تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

فهذه ثلاث فوائد في فائدة.

الخامسة : إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلّهم ، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم ، فهذه ثلاث فوائد في فائدة.

والتعذيب تعذيب القتل والجراحة. وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفا للمسلمين.

والإخزاء : الإذلال ، وتقدّم في البقرة. وهو هنا الإذلال بالأسر.

والنصر حصول عاقبة القتال المرجوّة. وتقدّم في أول البقرة.

والشفاء : زوال المرض ومعالجة زواله. أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد ، كما استعير ضدّه وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] قال قيس بن زهير :

شفيت النفس من حمل بن بدر

وسيفي من حذيفة قد شفاني

وإضافة ال (صُدُورَ) إلى (قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) دون ضمير المخاطبين يدلّ على أنّ الذين يشفي الله صدورهم بنصر المؤمنين طائفة من المؤمنين المخاطبين بالقتال ، وهم أقوام كانت في قلوبهم إحن على بعض المشركين الذين آذوهم وأعانوا عليهم ، ولكنّهم كانوا محافظين على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يستطيعون مجازاتهم على سوء صنيعهم ، وكانوا يودّون أن يؤذن لهم بقتالهم ، فلمّا أمر الله بنقض عهود المشركين سرّوا بذلك وفرحوا ، فهؤلاء فريق تغاير حالته حالة الفريق المخاطبين بالتحريض على القتال والتحذير من التهاون فيه. فعن مجاهد ، والسدّي أنّ القوم المؤمنين هم خزاعة حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت نفوس خزاعة إحن على بني بكر بن كنانة ، الذين اعتدوا عليهم بالقتال ، وفي ذكر هذا الفريق زيادة تحريض على القتال بزيادة ذكر فوائده ، وبمقارنة حال الراغبين فيه بحال المحرضين عليه ، الملحوح عليهم الأمر بالقتال.

وعطف فعل (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) على فعل (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه ، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين ، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساويا لشفاء الصدور ، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية ، مع بيان متعلّق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بالمصداق مع اختلاف

٤١

المفهوم ، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرّة والانشراح بالنصر ، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ ، وتحرّق الحقد. وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين : شفاء صدورهم من عدوهم ، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم.

والغيظ : الغضب المشوب بإرادة الانتقام ، وتقدّم في قوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) في سورة آل عمران [١١٩].

(وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

جملة ابتدائية مستأنفة ، لأنّه ابتداء كلام ليس ممّا يترتب على الأمر بالقتال ، بل لذكر من لم يقتلوا ، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعا ، فدلّ هذا النظم على أنّها راجعة إلى قوم آخرين ، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا ، ولم يقتلوا ، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده. وتوبة الله عليهم : هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه ، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخّر. وإنّما لم تفصل الجملة : للإشارة إلى أنّ مضمونها من بقية أحوال المشركين ، فناسب انتظامها مع ما قبلها. فقد تاب الله على أبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسليم بن أبي عمرو (ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة).

والتذييل بجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) لإفادة أنّ الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم ، وأنّه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة ، فوجب على الناس امتثال أوامره ، وأنّه يقبل توبة من تاب إليه تكثيرا للصلاح.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

(أَمْ) منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر.

والكلام بعد (أَمْ) المنقطعة له حكم الاستفهام دائما ، فقوله : (حَسِبْتُمْ) في قوة (أحسبتم) والاستفهام المقدّر إنكاري.

والخطاب للمسلمين ، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم ، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام.

وحسبتم : ظننتم. ومصدر حسب ، بمعنى ظنّ الحسبان ـ بكسر الحاء ـ فأمّا مصدر

٤٢

حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء.

والترك افتقاد الشيء وتعهّده ، أي : أن يترككم الله ، فحذف فاعل الترك لظهوره.

ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق : من حال أو مجرور ، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التارك متروكه ، كقوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] ومثل قول عنترة :

فتركته جزر السباع ينشنه

وقول كبشة بنت معد يكرب ، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صعدة من بلاد اليمن :

وأترك في بيت بصعدة مظلم

وحذف متعلّق (تُتْرَكُوا) في الآية : لدلالة السياق عليه ، أي أن تتركوا دون جهاد ، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة.

والمعنى : كيف تحسبون أن تتركوا ، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله.

وجملة (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) إلخ في موضع الحال من ضمير (تُتْرَكُوا) أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد ، وحصول تثاقل من تثاقلوا ، وحصول ترك الجهاد من التاركين.

و (لَمَّا) حرف للنفي ، وهي أخت (لم). وقد تقدّم بيانها ، والفرق بينها وبين (لم) عند قوله تعالى : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١٤] وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) في سورة آل عمران [١٤٢].

ومعنى علم الله بالذين جاهدوا : علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم ، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة ، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع ، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) في سورة آل عمران [١٤٢].

و (الوليجة) فعلية بمعنى مفعولة ، أي الدخيلة ، وهي الفعلة التي يخفيها فاعلها ، فكأنّه يولجها ، أي يدخلها في مكمن بحيث لا تظهر ، والمراد بها هنا : ما يشمل الخديعة وإغراء

٤٣

العدوّ بالمسلمين ، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يخلص إليهم ويفضى إليهم بسر المسلمين ، لأنّ تنكير (وَلِيجَةً) في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلّق ب (وَلِيجَةً) في موضع الحال المبيّنة.

و (مِنْ) ابتدائية ، أي وليجة كائنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين.

وجملة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تذييل لإنكار ذلك الحسبان ، أي : لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))

هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين ، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل ، وهو مرتبط بما تضمّنته البراءة في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١] ولما اتّصل بتلك الآية من بيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق : أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهو توطئة لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

وتركيب (ما كان لهم أن يفعلوا) يدلّ على أنّهم بعداء من ذلك ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة في سورة آل عمران [٧٩] ، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات.

و (مَساجِدَ اللهِ) مواضع عبادته بالسجود والركوع : المراد المسجد الحرام وما يتبعه من المسعى ، وعرفة ، والمشعر الحرام ، والجمرات ، والمنحر من منى.

وعمر المساجد : العبادة فيها لأنّها إنّما وضعت للعبادة ، فعمرها بمن يحلّ فيها من المتعبّدين ، ومن ذلك اشتقّت العمرة ، والمعنى : ما يحقّ للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله. وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين : إيماء إلى أنّ الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله.

وقد جاء الحال في قوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) مبيّنا لسبب براءتهم من أن

٤٤

يعمروا مساجد الله ، وهو حال من ضمير (يَعْمُرُوا) فبين عامل الضمير وهو (يَعْمُرُوا) الداخل في حكم الانتفاء ، أي : انتفى تأهّلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله ، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده.

والمراد بالكفر : الكفر بالله ، أي بوحدانيته ، فالكفر مرادف للشرك ، فالكفر في حدّ ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابه مساجد الله ، لأنّها مساجد الله فلا حقّ لغير الله فيها ، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره ، وأقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أوّل مسجد وهو الكعبة عنوانا على التوحيد ، وإعلانا به ، كما تقدّم في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في سورة آل عمران [٩٦] ، فهذه أوّل درجة من الحرمان. ثم كون كفرهم حاصلا باعترافهم به موجب لانتفاء أقلّ حظ من هذه العمارة ، وللبراءة من استحقاقها ، وهذه درجة ثانية من الحرمان.

وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم ، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك ، مثل قولهم في التلبية «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» ، ومثل سجودهم للأصنام ، وطوافهم بها ، ووضعهم إيّاها في جوف الكعبة وحولها وعلى سطحها.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإفراد مسجد الله أي المسجد الحرام وهو المقصود ، أو التعريف بالإضافة للجنس. وقرأ الباقون : (مَساجِدَ اللهِ) ، فيعمّ المسجد الحرام وما عددناه معه آنفا.

وجملة (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ابتداء ذم لهم ، وجيء باسم الإشارة لأنّهم قد تميّزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] بعد قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] الآية.

و (حَبِطَتْ) بطلت ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في سورة البقرة [٢١٧].

وتقديم (فِي النَّارِ) على (خالِدُونَ) للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ

٤٥

وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

موقع جملة (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) الاستئناف البياني ، لأنّ جملة : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٧] لمّا اقتضت إقصاء المشركين عن العبادة في المساجد كانت بحيث تثير سؤالا في نفوس السامعين أن يتطلّبوا من هم الأحقّاء بأن يعمروا المساجد ، فكانت هذه الجملة مفيدة جواب هذا السائل.

ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأنّ المقصود إقصاء فرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله ، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح ، فتعيّن أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين ، لأنّ مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم ، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنّهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر : ٤٣ ، ٤٤] كناية عن أن لم يكونوا مسلمين.

واستغني عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدلّ عليه من آثار شريعته : وهو الإيمان باليوم الآخر ، وإقام الصلاة : وإيتاء الزكاة.

وقصر خشيتهم على التعلّق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنّهم لا يخافون شيئا غير الله فإنّهم قد يخافون الأسد ويخافون العدوّ ، ولكن معناه إذا تردّد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدّموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفا (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) [التوبة : ١٣] ، فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين.

وهذا من خصائص المؤمنين : فأمّا المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم ، وأمّا أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كلمه ومجاراة أهواء العامّة ، وقد ذكّرهم الله بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤].

وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين ، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها. ووجه هذا الرجاء أنّهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خلقا لهم فيكونوا من أهله ، ولذلك قال : (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ولم

٤٦

يقل أن يكونوا مهتدين.

وفي هذا حثّ على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها.

والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقّوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عدّت لهم.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩))

ظاهر هذه الآية يقتضي أنّها خطاب لقوم سوّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ، وبين الجهاد والهجرة ، في أنّ كلّ ذلك من عمل البرّ ، فتؤذن بأنّها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد ، بعلّة اجتزائهم بالسقاية والعمارة. ومناسبتها للآيات التي قبلها : أنّه لمّا وقع الكلام على أنّ المؤمنين هم الأحقّاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دلّ ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملا من الأعمال الخاصّة به ، فكان ذلك مثار ظنّ بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساو للقيام بأفضل أعمال الإسلام.

وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية : ما رواه الطبري ، والواحدي ، عن النعمان بن بشير ، قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم «ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاج» ؛ وقال آخر «بل عمارة المسجد الحرام» وقال آخر «بل الجهاد في سبيل الله خير ممّا قلتم» فزجرهم عمر بن الخطاب وقال : «لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلّيت الجمعة دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستفيته فيما اختلفتم فيه» قال : فأنزل الله تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

. وقد روي أنّه سرى هذا التوهّم إلى بعض المسلمين ، فروي أنّ العباس رام أن يقيم بمكة ويترك الهجرة لأجل الشغل بسقاية الحاجّ والزائر ؛ وأنّ عثمان بن طلحة رام مثل ذلك ، للقيام بحجابة البيت. وروى الطبري ، والواحدي : أن مماراة جرت بين العباس وعلي بن أبي طالب ببدر ، وأن عليا عيّر العباس بالكفر وقطيعة الرحم ، فقال العباس : «ما

٤٧

لكم لا تذكرون محاسننا إنّا لنعمر مسجد الله ونحجب الكعبة ونسقي الحاج» فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية.

والاستفهام للإنكار.

و (السقاية) صيغة للصناعة ، أي صناعة السقي ، وهي السقي من ماء زمزم ، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.

وكذلك (العمارة) صناعة التعمير ، أي القيام على تعمير شيء ، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك ، وهي ، هنا : غير ما في قوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٧] وقوله : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٨] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد.

وتعريف الحاج تعريف الجنس.

وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية ، والمناصب عشرة ، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب ، وكانت عمارة المسجد ، وهي السدانة ، وتسمّى الحجابة ، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة.

وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدّي العلامة الوزير وهي : الدّيات والحملات ، السّفارة ، الراية ، الرّفادة ، المشورة ، الأعنة والقبة ، الحكومة وأموال الآلهة ، الأيسار.

فأما الديات والحمالات : فجمع دية وهي عوض دم القتيل خطأ أو عمدا إذا صولح عليه ؛ وجمع حمالة ـ بفتح الحاء المهملة ـ وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم ، وكانت لبني تيم بن مرّة بن كعب. ومرّة جدّ قصي ، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق.

وأمّا السفارة ـ بكسر السين وفتحها ـ فهي السعي بالصلح بين القبائل. والقائم بها يسمّى سفيرا. وكانت لبني عدي بن كعب أبناء عمّ لقصي وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب.

وأمّا الراية ، وتسمّى : العقاب ـ بضم العين ـ لأنّها تخفق فوق الجيش كالعقاب ، فهي راية جيش قريش. وكانت لبني أمية ، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب.

٤٨

وأمّا الرّفادة : فهي أموال تخرجها قريش إكراما للحجيج فيطعمونهم جميع أيّام الموسم يشترون الجزر والطعام والزبيب ـ للنبيذ ـ وكانت لبني نوفل بن عبد مناف ، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل.

وأمّا المشورة : فهي ولاية دار النّدوة وكانت لبني أسد بن عبد العزّى بن قصيّ. وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زمعة.

وأمّا الأعنّة والقبة فقبّة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش وسميت الأعنّة وكانت لبني مخزوم. وهم أبناء عم قصي ، وجاء الإسلام وهي بيد خالد بن الوليد.

وأمّا الحكومة وأموال الآلهة ـ ولم أقف على حقيقتها ـ فأحسب أنّ تسميتها الحكومة لأنّ المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم أو في الإحرام. وأمّا تسميتها أموال الآلهة لأنّها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع. فكانت لبني سهم وهم أبناء عمّ لقصي. وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم.

وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها فكانت لبني جمح وهم أبناء عمّ لقصي ، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أمية بن خلف.

وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب ، عدا السدانة والسقاية ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجّة الوداع «ألا إنّ كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدميّ هاتين إلّا سقاية الحاج وسدانة البيت» (١).

وكانت مناصب العرب التي بيد قصي بن كلاب خمسة : الحجابة ، والسقاية ، والرفادة ، والندوة ، واللواء ـ فلمّا كبر قصي جعل المناصب لابنه عبد الدار ، ثم اختصم أبناء قصي بعد موته وتداعوا للحرب ، ثم تداعوا للصلح ، على أن يعطوا بني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة ، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة ، وأحدثت مناصب لبعض من قريش غير أبناء قصي فانتهت المناصب إلى عشرة كما ذكرنا.

وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لأنّه محلّ التسوية المردودة عليهم لأنّهم لم يدّعوا التسوية بين السقاية أو العمارة بدون الإيمان ، بل ذكر الإيمان إدماج ، للإيماء إلى

__________________

(١) رواه ابن الأثير في «النهاية» في مادة (أثر) ومادة (سقى).

٤٩

أنّ الجهاد أثر الإيمان ، وهو ملازم للإيمان ، فلا يجوز للمؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام. وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان ، بل لجعلوها أعظم. وإنّما توهّموا أنهما عملان يعدلان الجهاد ، وفي الشغل بهما عذر للتخلّف عن الجهاد ، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين.

وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه ، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبّه به ، على أنّ العملين ومن عملهما لا يساويان العملين الآخرين ومن عملهما. فوقع احتباك في طرفي التشبيه ، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين. والتقدير : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله ، وجعلتم سقاية الحاجّ وعمّار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله. ولما ذكرت التسوية في قوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أسندت إلى ضمير العاملين ، دون الأعمال : لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات.

وجملة (لا يَسْتَوُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا : لبيان ما يسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله : (أَجَعَلْتُمْ) الآية.

وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل لجملة (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) إلخ ، وموقعه هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك ، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنزل قبلها ، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها ، فإنّه لم يبق يومئذ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد ، حتى يرد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه. وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.

فالوجه عندي في موقع جملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أنّ موقعها الاعتراض بين جملة (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) وجملة (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا) [التوبة : ٢٠] إلخ.

والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان ، إعلاما بأنّه دليل إلى الخيرات ، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد ، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا

٥٠

فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ ، فلم يهدهم الله إلى الخير ، وذلك برهان على أنّ الإيمان هو الأصل ، وأنّ شعبه المتولّدة منه أفضل الأعمال ، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل ، لأنّها ليست من شعب الإيمان ، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلّا إذا كان مع الإيمان ، وخاصّة الجهاد.

وفيه إيماء إلى أنّه : لو لا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين ، فإنّ إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيش الفتح إذ آمن العباس بن عبد المطلب وهو صاحب السقاية ، وآمن عثمان بن طلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام.

فأمّا ما رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس : من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر ، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس ، فموقع التذييل بقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) واضح : أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام ، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك. فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد ، وتنازعهم في ذلك ، خطأ من النظر ، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرع بالأصل ، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان ، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون ، والمشاهدة دلّت على خلاف ذلك : فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين. فالهداية شاع إطلاقها مجازا باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب ، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه من يعمل عملا يتقرب به إلى الله ، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة.

وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل.

والمعنى : والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم.

ونسب إلى ابن وردان أنّه روي عن أبي جعفر أنّه قرأ : سقاة الحاج ـ بضم السين جمع الساقي ـ وقرأ وعمرة ـ بالعين المفتوحة وبدون ألف وبفتح الراء جمع عامر ـ وقد اختلف فيها عن ابن وردان.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

٥١

هذه الجملة مبيّنة لنفي الاستواء الذي في جملة (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ١٩] ومفصّلة للجهاد الذي في قوله : (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ١٩] بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس ، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين.

و (الذين هاجروا) هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها ، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا ، وذلك قبل فتح مكة.

والمهاجرة : ترك الموطن والحلول ببلد آخر ، وهي مشتقّة من الهجر وهو الترك ، واشتقّت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن ، والمراد بها ـ في عرف الشرع ـ هجرة خاصّة : وهي الهجرة من مكة إلى المدينة ، فلا تشمل هجرة من هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نية الاستيطان بل كانت هجرة مؤقتة ، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال.

والمفضل عليه محذوف لظهوره : أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر ، والمقصود تفضيل خصالهم.

والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) في سورة البقرة [٢٢٨]. وقوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في أوائل الأنفال [٤]. وهي في كلّ ذلك مستعارة لرفع المقدار. و (عِنْدَ اللهِ) إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف ، لأنّ أصل (عند) أنّها ظرف للقرب.

وجملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) معطوفة على (أَعْظَمُ دَرَجَةً) أي : أعظم وهم أصحاب الفوز. وتعريف المسند باللام مفيد للقصر ، وهو قصر ادّعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتّى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يعدّ كالمعدوم.

والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميّزتهم : وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس.

[٢١ ، ٢٢] (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

بيان للدرجة العظيمة التي في قوله : (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ٢٠] فتلك الدرجة

٥٢

هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرّة عليهم ، وتحقيق فوزهم ، وتعريفهم برضوانه عليهم ، ورحمته بهم ، وبما أعد لهم من النعيم الدائم. ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة ، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها.

والتبشير : الإخبار بخير يحصل للمخبر لم يكن عالما به.

فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع ، المفيد للتجدّد ، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم ، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم ، لأنّ تجدّد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوما للمبشّر (بفتح الشين) وإلّا لكان الإخبار به تحصيلا للحاصل.

وكون المسند إليه لفظ الربّ ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه ، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية : لأنّ معنى الربوبية يرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به ، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف.

وتقدّمت الرحمة في قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١].

والرضوان ـ بكسر الراء وبضمها ـ : الرضا الكامل الشديد ، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغفران والشكران والعصيان.

والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة ، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواع النعيم فيها.

والنعيم : ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة ، وهو أخصّ من النعمة ، قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار : ١٣] وقال : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر : ٨].

والمقيم المستمرّ ، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار.

والتنكير في (بِرَحْمَةٍ) ، و (رِضْوانٍ ، وَجَنَّاتٍ) ، و (نَعِيمٌ) للتعظيم ، بقرينة المقام ، وقرينة قوله (مِنْهُ) وقرينة كون تلك مبشّرا بها.

وجملة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) تذييل وتنويه بشأن المؤمنين المهاجرين المجاهدين لأنّ مضمون هذه الجملة يعمّ مضمون ما قبلها وغيره ، وفي هذا التذييل إفادة أنّ ما ذكر من عظيم درجات المؤمنين المهاجرين المجاهدين هو بعض ما عند الله من

٥٣

الخيرات فيحصل من ذلك الترغيب في الازدياد من الأعمال الصالحة ليزدادوا رفعة عند ربّهم ، كما قال أبو بكر الصديق ـ رضي‌الله‌عنه ـ «ما على من دعي من جميع تلك الأبواب من ضرورة».

والأجر : العوض المعطى على عمل ، وتقدّم في قوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) في سورة العقود [٥].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

استئناف ابتدائي لافتتاح غرض آخر وهو تقريع المنافقين ومن يواليهم ، فإنّه لمّا كان أوّل السورة في تخطيط طريقة معاملة المظهرين للكفر ، لا جرم تهيّأ المقام لمثل ذلك بالنسبة إلى من أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان : المنافقين من أهل المدينة ومن بقايا قبائل العرب ؛ ممّن عرفوا بذلك ، أو لم يعرفوا وأطلع الله عليهم نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحذّر المؤمنين المطّلعين عليهم من بطانتهم وذوي قرابتهم ومخالطتهم ، وأكثر ما كان ذلك في أهل المدينة لأنّهم الذين كان معظمهم مؤمنين خلصا ، وكانت من بينهم بقية من المنافقين وهم من ذوي قرابتهم ، ولذلك افتتح الخطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إشعارا بأنّ ما سيلقى إليهم من الوصايا هو من مقتضيات الإيمان وشعاره.

وقد أسفرت غزوة تبوك التي نزلت عقبها هذه السورة عن بقاء بقية من النفاق في أهل المدينة والأعراب المجاورين لها كما في قوله تعالى : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) [التوبة : ٩٠] ـ وقوله ـ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١] ونظائرهما من الآيات.

روى الطبري عن مجاهد ، والواحدي عن الكلبي أنّهم لمّا أمروا بالهجرة وقال العبّاس : أنا أسقي الحاج ، وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا حاجب الكعبة ، فلا نهاجر ، تعلّق بعض الأزواج والأبناء ببعض المؤمنين فقالوا «أتضيّعوننا» فرقّوا لهم وجلسوا معهم ، فنزلت هذه الآية.

ومعنى (اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ) أحبّوه حبّا متمكّنا. فالسين والتاء للتأكيد ، مثل ما في استقام واستبشر.

٥٤

حذر الله المؤمنين من موالاة من استحبّوا الكفر على الإيمان ، في ظاهر أمرهم أو باطنه ، إذا اطّلعوا عليهم وبدت عليهم أمارات ذلك بما ذكر من صفاتهم في هذه السورة ، وجعل التحذير من أولئك بخصوص كونهم آباء وإخوانا تنبيها على أقصى الجدارة بالولاية ليعلم بفحوى الخطاب أنّ من دونهم أولى بحكم النهي. ولم يذكر الأبناء والأزواج هنا لأنّهم تابعون فلا يقعدون بعد متبوعيهم.

وقوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أريد به الظالمون أنفسهم لأنّهم وقعوا فيما نهاهم الله ، فاستحقّوا العقاب فظلموا أنفسهم بتسبّب العذاب لها ، فالظلم إذن بمعناه اللغوي وليس مرادا به الشرك. وصيغة الحصر للمبالغة بمعنى أنّ ظلم غيرهم كلا ظلم بالنسبة لعظمة ظلمهم. ويجوز أن يكون هم (الظَّالِمُونَ) عائدا إلى ما عاد إليه ضمير النصب في قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي إلى الآباء والإخوان الذين استحبّوا الكفر على الإيمان ، والمعنى ومن يتولّهم فقد تولّى الظالمين فيكون الظلم على هذا مرادا به الشرك ، كما هو الكثير في إطلاقه في القرآن.

والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز هؤلاء أو هؤلاء ، وللتنبيه على أنّ جدارتهم بالحكم المذكور بعد الإشارة كانت لأجل تلك الصفات أعني استحباب الكفر على الإيمان.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام ، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباب المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين ، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيحول تعلّقهم بها بينهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام ، فلذلك ذكر الأبناء هنا لأنّ التعلّق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان ، وذكر غيرهم من قريب القرابة أيضا.

وابتداء الخطاب ب (قُلْ) يشير إلى غلظه والتوبيخ به.

والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين : المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك ، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشّكّ وهو (إِنْ) ويفهم منه أنّ

٥٥

المسترسلين في ذلك الملابسين له هم أهل النفاق ، فهم المعرّض لهم بالتهديد في قوله : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

وقد جمعت هذه الآية أصنافا من العلاقات وذويها ، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها ، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضا إذا اختلفوا في الدين ، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم ، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو ، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله. وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصدّه إلفها عن الغزو. فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجرّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربّه.

وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب (أَحَبَ) لأنّ التفضيل في المحبّة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين ، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسبّبا على تقديم محبّة تلك العلائق على محبّة الله ، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير.

وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم : تنويها بشأنه ، ولأنّ ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف ، جعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه ، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلّف عنها كثير من المنافقين وبعض المسلمين.

و (العشيرة) الأقارب الأدنون ، وكأنه مشتقّ من العشرة وهي الخلطة والصحبة.

وقرأ الجمهور (وَعَشِيرَتُكُمْ) ـ بصيغة المفرد ـ وقرأه أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم ـ جمع عشيرة ـ ووجهه : أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة ، وعن أبي الحسن الأخفش : «إنّما تجمع العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عشيرات» ، وهذه دعوى منه ، والقراءة رواية فهي تدفع دعواه.

والاقتراف : الاكتساب ، وهو مشتقّ من قارف إذا قارب الشيء.

والكساد ، قلّة التبايع وهو ضدّ الرّواج والنّفاق ، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم ، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد.

وجعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد : لأنّ

٥٦

تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف ، فإيثار هذه الأشياء على محبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر ، وإلى القعود عن الجهاد.

والتربّص : الانتظار ، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ. وهو المراد بقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبّة الأقارب والأموال والمساكين ، على محبّة الله ورسوله والجهاد.

والأمر : اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن ، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدّدين كلّ مذهب محتمل ، فأمر الله : يحتمل أن يكون العذاب أو القتل أو نحوهما ، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح.

وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل ، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥))

لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرّجا بإبطال حرمة عهدهم ، لشركهم ، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك : اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين ، وهمّهم بإخراج الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من مكة بعد الفتح ، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم ، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة ، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره ، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.

وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يفيت بعض حظوظ الدنيا ، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه : من تأييد الجامعة ، ومن المغانم ، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها ، وذلك من فضل الله إذ

٥٧

آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية.

وأكّد الكلام ب (لَقَدْ) لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.

و (مَواطِنَ) : جمع موطن ، والموطن أصله مكان التوطّن ، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها ، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.

و (يَوْمَ) معطوف على الجار والمجرور من قوله : (فِي مَواطِنَ) فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو (نَصَرَكُمُ) والتقدير : ونصركم يوم حنين وهو من جملة المواطن ، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياما تقع فيها الحرب ، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن ، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكان علم أنّه موطن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين ، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير : في مواطن كثيرة وأيام كثيرة منها موطن حنين ويوم حنين.

وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب : لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عاد إليهم النصر ، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال ، ففيه مثل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفا في قوله تعالى : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) [التوبة : ٢٤] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر ، فهم لمّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم ، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها ، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بديعا لأنّه تنبيه على خطئهم في الأدب مع الله المناسب لمقامهم أي : ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.

و (حُنَيْنٍ) اسم واد بين مكة والطائف قرب ذي المجاز ، كانت فيه وقعة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا اثني عشر ألفا ، وبين هوازن وثقيف وألفا فهما ، إذ نهضوا لقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمية وغضبا لهزيمة قريش ولفتح مكة ، وكان على هوازن مالك بن عوف ، أخو بني نصر ، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي ، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى اجتمعوا بحنين فقال المسلمون : لن نغلب اليوم من قلّة ، ووثقوا بالنصر لقوّتهم ، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت

٥٨

عتابا إلهيا على نسيانهم التوكّل على الله في النصر ، واعتمادهم على كثرتهم ، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين «لن نغلب من قلّة» ساءه ذلك ، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه ، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلّا كتائب العدوّ وقد شدّت عليهم وقيل : إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم ، وكانت هوازن قوما رماة فاكثبوا المسلمين بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وتفرّقوا في الوادي ، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس عمّه أن يصرخ في الناس : يا أصحاب الشجرة ـ أو السمرة ـ يعني أهل بيعة الرضوان ـ يا معشر المهاجرين ـ يا أصحاب سورة البقرة ـ يعني الأنصار ـ هلمّوا إلي ، فاجتمع إليه مائة ، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتلد الناس ، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الآن حمي الوطيس» فكانت الدائرة على المشركين وهزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسبيت نساؤهم

. فذلك قوله تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم ، بحال من يرى الأرض الواسعة ضيّقة.

فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله : (بِما رَحُبَتْ) استعير (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) استعارة تمثيلية تمثيلا لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره ، بحال من هو في مكان ضيّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه.

فالباء للملابسة ، و (بِما) مصدرية ، والتقدير : ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها : أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم :

ملأت عليه الأرض حتّى كأنّها

من الضيق في عينيه كفة حابل

قال الأعلم «أي من الزعر» هو مأخوذ من قول الآخر :

كأنّ فجاج الأرض وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

٥٩

وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) لم تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنّ الأرض ضاقت عليكم ، ومنهم من أجمل فقال : أي لشدّة الحال وصعوبتها.

وموقع (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) موقع التراخي الرتبي ، أي : وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين.

والتولّي : الرجوع ، و (مُدْبِرِينَ) حال : إمّا مؤكّدة لمعنى (وَلَّيْتُمْ) أو أريد بها إدبار أخص من التولّي ، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب ، ويكون للفرّ في حيل الحروب ، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحا حربيا.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦))

عطف على قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة : ٢٥].

و (ثُمَ) دالّة على التراخي الرتبي فإنّ نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين ، على أنّ التراخي الزمني مراد ؛ تنزيلا لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدّتها ، فإن أزمان الشدّة تخيّل طويلة وإن قصرت.

والسكينة : الثبات واطمئنان النفس وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة البقرة [٢٤٨] ، وتعليقها بإنزال الله ، وإضافتها إلى ضميره : تنويه بشأنها وبركتها ، وإشارة إلى أنّها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدّمات ظاهرة ، وإنّما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أنفا كرامة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإجابة لندائه الناس ، ولذلك قدّم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين.

وإعادة حرف (عَلى) بعد حرف العطف : تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين : فسكينة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر ، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف.

والجنود جمع جند. والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وهو الجماعة المهيّئة

٦٠