تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

محذوف أي حزنوا لأنهم لا يجدون ما ينفقون.

والآية نزلت في نفر من الأنصار سبعة وقيل : فيهم من غير الأنصار واختلف أيضا في أسمائهم بما لا حاجة إلى ذكره ولقّبوا بالبكّائين لأنّهم بكوا لمّا لم يجدوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحملان حزنا على حرمانهم من الجهاد. وقيل : نزلت في أبي موسى الأشعري ورهط من الأشعريين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك يستحملونه فلم يجد لهم حمولة وصادفوا ساعة غضب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلف أن لا يحملهم ثم جاءه نهب إبل فدعاهم وحملهم وقالوا : استغفلنا رسول الله يمينه لا نفلح أبدا ، فرجعوا وأخبروه فقال : «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإنّي والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا كفّرت عن يميني وفعلت الذي هو خير» والظاهر أنّ هؤلاء غير المعنيين في هذه الآية لأنّ الأشعريين قد حملهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعن مجاهد أنّهم بنو مقرّن من مزينة ، وهم الذين قيل : إنّه نزل فيهم قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٩٩] الآية.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

لما نفت الآيتان السابقتان أن يكون سبيل على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة ، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء ، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعد (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) [التوبة : ٩٤] ، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نفي أن يكون عليهم سبيل.

وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق ، أي لا سبيل عقاب إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء. والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) [التوبة : ٨٦] الآية.

والسبيل : حقيقته الطريق. ومرّ في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١]. وقوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة ، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يتوصل بها من هي له إلى

١٨١

تنفيذ المؤاخذة في الغير. ولذلك عدّي بحرف (على) المفيد لمعنى الاستعلاء ، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول (على). فكان هذا التركيب استعارة مكنية رمز إليها بما هو من ملائمات المشبه به وهو حرف (على). وفيه استعارة تبعية.

والتعريف باللام في قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ) تعريف العهد ، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١] على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة ، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنونك وهم أغنياء. ونظير هذا قوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في سورة الشورى [٤٢]. فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب.

والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف. وقد سبقت آية (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) من سورة النساء [٩٠] ، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية.

وجملة : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهم أغنياء ، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء. وقد تقدم القول في نظيره آنفا.

وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٨٧] لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية ، ولأجل هذا المعنى فرع عليه (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لنفي أصل العلم عنهم ، أي يكادون أن يساووا العجماوات.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤))

استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصرا على الذين يستأذنون في التخلف فإن الإذن لهم يغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب ، فضمير (يَعْتَذِرُونَ) عائد إلى أقرب معاد

١٨٢

وهو قوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة : ٩٠] فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلا مضارعا لإفادة التجدد والتكرير.

و (إِذا) هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر عند الرجوع.

والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين. والنهي في قوله : (لا تَعْتَذِرُوا) مستعمل في التأييس.

وجملة : (لَنْ نُؤْمِنَ) في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار ، يقال : آمن له إذا صدقه. وقد تقدم في هذه السورة [٦١] قوله تعالى : (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

وجملة : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) تعليل لنفي تصديقهم ، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم ، فالإبهام في المفعول الثاني ل (نَبَّأَنَا) الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه.

و (مِنْ) اسم بمعنى بعض ، أو هي صفة لمحذوف تقديره : قد نبأنا الله اليقين من أخباركم.

وجملة : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) عطف على جملة (لا تَعْتَذِرُوا) ، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخير للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم ؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم ، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم. وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا.

فالإخبار برؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح ، والترهيب من الدوام على حالهم. والمراد : تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم ، ولذلك أردف بقوله : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي تصيرون بعد الموت إلى الله. فالرد بمعنى الإرجاع ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) في سورة الأنعام [٦٢].

والرد : الإرجاع. والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر. ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء

١٨٣

الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيها برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه.

والغيب : ما غاب عن علم الناس. والشهادة : المشاهدة. واللام في (الْغَيْبِ) و (الشَّهادَةِ) للاستغراق ، أي كل غيب وكل شهادة.

والعدول عن أن يقال : لم تردون إليه ، أي إلى الله ، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم ، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا أنه لا يخفى على الله شيء.

والإنباء : الإخبار. وما كنتم تعملون : علم كل عمل عملوه.

واستعمل (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في لازم معناه ، وهو المجازاة على كل ما عملوه ، أي فتجدونه عالما بكل ما عملتموه. وهو كناية ؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم ملك يوم الدين بكل ما عملوه.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥))

الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم. ومعناها ناشئ عن مضمون جملة (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) [التوبة : ٩٤] تنبيها على أنهم لا يرعوون عن الكذب ومخادعة المسلمين ، فإذا قيل لهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) [التوبة : ٩٤] حلفوا على أنهم صادقون ترويجا لخداعهم : وهذا إخبار بما سيلاقي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو.

و (إِذا) هنا ظرف للزمن الماضي. وحذف المحلوف عليه لظهوره ، ولتقدم نظيره في قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) [التوبة : ٤٢] إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج.

والانقلاب : الرجوع ، وتقدم في قوله (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) في آل عمران [١٤٤].

وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم ، أي عن عتابهم وتقريعهم ، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطييب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملّص من مسبة العتاب ولذعه. ولذلك قال في الآيتين الأخريين (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ)

١٨٤

[التوبة : ٦٢] (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) [التوبة : ٩٦] لأنّ ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يعرض المسلمون عنهم.

وأدخل حرف (عن) على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم. ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) ، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماما.

وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنّه أجيبت طلبته حتى إذا تأمّل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأسا لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملة المسلمين ، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه. فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه أو من القول بالموجب.

وجملة : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) تعليل للأمر بالإعراض. ووقوع (إنّ) في أولها مؤذن بمعنى التعليل.

والرجس : الخبث. والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس. فهو رجس معنوي. كقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠].

والمأوى : المصير والمرجع.

و (جَزاءً) حال من (جَهَنَّمُ) ، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) [التوبة : ٩٥] لأنّهم إذا حلفوا لأجل أن يعرض عنهم المسلمون فلا يلوموهم ، فإن ذلك يتضمن طلبهم رضى المسلمين.

وقد فرّع الله على ذلك أنه إن رضي المسلمون عنهم وأعرضوا عن لومهم فإن الله لا يرضى عن المنافقين. وهذا تحذير للمسلمين من الرضى عن المنافقين بطريق الكناية إذ قد

١٨٥

علم المسلمون أن ما لا يرضي الله لا يكون للمسلمين أن يرضوا به.

والقوم الفاسقون هم هؤلاء المنافقون. والعدول عن الإتيان بضمير (هم) إلى التعبير بصفتهم للدلالة على ذمهم وتعليل عدم الرضى عنهم ، فالكلام مشتمل على خبر وعلى دليله فأفاد مفاد كلامين لأنه ينحلّ إلى : فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧))

استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذّرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم ، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب. فلما تقضّى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب. وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه ، وهو لفظ (الأعراب) للاهتمام به من هذه الجهة ، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيرا.

و (أشد) و (أجدر) اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه ، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر ، أي كفار ومنافقي المدينة. وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين.

وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة. ومنافقوهم أشد نفاقا من منافقي المدينة. وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم ، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة ، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك ، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعد عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم ، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفورا. ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي ، وكان يدعى الإسلام ، لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى الأقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قسمه قال ذو الخويصرة مواجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اعدل» فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويحك ومن يعدل إن لم أعدل».

فإن الأعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام ، وهم لبعدهم عن مشاهدة أنوار

١٨٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباح مساء أجهل بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس ، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي تؤثّر سمّوا في النفوس البشرية ، وإتقانا في وضع الأشياء في مواضعها ، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان ، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأضيع للتراث العلمي والخلقي ؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذرّ لما عزم على سكنى الربذة : تعهّد المدينة كيلا ترتدّ أعرابيا.

فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة ؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة ، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به.

ويجوز أن يكون (أَشَدُّ) و (أَجْدَرُ) مسلوبي المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفين بهما على طريقة قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣]. فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك ، من غير إرادة أنهم أشد كفرا ونفاقا من كفار أهل المدينة ومنافقيها. وعلى كلا الوجهين فإن (كُفْراً وَنِفاقاً) منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف (أَشَدُّ). سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن.

والأجدر : الأحق. والجدارة : الأولوية. وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي ، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع (أن)المصدرية.

والحدود : المقادير والفواصل بين الأشياء. والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها.

وفي هذا الوصف يظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة. وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه ، فزيادة قيد (على ما هي عليه) للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات.

وجملة : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم ، أي عليم بهم وبغيرهم ، وحكيم في تمييز مراتبهم.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ

١٨٧

السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨))

هذا فريق من الأعراب يظهر الإيمان وينفق في سبيل الله. وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفا من الغزو أو حبا للمحمدة وسلوكا في مسلك الجماعة ، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكّنهم من الانقلاب على أعقابهم. وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق ، لأن التقاسيم في المقامات الخطابية والمجادلات تعتمد اختلافا ما في أحوال المقسّم ، ولا يعبأ فيها بدخول القسم في قسيمه.

فقوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) هو في التقسيم كقوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٩٩]. ومعنى (يَتَّخِذُ) يعد ويجعل ، لأن اتخذ من أخوات جعل. والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة بردا. ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) [النحل : ٩١] فكذلك (يَتَّخِذُ) هنا.

والمغرم : ما يدفع من المال قهرا وظلما ، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعدون ذلك كالإتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية. ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال قائلهم من طيئ في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام :

فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا

هلمّ فإن المشرفيّ الفرائض

أي فرائض الزكاة هي السيف ، أي يعطون الساعي ضرب السيف بدلا عن الزكاة.

والتربص : الانتظار. والدوائر : جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) في سورة العقود [٥٢].

والباء للسببية كقوله تعالى : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وجعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف. والتقدير : ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سببا لانتظار الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم.

فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو

١٨٨

كامن فيهم من الكفر. وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أهل الردة من العرب.

وجملة : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء عليهم وتحقير ، ولذلك فصلت. والدعاء من الله على خلقه : تكوين وتقدير مشوب بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده. وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) في سورة البقرة [٨٩].

وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين. وإضافة (دائِرَةُ) إلى (السَّوْءِ) من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم : عشاء الآخرة. إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء. قال أبو علي الفارسي : لو لم تضف الدائرة إلى السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق :

فكنت كذئب السّوء حين رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدم

إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس. والسّوء ـ بفتح السين ـ المصدر ، وبضمها الاسم. وقد قرأ الجمهور بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين. والمعنى واحد.

وجملة : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل ، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد ، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفّاهم الله حقهم من الثناء عليهم ، وهم أضداد الفريقين الآخرين المذكورين في قوله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) [التوبة : ٩٧] ـ وقوله ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) [التوبة : ٩٧]. قيل : هم بنو مقرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) [التوبة : ٩٢] الآية كما تقدم. ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزني ـ هو ابن مغفل ـ. والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك. وتقدم قريبا معنى (يَتَّخِذُ).

١٨٩

و (قُرُباتٍ) ـ بضم القاف وضم الراء ـ : جمع قربة بسكون الراء. وهي تطلق بمعنى المصدر ، أي القرب وهو المراد هنا ، أي يتخذون ما ينفقون تقربا عند الله. وجمع قربات باعتبار تعدد الإنفاق ، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب. قال تعالى : (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) [الإسراء : ٥٧]. ف (قُرُباتٍ) هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة ، فلذلك وصفت ب (عِنْدَ) الدالة على مكان الدنو. و (عند) مجاز في التشريف والعناية ، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله. قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤ ، ٥٥].

و (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) دعواته. وأصل الصلاة الدعاء. وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو لهم بسببه دعوة ، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة. وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالا لما أمره الله بقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٣]. وجاء في حديث ابن أبي أوفى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى».

ويجوز عطف (صَلَواتِ الرَّسُولِ) على اسم الجلالة معمولا ل (عِنْدَ) ، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول ، أي يجعلونه تقربا كائنا في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيها للتسبب في الشيء بالاقتراب منه ، أي يجعلون الإنفاق سببا لدعاء الرسول لهم. فظرف (عند) مستعمل في معنيين مجازيين. ويجوز أن يكون (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) عطفا على (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) ، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول. أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٣].

وجملة : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه. وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع ، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها ، والضمير الواقع اسم (إنّ) عائد إلى ما (ينفق) باعتبار النفقات. واللام للاختصاص ، أي هي قربة لهم ، أي عند الله وعند صلوات الرسول. وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه. وتنكير (قُرْبَةٌ) لعدم الداعي إلى التعريف ، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم.

وجملة : (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) واقعة موقع البيان لجملة (إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) ، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه ، وذلك من الرحمة. والقربة عند صلوات

١٩٠

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجابة صلاته. والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة ، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته. وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة ، إذ كثيرا ما يقال : دخل الجنة. قال تعالى : (وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٣٠].

وجملة : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم. وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر ، أي غفور لما مضى من كفرهم ، رحيم بهم يفيض النعم عليهم.

وقرأ الجمهور (قُرْبَةٌ) بسكون الراء ، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

عقّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذي متطلب الصلاح حذوهم ، ولئلا يخلو تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحواليها وبواديها ، عن ذكر أفضل الأقسام تنويها به. وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.

فالجملة عطف على جملة : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) [التوبة : ٩٨].

والمقصود بالسبق السبق في الإيمان ، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين ، والكفار الصرحاء ، والكفار المنافقين ؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم ، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان ، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.

وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معا ، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة : من صلى القبلتين. وقال عطاء : من شهد بدرا. وقال الشعبي : من أدركوا بيعة الرضوان. وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله : (وَالْأَنْصارِ) للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين ، وهذا يخص المهاجرين. وفي «أحكام ابن العربي» ما يشبه أنّ رأيه

١٩١

أن السابقين أصحاب العقبتين ، وذلك يخص الأنصار. وعن الجبائي : أن السابقين من أسلموا قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل.

واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة ، أي بفتح مكة ، وهذا يقصر وصف السبق على المهاجرين. ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض (الْأَنْصارِ). و (مِنَ) للتبعيض لا للبيان.

والأنصار : جمع نصير ، وهو الناصر. والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوس والخزرج الذين آمنوا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان. دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الوصف ، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشئوا في الإسلام كولد ابن صياد.

وقرأ الجمهور (وَالْأَنْصارِ) بالخفض عطفا على المهاجرين ، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار. وقرأ يعقوب (وَالْأَنْصارِ) بالرفع ، فيكون عطفا على وصف (السَّابِقُونَ) ويكون المقسّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين.

والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان ، أي آمنوا بعد السابقين : ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة.

والإحسان : هو العمل الصالح. والباء للملابسة. وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص ، فهم محسنون ، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازا بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة ، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد ، مثل المؤلفة قلوبهم ، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل ، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب : ٦٠] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات.

وجملة : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) خبر عن (السَّابِقُونَ). وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد. ورضى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءهم ، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم.

والإعداد : التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والكرامة. وتقدم القول في معنى جري الأنهار.

١٩٢

وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (من) مع (تحتها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء ، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد ، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.

وثبتت (من) في مصحف مكة ، وهي قراءة ابن كثير المكي ، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١))

كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطاعوه وهم جهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، ولحيان ، وعصية ، فأعلم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة.

وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم.

وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر ، لا نعت. و (من) في قوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) للتبعيض و (من) في قوله : (مِنَ الْأَعْرابِ) لبيان (من) الموصولة.

و (من) في قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) اسم بمعنى بعض. و (مَرَدُوا) وخبر عنه ، أو تجعل (من) تبعيضية مؤذنة بمبعض محذوف ، تقديره : ومن أهل المدينة جماعة مردوا ، كما في قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) في سورة النساء [٤٦]. ومعنى مرد على الأمر مرن عليه ودرب به ، ومنه الشيطان المارد ، أي في الشيطنة.

وأشير بقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) إلى أن هذا الفل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستيثار بعلمه ولم يطلع عليهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبل. وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمون ، فالمقصود هو قوله : (لا تَعْلَمُهُمْ).

وجملة (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) مستأنفة. والخبر مستعمل في الوعيد ، كقوله : (وَسَيَرَى اللهُ

١٩٣

عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٩٤] ، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به. وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علمه بهم ، فإن علم الله بهم كاف. وفيه أيضا تمهيد لقوله بعده (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ).

وجملة : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) استيناف بياني للجواب عن سؤال يثيره قوله : (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله تعالى يعلمهم. فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم ولا يفلتهم منه عدم علم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهم. والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا لقوله بعده (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ).

وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين. وحملوه كلهم على حقيقة العدد. وذكروا وجوها لا ينشرح لها الصدر. والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] أي تأمل تأملا متكررا. ومنه قول العرب : لبيك وسعديك ، فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى : سنعذبهم عذابا شديدا متكررا مضاعفا ، كقوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠]. وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.

والعذاب العظيم : هو عذاب جهنم في الآخرة.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

الأظهر أن جملة : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا) عطف على جملة : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) [التوبة : ١٠١] ، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة آخرون أذنبوا بالتخلف فاعترفوا (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) بذنوبهم بالتقصير. فقوله : إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان ، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيّئ.

وكان من هؤلاء جماعة منهم الجد بن قيس ، وكردم ، وأرس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام ، ومرداس ، وأبو قيس ، وأبو لبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سوارى المسجد النبوي أياما حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم.

١٩٤

والاعتراف : افتعال من عرف. وهو للمبالغة في المعرفة ، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره ، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه ، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه ، ولا يتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى ، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود.

وخلطهم العمل الصالح والسيّئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش.

وقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما. ويقال : خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط ، والتركيبان متساويان في المعنى ، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح.

وعسى : فعل رجاء. وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو ، وأن الله قد تاب عليهم ؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه.

ومعنى : (أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي يقبل توبتهم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) في سورة البقرة [٣٧].

وجملة : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مناسب للمقام.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣))

لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملا على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد ، وعدم إنفاق المال في الجهاد ، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال ، فالانفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين ، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حلّ بمال المسلمين.

فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها. وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا

١٩٥

واستغفر لنا ، فقال لهم : لم أومر بأن آخذ من أموالكم. حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقاتهم

، فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم.

والتاء في (تُطَهِّرُهُمْ) تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظرا لقوله : (خُذْ) ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة. وأيّاما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي.

والتزكية : جعل الشيء زكيا ، أي كثير الخيرات. فقوله : (تُطَهِّرُهُمْ) إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله : (تُزَكِّيهِمْ) إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية. فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.

والصلاة عليهم : الدعاء لهم. وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) [التوبة : ٩٩]. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول : اللهم صل على آل فلان. كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى يجمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يسأل من الله تعالى أن يصلي على المتصدق. والصلاة من الله الرحمة ، ومن النبي الدعاء.

وجملة : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم ، أي سبب سكن لهم ، أي خير. فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل.

والسكن : بفتحتين ما يسكن إليه ، أي يطمأن إليه ويرتاح به. وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي ، وهو سكون النفس ، أي سلامتها من الخوف ونحوه ، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة ، ولذلك سمي ذلك قلقا لأن القلق كثرة التحرك. وقال تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] وقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) [النحل : ٨٠] ، ومن أسماء الزوجة السكن ، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحا وسكونا إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب ، كما قال تعالى : (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة : ٤٥] ، والطاعة اطمئنان ويقين ، كما قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨].

وجملة : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم. والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء. وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه. وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيرا عظيما وصلاحا

١٩٦

في الأمور.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر ويعقوب (صَلاتَكَ) بصيغة الجمع. وقرأه حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف (صَلاتَكَ) بصيغة الإفراد. والقراءتان سواء ، لأن المقصود جنس صلاته عليه الصلاة والسلام. فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم ، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] مشيرا إلى ذلك ، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله : (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) [التوبة : ١٠٢] وقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] كانت جملة : (ألَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) استينافا بيانيا ناشئا عن التعليل بقوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] ، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا ، فيكون الاستفهام تقريرا مشوبا بتعجيب من ترددهم في قبول توبتهم. والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه ، ويكون ضمير (يَعْلَمُوا) عائدا إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.

وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة : ١٠٣] ، وكانت جملة : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) مستأنفة استئنافا ابتدائيا على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها ، وكان ضمير (أَلَمْ يَعْلَمُوا) عائدا إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة ، وكان الاستفهام إنكاريا.

ونزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة ، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء

١٩٧

في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقة ، وكان الكلام أيضا مسوقا للتحضيض.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف على (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) ، تنبيها على أنه كما يجب العلم بأن الله يفعل ذلك يجب العلم بأن من صفاته العلى أنه التواب الرحيم ، أي الموصوف بالإكثار من قبول توبة التائبين ، الرحيم لعباده ، ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب (التَّوَّابُ) ب (الرَّحِيمُ) في غاية المناسبة.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

عطف على جملة : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) [التوبة : ١٠٤] الذي هو في قوة إخبارهم بأن الله يقبل التوبة وقل لهم اعملوا ، أي بعد قبول التوبة ، فإن التوبة إنما ترفع المؤاخذة بما مضى فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات فعمرها بالسيئات فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح ، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما قبلت توبتهم كان حقا عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يلحقوا بالذين سبقوهم ، فهذا هو المقصود ، ولذلك كان حذف مفعول (اعْمَلُوا) لأجل التعويل على القرينة ، ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح. والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية. وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب.

وتفريع (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) زيادة في التحضيض. وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى. وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات. وهذا كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان الإحسان : «هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وعطف (وَرَسُولُهُ) على اسم الجلالة لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم.

وعطف (الْمُؤْمِنُونَ) أيضا لأنهم شهداء الله في أرضه ولأن هؤلاء لما تابوا قد رجعوا إلى حضيرة جماعة الصحابة فإن عملوا مثلهم كانوا بمحل الكرامة منهم وإلا كانوا ملحوظين منهم بعين الغضب والإنكار. وذلك مما يحذره كل أحد هو من قوم يرمقونه

١٩٨

شزرا ويرونه قد جاء نكرا.

والرؤية المسندة إلى الله تعالى رؤية مجازية. وهي تعلق العلم بالواقعات سواء كانت ذوات مبصرات أم كانت أحداثا مسموعات ومعاني مدركات ، وكذلك الرؤية المسندة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين المعنى المجزى لقوله : (عَمَلَكُمْ).

وجملة : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) من جملة المقول. وهو وعد ووعيد معا على حسب الأعمال ، ولذلك جاء فيه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقد تقدم القول في نظيره آنفا.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين. والمراد بهؤلاء من بقي من المخلّفين لم يتب الله عليه ، وكان أمرهم موقوفا إلى أن يقضي الله بما يشاء. وهؤلاء نفر ثلاثة ، هم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك. ولم يكن تخلفهم نفاقا ولا كراهية للجهاد ولكنهم شغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق. وسأل عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في تبوك. فلما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتوه وصدقوه ، فلم يكلمهم ، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم ، فامتثلوا وبقوا كذلك خمسين ليلة ، فهم في تلك المدة مرجون لأمر الله. وفي تلك المدة نزلت هذه الآية (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٧١]. وأنزل فيهم قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى) النبي (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ـ إلى قوله ـ (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٧ ـ ١١٩].

وعن كعب بن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في «صحيح البخاري». على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها. وقد جوز المفسرون عود ضمير (أَلَمْ يَعْلَمُوا) [التوبة : ١٠٤] إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما.

وقوله : (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) [التوبة : ١٠٤] (هو) ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر. و (عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤] متعلقة ب (يَقْبَلُ) لتضمنه معنى يتجاوز ، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها.

١٩٩

فكأنه قيل : يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده. وكان حق تعدية فعل (يقبل) أن يكون بحرف (من). ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال : لعل (عن) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت. ولم يبين وجه ذلك ، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز.

وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب ، فالمراد ب (عِبادِهِ) جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان.

والآية دليل على قبول التوبة قطعا إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية. وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل. ومختلف فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر ؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. مقبولة قطعا. ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق. وادعى الإمام في «المعالم» الإجماع عليه وهي أولى بالقبول. وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري : إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة ، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه. وكأنّ خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحا. وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفية أركانها وشروطها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ)(١)(السُّوءَ بِجَهالَةٍ) الآية في سورة النساء [١٧].

والأخذ في قوله : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة : ١٠٤] مستعمل في معنى القبول ، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذا حقيقيا ، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف (مُرْجَوْنَ) بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجاه بالألف ، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره ، فيقال في مضارعه المخفف : أرجيته بالياء ، كقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) [الأحزاب : ٥١] بالياء ، فأصل مرجون مرجيون. وقرأ البقية (مُرْجَوْنَ) بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرئ ترجئ من تشاء [الأحزاب : ٥١]. واللام في قوله : (لِأَمْرِ اللهِ) للتعليل ، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم. وفيه حذف مضاف ، تقديره : لأجل انتظار

__________________

(١) في المطبوعة (يعلمون) وهو خطأ.

٢٠٠