تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء.

وجملة : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) بيان لجملة : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) باعتبار متعلق خبرها وهو (لِأَمْرِ اللهِ) ، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم ، وإما توبته عليهم. ويفهم من قوله (يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أنهم تابوا.

والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير. وذنبهم هو التخلف عن النفير العام ، كما تقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] الآية. وقبول التوبة عما مضى فضل من الله.

و (إِمَّا) حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء. ومعناها قريب من معنى (أو) التي للتخيير ، إلا أن (إما) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو ، و (أو) لا تدخل إلا على ثاني الاسمين. وكان التساوي بين الأمرين مع (إما) أظهر منه مع (أو) لأن (أو) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) في سورة الأعراف [١١٥].

و (يُعَذِّبُهُمْ) ـ و (يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فعلان في معنى المصدر حذفت (أن) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم : «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» لأن موقع ما بعد (إما) للاسم نحو (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) [مريم : ٧٥] و (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦].

وجملة : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس ، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين ، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته.

[١٠٧ ، ١٠٨] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))

هذا كلام على فريق آخر من المؤاخذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من

٢٠١

أجلها ، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجدا حول قباء لغرض سيئ لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم.

فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غير مفتتحة بواو العطف ، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر. ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله. وقرأها البقية بواو العطف في أولها ، فتكون معطوفة على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل من ذكر فيما قبلها. وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد.

وقوله (الَّذِينَ) مبتدأ وخبره جملة : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) كما قاله الكسائي. والرابط هو الضمير المجرور من قوله : (لا تَقُمْ فِيهِ) لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعول صلة الموصول فهو سببي للمبتدإ ، إذ التقدير : لا تقم في مسجد اتخذوه ضرارا ، أو في مسجدهم ، كما قدره الكسائي. ومن أعربوا (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) [التوبة : ١٠٩] خبرا فقد بعدوا عن المعنى.

والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجدا قرب مسجد قباء لقصد الضرار ، وهم طائفة من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف من أهل العوالي. كانوا اثني عشر رجلا سماهم ابن عطية. وكان سبب بنائهم إيّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين. ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة. ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف ، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر ، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجدا ليخلصوا فيه بأنفسهم ، ويعدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة. فانتدب لذلك اثنا عشر رجلا من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعة بن زيد وغيرهم ، فبنوه بجانب مسجد قباء ، وذلك قبيل مخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك. وأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية ، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيرا.

٢٠٢

والضرار : مصدر ضار مبالغة في ضر ، أي ضرارا لأهل الإسلام. والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غنم وبني سالم عن قباء.

والإرصاد : التهيئة. والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب ، لأنه حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازن ، فقوله : (مِنْ قَبْلُ) إشارة إلى ذلك ، أي من قبل بناء المسجد.

وجملة : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) معترضة ، أو في موضع الحال. والحسنى : الخير.

وجملة : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) معترضة.

وجملة : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمنا. والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام.

ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه تكسبه يمنا وبركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم ، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين. فلما كانت صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه. وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى. وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، ولذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي ومالك بن الدخشم ومعن بن عدي فقال : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه» ، ففعلوا. وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السّقف ، والجذوع التي تجعل له أعمدة.

وقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادة في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قباء ، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه ، وهذا أدب نفساني عظيم.

وفيه أيضا دفع مكيدة المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في

٢٠٣

مسجدهم فامتنع ، فقوله : (أَحَقُ) وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقا بصلاته فيه أصلا.

ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمجازاتهم ظاهرا في دعوتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه ، فيعرف من وصفه بأنه (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أن هذا أسس على ضدها.

وثبت في «صحيح مسلم» وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال : «هو مسجدكم هذا». يعني المسجد النبوي بالمدينة. وثبت في الصحيح أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّن الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء. وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدهم ، لقوله : (فِيهِ رِجالٌ).

ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) المسجد الذي هذه صفته لا مسجدا واحدا معينا ، فيكون هذا الوصف كليا انحصر في فردين المسجد النبوي ومسجد قباء ، فأيهما صلى فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار كان ذلك أحق وأجدر ، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مسجدهم ، ومن مطاعنهم أيضا ، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين. وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبه.

ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام. وذلك ما انتزعه السهيلي في «الروض الأنف» في فصل تأسيس مسجد قباء إذ قال : «وفي قوله سبحانه: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) (وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل».

وجملة : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبمسجد قباء. وجاء الضمير مفردا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس ، كالإفراد في قوله تعالى : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) [آل عمران : ١١٩]. وفيه تعريض بأن

٢٠٤

أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك.

وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) فقال : «يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم؟ قالوا : إنّ أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال : هو ذلك فعليكموه» ، فهذا يعم الأنصار كلهم. ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضا من الأنصار ، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار.

وأطلقت المحبة في قوله : (يُحِبُّونَ) كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئا ممكنا يعمله لا محالة. فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقربا إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها ، بحيث صارت الطهارة خلقا لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم.

وجملة : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) تذييل. وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقا يحبه الله تعالى. وكفى بذلك تنويها بزكاء أنفسهم.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩))

تفريع على قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسّس على التقوى بالصلاة فيه.

وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقا بالصلاة فيه بعد النهي ، لأن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو وقعت لأكسبت مقصد واضعيه رواجا بين الأمة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم.

والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير. والاستفهام تقريري.

والتأسيس : بناء الأساس ، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص.

٢٠٥

والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغفران والكفران ، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء. ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة. وهو هنا مطلق على المفعول ، أي المبني. وما صدق (من) صاحب البناء ومستحقه ، فإضافة البنيان إلى ضمير (من) إضافة على معنى اللام. وشبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء ، فاستعير له فعل (أُسِّسَ) في الموضعين.

ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين ، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية ، ورمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء. وفهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفا جرف هار ، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرف جرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية. وحرف الاستعلاء ترشيح.

وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المؤسس على شفا جرف هار بساكنه في هوّة. وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه. فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها. ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه. فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذكر في مقابله علم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة ، كما دلت عليه المقابلة ، وأن البنيان الثاني لم يحصل غرض بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد ، وكان عدم ثباته مفضيا بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك.

والشّفا ـ بفتح الشين وبالقصر ـ : حرف البئر وحرف الحفرة.

والجرف ـ بضمتين ـ : جانب الوادي وجانب الهوة.

وهار : اسم مشتق من هار البناء إذا تصدع ، فقيل : أصله هور بفتحتين كما قالوا خلف في خالف. وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور ، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفا. وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة

٢٠٦

من اللغة مثل قولهم : شاكي السلاح ، أصله شائك. ورجل صات عالي الصوت أصله صائت. ويدل لذلك قولهم : انهار ولم يقولوا انهرى. وهر مبالغة في هار.

وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل (أُسِّسَ) في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع (بُنْيانَهُ) في الموضعين. وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب (بُنْيانَهُ) في الموضعين.

وقرأ الجمهور (جُرُفٍ) ـ بضم الراء ـ وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف ـ بسكون الراء ـ.

وجملة : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل ، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

جملة : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) يجوز أن تكون مستأنفة لتعداد مساوي مسجد الضرار بذكر سوء عواقبه بعد أن ذكر سوء الباعث عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمره بهدمه ، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه ، فسلب عنه حكم المساجد ، ولذلك أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهدمه. ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.

ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) [التوبة : ١٠٧] كأنه قيل : لا تقم فيه ولا يزال ريبة في قلوبهم ، ويكون إظهار لفظ (بُنْيانُهُمُ) لزيادة إيضاحه. والرابط هو ضمير (قُلُوبِهِمْ).

والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعله الله سببا لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم.

وجعل البنيان ريبة مبالغة كالوصف بالمصدر. والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم. والريبة : الشك ، فإن النفاق شك في الدين ، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين.

٢٠٧

وقوله : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) استثناء تهكمي. وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] ، أي يبقى ريبة أبدا إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمقطعة.

وجملة : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق.

وهو أن يكون ذلك البناء سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.

وقرأ الجمهور (تَقَطَّعَ) بضم التاء. وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب (تَقَطَّعَ) بفتح التاء على أن أصله تتقطع. وقرأ يعقوب إلى أن تقطع بحرف (إلى) التي للانتهاء.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١))

استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العسرة ، ليكون توطئة وتمهيدا لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم ، وإنباء الذين أضمروا الكفر نفاقا بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداء من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] الآيات ، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار.

وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر ، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة.

وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل ، كما سيأتي في قوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) ، وأنهم

٢٠٨

كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية.

والاشتراء : مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد ، كما دل عليه قوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) بمشابهة الوعد الاشتراء في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر.

ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صيغ الاشتراء أدخلت هنا في (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) لمشابهة هذا الوعد الثمن. وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها.

والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة. وهو المناسب لقوله بعد : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ).

ويكون معنى قوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختم الرسالة. وهو ما أشار إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ـ إلى قوله ـ (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) ـ إلى قوله ـ (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح : ٢٩].

ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهو أنسب لقوله : (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ، وحينئذ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب. فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز ، وبذلك يكون فعل (يُقاتِلُونَ) مستعملا في حقيقته ومجازه.

واللام في (لَهُمُ الْجَنَّةَ) للملك والاستحقاق. والمجرور مصدر ، والتقدير : بتحقيق تملكهم الجنة ، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلا كان هذا البيع من جنس السلم.

وجملة : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول : كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم؟ فكان جوابه (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) إلخ.

قال الطيبي : «فقوله (يُقاتِلُونَ) بيان ، لأن مكان التسليم هو المعركة ، لأن هذا البيع سلم ، ومن ثم قيل (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ولم يقل بالجنة. وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم

٢٠٩

ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) ، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة. ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن» اه. وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلا عكس ما فسرنا به آنفا.

وقوله : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) تفريع على (يُقاتِلُونَ) ، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين. وقرأ الجمهور (فَيَقْتُلُونَ) بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس. وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو ، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة.

و (وَعْداً) منصوب على المفعولية المطلقة من (اشْتَرى) ، لأنه بمعنى وعد إذ العوض مؤجل. و (حَقًّا) صفة (وَعْداً). و (عَلَيْهِ) ظرف لغو متعلق ب (حَقًّا) ، قدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف (على) من معنى الوجوب.

وقوله : (فِي التَّوْراةِ) حال من (وَعْداً). والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب ، أي مكتوبا في التوراة والإنجيل والقرآن (١).

وجملة : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) ، أي وعدا حقا عليه ولا أحد أوفى بعهده منه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملا للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال : ومن أوفى بعهده من الله إنكارا عليه.

و (أَوْفى) اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله.

و (مِنَ) تفضيلية ، وهي للابتداء عند سيبويه ، أي للابتداء المجازي. وذكر اسم الجلالة عوضا عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال. والعهد : الوعد بحلف والوعد المؤكد ، والبيعة عهد ، والوصية عهد.

وتفرع على كون الوعد حقا على الله ، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد ، أن يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا ، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة. وأضيف البيع إلى

__________________

(١) من ذلك ما في الاصحاح العشرين من سفر التثنية فهو في أحكام الحرب وما في الاصحاح من سفر يوشع. وفي الفقرة (٢٤) من الاصحاح الثامن عشر من إنجيل لوقا.

٢١٠

ضميرهم إظهارا لاغتباطهم به.

ووصفه بالموصول وصلته (الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) تأكيدا لمعنى (بِبَيْعِكُمُ) ، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف.

وجملة : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تذييل جامع ، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيه. وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف ب (الْعَظِيمُ) المفيد للأهمية.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١١١] فكان أصلها الجر ، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخبارا لمبتدإ محذوف هو ضمير الجمع اهتماما بهذه النعوت اهتماما أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية ، ويسمى هذا الاستعمال نعتا مقطوعا ، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى.

ف (التَّائِبُونَ) مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقتراف ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى) النبي (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [التوبة : ١١٧] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) [التوبة : ٧٤] بعد قوله : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة : ٧٤] الآية المتقدمة آنفا. وأول التوبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك ، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه. وبذلك فارق النعت المنعوت وهو (الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١١١].

و (الْعابِدُونَ) : المؤدّون لما أوجب الله عليهم.

و (الْحامِدُونَ) : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له.

و (السَّائِحُونَ) : مشتق من السياحة. وهي السير في الأرض. والمراد به سير خاص محمود شرعا. وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره ، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد. وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج.

و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) : هم الجامعون بينهما ، أي المصلون ، إذ الصلاة المفروضة

٢١١

لا تخلو من الركوع والسجود.

و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : الذين يدعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه. وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات ، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين ، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض. ثم لما ذكر (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) علم أن المراد الجامعون بينهما ، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين. ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوراة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعا فقط ، قال تعالى في شأن داود عليه‌السلام : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [ص : ٢٤] ، وبعض الصلوات سجودا فقط كبعض صلاة النصارى ، قال تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣]. ولما جاء بعده (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) فالواو هنا كالتي في قوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التوبة : ١١٢].

و (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها. وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع. ويطلق مجازا شائعا على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا ، أي والحافظون لما عين الله لهم ، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله.

وأطلقت الحدود مجازا على الوصايا والأوامر. فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) في سورة البقرة [٢٢٩]. ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف. وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف.

وقال جمع من العلماء : إن الواو في قوله : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن ، وسمّوها واو الثّمانية. قال ابن عطية : ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣]. وأنكرها أبو علي الفارسي. وقال ابن هشام في «مغني

٢١٢

اللبيب» «وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ، ومن المفسرين كالثعلبي ، وزعموا أن العرب إذا عدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية ، إيذانا بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف ، واستدلّوا بآيات إحداها : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ـ إلى قوله سبحانه ـ (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢]. ثم قال : الثانية آية الزمر [٧١] إذ قيل : (فُتِحَتْ) في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة ، (وَفُتِحَتْ) [الزمر : ٧٣] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية. ثم قال : الثالثة : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإنه الوصف الثامن. ثم قال : والرابعة : (وَأَبْكاراً) في آية التحريم [٥] ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي ... وأما قول الثعلبي : أن منها الواو في قوله تعالى: (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه. وأطال في خلال كلامه بردود ونقوض.

وقال ابن عطية «وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي (١) وأنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة ، فهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو» اه.

وقال القرطبي : هي لغة قريش.

وأقول : كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتا ونفيا ، وتوجيها ونقضا. والوجه عندي أنه استعمال ثابت ، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدل بها. ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامنا في الذكر لا في الرتبة.

وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣]. فإن مجيء الواو لكون أبواب الجنة ثمانية ، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية. وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣].

وجملة : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على جملة (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة :

__________________

(١) قال ابن عطية وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس (أي ديس بن حبوس الذي تملك غرناطة من سنة ٤٢٠ إلى أن توفي سنة ٤٦٥).

٢١٣

١١١] عطف إنشاء على خبر. ومما حسّنه أن المقصود من الخبر المعطوف عليه العمل به فأشبه الأمر. والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغهم فكان كلتا الجملتين مرادا منها معنيان خبريّ وإنشائي. فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١].

والبشارة تقدمت مرارا.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣))

استئناف نسخ به التخيير الواقع في قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وبين أن لا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار ، وهو حصول الغفران ، فبقي للتخيير غرض آخر وهو حسن القول لمن يرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أهل للملاطفة لذاته أو لبعض أهله ، مثل قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي ، فأراد الله نسخ ذلك بعد أن درّج في تلقية على عادة التشريع في غالب الأحوال. ولعل الغرض الذي لأجله أبقي التخيير في الاستغفار لهم قد ضعف ما فيه من المصلحة ورجح ما فيه من المفسدة بانقراض من هم أهل لحسن القول وغلبة الدهماء من المنافقين الذين يحسبون أن استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم يغفر لهم ذنوبهم فيصبحوا فرحين بأنهم ربحوا الصفقتين وأرضوا الفريقين ، فنهى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعا في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان ، فنهى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معا عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة في قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠].

وروى الترمذي والنسائي عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه المشركين قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، إلى قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤]. قال الترمذي : حديث حسن.

وقال ابن العربي في «العارضة» : هو أضعف ما روي في هذا الباب. وأما ما روي

٢١٤

في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي طالب ، أو أنها نزلت في سؤاله ربه أن يستغفر لأمه آمنة حين زار قبرها بالأبواء. فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل.

وجاءت صيغة النهي بطريق نفي الكون مع لام الجحود مبالغة في التنزه عن هذا الاستغفار ، كما تقدم عند قوله تعالى : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) في آخر سورة العقود [١١٦].

ويدخل في المشركين المنافقون الذين علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفاقهم والذين علم المسلمون نفاقهم بتحقق الصفات التي أعلنت عليهم في هذه السورة وغيرها.

وزيادة (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) للمبالغة في استقصاء أقرب الأحوال إلى المعذرة ، كما هو مفاد (لو) الوصلية ، أي فأولى إن لم يكونوا أولي قربى. وهذه المبالغة لقطع المعذرة عن المخالف ، وتمهيد لتعليم من اغتر بما حكاه القرآن من استغفار إبراهيم لأبيه في نحو قوله تعالى : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦]. ولذلك عقّبه بقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] إلخ.

وقد تقدم الكلام على (لو) الاتصالية عند قوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

معطوفة على جملة (ما كانَ) للنبي [التوبة : ١١٣] إلخ. وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله : (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) [التوبة : ١١٣] إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل. وهذه من مسألة (أن شرع من قبلنا شرع لنا) فلا جرم ما كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضا بين الآيتين ، فلذلك تصدّى القرآن للجواب عنه. وقد تقدم آنفا ما روي أن هذه سبب نزول الآية.

والموعدة : اسم للوعد. والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة ، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له

٢١٥

للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له. فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان ، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه مترددا في عبادة الأصنام لما قال له : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٤٦] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له ، وإما بعد أن مات على الشرك.

والتبرؤ : تفعل من برىء من كذا إذا تنزه عنه ، فالتبرؤ مبالغة في البراءة.

وجملة : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) استئناف ثناء على إبراهيم. و (لَأَوَّاهٌ) فسّر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار ، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم.

ولفظ (لَأَوَّاهٌ) مثال مبالغة : الذي يكثر قول أوّه بلغاته الثلاث عشرة التي عدها في «القاموس» ، وأشهرها أوّه بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة. قال المرادي في «شرح التسهيل» : وهذه أشهر لغاتها. وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع ، لكن الوصف ب (لَأَوَّاهٌ) كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يوصف به من ليس به وجع. والفعل المشتق منه (أواه) حقه أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي. وقد اختلف في استعمال فعل ثلاثي له ، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة.

واتباع (لأواه) بوصف (حليم) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده.

والحليم : صاحب الحلم. والحلم ـ بكسر الحاء ـ : صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان. فهو صفة تقتضي هذه الأمور ، ويجمعها عدم القسوة. ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.

قال :

حليم إذا ما الحلم زين أهله

مع الحلم في عين العدو مهيب

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ

٢١٦

إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥))

عطف على جملة : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ) [التوبة : ١١٤] لاعتذار عن النبي وإبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رجاء منهما هدى من استغفرا له ، وإعانة له إن كان الله يريده ، فلما تبين لهما الثابت على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له ، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له. ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة : ١١٣] وقوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤]. وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي. فهذا من باب (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣].

وفيه تسجيل أيضا لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغيانا.

ومعنى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها ، أي يتجنبوها. فهنالك يبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح ـ عليه‌السلام ـ : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل.

ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إبراهيم عليه‌السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة ، لأن الله لا يؤاخذ قوما هداهم إلى الحق فيكتبهم ضلالا بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية ، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاما جامعا تذييلا.

وجملة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل مناسب للجملة السابقة ، ووقوع (إِنَ) في أولها يفيد معنى التفريع. والتعليل مضمون للجملة السابقة ، وهو أن الله لا يضل قوما بعد

٢١٧

أن هداهم حتى يبين لهم الحق.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

تذييل ثان في قوة التأكيد لقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة : ١١٥] ، ولذلك فصل بدون عطف لأن ثبوت ملك السماوات والأرض لله تعالى يقتضي أن يكون عليما بكل شيء لأن تخلف العلم عن التعلق ببعض المتملكات يفضى إلى إضاعة شئونها.

فافتتاح الجملة ب (إن) مع عدم الشك في مضمون الخبر يعين أن (إن) لمجرد الاهتمام فتكون مفيدة معنى التفريع بالفاء والتعليل.

ومعنى الملك : التصرف والتدبير. وقد تقدم عند قوله تعالى : ملك يوم الدين [الفاتحة : ٤].

وزيادة جملتي : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) لتصوير معنى الملك في أتم مظاهره المحسوسة للناس المسلم بينهم أن ذلك من تصرف الله تعالى لا يستطيع أحد دفع ذلك ولا تأخيره.

وعطف جملة : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لتأييد المسلمين بأنهم منصورون في سائر الأحوال لأن الله وليهم فهو نصير لهم ، ولإعلامهم بأنهم لا يخشون الكفار لأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله غاضب عليهم فهو لا ينصرهم. وذلك مناسب لغرض الكلام المتعلق باستغفارهم للمشركين بأنه لا يفيدهم.

وتقدم الكلام على الولي عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في أول سورة الأنعام [١٤].

والنصير : الناصر. وتقدم معنى النصر عند قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) في سورة البقرة [٤٨].

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))

انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف ، وما

٢١٨

طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده ، فالجملة استئناف ابتدائي.

وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك.

وتقديم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

ومعنى (تابَ) عليه : غفر له ، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنبا أم لم يكنه ، كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل : ٢٠] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وأما توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.

والمهاجرون والأنصار : هم مجموع أهل المدينة ، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة ، ولكنهم خصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم ، فكانوا إسوة لمن اتّسى بهم من غيرهم من القبائل.

ووصف المهاجرون والأنصار ب (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسببا في هذه المغفرة.

ومعنى (اتَّبَعُوهُ) أطاعوه ولم يخالفوا عليه ، فالاتباع مجازي.

والساعة : الحصة من الزمن.

والعسرة : اسم العسر ، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله : (يا أَيُّهَا

٢١٩

الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه ، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ) تزيغ (قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي من المهاجرين والأنصار ، فإنه متعلق ب (اتَّبَعُوهُ) أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقا منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين ، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج ، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.

و (كادَ) من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عمل كان ، واسمها هنا ضمير شأن مقدر ، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن ، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

وقرأ الجمهور تزيغ بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، وخلف بالمثناة التحتية. وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر. والزيغ : الميل عن الطريق المقصود. وتقدم عند قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) في سورة آل عمران [٨].

وجملة ؛ (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) عطف على جملة (لَقَدْ تابَ اللهُ) أي تاب على غير هذا الفريق مطلقا ، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ ، فتكون (ثُمَ) على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة : ١١٨]. والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر ، فالضمير في قوله (عَلَيْهِمْ) لل (فَرِيقٍ). وجوز كثير من المفسرين أن تكون (ثُمَ) للترتيب في الذكر ، والجملة بعدها توكيدا لجملة (تابَ اللهُ) ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم.

وجملة : (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تعليل لما قبلها على التفسيرين.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ) معطوف على النبي [التوبة : ١١٧] بإعادة حرف الجر لبعد المعطوف عليه ، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ) [التوبة: ٨١] الآية ، والذين ذكروا في قوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) [التوبة : ٩٠] الآية.

٢٢٠