوراة. وقد تفضّل عليه (كورش) ملك فارس فأطلقه من الأسر ، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل ، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه ، وذلك في سنة ٤٥١ قبل المسيح ، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حفظه ، فكان اليهود يعظّمون عزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله ، غلوا منهم في تقديسه ، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة ، وتبعهم كثير من عامّتهم. وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعا لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به ، وقد ذكر اسم عزرا في الآية بصيغة التصغير ، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عرب بصيغة تشبه صيغة التصغير ، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيبا فيه.

قرأ الجمهور (عُزَيْرٌ) ـ ممنوعا من التنوين للعجمة ـ وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب : بالتنوين على اعتباره عربيا بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية ، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من «دلائل الإعجاز» ، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري.

وأمّا قول النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور. وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) في سورة البقرة [٨٧]. وعند قوله

٦٩

تعالى : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) في سورة آل عمران [٤٥].

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى القول المستفاد من (قالَتِ الْيَهُودُ) ـ (وَقالَتِ النَّصارى).

والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه ، زيادة في تشنيعه عند المسلمين.

و (بِأَفْواهِهِمْ) حال من القول ، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجود في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع ، وهذا كناية عن كونه كاذبا كقوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ٥]. وفي هذا أيضا إلزام لهم بهذا القول ، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم.

والمضاهاة : المشابهة ، وإسنادها إلى القائلين : على تقدير مضاف ظاهر من الكلام ، أي يضاهي قولهم.

و (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) هم المشركون : من العرب ، ومن اليونان ، وغيرهم ، وكونهم من قبل النصارى ظاهر ، وأمّا كونهم من قبل اليهود : فلأنّ اعتقاد بنوة عزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قدمائهم.

وجملة (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء مستعمل في التعجيب ، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع ، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء : أي قتلهم الله قتلا شديدا. وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب.

وجملة (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) مستأنفة. والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل ، حتّى شبه المكان الذي يصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان ، ومعنى (يُؤْفَكُونَ) يصرفون. يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه ، قال تعالى : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٩] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق ، وقد تقدّم ذلك غير مرة.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١))

الجملة تقرير لمضمون جملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ليبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً

٧٠

واحِداً) إلخ ، فوزان هذه الجملة وزان جملة (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) [الأعراف : ١٤٨] بعد جملة (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨].

والضمير لليهود والنصارى.

والأحبار جمع حبر ـ بفتح الحاء ـ وهو العالم من علماء اليهود.

الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية ، وإنّما خص الحبر بعالم اليهود لأنّ عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين وخصّ الراهب بعظيم دين النصرانية لأنّ دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة.

ومعنى اتّخاذهم هؤلاء أربابا أنّ اليهود ادّعوا لبعضهم بنوة الله تعالى وذلك تأليه ، وأنّ النصارى أشدّ منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملّتهم مثل صورة مريم ، وصور الحواريين ، وصورة يحيى بن زكرياء ، والسجود من شعار الربوبية ، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله.

وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم ، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة أنّه من الدين ، فكانوا يعتقدون أنّ أحبارهم ورهبانهم يحلّلون ما حرم الله ، ويحرّمون ما أحلّ الله ، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين ، ولذلك أفحم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عديا بن حاتم لمّا وفد عليه قبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وقال عدي : لسنا نعبدهم فقال : «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه ـ فقلت : بلى ـ قال : فتلك عبادتهم» فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنّهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإنّ الأمّة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره ، ومعنى اتّخاذهم أربابا من دون الله أنّهم اتّخذوهم أربابا دون أن يفردوا الله بالوحدانية ، وتخصيص المسيح بالذكر لأنّ تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر.

وجملة (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) في موضع الحال من ضمير (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) ، وهي محطّ زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنّهم لا عذر لهم فيما زعموا ، لأنّ وصايا كتب الملّتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية.

٧١

وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية ل (إِلهاً واحِداً).

وجملة (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) مستأنفة لقصد التنزيه والتبرّي ممّا افتروا على الله تعالى ، ولذلك سمي ذلك إشراكا.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢))

استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب ، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة ، والتألّب على مناواة الدين ، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور ، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم ، فالضمير في قوله : (يُرِيدُونَ) عائد إلى (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [التوبة : ٢٩] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالة النور بنفخ عليه ، أو هبوب رياح ، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر.

والنور : الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى : (نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) في سورة الأنعام [٩١]. والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام ، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف ، والتحريض على المقاومة. والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب ، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من بيحاول إطفاء نور بنفخ فمه عليه ، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة ، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور ، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاء النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه. والمثال المشهور للتمثيل الصالح لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار :

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

ولكن التفريق في تمثيلية الآية أشدّ استقلالا ، بخلاف بيت بشّار ، كما يظهر بالتأمّل.

وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم.

والإباء والإباية : الامتناع من الفعل ، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوله محاول على فعل وهو يمتنع منه ، لأنّهم لمّا حاولوا طمس

٧٢

الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى ، فكان حالهم ، في نفس الأمر ، كحال من يحاول من غيره فعلا وهو يأبى أن يفعله.

والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبى مجرى نفي الإرادة ، كأنّه قال : ولا يريد الله إلّا أن يتمّ نوره ، ذلك أنّ فعل (أبى) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له ، فقوي جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ). فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه. وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل «كرهت إلّا أخاك».

وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم ، ولم يجأ به في سورة الصف [٨] إذ قال : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خفية وفي لين وتملّق.

وذكر صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى : فشربوا منه إلا قليل منهم في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة [٢٤٩] : أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير (فَشَرِبُوا) على اعتبار تضمين شربوا معنى ، فلم يطعموه إلّا قليل ، ميلا مع معنى الكلام.

والإتمام مؤذن بالزيادة والانتشار ولذلك لم يقل : ويأبى الله إلّا أن يبقي نوره.

و (لَوْ) في (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) اتّصالية ، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفيا. والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية ، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله. وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالغ بها ، والكافرون هم اليهود والنصارى.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

بيان لجملة (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] بأنّه أرسل رسوله بهذا الدين ، فلا يريد إزالته ، ولا يجعل تقديره باطلا وعبثا. وفي هذا البيان تنويه بشأن الرسول بعد التنويه بشأن الدين.

وفي قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) صيغة قصر ، أي هو لا غيره أرسل رسوله بهذا

٧٣

النور ، فكيف يترك معانديه يطفئونه.

واجتلاب اسم الموصول : للإيماء إلى أنّ مضمون الصلة علّة للجملة التي بنيت عليها هذه الجملة وهي جملة : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢].

وعبّر عن الإسلام (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) تنويها بفضله ، وتعريضا بأنّ ما هم عليه ليس بهدى ولا حقّ.

وفعل الإظهار إذا عدّي ب (عَلَى) كان مضمّنا معنى النصر ، أو التفضيل ، أي لينصره على الأديان كلّها ، أي ليكون أشرف الأديان وأغلبها ، ومنه المظاهرة أي المناصرة ، وقد تقدّم ذكرها آنفا عند قوله : (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) [التوبة : ٤].

فالإسلام كان أشرف الأديان : لأنّ معجزة صدقه القرآن ، وهو معجزة تدرك بالعقل ، ويستوي في إدراك إعجازها جميع العصور ، ولخلوّ هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل ، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى ، وخلي عن وضع التكاليف الشاقّة ، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم ، وقد فصّلت ذلك في الكتاب الذي سمّيته «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».

وظهور الإسلام على الدين كلّه حصل في العالم باتّباع أهل الملل إيّاه في سائر الأقطار ، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك ، ومقاومتهم إياه بكلّ حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلّقوا بها ، وما صلحت بعض أمورهم إلّا فيما حاكوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم ، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان.

و (لَوْ) في (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وصلية مثل التي في نظيرتها. وذكر المشركون هنا لأنّ ظهور دين الإسلام أشدّ حسرة عليهم من كلّ أمّة ، لأنّهم الذين ابتدءوا بمعارضته وعداوته ودعوا الأمم للتألّب عليه واستنصروا بهم فلم يغنوا عنهم شيئا ، ولأنّ أتمّ مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها ، وزالت منها جميع الأديان الأخرى ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محلّ المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كلّه كما يظهر بالتأمّل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ

٧٤

النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب ، تحقيرا لهم في نفوسهم ، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم ، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين : مثل عزير ، بين للمسلمين أنّ كثيرا من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال ، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه ، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالؤ الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب ، على الضلال وعلى مناواة الإسلام ، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستيثار بالسيادة ، وحبّ العامّة الاستيثار بالمزية بين العرب.

وافتتاح الجملة بالنداء واقترانها بحرفي التأكيد ، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته.

وتقدّم ذكر الأحبار والرهبان آنفا.

وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنّهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.

والباطل ضدّ الحقّ ، أي يأكلون أموال الناس أكلا ملابسا للباطل ، أي أكلا لا مبرّر له ، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) [الفجر : ١٩] ـ وقال ـ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) في سورة البقرة [١٨٨] وقد تقدّم ، وكذلك الباطل تقدّم هنالك.

والباطل يشمل وجوها كثيرة ، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس ، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحقّ حقّه المعين له في الشريعة ، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم ، ومنها أكل أموال اليتامى ، وأموال الأوقاف والصدقات.

٧٥

وسبيل الله طريقه استعير لدينه الموصّل إليه ، أي إلى رضاه ، والصدّ عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحقّ في خاصّة النفس ، وإغراء الناس بالإعراض عن ذلك. فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها ، ويضلّلون العامّة في حقيقتها حتّى يعملوا بخلافها ، وهم يحسبون أنّهم متّبعون لدينهم ، ويكون ذلك أيضا بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلّمون أتباع ملّتهم أنّ الإسلام ليس بدين الحقّ.

والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسه أتت صيغة مضارعه بضمّ العين : اعتبارا بأنّه مضاعف متعدّ ، ولذلك لم يجىء في القرآن إلّا مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره ، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) في سورة الأعراف [٤٥].

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

جملة معطوفة على جملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً) والمناسبة بين الجملتين : أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضعهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلا لذلك ، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم ، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة ، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم ، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئا من العذاب.

وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة : فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك ، وكانت غزوة تبوك في وقت عسرة ، وكانت الحاجة إلى العدّة والظهر كثيرة ، كما أشارت إليه آية (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) [التوبة : ٩٢] وقد ورد في «السيرة» أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله ، وقد أنفق عثمان بن عفان ألف دينار ذهبا على جيش غزوة تبوك وحمل كثير من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا شكّ أنّهم من المنافقين.

والكنز ـ بفتح الكاف ـ مصدر كنز إذا ادّخر مالا ، ويطلق على المال من الذهب

٧٦

والفضة الذي يخزن ، من إطلاق المصدر على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.

و (سَبِيلِ اللهِ) هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا.

فالموصول مراد به قوم معهودون يعرفون أنّهم المراد من الوعيد ، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنب قوما بأعيانهم.

ومعنى (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) انتفاء الإنفاق الواجب ، وهو الصدقات الواجبة والنفقات الواجبة : إمّا وجوبا مستمرّا كالزكاة ، وإمّا وجوبا عارضا كالنفقة في الحجّ الواجب ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناس إليه ولاة العدل.

والضمير المؤنّث في قوله : (يُنْفِقُونَها) عائد إلى الذهب والفضة.

والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق ، فليس الكنز وحده بمتوعد عليه ، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال ، وفي معرض إيجاب الإنفاق ، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال ، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تؤدّ زكاته حين وجوبها ، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة ، ولا إلى تأويل (سَبِيلِ اللهِ) بالصدقات الواجبة ، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد ، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة ، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية.

ووقع في «الموطأ» أنّ عبد الله بن عمر سئل عن الكنز ، أي المذموم المتوعّد عليه في آية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ما هو؟ فقال : هو المال الذي لا تؤدّى منه الزكاة. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك» فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه ، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذموما.

وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز ، وعلى عموم الإنفاق ، وحمل سبيل الله على وجوه البرّ ، فقال بتحريم كنز المال ، وكأنّه تأول (وَلا يُنْفِقُونَها) على معنى ما يسمّى عطف التفسير ، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين ، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول : بشّر الكانزين بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، فقال له معاوية : وهو أمير الشام ، في خلافة

٧٧

عثمان : إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب ، فقال أبو ذرّ : نزلت فيهم وفينا ، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولا لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه فشكاه معاوية إلى عثمان ، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذر الفتنة في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله.

والفاء في قوله : (فَبَشِّرْهُمْ) داخلة على خبر الموصول ، لتنزيل الموصول منزلة الشرط ، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر ، فضمير الجمع عائد إلى (الَّذِينَ) ويجوز كون الضمير عائدا إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون. والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أن ذكر آكلي الأموال الصادّين عن سبيل الله وذكر الكانزين ، أمر رسوله بأن ينذر جميعهم بالعذاب ، فدلّت الفاء على شرط محذوف تقديره : إذا علمت أحوالهم هذه فبشّرهم ، والتبشير مستعار للوعيد على طريقة التهكّم.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

انتصب (يَوْمَ يُحْمى) على الظرفية لعذاب [التوبة : ٣٤] ، لما في لفظ عذاب من معنى يعذّبون. وضمير (عَلَيْها) عائد إلى (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٣٤] بتأويلهما بالدنانير والدراهم ، أو عائد إلى (أَمْوالَ النَّاسِ) [التوبة : ٣٤] و (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٣٤] ، إن كان الضمير في قوله : (فَبَشِّرْهُمْ) [التوبة : ٣٤] عائدا إلى (الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ) و (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ) [التوبة : ٣٤].

والحمي شدّة الحرارة. يقال : حمي الشيء إذا اشتدّ حرّه.

والضمير المجرور بعلى عائد إلى (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٣٤] باعتبار أنّها دنانير أو دراهم ، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل ، فكأنّه قيل : يوم يحمي الحامون عليها ، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره : إذ هو النار التي تحمى ، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث ، عدّي بعلى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحمي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها ، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله : (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فصارت الأموال محمية عليها النار وموضوعة في النار. وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيبا بديعا من البلاغة والمبالغة في إيجاز.

٧٨

والكيّ : أن يوضع على الجلد جمر أو شيء مشتعل.

والجباه : جمع جبهة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس.

والجنوب : جمع جنب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار.

والظّهور : جمع ظهر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم.

والمعنى : تعميم جهات الأجساد بالكي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألم الكي ، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناف من الآلام.

وسلك في التعبير عن التعميم مسلك الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم ، تهويلا لشأنه ، فلذلك لم يقل : فتكوى بها أجسادهم.

وكيفية إحضار تلك الدراهم والدنانير لتحمى من شئون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في «الموطأ» و «الصحيحين» أنّه يمثّل له ماله شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يقول : «أنا مالك أنا كنز لك» وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله ، وإن كانت قد تداول أعيانها خلق كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد ، ومن بلد إلى بلد ، ومن عصر إلى عصر.

وجملة (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) مقول قول محذوف ، وحذف القول في مثله كثير في القرآن ، والإشارة إلى المحمي ، وزيادة قوله : (لِأَنْفُسِكُمْ) للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب ، وهو لا يفعل شيئا لأجل نفسه إلّا لأنّه يريد به راحتها ونفعها ، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة ، بما كان أضعافا مضاعفة من ألم العذاب وجملة (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) توبيخ وتنديم.

والفاء في (فَذُوقُوا) لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى.

والذوق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق ، وتقدم عند قوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِه) في سورة العقود [٩٥].

و (ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام : أي ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون.

٧٩

وعبّر بالموصولية في قوله : (ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦))

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).

استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر ، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي ، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية ، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه ، وليوضّح تعيين الأشهر الحرم من قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) [التوبة : ٥] بعد ما عقب ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم.

والمقصود : ضبط الأشهر الحرم وإبطال ما أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسد أوقاتها ، وأفضى إلى اختلاطها ، وأزال حرمة ماله حرمة منها ، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها.

وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها.

وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعيه.

والمراد بالشهور : الشهور القمرية بقرينة المقام ، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم ، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال ، وتاريخ الحوادث الماضية ، بمجرّد المشاهدة ، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض. قال تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل ، وما حدثت الأشهر الشمسية وسنتها إلّا بعد ظهور علم الفلك والميقات ، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة ،

٨٠