تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

أعمالا تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول. ويبقون على دينهم فلا يتعرّضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق ، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] إذ حسب أنّه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صدق إخبار الرسول بالبعث.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤))

عطف على جملة (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) [التوبة : ٥٣] لأنّ هذا بيان للتعليل لعدم قبول نفقاتهم بزيادة ذكر سببين آخرين مانعين من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر والفسوق. وهما : أنّهم لا يأتون الصلاة إلّا وهم كسالى ، وأنّهم لا ينفقون إلّا وهم كارهون. والكفر وإن كان وحده كافيا في عدم القبول ، إلّا أن ذكر هذين السببين إشارة إلى تمكّن الكفر من قلوبهم وإلى مذمّتهم بالنفاق الدالّ على الجبن والتردّد. فذكر الكفر بيان لذكر الفسوق ، وذكر التكاسل عن الصلاة لإظهار أنّهم متهاونون بأعظم عبادة فكيف يكون إنفاقهم عن إخلاص ورغبة. وذكر الكراهية في الإنفاق لإظهار عدم الإخلاص في هذه الخصلة المتحدّث عنها.

وقرأ حمزة والكسائي : أن يقبل منهم ـ بالمثناة التحتية ـ لأنّ جمع غير المؤنّث الحقيقي يجوز فيه التذكير وضدّه.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))

تفريع على مذمّة حالهم في أموالهم ، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طمأنينة بال ، بإعلام المسلمين أنّ ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محلّ إعجاب المؤمنين ، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئا من الحظّ العاجل ببيان أنّ ذلك سبب في عذابهم في الدنيا.

فالخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد تعليم الأمّة.

ومعنى هذه الآية : أنّ الله كشف سرّا من أسرار نفوس المنافقين بأنّه خلق في

١٢١

نفوسهم شحّا وحرصا على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه ، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جرّاء أموالهم ، فهم في كبد من جمعها. وفي خوف عليها من النقصان ، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها ، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة ، وتمّ مراده. وهذا من أشدّ العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشحّ مطلقا ، إلّا أنّ المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر. ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم ، إذ الخلق السيّئ يدعو بعضه بعضا ، فإنّ الكفر خلق سيّئ فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح ، والنفاق يبعث عليه الخلق السيّئ من الجبن والبخل ، ليتّقي صاحبه المخاطر ، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم ، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفّقين إلى الإسلام : مثل حنظلة : ابن أبي عامر الملقّب غسيل الملائكة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما.

ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكلّ ما هو مظنّة أن ينتفع به الناس ، عطف الأولاد بإعادة حرف النفي بعد العاطف ، إيماء إلى أنّ ذكرهم كالتكملة والاستطراد.

واللام في (لِيُعَذِّبَهُمْ) للتعليل : تعلّقت بفعل الإرادة للدلالة على أنّ المراد حكمة وعلّة فتغني عن مفعول الإرادة ، وأصل فعل الإرادة أن يعدّى بنفسه كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ويعدّى غالبا باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦] وقول كثيّر :

أريد لأنسى حبّها فكأنما

تمثّل لي ليلى بكلّ مكان

وربما عدّوه باللام وكي مبالغة في التعليل كقول قيس بن عبادة :

أردت لكيما يعلم الناس أنّها

سراويل قيس والوفود شهود

وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وبعض القرّاء سمّاها (لام أن) ـ بفتح الهمزة ـ وتقدم عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦].

فقوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلّق ب (لِيُعَذِّبَهُمْ) ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف (وَتَزْهَقَ) على (لِيُعَذِّبَهُمْ) باعتبار كونه أراده الله لهم عند ما رزقهم الأموال

١٢٢

والأولاد فيعلم منه : أنّه أراد موتهم على الكفر ، فيستغرق التعذيب بأموالهم وأولادهم حياتهم كلّها ، لأنّهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشحّ.

وجملة : (وَهُمْ كافِرُونَ) في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنّه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافرا.

والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠] أي استحسنت مرأى وفرة عدده.

و (الزهوق) الخروج بشدّة وضيق ، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد ، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦))

هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق. وضمائر الجمع عائدة إليهم ، قصد منها إبطال ما يموّهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقسم على أنّهم من المؤمنين.

فمعنى : (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي بعض من المخاطبين ولمّا كان المخاطبون مؤمنين ، كان التبعيض على اعتبار اتّصافهم بالإيمان ، بقرينة القسم لأنّهم توجّسوا شكّ المؤمنين في أنّهم مثلهم.

والفرق : الخوف الشديد.

واختيار صيغة المضارع في قوله : (وَيَحْلِفُونَ) وقوله : (يَفْرَقُونَ) للدلالة على التجدّد وأنّ ذلك دأبهم.

ومقتضى الاستدراك : أن يكون المستدرك أنّهم ليسوا منكم ، أي كافرون ، فحذف المستدرك استغناء بأداة الاستدراك ، وذكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنّه تظاهر باطل وبأنّ الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم : هم أنّهم يفرقون من المؤمنين ، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين.

وحذف متعلّق (يَفْرَقُونَ) لظهوره ، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم ، كما قال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

١٢٣

وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ، ٦١].

وقوله : (وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضا وما هم منكم ولكنّهم قوم متّصفون بصفة الجبن ، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزّة ، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين ، وفي معنى هذا قوله تعالى : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] وقول مساور بن هند في ذمّ بني أسد :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

أولئك أومنوا جوعا وخوفا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا

فيكون توجيها بالثناء على المؤمنين ، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى. وفي هذه الآية دلالة على أنّ اختلاف الخلق مانع من المواصلة والموافقة.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

بيان لجملة : (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦].

والملجأ : مكان اللّجإ ، وهو الإيواء والاعتصام.

والمغارات : جمع مغارة ، وهي الغار المتّسع الذي يستطيع الإنسان الولوج فيه ، ولذلك اشتقّ لها المفعل : الدالّ على مكان الفعل ، من غار الشيء إذا دخل في الأرض. والمدّخل مفتعل اسم مكان للادّخال الذي هو افتعال من الدخول. قلبت تاء الافتعال دالا لوقوعها بعد الدال ، كما أبدلت في ادّان ، وبذلك قرأه الجمهور. وقرأ يعقوب وحده (أَوْ مُدَّخَلاً) ـ بفتح الميم وسكون الدال ـ اسم مكان من دخل.

ومعنى (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) لانصرفوا إلى أحد المذكورات وأصل ولّى أعرض ولمّا كان الإعراض يقتضي جهتين : جهة ينصرف عنها ، وجهة ينصرف إليها ، كانت تعديته بأحد الحرفين تعيّن المراد.

والجموح : حقيقته النفور ، واستعمل هنا تمثيلا للسرعة مع الخوف.

والمعنى : أنهم لخوفهم من الخروج إلى الغزو لو وجدوا مكانا ممّا يختفي فيه المختفي فلا يشعر به الناس لقصدوه مسرعين خشية أن يعزم عليهم الخروج إلى الغزو.

١٢٤

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨))

عرف المنافقون بالشحّ كما قال الله تعالى : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) [الأحزاب : ١٩] ـ وقال ـ (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) [الأحزاب : ١٩] ومن شحّهم أنّهم يودّون أنّ الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها توزّع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يلقونها في أحاديثهم ، ويظهرون أنّهم يغارون على مستحقّيها ، ويشمئزّون من صرفها في غير أهلها ، وإنّما يرومون بذلك أن تقصر عليهم.

روي أنّ أبا الجوّاظ ، من المنافقين ، طعن في أن أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال الصدقات بعض ضعفاء الأعراب رعاء الغنم ، إعانة لهم ، وتأليفا لقلوبهم ، فقال : ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم ، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين ، وقد روي أنّه شافه بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أبي سعيد الخدري : أنّها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعدل ، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع ، فلعل السبب تكرّر ، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب.

واللّمز القدح والتعييب ، مضارعه من باب يضرب ، وبه قرأ الجمهور ، ومن باب ينصر ، وبه قرأ يعقوب وحده.

وأدخلت (فِي) على (الصَّدَقاتِ) ، وإنّما اللمز في توزيعها لا في ذواتها : لأنّ الاستعمال يدلّ على المراد ، فهذا من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها.

ثم إنّ قوله : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) يحتمل : أنّ المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور ، أي إن أعطي اللامزون ، أي إنّ الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة ، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع ، ويحتمل أنّ الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير (مِنْهُمْ) أي : فإن أعطي المنافقون رضي اللّامزون ، وإن أعطي غيرهم سخطوا ، فالمعنى أنّهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلّا على فقرائهم ولذلك كره أبو الجواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات.

ولم يذكر متعلّق (رَضُوا) ، لأنّ المراد صاروا راضين ، أي عنك.

١٢٥

ودلّت (إِذا) الفجائية على أنّ سخطهم أمر يفاجئ العاقل حين يشهده لأنّه يكون في غير مظنّة سخط ، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

جملة معطوفة على جملة : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨] باعتبار ما تفرّع عليها من قوله : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة : ٥٨] عطفا ينبئ عن الحالة المحمودة ، بعد ذكر الحالة المذمومة.

وجواب (لَوْ) محذوف دلّ عليه المعطوف عليه ، وتقديره : لكان ذلك خيرا لهم.

والإيتاء : الإعطاء ، وحقيقته إعطاء الذوات ويطلق مجازا على تعيين المواهب كما في (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١] وفي (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [المائدة : ٥٤].

وقوله : (ما آتاهُمُ اللهُ) من هذا القبيل ، أي ما عيّنه لهم ، أي لجماعتهم من الصدقات ينوطها بأوصاف تحقّقت فيهم كقوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) [التوبة : ٦٠] الآية.

وإيتاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إعطاؤه المال لمن يرى أن يعطيه ممّا جعل الله له التصرّف فيه ، مثل النفل في المغانم ، والسلب ، والجوائز ، والصلات ، ونحو ذلك ، ومنه إعطاؤه من جعل الله لهم الحقّ في الصدقات.

ويجوز أن يكون إيتاء الله عين إيتاء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإنّما ذكر إيتاء الله للإشارة إلى أنّ ما عينه لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما عيّنه الله لهم ، كما في قوله : (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي ما أوحى الله به إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيهم وقوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١].

وحسب : اسم بمعنى الكافي ، والكفاية تستعمل بمعنى الاجتزاء ، وتستعمل بمعنى ولي مهمّ المكفي ، كما في قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) وهي هنا من المعنى الأول.

ورضي إذا تعدّى إلى المفعول دلّ على اختيار المرضيّ ، وإذا عدّي بالباء دلّ على أنّه صار راضيا بسبب ما دخلت عليه الباء ، كقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨]. وإذا عدّي ب (عن) فمعناه أنّه تجاوز عن تقصيره أو عن ذنبه (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَ

١٢٦

اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٩٦].

فالقول هنا مراد به الكلام مع الاعتقاد ، فهو كناية عن اللازم مع جواز إرادة الملزوم ، فإذا أضمروا ذلك في أنفسهم فذلك من الحالة الممدوحة ولكن لمّا وقع هذا الكلام في مقابلة حكاية اللّمز في الصدقات ، واللّمز يكون بالكلام دلالة على الكراهية ، جعل ما يدلّ على الرضا من الكلام كناية عن الرضى.

وجملة (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) بيان لجملة (حَسْبُنَا اللهُ) لأنّ كفاية المهمّ تقتضي تعهّد المكفي بالعوائد ودفع الحاجة ، والإيتاء فيه بمعنى إعطاء الذوات.

والفضل زيادة الخير والمنافع (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [غافر : ٦١] والفضل هنا المعطى : من إطلاق المصدر وإرادة المفعول ، بقرينة من التبعيضية ، ولو جعلت (مِنْ) ابتدائية لصحّت إرادة معنى المصدر.

وجملة (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) تعليل. أي لأنّنا راغبون فضله.

وتقديم المجرور لإفادة القصر ، أي إلى الله راغبون لا إلى غيره ، والكلام على حذف مضاف ، تقديره : إنّا راغبون إلى ما عيّنه الله لنا لا نطلب إعطاء ما ليس من حقّنا.

والرغبة الطلب بتأدب.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

هذه الآية اعتراض بين جملة : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨] وجملة (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ) النبي [التوبة : ٦١] الآية. وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات.

والمقصود من أداة الحصر : أن ليس شيء من الصدقات بمستحقّ للذين لمزوا في الصدقات ، وحصر الصدقات في كونها مستحقّة للأصناف المذكورة في هذه الآية ، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم.

وأمّا انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معا إلّا على طريقة

١٢٧

استعمال المشترك في معنييه.

والفقير صفة مشبّهة أي المتّصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه ، وضدّه الغني. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) في سورة النساء [١٣٥].

والمسكين ذو المسكنة ، وهي المذلّة التي تحصل بسبب الفقر ، ولا شكّ أنّ ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر ، وإنّما النظر فيما إذا جمع ذكرهما في كلام واحد ؛ فقيل : هو من قبيل التأكيد ، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي ، وقيل : يراد بكلّ من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى ، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة : الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجا لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلّة. والمسكين المحتاج احتياجا يلجئه إلى الضراعة والمذلّة ، ونسب هذا إلى مالك ، وأبي حنيفة ، وابن عباس ، والزهري ، وابن السكّيت ، ويونس بن حبيب ؛ فالمسكين أشدّ حاجة لأنّ الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمّل ألم الخصاصة ، والأكثر إنّما يكون ذلك من شدّة الحاجة على نفس المحتاج. وقد تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى : (وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) في سورة النساء [٣٦].

و (الْعامِلِينَ عَلَيْها) معناه العاملون لأجلها ، أي لأجل الصدقات فحرف (على) للتعليل كما في قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] أي لأجل هدايته إيّاكم. ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف (على) في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكّن ، أي العاملين لأجلها عملا قويا لأنّ السعاة يتجشّمون مشقّة وعملا عظيما ، ولعلّ الإشعار بذلك لقصد الإيمان إلى أنّ علّة استحقاقهم مركّبة من أمرين : كون عملهم لفائدة الصدقة ، وكونه شاقّا ، ويجوز أن تكون (على) دالّة على الاستعلاء المجازي ، وهو استعلاء التصرف كما يقال : هو عامل على المدينة ، أي العاملين للنبي أو للخليفة على الصدقات أي متمكّنين من العمل فيها.

وممّن كان على الصدقة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هذيل.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) هم الذين تؤلّف ، أي تؤنّس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا

١٢٨

في الإسلام بحدثان عهد ، أو من الذين يرغّبون في الدخول في الإسلام ، لأنّهم قاربوا أن يسلموا.

والتأليف : إيجاد الألفة وهي التأنّس.

فالقلوب بمعنى النفوس. وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية.

وللمؤلّفة قلوبهم أحوال : فمنهم من كان حديث عهد بالإسلام ، وعرف ضعف حينئذ في إسلامه ، مثل : أبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، من مسلمة الفتح ؛ ومنهم من هم كفار أشدّاء ، مثل : عامر بن الطفيل ، ومنهم من هم كفار ، وظهر منهم ميل إلى الإسلام ، مثل : صفوان بن أمية. فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام ، وقد بلغ عدد من عدّهم ابن العربي في «الأحكام» من المؤلفة قلوبهم : تسعة وثلاثين رجلا ، قال ابن العربي : وعدّ منهم أبو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاوية بن أبي سفيان ، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك ، وقد ائتمنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه.

و (الرِّقابِ) العبيد جمع رقبة وتطلق على العبد. قال تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢].

و (فِي) للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير «فكّ الرقاب» لأنّ الظرفية جعلت الرقاب كأنّها وضعت الأموال في جماعتها ، ولم يجرّ باللّام لئلا يتوهّم أنّ الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات ، ولكن تبذل تلك الأموال في عتق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة ، أو فداء أسرى مسلمين ، لأنّ الأسرى عبيد لمن أسرّوهم ، وقد مضى في سورة البقرة [١٧٧] قوله : (وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ).

(وَالْغارِمِينَ) المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون ، بحيث يرزأ دائنوهم شيئا من أموالهم ، أو يرزأ المدينون ما بقي لهم من مال لإقامة أود الحياة ، فيكون من صرف أموال من الصدقات في ذلك رحمة للدائن والمدين.

و (سَبِيلِ اللهِ) الجهاد ، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور ، كلّ ذلك برّا وبحرا.

و (ابْنِ السَّبِيلِ) الغريب بغير قومه ، أضيف إلى (السَّبِيلِ) بمعنى الطريق : لأنّه أولده

١٢٩

الطريق الذي أتى به ، ولم يكن مولودا في القوم ، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل.

ولفقهاء الأمّة في الأحكام المستمدّة من هذه الآية طرائق جمّة ، وأفهام مهمّة ، ينبغي أن نلمّ بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة ، وإنّ معانيها لأوفر ممّا تفي به المقالة.

فأمّا ما يتعلّق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله : (لِلْفُقَراءِ) على معنى الملك أو الاستحقاق ، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقّين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كلّ صنف مقدارا من الصدقات ، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كلّ صنف من مقدارها ، والذي عليه جمهور العلماء أنّه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف ، بل التوزيع موكول لاجتهاد ولاة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال ، وهذا قول عمر بن الخطاب ، وعلي ، وحذيفة ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي ، والحسن ، ومالك ، وأبي حنيفة. وعن مالك أنّ ذلك ممّا أجمع عليه الصحابة ، قال ابن عبد البر : ولا نعلم مخالفا في ذلك من الصحابة ، وعن حذيفة. إنّما ذكر الله هذه الأصناف لتعرف وأيّ صنف أعطيت منها أجزأك. قال الطبري : الصدقة لسدّ خلّة المسلمين أو لسدّ خلّة الإسلام ، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم. قلت وهذا الذي اختاره حذّاق النظّار من العلماء ، مثل ابن العربي ، وفخر الدين الرازي.

وذهب عكرمة ، والزهري ، وعمر بن عبد العزيز ، والشافعي : إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكلّ صنف ثمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف. واتّفقوا على أنّه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف.

وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف ، وتحديد صفاتها : فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنّه موكول إلى العرف ، وأنّ الخصاصة متفاوتة وقد تقدّم آنفا. واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيرا ، واتّفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يعدّان مالا يرفع عن صاحبه وصف الفقر.

وأمّا القدرة على التكسّب ، فقيل : لا يعدّ القادر عليه فقيرا ولا يستحقّ الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، وابن خويزمنداد ، ويحيى بن عمر من المالكية ... ورويت

١٣٠

في ذلك أحاديث رواها الدار قطني ، والترمذي ، وأبو داود. وقيل : إذا كان قويا ولا مال له جاز له أخذ الصدقة ، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي. والكيا الطبري من الشافعية.

وأمّا العاملون عليها فهم يتعيّنون بتعيين الأمير ، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة. وهو قول مالك وأبي حنيفة.

وأمّا المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها. فأمّا الصدقات فلهم حقّ فيها بنصّ القرآن ، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمرّ عطاؤهم في خلافة أبي بكر ، وزمن من خلافة عمر ، وكانوا يعطون بالاجتهاد ، ولم يكونوا يعيّنون لهم ثمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف ، وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العقل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر. وإنّما بناؤها على أنّه إذا تعطّل المصرف فلمن يردّ سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أنّ نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم. وعن عمر بن الخطاب أنّه انقطع سهمهم بعزة الإسلام ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، ومالك بن أنس وأبو حنيفة ، وقد قيل : إنّ الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي ، ولا شكّ أن عمر قطع إعطاء المؤلّفة قلوبهم مع أنّ صنفهم لا يزال موجودا ، رأى أنّ الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكّن الإسلام من قلوبهم ، ومن العلماء من جعل فعل عمر وسكوت الصحابة عليه إجماعا سكوتيا فجعلوا ذلك ناسخا لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع ، وفي عدّ الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمّة الأصول وفي هذا البناء نظر ، كما علمت آنفا وقال كثير من العلماء : هم باقون إذا وجدوا فإنّ الإمام ربما احتاج إلى أن يستألف على الإسلام ، وبه قال الزهري ، وعمر بن عبد العزيز ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، واختاره عبد الوهاب ، وابن العربي ، من المالكية قال ابن العربي : «الصحيح عندي أنّه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا». أي فهو يرى بقاء هذا المصرف ويرى أنّ عدم إعطائهم في زمن عمر لأجل عزة الإسلام ، وهذا هو الذي صحّحه المتأخّرون. قال ابن الحاجب في «المختصر» «والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم». وهذا الذي لا ينبغي تقلّد غيره.

١٣١

وأمّا الرقاب فالجمهور على أنّ معنى (وَفِي الرِّقابِ) في شراء الرقيق للعتق ، ودفع ما على المكاتب من مال تحصل به حريته ، وهو رواية المدنيين عن مالك ، وقيل لا يعان بها المكاتب ولو كان آخر نجم تحصل به حريته ، وروي عن مالك من رواية غير المدنيين عنه. وقيل : لا تعطى إلّا في إعانة المكاتب على نجومه ، دون العتق ، وهو قول الليث ، والنخعي ، والشافعي. واختلف في دفع ذلك في عتق بعض عبد أو نجوم كتابة ليس بها تمام حرية المكاتب ، فقيل : لا يجوز ، وبه قال مالك والزهري وقيل يجوز ذلك. وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصحّ من المذهب ، وهو لابن عبد الحكم ، وابن حبيب ، خلافا لأصبغ ، من المالكية.

وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلّا أن يتوبوا. والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يعدّ من الغارمين عند ابن حبيب ، خلافا لابن الموّاز.

وسبيل الله لم يختلف أنّ الغزو هو المقصود ، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو ، وإن كانوا أغنياء في بلدهم ، وأمّا الغزاة الأغنياء في بلد الغزو فالجمهور أنّهم يعطون. وبه قال مالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : لا يعطون. والحق أنّ سبيل الله يشمل شراء العدّة للجهاد من سلاح ، وخيل ، ومراكب بحرية ، ونوتية ، ومجانيق ، وللحملان ، ولبناء الحصون ، وحفر الخنادق ، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدوّ ، قاله محمد بن عبد الحكم من المالكية ولم يذكر أنّ له مخالفا ، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أنّ قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور. وذهب بعض السلف أنّ الحجّ من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات ، وروي عن ابن عمر ، وأحمد ، وإسحاق. وهذا اجتهاد وتأويل ، قال ابن العربي : «وما جاء أثر قطّ بإعطاء الزكاة في الحجّ».

وأما ابن السبيل فلم يختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنّه مراد ولو وجد من يسلفه ، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحت منّة. واختلف في الغني : فالجمهور قالوا : لا يعطى ؛ وهو قول مالك ، وقال الشافعي وأصبغ : يعطى ولو كان غنيا في بلد غربته.

وقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) منصوب على أنّه مصدر مؤكّد لمصدر محذوف يدلّ عليه قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) لأنّه يفيد معنى فرض الله أو أوجب ، فأكّد بفريضة من لفظ المقدّر ومعناه.

والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده.

١٣٢

وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل إمّا أفاده الحصر ب (إِنَّمَا) في قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) إلخ ، أي : والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء ، أي أنّه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام ، والحكيم الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها. والواو اعتراضية لأنّ الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحقّقين.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١))

عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين : وهو تعلّلهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحذر ، وما يطّلعون عليه من فلتات نفاقهم ، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّه يصدّق القالة فيهم ، ويتّهمهم بما يبلغه عنهم ممّا هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين ، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلقاء الشكّ في نفوس المسلمين في كمالات نبيئهم عليه الصلاة والسلام.

والتعبير بالنبيء إظهار في مقام الإضمار لأنّ قبله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨] فكان مقتضى الظاهر أن يقال : «ومنهم الذين يؤذونك» فعدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوءة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلّا بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه.

وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يؤذيه إذا بلغه. وقد عدّ من هؤلاء المنافقين ، القائلين ذلك : الجلاس بن سويد ، قبل توبته ، ونبتل بن الحارث ، وعتاب بن قشير ، ووديعة بن ثابت. فمنهم من قال : إن كان ما يقول محمّد حقّا فنحن شرّ من الحمير ، وقال بعضهم : نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنّا ما قلنا فيقبل قولنا.

والأذى : الإضرار الخفيف ، وأكثر ما يطلق على الضرّ بالقول والدسائس ، ومنه قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) وقد تقدّم في سورة آل عمران [١١١] ، وعند قوله تعالى: (وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) في سورة الأنعام [٣٤].

ومضمون جملة : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) عطف خاصّ على عامّ ، لأنّ قولهم ذلك هو

١٣٣

من الأذى.

والأذن الجارحة التي بها حاسّة السمع. ومعنى (هُوَ أُذُنٌ) الإخبار عنه بأنّه آلة سمع.

والإخبار ب (هُوَ أُذُنٌ) من صيغ التشبيه البليغ ، أي كالأذن في تلقّي المسموعات لا يردّ منها شيئا ، وهو كناية عن تصديقه بكلّ ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود.

روي أنّ قائل هذا هو نبتل بن الحارث أحد المنافقين.

وجملة : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) جملة (قُلْ) مستأنفة استينافا ابتدائيا ، على طريقة المقاولة والمحاورة ، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظة لهم ، وكمدا لمقاصدهم ، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يحمل فيه المخاطب كلام المتكلّم على غير ما يريده ، تنبيها له على أنّه الأولى بأن يراد ، وقد مضى عند قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] ومنه ما جرى بين الحجّاج والقبعثرى إذ قال له الحجاج متوعّدا إيّاه «لأحملنّك على الأدهم (أراد لألزمنّك القيد لا تفارقه) فقال القبعثري : «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» فصرف مراده إلى أنّه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم. وهذا من غيرة الله على رسوله عليه الصلاة والسلام ، ولذلك لم يعقّبه بالردّ والزجر ، كما أعقب ما قبله من قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) [التوبة : ٤٩]. إلى هنا بل أعقبه ببيان بطلانه فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبلغهم ما هو إبطال لزعمهم من أصله بصرف مقالتهم إلى معنى لائق بالرسول ، حتّى لا يبقى للمحكي أثر ، وهذا من لطائف القرآن.

ومعنى (أُذُنُ خَيْرٍ) أنّه يسمع ما يبلغه عنكم ولا يؤاخذكم ؛ ويسمع معاذيركم ويقبلها منكم ، فقبوله ما يسمعه ينفعكم ولا يضرّكم فهذا أذن في الخبر ، أي في سماعه والمعاملة به وليس أذنا في الشر.

وهذا الكلام إبطال لأن يكون (أُذُنٌ) بالمعنى الذي أرادوه من الذم فإنّ الوصف بالأذن لا يختصّ بمن يقبل الكلام المفضي إلى شرّ بل هو أعمّ ، فلذلك صحّ تخصيصه هنا بما فيه خير. وهذا إعمال في غير المراد منه. وهو ضرب من المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد في أحد الجانبين ، فلا يشكل عليك بأنّ وصف (أُذُنٌ) إذا كان مقصودا به الذّم كيف يضاف إلى الخير ، لأنّ محلّ الذمّ في هذا الوصف هو قبول كلّ ما يسمع ممّا يترتّب عليه شرّ أو خير ، بدون تمييز ، لأنّ ذلك يوقع صاحبه في اضطراب أعماله

١٣٤

ومعاملاته ، فأمّا إذا كان صاحبه لا يقبل إلّا الخير ، ويرفض ما هو شرّ من القول ، فقد صار الوصف نافعا ، لأنّ صاحبه التزم أن لا يقبل إلّا الخير ، وأن يحمل الناس عليه. هذا تحقيق معنى المقابلة ، وتصحيح إضافة هذا الوصف إلى الخير ، فأمّا حمله على غير هذا المعنى فيصيّره إلى أنّه من طريقة القول بالموجب على وجه التنازل وإرخاء العنان ، أي هو أذن كما قلتم وقد انتفعتم بوصفه ذلك إذ قبل منكم معاذيركم وتبرّؤكم ممّا يبلغه عنكم ، وهذا ليس بالرشيق لأنّ ما كان خيرا لهم قد يكون شرّا لغيرهم.

وقرأ نافع وحده (أُذُنٌ) ـ بسكون الذال فيهما ـ وقرأ الباقون ـ بضمّ الذال فيهما ـ.

وجملة (يُؤْمِنُ بِاللهِ) تمهيد لقوله بعده (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) إذ هو المقصود من الجواب لتمحّضه للخير وبعده عن الشرّ بأنّه يؤمن بالله فهو يعامل الناس بما أمر الله به من المعاملة بالعفو ، والصفح ، والأمر بالمعروف ، والإعراض عن الجاهلين ، وبأن لا يؤاخذ أحد إلّا ببيّنة ، فالناس في أمن من جانبه فيما يبلغ إليه لأنّه لا يعامل إلّا بالوجه المعروف فكونه يؤمن بالله وازع له عن المؤاخذة بالظنّة والتهمة.

والإيمان للمؤمنين تصديقهم في ما يخبرونه ، يقال : آمن لفلان بمعنى صدّقه ، ولذلك عدّي باللام دون الباء كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف: ١٧] فتصديقه إيّاهم لأنّهم صادقون لا يكذبون ، لأنّ الإيمان وازع لهم عن أن يخبروه الكذب ، فكما أنّ الرسول لا يؤاخذ أحدا بخبر الكاذب فهو يعامل الناس بشهادة المؤمنين ، فقوله : (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ثناء عليه بذلك يتضمّن الأمر به ، فهو ضدّ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦].

وعطف جملة (وَرَحْمَةٌ) على جملتي (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) لأن كونه رحمة للذين يؤمنون بعد علمه بنفاقهم أثر لإغضائه عن إجرامهم ولإمهالهم حتّى يتمكن من الإيمان من وفّقه الله للإيمان منهم ، ولو آخذهم بحالهم دون مهل لكان من سبق السيف العذل ، فالمراد من الإيمان في قوله : (آمَنُوا) الإيمان بالفعل ، لا التظاهر بالإيمان ، كما فسّر به المفسّرون ، يعنون بالمؤمنين المتظاهرين بالإيمان المبطنين للكفر ، وهم المنافقون.

وقرأ حمزة ـ بجرّ ـ (وَرَحْمَةٌ) عطفا على خير ، أي أذن رحمة ، والمآل واحد.

وقد جاء ذكر هذه الخصلة مع الخصلتين الأخريين على عادة القرآن في انتهاز فرصة الإرشاد إلى الخير ، بالترغيب والترهيب ، فرغّبهم في الإيمان ليكفّروا عن سيّئاتهم الفارطة ،

١٣٥

ثم أعقب الترغيب بالترهيب من عواقب إيذاء الرسول بقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو إنذار بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا. وفي ذكر النبي بوصف (رَسُولَ اللهِ) إيماء إلى استحقاق مؤذيه العذاب الأليم ، فهو من تعليق الحكم بالمشتقّ المؤذن بالعلية.

وفي الموصول إيماء إلى أنّ علّة العذاب هي الإيذاء ، فالعلة مركبة.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢))

عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم ، لأنّ ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم.

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، لإعلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأنّ المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة ، فلا تغرّهم أيمانهم ، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي.

والمراد : الحلف الكاذب ، بقرينة قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها ، على أنّه قد علم أنّ أيمانهم كاذبة ممّا تقدّم في قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [التوبة : ٤٢].

فكاف الخطاب للمسلمين ، وذلك يدلّ على أنّ المنافقين يحلفون على التبرّي ، ممّا يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغضي عن ذلك ، فلذلك قال الله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي أحقّ منكم بأن يرضوهما ، وسيأتي تعليل أحقّية الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيم رسوله ، وإرضاء الرسول بتصديقه ومحبّته وإكرامه.

وإنّما أفرد الضمير في قوله : (أَنْ يُرْضُوهُ) مع أنّ المعاد اثنان لأنّه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين ، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير : والله أحقّ أن يرضوه ورسوله كذلك ، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذف الخبر إيجاز. ومن نكتة ذلك

١٣٦

الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين ، ومنه قول ضابئ بن الحارث :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

التقدير : فإنّي لغريب وقيار بها غريب أيضا. لأنّ إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما.

والضمير المنصوب في (يُرْضُوهُ) عائد إلى اسم الجلالة ، لأنّه الأهمّ في الخبر ، ولذلك ابتدئ به ، ألا ترى أنّ بيت ضابئ قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق (إنّ) الكائنة في الجملة الأولى ، دون الجملة الثانية ، وهذا الاستعمال هو الغالب.

وشرط (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) ، مستعمل للحثّ والتوقّع لإيمانهم ، لأنّ ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم ، فاستعمل الشرط للتّوقع وللحثّ على الإيمان. وفيه أيضا تسجيل عليهم ، إن أعادوا مثل صنيعهم ، بأنّهم كافرون بالله ورسوله ، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

هذه الجملة تتنزل من جملة (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] منزلة التعليل ، لأنّ العاقل لا يرضى لنفسه عملا يؤول به إلى مثل هذا العذاب ، فلا يقدم على ذلك إلّا من لا يعلم أنّ من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيّئ.

والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع ، لأنّ عدم علمهم بذلك محقّق بضرورة أنّهم كافرون بالرسول ، وبأنّ رضى الله عند رضاه ولكن لمّا كان عدم علمهم بذلك غريبا لوجود الدلائل المقتضية أنّه ممّا يحقّ أن يعلموه ، كان حال عدم العلم به حالا منكرا. وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهمّ ، كقوله في هذه السورة : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤] وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [التوبة : ٧٨] وقول مويال بن جهم المذحجي ، أو مبشر بن هذيل الفزاري :

ألم تعلمي يا عمرك الله أنّني

كريم على حين الكرام قليل

فكأنّه قيل : فليعلموا أنّه من يحادد الله إلخ.

والضمير المنصوب ب (أَنَّهُ) ضمير الشأن ، وفسّر الضمير بجملة (مَنْ يُحادِدِ اللهَ)

١٣٧

إلى آخرها.

والمعنى : ألم يعلموا شأنا عظيما هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم.

وفكّ الدّالان من (يُحادِدِ) ولم يدغما لأنّه وقع مجزوما فجاز فيه الفكّ والإدغام ، والفكّ أشهر وأكثر في القرآن ، وهو لغة أهل الحجاز ، وقد ورد فيه الإدغام نحو قوله : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) في سورة الحشر [٤] في قراءة جميع العشرة وهو لغة تميم.

والمحادّة : المعاداة والمخالفة.

والفاء في (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) لربط جواب شرط (مَنْ).

وأعيدت (فَأَنَ) في الجواب لتوكيد أن المذكورة قبل الشرط توكيدا لفظيا ، فإنّها لما دخلت على ضمير الشأن وكانت جملة الشرط وجوابه تفسيرا لضمير الشأن ، كان حكم (أَنْ) ساريا في الجملتين بحيث لو لم تذكر في الجواب لعلم أنّ فيه معناها ، فلمّا ذكرت كان ذكرها توكيدا لها ، ولا ضير في الفصل بين التأكيد والمؤكّد بجملة الشرط ، والفصل بين فاء الجواب ومدخولها بحرف ، إذ لا مانع من ذلك ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٩] وقول الحماسي ، وهو أحد الأعراب :

وإنّ امرأ دامت مواثيق عهده

على مثل هذا إنّه لكريم

و (جَهَنَّمَ) تقدّم ذكرها عند قوله تعالى : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) في سورة البقرة [٢٠٦].

والإشارة بذلك إلى المذكور من العذاب أو إلى ضمير الشأن باعتبار تفسيره. والمقصود من الإشارة : تمييزه ليتقرّر معناه في ذهن السامع.

و (الْخِزْيُ) الذلّ والهوان ، وتقدّم عند قوله تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في سورة البقرة [٨٥].

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤))

استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) [التوبة : ٦٢] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمغيبات.

١٣٨

وظاهر الكلام أنّ الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأنّ نزول القرآن من الله وأنّ خبره صدق فلذلك تردّد المفسّرون في تأويل هذه الآية. وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني «هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء. فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنّه يظهر سرّهم الذي حذروا ظهوره. وفي قوله : (اسْتَهْزِؤُا) دلالة على ما ذكرناه ، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلّا مستهزءون بالمسلمين فيما بينهم ، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر ؛ لأنّهم لا يظهرون أنّ ذلك مفروض ففعل (يَحْذَرُ) فأطلق على التظاهر بالحذر ، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة ، والقرينة قوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) إذ لا مناسبة بين الحذر الحقّ وبين الاستهزاء لو لا ذلك ، فإنّ المنافقين لمّا كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم ، لأنّهم لا يصدقون بذلك فتعيّن صرف فعل (يَحْذَرُ) إلى معنى : يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائب المجاز. وتأوّل الزجاج الآية بأنّ (يَحْذَرُ) خبر مستعمل في الأمر ، أي ليحذر. وعلى تأويله تكون جملة (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) استئنافا ابتدائيا لا علاقة لها بجملة (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ). ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها ، ذكرها الفخر.

وضميرا (عَلَيْهِمْ) و (تُنَبِّئُهُمْ) يجوز أن يعودا إلى المنافقين ، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها. وتكون (على) بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥].

وهو كثير في الكلام ، وتكون تعدية (تُنَبِّئُهُمْ) إلى ضمير المنافقين : على نزع الخافض ، أي تنبئ عنهم ، أي تنبئ الرسول بما في قلوبهم.

ويجوز أن يكون تاء (تُنَبِّئُهُمْ) تاء الخطاب ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : تنبئهم أنت بما في قلوبهم ، فيكون جملة (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) في محلّ الصفة ل (سُورَةٌ) والرابط محذوف تقديره : تنبّئهم بها ، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر ، لا في اعتقاد المنافقين ، فموقع جملة (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) استطراد.

ويجوز أن يعود الضميران للمسلمين ، ولا يضرّ تخالف الضميرين مع ضمير (قُلُوبِهِمْ) الذي هو للمنافقين لا محالة ، لأنّ المعنى يردّ كلّ ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه.

واختيرت صيغة المضارع في (يَحْذَرُ) لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله

١٣٩

تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] وقوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤].

والسورة : طائفة معيّنة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدّم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب.

والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نبّأ الخبر ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤].

والاستهزاء : تقدّم في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) في أول البقرة [١٤].

والإخراج : مستعمل في الإظهار مجازا ، والمعنى : أنّ الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور : مثل سورة المنافقين ، وهذه السورة سورة براءة ، حتّى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) ، (وَمِنْهُمْ) ، (وَمِنْهُمُ).

والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله : (ما تَحْذَرُونَ) دون أن يقال : إنّ الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم : لأنّ الأهمّ من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة ، فذكر الصلة واف بالأمرين : إظهار سرائرهم ، وكونه في سورة تنزل ، وهو أنكى لهم ، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص [٨٠] (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) بعد قوله : (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] أي نرثه ماله وولده.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥))

الظاهر أنّها معطوفة على جملة : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة : ٦٢] أو على جملة (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ) النبي [التوبة : ٦١] ، فيكون المراد بجملة : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) [التوبة : ٦٢] أنّهم يحلفون إن لم تسألهم. فالحلف الصادر منهم حلف على الأعمّ من براءتهم من النفاق والطعن ، وجواب السؤال عن أمور خاصّة يتهمون بها جواب يراد منه أنّ ما صدر منهم ليس من جنس ما يتّهمون به ، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنّه خوض ولعب ، يريدون أنّه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكادّ عملا شاقّا من الراحة بالمزح واللعب. وروي أنّ المقصود من هذه الآية : أنّ ركبا من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقا ، منهم : وديعة بن ثابت العوفي ، ومخشي بن حميّر الأشجعي ، حليف بني سلمة ، وقفوا على عقبة في الطريق ينظرون جيش المسلمين

١٤٠