تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مناجاتهم فأجابوا «إنّما كنّا نخوض ونلعب».

وعندي أنّ هذا لا يتّجه لأنّ صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعمّ ، ممّا يسألون عنه في المستقبل ، إخبارا بما سيجيبون ، فهم يسألون عمّا يتحدّثون في مجالسهم ونواديهم ، التي ذكرها الله تعالى في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] لأنّهم كانوا كثيري الانفراد عن مجالس المسلمين. وحذف متعلّق السؤال لظهوره من قرينة قوله : (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). والتقدير : ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم ، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة. ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول ، وأنّه لمّا سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية.

والقصر للتعيين : أي ما تحدثنا إلّا في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى.

والخوض : تقدّم في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) في سورة الأنعام [٦٨].

واللعب تقدّم في قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) في الأنعام [٣٢] ، ولمّا كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله : (كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) فلمّا كان اعتذارهم مبهما ردّ عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ، على نحو قوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٥١].

والاستفهام إنكاري توبيخي. وتقديم المعمول وهو (أَبِاللهِ) على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنّهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الردّ عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب ، فاعلمهم بأنّ لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلّا استهزاء بالله وآياته ورسوله لا بغير أولئك ، فقصر الاستهزاء على تعلّقه بمن ذكر اقتضى أنّ الاستهزاء واقع لا محالة لأنّ القصر قيد في الخبر الفعلي ، فيقتضي وقوع الفعل ، على ما قرّره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل : أنا سعيت في حاجتك وأنّه يؤكّد بنحو : وحدي ، أو لا غيري ، وأنّه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال : ما أنا قلت هذا ولا غيري ، أي ولا يقال : أنا سعيت في حاجتك وغيري ، وكذلك هنا لا يصحّ

١٤١

أن يفهم أبالله كنتم تستهزئون أم لم تكونوا مستهزءين.

والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم : لأنّهم استهزءوا برسوله وبدينه ، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ).

لمّا كان قولهم : (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة : ٦٥] اعتذارا عن مناجاتهم ، أي إظهارا للعذر الذي تناجوا من أجله ، وأنّه ما يحتاجه المتعب : من الارتياح إلى المزح والحديث في غير الجدّ ، فلمّا كشف الله أمر استهزائهم ، أردفه بإظهار قلّة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبّسوا بما هو أشنع وأكبر ممّا اعتذروا عنه ، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان. فإن الله لمّا أظهر نفاقهم. كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة (لا تَعْتَذِرُوا) من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله ، وهي ارتقاء في توبيخهم ، فهي متضمّنة توكيدا لمضمون جملة (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) [التوبة : ٦٥] ، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنّهم تلبّسوا بما هو أشدّ وهو الكفر ، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها ، على أنّ شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأنّ التوبيخ يقتضي التعداد ، فتقع الجمل الموبّخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد ، اثنان ، فالمعنى لا حاجة بكم للاعتذار عن التناجي فإنّكم قد عرفتم بما هو أعظم وأشنع.

والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى.

وجملة : (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) في موضع العلّة من جملة : (لا تَعْتَذِرُوا) تعليلا للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى.

وقوله : (قَدْ كَفَرْتُمْ) يدلّ على وقوع الكفر في الماضي ، أي قبل الاستهزاء ، وذلك أنّه قد عرف كفرهم من قبل. والمراد بإسناد الإيمان إليهم : إظهار الإيمان ، وإلّا فهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا. والمراد بإيمانهم : إظهارهم الإيمان ، لا وقوع حقيقته. وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة ، أي بعد إيمان هو من شأنكم ، وهذا تعريض بأنّه الإيمان الصوري غير الحقّ ونظيره قوله تعالى

١٤٢

الآتي (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة : ٧٤] وهذا من لطائف القرآن.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).

جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيرا له بإمكان تدارك حاله.

ولمّا كان حال المنافقين عجيبا كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة ، فأنبأهم أنّ طائفة منهم قد يعفى عنها إذا طلبت سبب العفو : بإخلاص الإيمان ، وأنّ طائفة تبقى في حالة العذاب ، والمقام دالّ على أنّ ذلك لا يكون عبثا ولا ترجيحا بدون مرجّح ، فما هو إلّا أنّ طائفة مرجوّة الإيمان ، فيغفر عمّا قدّمته من النفاق ، وأخرى تصرّ على النفاق حتّى الموت ، فتصير إلى العذاب. والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دلّ عليه المقام وضوحا من قوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ـ إلى قوله ـ (عَذابٌ مُقِيمٌ) [التوبة : ٦٧ ، ٦٨]. وقوله بعد ذلك : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [التوبة : ٧٤].

وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية ، وذكر المفسّرون من هذه الطائفة مخشيّا (١) بن حميّر الأشجعي لمّا سمع هذه الآية تاب من النفاق ، وحسن إسلامه ، فعدّ من الصحابة ، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه ، وقد قيل : إنّه المقصود «بالطائفة» دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله». وقد توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسّمهم.

والباء في (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) للسببية ، والمجرم الكافر.

وقرأ الجمهور يعف وتعذب ببناء الفعلين إلى النائب ، وقرأه عاصم ـ بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب (طائِفَةٍ) الثاني.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

__________________

(١) بميم مفتوحة وخاء معجمة ساكنة وياء مشددة ، وحمير بحاء مهملة مضمومة وميم مفتوحة وتحتية مشددة. وفي «سيرة ابن إسحاق» ومخشن بنون من آخره وبفتح الشين وقد ذكر اسمه آنفا عند تفسير قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة : ٦٥].

١٤٣

الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧))

يظهر أن تكون هذه الآية احتراسا عن أن يظنّ المنافقون أنّ العفو المفروض لطائفة منهم هو عفو ينال فريقا منهم باقين على نفاقهم ، فعقب ذلك ببيان أنّ النفاق حالة واحدة وأنّ أصحابه سواء ، ليعلم بذلك أن افتراق أحوالهم بين عفو وعذاب لا يكون إلّا إذا اختلفت أحوالهم بالإيمان والبقاء على النفاق ، إلى ما أفادته الآية أيضا من إيضاح بعض أحوال النفاق وآثاره الدالّة على استحقاق العذاب ، ففصل هاته الجملة عن التي قبلها : إمّا لأنّها كالبيان للطائفة المستحقّة العذاب ، وإمّا أن تكون استئنافا ابتدائيا في حكم الاعتراض كما سيأتي عند قوله تعالى : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [التوبة : ٦٩] وإمّا أن تكون اعتراضا هي والتي بعدها بين الجملة المتقدمة وبين جملة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) [التوبة : ٦٩] كما سيأتي هنالك.

وزيد في هذه الآية ذكر (الْمُنافِقاتُ) تنصيصا على تسوية الأحكام لجميع المتّصفين بالنفاق : ذكورهم وإناثهم ، كيلا يخطر بالبال أن العفو يصادف نساءهم ، والمؤاخذة خاصّة بذكرانهم ، ليعلم الناس أنّ لنساء المنافقين حظّا من مشاركة رجالهنّ في النفاق فيحذروهنّ.

و (مِنْ) في قوله : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) اتّصالية دالّة على معنى اتّصال شيء بشيء وهو تبعيض مجازي معناه الوصلة والولاية ، ولم يطلق على ذلك اسم الولاية كما أطلق على اتّصال المؤمنين بعضهم ببعض في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] لما سيأتي هنالك.

وقد شمل قوله : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) جميع المنافقين والمنافقات ، لأنّ كلّ فرد هو بعض من الجميع ، فإذا كان كلّ بعض متّصلا ببعض آخر ، علم أنّهم سواء في الأحوال.

وجملة (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) مبيّنة لمعنى الاتّصال والاستواء في الأحوال.

والمنكر : المعاصي لأنّها ينكرها الإسلام.

والمعروف : ضدّها ، لأنّ الدين يعرفه ، أي يرضاه ، وقد تقدّما في قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في سورة آل عمران [١٠٤].

وقبض الأيدي : كناية عن الشحّ ، وهو وصف ذمّ لدلالته على القسوة ، لأنّ المراد الشحّ على الفقراء.

١٤٤

والنسيان منهم مستعار للإشراك بالله ، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثال ما أمر به ، لأنّ الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرض عنه.

ونسيان الله إيّاهم مشاكلة أي حرمانه إياهم ممّا أعدّ للمؤمنين ، لأنّ ذلك يشبه النسيان عند قسمة الحظوظ.

وجملة : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فذلكة للتي قبلها فلذلك فصلت لأنّها كالبيان الجامع.

وصيغة القصر في (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قصر ادّعائي للمبالغة لأنّهم لمّا بلغوا النهاية في الفسوق جعل غيرهم كمن ليس بفاسق.

والإظهار في مقام الإضمار في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ) لزيادة تقريرهم في الذهن لهذا الحكم. ولتكون الجملة مستقلّة حتّى تكون كالمثل.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨))

هذه الجملة إمّا استئناف بياني ناشئ عن قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧] ، وإمّا مبيّنة لجملة (فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] لأنّ الخلود في جهنم واللعن بيان للمراد من نسيان الله إيّاهم.

والوعد أعمّ من الوعيد ، فهو يطلق على الإخبار بالتزام المخبر للمخبر بشيء في المستقبل نافع أو ضار أو لا نفع فيه ولا ضرّ (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢]. والوعيد خاصّ بالضارّ.

وفعل المضي هنا : إمّا للإخبار عن وعيد تقدّم وعده الله المنافقين والمنافقات تذكيرا به لزيادة تحقيقه وإمّا لصوغ الوعيد في الصيغة التي تنشأ بها العقود مثل (بعت ووهبت) إشعارا بأنّه وعيد لا يتخلّف مثل العقد والالتزام.

والإظهار في مقام الإضمار لتقرير المحكوم عليه في ذهن السامع حتى يتمكّن اتّصافهم بالحكم.

وزيادة ذكر (الْكُفَّارَ) هنا للدلالة على أنّ المنافقين ليسوا بأهون حالا من المشركين إذ قد جمع الكفر الفريقين.

١٤٥

ومعنى (هِيَ حَسْبُهُمْ) أنّها ملازمة لهم. وأصل حسب أنّه بمعنى الكافي ، ولمّا كان الكافي يلازمه المكفي كني به هنا عن الملازمة ، ويجوز أن يكون حسب على أصله ويكون ذكره في هذا المقام تهكما بهم ، كأنّهم طلبوا النعيم ، فقيل : حسبهم نار جهنم.

واللعن : الإبعاد عن الرحمة والتحقير والغضب.

والعذاب المقيم : إن كان المراد به عذاب جهنّم فهو تأكيد لقوله : (خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) لدفع احتمال إطلاق الخلود على طول المدّة ، وتأكيد للكناية في قوله : (هِيَ حَسْبُهُمْ) وإن كان المراد به عذابا آخر تعيّن أنّه عذاب في الدنيا وهي عذاب الخزي والمذلّة بين الناس.

وفي هذه الآية زيادة تقرير لاستحقاق المنافقين العذاب ، وأنّهم الطائفة التي تعذب إذا بقوا على نفاقهم ، فتعيّن أنّ الطائفة المعفو عنها هم الذين يؤمنون منهم.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩))

قيل هذا الخطاب التفات ، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين ، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة ، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة ، وأن يحقّ عليهم الخسران.

فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب ، تقديره : أنتم كالذين من قبلكم ، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر ، أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله ، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب :

حتّى إذا الكلّاب قال لها

كاليوم مطلوبا ولا طالبا

أراد : لم أر كاليوم ، إلّا أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت.

وقيل هذا من بقية المقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيّاهم من قوله : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) [التوبة : ٦٥] الآية. فيكون ما بينهما اعتراضا بقوله :

١٤٦

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار.

والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة.

و (أَشَدَّ) معناه أقوى ، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥] أو يراد بها العزّة وعدّة الغلب باستكمال العدد والعدد ، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال (أَشَدَّ) كما أوقعت مضافا إليه شديد في قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥].

وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة : منها طيب الأرض للزرع والغرس ورعي الأنعام والنحل ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم ، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر ، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات ، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت.

وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس ، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان ، ومن حسن المناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة ، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع.

والاستمتاع : التمتّع ، وهو نوال أحد المتاع الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأعراف [٢٤].

والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع.

والخلاق : الحظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) في سورة البقرة [٢٠٠].

وتفرّع (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) على (كانُوا أَشَدَّ) : لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي.

وتفرّع (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) على ما أفاده حرف الكاف بقوله : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من معنى التشبيه ، ولذلك لم تعطف جملة (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) بواو العطف ، فإنّ هذه

١٤٧

الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه ، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) لو لا قصد الموعظة بالفريقين : المشبّه بهم ، والمشبّهين ، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين ، قصدا للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ولم يذكر قبله (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين.

ولذلك لمّا تقرّر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا).

وقوله : (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) تأكيد للتشبيه الواقع في قوله : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ـ إلى قوله ـ (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) للتنبيه على أنّ ذلك الجزء بخصوصه ، من بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها ، هو محلّ الموعظة والتذكير ، فلا يغرّهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج ، فقدّم قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) وأتى بقوله: (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مؤكّدا له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير ، ليتأتى التأكيد ، ولأنّ تقديم ما يتمّم تصوير الحالة المشبّه بها المركّبة ، قبل إيقاع التشبيه ، أشدّ تمكينا لمعنى المشابهة عند السامع.

وقوله : (كَالَّذِي خاضُوا) تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله : (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة : ٦٥] ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له. أي : وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك ، فأنتم وهم سواء ، فيوشك أن يحيق بكم ما حاق بهم ، وكلامنا في هذين التشبيهين أدقّ ما كتب فيهما.

و (كَالَّذِي) اسم موصول ، مفرد ، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعيّن أن يكون المراد ب (كَالَّذِي) : تأويله بالفريق أو الجمع ، ويجوز أن يكون (كَالَّذِي) هنا أصله الذين فخفّف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصّا بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق

١٤٨

عندهم على الآية ، ونحاة الكوفة يجوّزونه ولو لم تطل الصلة ، كما في الآية ، وقد ادّعى الفرّاء: أنّ الذي يكون موصولا حرفيا مؤوّلا بالمصدر ، واستشهد له بهذه الآية ، وهو ضعيف.

ولمّا وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنّهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم ، فقال تعالى : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وفيه تعريض بأنّ الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك ، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم.

والخوض : تقدّمت الحوالة على معرفته آنفا.

والحبط : الزوال والبطلان ، وتقدّم في قوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في سورة البقرة [٢١٧].

والمراد بأعمالهم : ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه : من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما ، ومعنى حبطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم ، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم ، كقوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم : ٨٠] ـ أي في الدنيا ـ (وَيَأْتِينا فَرْداً) [مريم : ٨٠] ـ أي في الآخرة ـ لا مال له ولا ولد ، كقوله : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) [الحاقة : ٢٨ ، ٢٩].

وفي هذا كلّه تذكرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن لا يظنّوا أن الله لمّا أمهل المنافقين قد عفا عنهم.

ولمّا كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلا خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قصرا مقصودا به المبالغة.

وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدّث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

عاد الكلام على المنافقين : فضمير (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) و (مِنْ قَبْلِهِمْ) عائدان إلى

١٤٩

المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة : ٦٥] ، أو الضمير في قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) [التوبة : ٦٨].

والاستفهام موجه للمخاطب تقريرا عنهم ، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنّهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم.

والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) وقد تقدّم في سورة العقود [٤١] ، شبه حصول الخبر عند المخبر بإتيان الشخص ، بجامع الحصول بعد عدمه ، ومن هذا القبيل قولهم : بلغه الخبر ، قال تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) في سورة الأنعام [١٩].

والنبأ : الخبر وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤].

وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) في سورة الأعراف [٥٩].

ونوح : تقدّم ذكره عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في سورة آل عمران [٣٣].

وعاد : تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) في سورة الأعراف [٦٥].

وكذلك ثمود. وقوم إبراهيم هم الكلدانيون ، وتقدّم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) في سورة البقرة [١٢٤].

وإضافة (أَصْحابِ) إلى (مَدْيَنَ) باعتبار إطلاق اسم مدين على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين ، فكما أنّ مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [الأعراف : ٨٥] كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة. وقد تقدّم ذكر مدين عند قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) في الأعراف [٨٥].

(وَالْمُؤْتَفِكاتِ) عطف على (أَصْحابِ مَدْيَنَ) ، أي نبأ المؤتفكات ، وهو جمع مؤتفكة : اسم فاعل من الائتفاك وهو الانقلاب. أي القرى التي انقلبت والمراد بها : قرى صغيرة كانت مساكن قوم لوط وهي : سدوم ، وعمورة ، وأدمة ، وصبوييم وكانت قرى

١٥٠

متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها. وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت ، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم ، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة.

وجملة : (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله : (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحقّ.

وجملة (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) تفريع على جملة (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) ، والمفرّع هو مجموع الجملة إلى قوله : (يَظْلِمُونَ) لأنّ الذي تفرّع على إتيان الرسل : أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، والمكابرة ، والتكذيب للرسل ، وصمّ الآذان عن الحقّ ، فأخذهم الله بذلك ، ولكن نظم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذا ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماما بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتّى جعل ذلك كأنّه هو المفرّع وجعل المفرّع بحسب المعنى في صورة الاستدراك.

ونفي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه ، وهو النفي المقترن بلام الجحود ، بعد فعل الكون المنفي ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) من سورة العقود [٦].

وأثبت ظلمهم أنفسهم لهم بأبلغ وجه إذ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي ، الدالّ على تمكّن الظلم منهم منذ زمان مضى ، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدّد والتكرّر ، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١))

هذه تقابل قوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] لبيان أنّ الطائفة التي ينالها العفو هي الملتحقة بالمؤمنين.

فالجملة معطوفة على جملة : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] وما بينهما جمل تسلسل بعضها عن بعض.

وقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) مقابل قوله : في المنافقين (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧]. وعبّر في جانب المؤمنين والمؤمنات بأنّهم أولياء بعض للإشارة إلى أنّ اللحمة

١٥١

الجامعة بينهم هي ولاية الإسلام ، فهم فيها على السواء ليس واحد منهم مقلّدا للآخر ولا تابعا له على غير بصيرة لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر بخلاف المنافقين فكأنّ بعضهم ناشئ من بعض في مذامّهم.

وزيد في وصف المؤمنين هنا (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) تنويها بأنّ الصلاة هي أعظم المعروف.

وقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) مقابل قوله في المنافقين (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].

وقوله (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) مقابل قوله في المنافقين (نَسُوا اللهَ) [التوبة : ٦٧] لأنّ الطاعة تقتضي مراقبة المطاع فهي ضدّ النسيان.

وقوله : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) مقابل قوله في المنافقين (فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].

والسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل ، فحرف الاستقبال يفيد مع المضارع ما تفيد (قد) مع الماضي كقوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥].

والإشارة للدلالة على أنّ ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياء به من أجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة.

وجملة : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تعليل لجملة (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي : أنّه تعالى لعزّته ينفع أولياءه وأنّه لحكمته يضع الجزاء لمستحقّه.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

موقع هذه الجملة بعد قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] ، كموقع جملة : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) [التوبة : ٦٨] بعد قوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] الآية. وهي أيضا كالاستئناف البياني الناشئ عن قوله : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) [التوبة : ٧١] مثل قوله في الآية السابقة (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [التوبة : ٢١] الآية.

وفعل المضي في قوله : (وَعَدَ اللهُ) إمّا لأنّه إخبار عن وعد تقدّم في آي القرآن قصد من الإخبار به التذكير به لتحقيقه ، وإمّا أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صيغ العقود مثل بعت وتصدّقت ، لكون تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا

١٥٢

يتخلّف. وقد تقدّم نظيره آنفا في قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٦٨].

والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال : وعدهم الله : لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكّن تعلّق الفعل بهم فضل تمكّن في ذهن السامع.

وتقدّم الكلام على نحو قوله : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) عند قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [٢٥].

وعطف (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) على (جَنَّاتٍ) للدلالة على أن لهم في الجنّات قصورا ومساكن طيّبة ، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥].

و (العدن) : الخلد والاستقرار المستمرّ ، فجنّات عدن هي الجنات المذكورة قبل ، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنّن في التعبير والتنويه بالجنّات ، ولذلك لم يقل : ومساكن طيبة فيها.

وجملة : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) معطوفة على جملة (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ). والرضوان ـ بكسر الراء ـ ويجوز ضمها. وكسر الراء لغة أهل الحجاز ، وضمّها لغة تميم. وقرأه الجمهور ـ بكسر الراء ـ وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمّ الراء ونظيره بالكسر قليل في المصادر ذات الألف والنون. وهو مصدر كالرضى وزيادة الألف والنون فيه تدلّ على قوته ، كالغفران والشكران.

والتنكير في (رِضْوانٌ) للتنويع ، يدلّ على جنس الرضوان ، وإنّما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسّل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإنّ رضوان الله تعالى عظيم.

و (أَكْبَرُ) تفضيل لم يذكر معه المفضّل عليه لظهوره من المقام ، أي أكبر من الجنّات لأنّ رضوان الله أصل لجميع الخيرات. وفيه دليل على أنّ السعادات الروحانية أعلى وأشرف من الجثمانية.

و (ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما ذكر من الجنّات والمساكن وصفاتهما والرضوان الإلهي.

١٥٣

والقصر في (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) قصر حقيقي باعتبار وصف الفوز بعظيم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣))

لمّا أشعر قوله تعالى في الآية السابقة (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) [التوبة : ٦٨]. بأنّ لهم عذابين عذابا أخرويا وهو نار جهنم ، تعيّن أنّ العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل ، فلمّا أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة ، أمر نبيئه بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب [٦٠ ، ٦١] في قوله : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدّة ما كشفت فيه دخيلتهم بما تكرّر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين ، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهادهم. والجهاد القتال لنصر الدين ، وتقدّم في قوله تعالى : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) في سورة العقود [٥٤].

وقرن المنافقون هنا بالكفار : تنبيها على أنّ سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقّق في المنافقين ، فجهادهم كجهاد الكفار ، ولأنّ الله لمّا قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٦٨] وأومأ قوله هنالك بأنّ لهم عذابا آخر ، لا جرم جمعهم عند شرع هذا العذاب الآخر لهم.

فالجهاد المأمور للفريقين مختلف ، ولفظ (الجهاد) مستعمل في حقيقته ومجازه. وفائدة القرن بين الكفّار والمنافقين في الجهاد : إلقاء الرعب في قلوبهم ، فإنّ كلّ واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامل معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضدا شوكتهم.

وأمّا جهادهم بالفعل فمتعذر ، لأنّهم غير مظهرين الكفر ، ولذلك تأوّل أكثر المفسّرين الجهاد بالنسبة إلى المنافقين بالمقاومة بالحجّة وإقامة الحدود عند ظهور ما يقتضيها ، وكان غالب من أقيم عليه الحدّ في عهد النبوءة من المنافقين. وقال بعض السلف جهادهم ينتهي إلى الكشر في وجوههم. وحملها الزجّاج والطبري على ظاهر الأمر بالجهاد ، ونسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود ، ولكنّهما لم يأتيا بمقنع من تحقيق المعنى.

١٥٤

وهذه الآية إيذان للمنافقين بأنّ النفاق يوجب جهادهم قطعا لشأفتهم من بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمهم ويعرّفهم لحذيفة بن اليمان ، وكان المسلمون يعرفون منهم من تكرّرت بوادر أحواله ، وفلتات مقاله. وإنّما كان النبي ممسكا عن قتلهم سدّا لذريعة دخول الشكّ في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعمر : «لا يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» لأنّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يبلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة ، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة ، فلمّا كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شكّ معه في وفاء المسلمين ، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعته القبائل وتحقّقه المسلم والكافر ، تمحّضت المصلحة في استئصال شافتهم ، وانتفت ذريعة تطرّق الشكّ في أمان المسلمين ، وعلم الله أنّ أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب ، وأنّه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها ، واقتدى بها كلّ من في قلبه مرض ، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق. والذي يوجب قتالهم أنّهم صرّحوا بكلمات الكفر ، أي صرّح كلّ واحد بما يدلّ على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها ، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدلّ على أنّهم مستخفون بالدين ، وقد توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرب نزول هذه الآية. ولعلّ من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئة المسلمين لجهاد كلّ قوم ينقضون عرى الإسلام وهم يزعمون أنّهم مسلمون ، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنّهم لم يكفروا وإنّما الزكاة حقّ الرسول في حياته ، وما ذلك إلّا نفاق من قادتهم اتّبعه دهماؤهم ، ولعلّ هذه الآية كانت سببا في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصهم الإيمان كما ورد في قصّة الجلاس بن سويد. وكان قد كفى الله شرّ متولّي كبر النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بموته فكان كلّ ذلك كافيا عن إعمال الأمر بجهادهم في هذه الآية (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب : ٢٥].

وهذه الآية تدلّ على التكفير بما يدلّ على الكفر من قائله أو فاعله دلالة بيّنة ، وإن لم يكن أعلن الكفر.

(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أمر بأن يكون غليظا معهم. والغلظة يأتي معناها عند قوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) في هذه السورة [١٢٣].

وإنّما وجه هذا الأمر إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنّه جبل على الرحمة

١٥٥

فأمر بأن يتخلّى عن جبلّته في حقّ الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل.

وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفار المؤلّفة قلوبهم على الإسلام وإنّما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثا.

وجملة : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل. وتقدّم نظيره مرات. والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان ، أي يرجع إليه.

والمصير المكان الذي يصير إليه المرء ، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار ، والجمع بينهما هنا تفنّن.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).

لمّا كان معظم ما أخذ على المنافقين هو كلمات دالّة على الطعن في الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نقل ذلك عنهم تنصّلوا منه بالأيمان الكاذبة ، عقّبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أنّ ما يتنصّلون به تنصل كاذب وأن لا ثقة بحلفهم ، وعلى إثبات أنّهم قالوا ما هو صريح في كفرهم. فجملة (يَحْلِفُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصّل ممّا نقل عنهم ، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم في حلفهم.

وقد تكون الجملة في محلّ التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وما بعده ، وأن ذلك إنّما أخّر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء ، وأتي بالمقصود في صورة جملة حاليّة. ومعلوم أنّ القيد هو المقصود من الكلام المقيّد. ويرجّح هذا أنّ معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضهم عهد الإسلام ، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتصر على إثبات مقابله وهو (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ

١٥٦

الْكُفْرِ) ، ولم يكن لما بعده مزيد اتّصال به.

وأيّا ما كان فالجملة مستحقّة الفصل دون العطف.

ومفعول ما قالوا محذوف دلّ عليه قوله : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ).

وأكّد صدور كلمة الكفر منهم ، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها ، بصيغة القسم ليكون تكذيب قولهم مساويا لقولهم في التأكيد.

وكلمة الكفر الكلام الدالّ عليه ، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركّب منه ومن مثله الكلام المفيد ، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاما جامعا موجزا كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ٨] وفي الحديث : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل».

فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله. فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها ، ما هي إلّا أفراد من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعة المنافقين. فعن قتادة : لا علم لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم.

وقيل : المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعن عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وابن إسحاق أنّ الجلاس ـ بضم الجيم وتخفيف اللام ـ بن سويد بن الصامت قال : لئن كان ما يقول محمد حقّا لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها ، فأخبر عنه ربيبه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وقيل : بل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك.

فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمع كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا. وقد فعله واحد ، أو باعتبار قول واحد وسماع البقية فجعلوا مشاركين في التبعة كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا وإنّما قتله واحد من القبيلة ، وعلى فرض صحّة وقوع كلمة من واحد معيّن فذلك لا يقتضي أنّه لم يشاركه فيها غيره لأنّهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه. وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه

١٥٧

وأصحابه ويشاركونه فيه.

وأمّا إسناد الكفر إلى الجمع في قوله : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) فكذلك.

ومعنى (بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة ، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدّم في قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [التوبة : ٦٦].

والهمّ : نيّة الفعل سواء فعل أم لم يفعل.

ونوال الشيء حصوله ، أي همّوا بشيء لم يحصّلوه والذي همّوا به هو الفتك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند مرجعه من تبوك تواثق خمسة عشر منهم على أن يترصّدوا له في عقبة بالطريق تحتها واد فإذا اعتلاها ليلا يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائرا وقد أخذ عمّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها. وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا.

وجملة : (وَما نَقَمُوا) عطف على (وَلَقَدْ قالُوا) أي والحال أنّهم ما ينقمون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا على دخول الإسلام المدينة شيئا يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة.

والنقم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدّم في قوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) في سورة الأعراف [١٢٦].

وقوله : (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) استثناء تهكّمي. وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ونكتته أنّ المتكلّم يظهر كأنّه يبحث عن شيء ينقض حكمه الخبري ونحوه فيذكر شيئا هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنّه استقصى فلم يجد ما ينقضه.

وإنّما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات ، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروب تفانوا فيها قبيل الهجرة وهي حروب بعاث.

١٥٨

والفضل : الزيادة في البذل والسخاء. و (مِنْ) ابتدائية. وفي جعل الإغناء من الفضل كناية عن وفرة الشيء المغني به لأنّ ذا الفضل يعطي الجزل.

وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنّه السبب الظاهر المباشر.

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

التفريع على قوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلمّا أمر بجهادهم والغلظة عليهم وتوعّدهم بالمصير إلى النار ، فرّع على ذلك الإخبار بأنّ التوبة مفتوحة لهم وأنّ تدارك أمرهم في مكنتهم ، لأنّ المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرّتهم أو أن يصلح حالهم.

والتوبة هي إخلاصهم الأيمان. والضمير يعود إلى الكفّار والمنافقين ، والضمير في (يَكُ) عائد إلى مصدر (يَتُوبُوا) وهو التوب.

والتولّي : الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة. والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر ، وفي الآخرة عذاب النار.

وجيء بفعل (يَكُ) في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خير لهم لتأكيد وقوع الخير عند التوبة ، والإيماء إلى أنّه لا يحصل الخير إلّا عند التوبة لأنّ فعل التكوين مؤذن بذلك.

وحذف نون «يكن» للتخفيف لأنّها لسكونها تهيّأت للحذف وحسّنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) في سورة النساء [٤٠].

وجملة : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) عطف على جملة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) إلخ فتكون جوابا ثانيا للشرط ، ولا يريبك أنّها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة. لأنّه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإنّ حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعا للجملة المعطوف عليها.

والمعنى أنّهم إن تولّوا لم يجدوا من ينصرهم من القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلّا من لا يعبأ بهم عددا وعددا ، والمراد نفي الولي النافع كما هو

١٥٩

مفهوم الولي وأمّا من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي.

[٧٥ ـ ٧٧] (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧))

قيل : نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثراء كثيرا فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبلها منه. وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهارا للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان ، وقد قيل : إنّ قائل ذلك هو معتّب بن قشير ، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته. ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجىء فيه قصة كما تقدّم آنفا.

وجملة (لَنَصَّدَّقَنَ) بيان لجملة (عاهَدَ اللهَ) وفعل (لَنَصَّدَّقَنَ) أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف.

والإعراض : إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربّهم.

و (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) جعل نفاقا عقب ذلك أي إثره ولمّا ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق.

والضمير المستتر في أعقبهم للمذكور من أحوالهم ، أو للبخل المأخوذ من بخلوا ، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي ، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله (مَنْ عاهَدَ اللهَ) أي جعل فعلهم ذلك سببا في بقاء النفاق في قلوبهم إلى موتهم ، وذلك جزاء تمرّدهم على النفاق. وهذا يقتضي إلى أنّ ثعلبة أو معتّبا مات على الكفر وأنّ حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عدّ كلاهما في الصحابة وأوّلهما فيمن شهد بدرا ، وقيل : هما آخران غيرهما وافقا في الاسم. فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله «نافق حنظلة». وذكر ارتكابه في خاصّته ما ظنّه معصية ولم يغيّر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن

١٦٠