تاريخ مدينة دمشق - ج ٧١

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٧١

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٩
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

قال أبو محمد : روى عنه إسماعيل بن عياش ، وروى هو عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سألت أبي عنه : فقال : هو ضعيف الحديث ، ذاهب](١).

حدث البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رجل من الناس :

يا رسول الله ما العاديات ضبحا؟ فأعرض عنه ، ثم رجع إليه من الغد. فقال : ما الموريات قدحا؟ فأعرض عنه ، ثم رجع الثالثة ، فقال : ما المغيرات صبحا؟ فرفع العمامة أو القلنسوة عن رأسه بمخصرته (٢) فوجده مفزعا (٣) رأسه. فقال : «لو وجدته طامّا (٤) رأسه لوضعت الذي فيه عيناه» ففزع الملأ من قوله. فقالوا : يا نبي الله ولم؟ قال : «إنه سيكون أناس من أمتي يضربون القرآن بعضه ببعض ليبطلوه ويتبعون ما تشابه منه ، ويزعمون أن لهم في أمر ربهم سبيلا ولكلّ دين مجوس ، وهم مجوس أمتي وكلاب النار». فكان يقول : هم القدرية [١٤٠٤٠].

وعنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«سمّوا أولادكم فإنهم من أطفالكم» (٥) ـ والمحفوظ : أفراطكم (٦) [١٤٠٤١].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أشربوا أعينكم الماء ولا تنفضوا أيديكم من الماء ، فإنها مراوح الشيطان» [١٤٠٤٢].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي :

«إنك لأول من يقاتل الخوارج ، فلا تتبعن مدبرا ، ولا تجهز على جريح» [١٤٠٤٣].

وعنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) ما بين معكوفتين استدرك عن الجرح والتعديل ١ / ١ / ٤٢٧.

(٢) المخصرة : ما اختصره الإنسان بيده فأمسكه ، من عصا أو مقرعة أو قضيب أو عكازة وما أشبهها.

(٣) الأفرع : كثير الشعر التام.

(٤) الطام : من طم شعره : أي جزه واستأصله.

(٥) أخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز (٦) باب ما جاء في الصلاة على الطفل (٢٦) (حديث رقم ١٥٠٩) برواية : صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم.

(٦) أفراطكم جمع فرط ، وهو من يسبق القوم ليرتاد لهم الماء ويهيئ لهم الدلاء.

٣٤١

«إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا : اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما»](١).

[قال أبو نصر ابن ماكولا](٢) :

[أما البختري أوله باء مفتوحة معجمة بواحدة وخاء معجمة وتاء معجمة باثنتين فوقها فهو : البختري بن عبيد بن سلمان الطابخي ، حدث عن أبيه ، حدث عنه هشام بن عمار](٣).

كان فيه ضعف.

[قال أبو أحمد بن عدي](٤).

[بختري بن عبيد بن سلمان الطابخي : روى عنه الوليد بن مسلم وسليمان بن عبد الرحمن ، وهشام بن عمار ، ومحمد بن أبي السري](٥). وروى عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدر عشرين حديثا عامتها مناكير ، فيها :

«اشربوا أعينكم الماء» ، وفيها «الأذنان من الرأس» (٦).

[٩٧٣٦] بخت نصّر بن بيت بن جوذرز

الملك البابلي. دخل دمشق ومضى منها إلى بيت المقدس فخرّبها وسبى أهلها وحملهم إلى بابل وقيل إنه آمن بعد ذلك.

حدث مجاهد قال :

كان من قصة بخت نصر أنه كان يتيما بأرض بابل لا يؤبه له ، وكان فيما ذكروا من جيش

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في ٨ كتاب الزكاة (٨) باب ما يقال عند إخراج الزكاة (الحديث ١٧٩٧) ١ / ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

(٢) الزيادة منا للإيضاح.

(٣) ما بين معكوفتين استدرك عن الإكمال لابن ماكولا.

(٤) الزيادة منا للإيضاح.

(٥) ما بين معكوفتين استدرك عن الكامل لابن عدي ٢ / ٥٧.

(٦) أخرجه ابن ماجة في (١) كتاب الطهارة وسننها (٥٣) باب الأذنان من الرأس (الحديث ٤٤٥).

[٩٧٣٦] انظر أخباره في تاريخ الطبري (الفهارس) والبداية والنهاية (الفهارس). ومروج الذهب ١ / ٢٣٥ والكامل لابن الأثير ١ / ١٧٥.

٣٤٢

نمرود (١) صاحب إبراهيم ، وكان لزنية ، بغت أمه فكان من شأنه أن دانيال الأكبر (٢) وكان قد قرأ التوراة ذات يوم فأتى على هذه الآية (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٥] قال : فطوى التوراة فقال : يا رب من هذا الذي يكون خراب بيت المقدس على يديه وهلاك بني إسرائيل؟ قال (٣) : فأري في المنام أن يتيما بأرض بابل يقال له بخت نصر عليلا فقيرا قضيت ذلك على يديه فلما أصبح تجهز بمال عظيم ، ثم خرج نحو أرض بابل حتى وردها ، وملكها يومئذ سنحاريب (٤).

فدخل عليه ، فقال : من أنت ومن أين أقبلت؟ قال : أقبلت من أرض بني إسرائيل وحملت معي أموالا أقسمها في فقراء أهل أرضك ويتاماهم. قال : فأنزله وأكرمه ، وجعل يلطف اليتامى والفقراء فيعطيهم ويسأل عن أسمائهم حتى قسم مالا كثيرا فكان لا يظفر ببخت نصّر حتى أعياه ذلك فبعث من يطلبه في قرى بابل ومدائنها فلا يظفر به حتى أيس منه ، فأقام ببابل رجاء أن يظفر به. قال : فخرج غلامه ذات يوم إلى بعض قرى بابل للميرة (٥) ، قال : فمرّ بغلام مريض على طريق الناس قد اتخذ له عريش (٦) ، وقد فرش له الرماد ، به الذّرب (٧) يسيل الماء الأصفر منه ، فلمّا نظر إليه غلام دانيال رأى منظرا فظيعا فقال له : ما حالك يا غلام؟ قال : أنا غلام يتيم قد كنت أكدّ على أمّ لي عجوز حتى أصابني ما ترى فعجزت عني فوضعتني هاهنا يعطف الناس عليّ والمارة فأصيب الشيء والكسرة. فقال له : وما اسمك؟ قال : ما تسأل عن اسمي؟ قال : إنّ مولاي قسم مالا كثيرا في اليتامى والمساكين فكيف غبت عنه؟ قال

__________________

(١) هو نمرود بن كوش بن حام بن نوح ، كان ببابل ، متجبرا ، وهو صاحب إبراهيم خليل الرحمن ، وقد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها ، وكان ملكه وملك قومه بالمشرق قبل ملك فارس. انظر تاريخ الطبري ١ / ١٢٨ و١٣٠ و١٤٢.

(٢) انظر أخباره في البداية والنهاية ٢ / ٤٨.

(٣) انظر أخباره في تاريخ الطبري ١ / ٣١٣ و٣١٤ و٣١٥.

(٤) الخبر في تاريخ الطبري ١ / ٣١٩ بسنده إلى سعيد بن جبير ، ولم يسم الرجل دانيال الأكبر ، إنما ذكر أن رجلا من بني إسرائيل كان يقرأ ، وذكر الخبر. وانظر الكامل لابن الأثير ١ / ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٥) الميرة : بالكسر : الطعام بمناره الإنسان ، والميرة : جلب الطعام للبيع ، وهم يمتاره لأنفسهم ، وأمارهم وامتار لهم : جلب لهم (تاج العروس : مير).

(٦) العريش : خيمة من خشب وثمام وأحيانا تسوّى من جريد النخل ويطرح فوقها الثمام (تاج العروس : عرش).

(٧) ذرب الجرح ذربا فهو ذرب : فسد واتسع ، ولم يقبل البرء والدواء ، وقيل : سال صديدا (تاج العروس ، واللسان : ذرب).

٣٤٣

بخت نصر : هي أرزاق ، قال : فأخبرني عن اسمك حتى أخبره بحالك فيعطيك كما يعطي غيرك ، قال : اسمي بخت نصر. قال : فلما انصرف الغلام إلى سيده فأخبره بما رأى. قال دانيال : هذا بغيتي وأسرّ في نفسه ، وانطلق معه غلامه إليه. فقال له : ما اسمك؟ قال : اسمي بخت نصّر ، وأنا غلام يتيم من أهل بيت شرف ، ولكن انقلب علينا الزمان وأصابتنا الشدة فعجزت أمي عني فألقتني هذا الموضع.

قال : فأمر غلامه فغسله وطيّبه وكساه ، ثم حمله حتى جاء به إلى أمه ، وأجرى عليها حتى برأ وصحّ ، وكان قبل أن ينزل به المرض يخرج مع أتراب له إلى البراري فيحتطب ، فكانوا يؤمّرونه على أنفسهم فيحتطبون له ، ويحملونه فيما بينهم حتى ينتهوا إلى القرية ، فيحتزمون له حزمة فكان يدخلها السوق فيبيعها ، فكان منها معيشته ومعيشة أمه ، فلما صحّ قال له دانيال : يا بخت نصّر هل تعلم أنّي قد أحسنت إليك؟ قال : نعم. قال : فما رأيك إن وصلت إليّ مكافأتي هل أنت مكافيّ؟ قال : يا سيدي هل صنع أحد بأحد إلّا دون ما صنعت بي ، ومن أين أقدر على مكافأتك! قال : أخبرني إن ملكت يوما من الدهر بابل وغزوت بلاد بني إسرائيل فلي الأمان منك ولأهل بيتي؟ قال : نعم. غير أنّي أظن أن هذا منك استهزاء! قال دانيال : لا بل هو الجدّ مني. قالت أمه : يا سيدي ، إن كان الذي تقول حقا فأنت الملك وهو تبع لك ، فقال دانيال : أتكتب لي كتابا أمانا لي ولأهل بيتي يكون كتابك علامة بيني وبينك وبين أهل بيتي وأعطيك عشرين ألف درهم؟ قال : نعم.

قال : فكتب له بخت نصّر كتابا أمانا بخط يده ولأهل بيته ، وجهز بالذهب ، وأعطاه دانيال عشرين ألف درهم ، ثم ودّع الملك ولحق ببلاده ، فعمد بخت نصّر ففرّق تلك الدراهم في الغلمة الذين كان يترأس عليهم ، فكساهم واشترى لهم الدوابّ ، وكان ظريفا كاتبا أديبا ، فانطلق إلى سنحاريب (١) الملك ، فانتسب له ولزم بابه في أصحابه ، فكان يوجّهه في أموره وكان مظفّرا حتى بدا لسنحاريب أن يغزو بيت المقدس ، فبعث جواسيسه يأتونه بخبر الأرض ، فانطلق بخت نصّر فركب حمارا ثم جاء حتى دخل على الملك ، فقال : أيها الملك إنك تبعث عيونا إلى أرض بني إسرائيل فأحبّ أن أنطلق أنا بنفسي ، فإني أنا أعلم منهم بالأمر الذي تدرك به حاجتك. قال له الملك : ألا أعلمتني فكنت أستعملك عليهم ، ولكن امضه. فمضى حتى

__________________

(١) الذي في تاريخ الطبري : صيحون ، ملك فارس ببابل.

٣٤٤

وردها ، فكان أصحابه يسألون عن الحصون وعن العدة والرجال والمدخل والمخرج وكان بخت نصّر يسأل بقوله : هل فيكم اليوم أنبياء وكتب تقرءونها؟ قالوا : نعم.

قال : أفتطيعون أنبياءكم؟ قالوا : لا. قال : أفتقيمون كتبكم؟ قالوا : لا. قال : فانصرف ، وانصرف أصحابه ، فأعلموا الملك ما عاينوا. وقال بخت نصّر : أيها الملك إنّ فيهم أنبياء لا يطيعونهم وكتبا لا يقيمونها فإن نصرت فبهذا. قال سنحاريب : إنه ليس للقوم بنا يدان ، وسأغزوهم بجنود لا قبل لهم بها ، وكان من قصته ما كان.

يروى أن بخت نصّر دخل الشام ومصر في ست مائة ألف وهو راكب على أسد أحمر متعمّم بثعبان ، متقلّدا سيفا طوله عشرة أشبار في عرض شبر (١) ، أخضر النّصل (٢) ، يقطر منه الماء شبه الشّرر ، غمده (٣) من ذهب مرصّع بصنوف الجوهر والياقوت الأحمر ، منقوش عليه هذه الأبيات :

وأنت إن لم ترج أو تتّقي

كالميت محمولا على نعشه

لا تنجش الشرّ فتصلى به

فقلّ من يسلم من نجشه (٤)

وأخمد الشّرّ فإن هجته

فاحرص لأعدائك في جشّه (٥)

للبحر أقراش لها صولة

فاحذر على نفسك من قرشه (٦)

إذا طغى الكبش بشحم الكلى

أدخل رأس الكبش في كرشه

وناطح الكبش له ساعة

تأخذه أنطح من كبشه

فكم نجا من يد أعدائه

وميّت مات على فرشه

__________________

(١) الشبر : بالكسر ، ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر ، ج أشبار (تاج العروس : شبر).

(٢) النصل : حديدة السهم والرمح ، وقيل هو حديدة السيف ما لم يكن له مقبض. وقيل : السهم العريض الطويل يكون قريبا من فتر (تاج العروس : نصل).

(٣) الغمد بالكسر جفن السيف. (تاج العروس : غمد).

(٤) النجش في الأصل : البحث عن الشيء واستثارته ، والنجش : الاستخراج ، والنجش : الإسراع. (تاج العروس : نجش).

(٥) جشه يجشه جشّا : دقه وكسره ، وقيل : طحنه طحنا غليظا جريشا (تاج العروس : جشش).

(٦) القرش دابة بحرية تخافها دواب البحر كلها ، وقيل : إنها سيدة الدواب ، إذا دنت وقفت الدواب ، وإذا مشت مشت. (تاج العروس : قرش).

٣٤٥

من يفتح القفل بمفتاحه

نجا من التّهمة في فشّه (١)

ونابش الموتى له ساعة

تأخذه أنبش من نبشه

والبغي صرّاع له صولة

تستنزل الجبّار عن عرشه

قال ابن المبارك :

رئي لقمان يعدو خلف بخت نصّر فراسخ ، فقيل له : يا وليّ الله تعدو خلف هذا الكافر؟ قال : لعلّي أسأله في مؤمن فيجيبني فيه.

[قال إسحاق بن بشر : قال وهب بن منية](٢) :

لما فعل بخت نصّر ما فعل ـ يعني ما ذكر في ترجمة إرميا (٣) ـ قيل له : كان لهم صاحب يحذّرهم ما أصابهم ، ويصفك وخبرك لهم ، ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم ، وتسبي ذراريهم ، وتهدم مساجدهم ، وتحرق كنائسهم ، فكذّبوه ، واتهموه ، فضربوه ، وقيّدوه ، وحبسوه ، فأمر بخت نصّر فأخرج إرميا من السجن ، فقال له : أكنت تحذّر هؤلاء القوم ما أصابهم؟

قال : نعم. قال : فأنّى علمت ذلك؟ قال : أرسلني الله تعالى إليهم فكذّبوني. قال : كذّبوك وضربوك وسجنوك! قال : نعم. قال : بئس القوم قوم كذّبوا نبيّهم ، وكذّبوا رسالة ربّهم ، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك ، وأواسيك ، وإن أحببت أنك تقيم في بلادك فقد أمّنتك. قال له إرميا : إنّي لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قطّ ، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك لو لم يكن لك عليهم سلطان.

فلما سمع بخت نصّر قوله تركه. فأقام إرميا بأرض إيليا (٤) ، وأخرج أهل بيت دانيال الأكبر كتاب أمان بخت نصّر فأمضاه لهم ، وأخرج بهم معه فكانوا خمسة أنفس : دانيال بن

__________________

(١) الفش : النميمة. والفش : الأحمق. (تاج العروس : فشش).

(٢) الخبر رواه ابن كثير في البداية والنهاية ١ / ٤٩٠ (ط دار الفكر) ، والزيادة بين معكوفتين عن البداية والنهاية. وتقدم الخبر أيضا في ترجمة إرميا ٨ / ٤١.

(٣) تقدمت ترجمته في ٨ / ٢٧ رقم ٥٨٩.

(٤) إيلياء : بكسر أوله واللام وياء وألف ممدودة ، اسم مدينة بيت المقدس ، وحكي فيها القصر ، وحكي فيها حذف الياء الأولى : إلياء بسكون اللام والمد (معجم البلدان).

٣٤٦

حزقيل وميشائيل (١) ، وميخائيل ، وعيصو ، وحربيوس (٢) ، ويقال : كان عزير (٣) معهم ، وعزرائيل. والله أعلم. وكانوا شبابا لم يبلغوا الحلم ، دانيال بن حزقيل كان أعطاه الله الحكمة ، وكان عبدا صالحا كريما على الله عزوجل.

وقال ابن عباس :

إنه مزّق كتاب دانيال فنشأ هؤلاء الغلمة فكانوا وصفاء وكان أكبرهم دانيال ، وهو دانيال الحكيم الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من أرض بابل فعمد بخت نصّر ـ حين سمع كلام دانيال وحكمته (٤) ونظر إليه ـ إلى جبّ في فلاة من الأرض ، فألقى فيه دانيال مع شبلين ، وأطبق عليه الجبّ وهو مغلول ، وقتل على دم يحيى بن زكريا سبعين ألف ، وذلك أنّ ما بعث الله تعالى بخت نصّر عليهم عقوبة لهم بما قتلوا يحيى وزكريا ؛ وذلك أنه مرّ بالموضع الذي قتل فيه يحيى وزكريا ، فرأى دماءهما تغلي ، فسأل عن ذلك؟ فقالوا : هي دماء نبيّين ، ولا تسكن حتى يقتل فبكل واحد منهما سبعون ألفا ، فلما قتل بخت نصّر على دمائهما هذه العدّة سكنت تلك الدّماء (٥).

قال ابن عباس :

لم يقتل كهلا ولا وليدا ولا امرأة ، إنما قتل أبناء الحرب وقادة الجيوش حتى استكمل هذه العدّة ، ودانيال في الجبّ مع الشّبلين سبعة أيام ، فأوحى الله إلى نبيّ من بني إسرائيل كان بالشام (٦) ، فقال : انطلق فاستخرج دانيال من الجبّ ، فقال : يا رب! ومن يدلّني عليه؟ فقال : هو في موضع كذا وكذا يدلّك عليه مركبك ، فركب أتانا له وخرج حتى انتهى إلى ذلك الموضع ، فدارت به حمارته ثلاث مرات في أرض ملساء ، فعرف أن بغيته فيها ، فقال : يا صاحب الجبّ ، فأجابه دانيال ، فقال : قد أسمعت فما تريد؟ قال : أنا رسول الله إليك

__________________

(١) كذا في مختصر ابن منظور وتاريخ الطبري ، والذي في ترجمة إرميا المتقدمة : بنشائيل.

(٢) كذا رسمها في مختصر ابن منظور ، ولم أحله ، والذي في تاريخ الطبري : دانيال وحنانيا وعزاريا ، وميشايل.

(٣) كذا ، وفي تاريخ الطبري : «عزاريا» وفي البداية والنهاية : عزير ، وهو عزير بن جروة.

ونقل ابن كثير في البداية والنهاية ٢ / ٥٢ بسنده عن ابن عباس أن عزيرا كان ممن سباه بختنصر وهو غلام حدث.

(٤) وكان المجوس قد حسدوهم ، فوشوا بهم إلى بختنصر وقالوا له : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون من ذبيحتك وأن لهم ربا يعبدونه. انظر تاريخ الطبري ١ / ٣٤٧.

(٥) انظر البداية والنهاية ٢ / ٦٥ (ط دار الفكر) وتاريخ الطبري ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٦) هو إرميا ، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ١ / ٤٩١ ، ٤٩٢ (ط دار الفكر).

٣٤٧

لأستخرجك من هذا الموضع ، فقال دانيال : الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، الحمد لله الذي لا يكل من توكّل عليه إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا ، والحمد لله الذي يجزي بالإساءة غفرانا ، والحمد لله الذي يكشف ضرّنا عن كربنا (١) ، ثم استخرجه ، وإن الشّبلين لعن يمينه وعن شماله يمشيان معه ، وإن ذلك النّبي لفي ناحية يفرق منهما ، حتى عزم عليهما دانيال أن يرجعا إلى الغيضة (٢).

قال ابن عباس :

من قال عند كل سبع : اللهم ربّ دانيال ورب الجبّ ، وربّ كلّ أسد مستأسد ، احفظني واحفظ عليّ ، لم يضره سبع.

وحدث قتادة عن كعب :

أن بخت نصّر انطلق بدانيال معه إلى أرض بابل يصدر عن رأيه ، حتى قيل له : إنه مخالف لك ولا يأكل لحم الخنزير. قال : فدعاه إلى طعامه فأبى أن يأكله ، فسجنه في السجن حتى رأى رؤياه التي قطع بها على ما سنذكره.

وحدّث وهب :

أن بخت نصّر سار ببني إسرائيل وكنوز بيت المقدس إلى أرض بابل ، فأقام إرميا بأرض إيلياء وهي خراب ، فكان يبكي وينوح على بيت المقدس ، وكان يساعده عليه الخطّاف (٣) ـ فيطوف حوله ، فمن ثمّ نهي عن قتله ، وكانت بقايا من بني إسرائيل متفرقين بلغهم أمر إرميا ومقامه بإيلياء ، فاجتمعوا إليه ، فقالوا : قد عرفنا الآن أنك نصحتنا ، ولو أطعناك لم يصبنا ما أصابنا فمرنا بأمرك. فقال لهم : أقيموا في أرضنا فنستغفر الله ونتوب إليه لعله يتوب علينا ، فقالوا : إنا نخاف أن يسمع بنا بخت نصّر ، فيبعث إلينا من يتخطّفنا ، ونحن شرذمة قليلون ،

__________________

(١) في البداية والنهاية : الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، والحمد لله الذي يجيب من رجاه ، والحمد لله الذي من وثق به لا يكله إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا ، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة ، والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا ، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا ، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ينقطع الحيل عنا.

(٢) الغيضة : بالفتح ، الأجمة ، ومجتمع الشجر في مغيض ماء (القاموس المحيط).

(٣) الخطاف : كرمان ، طائر أسود ، قال ابن سيده : هو العصفور الذي تدعوه العامة : عصفور الجنة (تاج العروس : خطف).

٣٤٨

ولكن ننطلق إلى ملك مصر (١) ، فنستجيره ، وندخل في ذمته. فقال إرميا : ذمّة الله أوفى الذّمم لكم ، وإنكم لا يسعكم أمان أحد في الأرض إن أخافكم الله ، وإن أمان الله هو أوسع لكم. قالوا : إن الأمر كما تقول ، لو كان الله راضيا عنا ، ولكن الله ساخط علينا ، ولسنا نأمن سطوته أن يسلمنا إلى عدوّنا ، فانطلقوا إلى ملك مصر. فأوحى الله إلى إرميا أنهم لو أطاعوا أمرك ثم كنت أطبقت عليهم السماء والأرض ، لجعلت لهم من بينهما مخرجا ، وما كنت لأخفرك لو أطاعوك ، وإنّي لأقسم بعزّتي لأعلمنّهم أنه ليس لهم ملجأ ولا محيص إلّا طاعتي ، واتّباع أمري ، فلما وردوا على ملك مصر شكوا إليه شأنهم. فقال : أنتم في ذمّتي وجواري ، فسمع بذلك بخت نصّر ، فأرسل إلى ملك مصر أن لي قبلك عبيدا أبقوا (٢) مني ، فابعث بهم إليّ مصفّدين وإلّا فأذن بحرب ، فكتب إليه ملك مصر : إنك كاذب ما هم بعبيد. إنهم أبناء الأحرار ، وأهل النبوّة والكتاب ، ولكنك ظلمتهم واعتديت ، فلما سمع بذلك إرميا رحمهم ، فبادر إليهم ليشهدهم. فأوحى الله إليه : إني مظهر بخت نصّر على هذا الملك الذي اتخذوه حرزا (٣). فقال لهم ذلك إرميا ، فإن لم تطيعوني أسركم بخت نصّر وقتلكم ، فإنّ آية ذلك أن الله قد أراني موضع سرير بخت نصّر الذي يضعه فيه بعد ما يظفر بمصر وملكها ، ثم عمد فدفن أربعة أحجار في الموضع الذي يضع بخت نصّر فيه سريره ، ثم قال : تقع كلّ قائمة من سريره على حجر منها. قال : فلجّوا في رأيهم ، فسار بخت نصّر ، فأسر الملك (٤) وبني إسرائيل ، وقتل جنوده ، وقسم الفيء ، وأراد قتل الأسارى وقد وضع سريره في ذلك الموضع ، فوقعت كلّ قائمة منه على حجر من تلك الأحجار التي دفن إرميا. فقال له بخت نصّر : ألا أراك مع أعدائي بعد أن أمّنتك وأكرمتك؟! قال له إرميا : إنما جئتهم محذّرا أخبرتهم خبرك ، وقد وضعت لهم علامة من تحت سريرك ، وأ يتهم هذا المكان الذي يوضع فيه سريرك ، فإنّ تحت كل قائمة حجرا دفنته ، فلما رفع سريره وجد مصداق ما قال ، فقال لإرميا : لو أعلم أن فيهم خيرا لوهبتهم لك ، وما بي إلى قتلهم من حاجة ، ولكن أقتلهم غضبا

__________________

(١) انظر الخبر في تاريخ الطبري ١ / ٣١٦ والبداية والنهاية ١ / ٤٩٠ ، ٤٩١ (ط دار الفكر).

(٢) أبق العبد أبقا ذهب بلا خوف ولا كدّ عمل. وأبق العبد : إذا استخفى ثم ذهب ، فهو آبق (تاج العروس : أبق).

(٣) الحرز : بالكسر ، العوذة ، والموضع الحصين ، وحرزه : حفظه (تاج العروس : حرز).

(٤) كذا جاء في مختصر ابن منظور ، والذي في تاريخ الطبري أن بختنصر غزا ملك مصر وقتله ١ / ٣١٦ ، وفي البداية والنهاية ١ / ٤٩١ قاتله وقهره وغلبه.

٣٤٩

لك إذ كذبوك ، واتهموا نصيحتك ، فقتلهم ثم لحق بأرض بابل ، فأقام إرميا بمصر ، واتخذ بها جنينة وزرعا يعيش منه. فأوحى الله تعالى إليه : إن لك عن الزرع والمقام بأرض مصر شغلا ، فكيف تسعك أرض وأنت تعلم سخطي على قومك ولا يحزنك هذا البلاء الذي يصبّ على إيلياء وأهلها ، فالحق بها حتى يلغ كتابي أجله ، فإنّي رادّ بني إسرائيل تارة أخرى إلى الأرض المقدسة ، ومستنقذهم من عدوهم وناظر كيف يعملون. فخرج أرميا مذعورا حتى أتى بيت المقدس ، فأوحى الله إليه : سأعمره وأرفعه ، وإني باعث ملكا يقال له كورش (١) من أرض فاقرس ، حتى ينزل بقومه ورجاله حتى يعمرها ، ويبني قصورها ومساجدها ، ويكشف عن أنهارها ، ويغرس أعنابها ونخلها وزيتونها ، فتوجه كورش إليها في جمع له ومعه ثلاثون ألف قيّم يستعملون الناس ، كل قيّم على ألف عامل ومعهم ما يحتاجون إليه ، ولما رأى إرميا عمارتها سأل ربه أن يقبضه إليه ، فمات إرميا ، وأنقذ الله بني إسرائيل ، بعد مائة سنة ، من أرض بابل على يدي دانيال.

وقال كعب :

كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل أن بخت نصّر لما من بيت المقدس بالأسارى ، وفيهم دانيال وعزير وأربعة وصفاء غلمان لم يبلغوا الحلم غير دانيال ، واتخذ بني إسرائيل خولا (٢) زمانا طويلا ، وإنه رأى رؤيا فزع منها ، فدعا كهنته وسحرته ، فأخبرهم بما أصابه من الكرب بما في رؤياه ، وسألهم أن يعبروها (٣) له ، فقالوا له : قصّها علينا. قال : قد أنسيتها فأخبروني بتأويلها. فقالوا : إنا لا نقدر على أن نخبرك بتأويلها حتى تقصها علينا ، فغضب ، وقال لهم : اخترتكم واصطفيتكم لمثل هذا ، اذهبوا فقد أجّلتكم ثلاثة أيام ، فإنّ أتيتموني بتأويلها وإلّا قتلتكم ، وشاع ذلك في الناس ، فبلغ دانيال وهو مسجون. فقال لصاحب السجن وهو إليه محسن : هل لك أن تذكرني للملك فإن عندي علم رؤياه. وإنّي لأرجو أن تنال بذلك عنده منزلة تكون سبب عاقبتي. قال له صاحب السجن : إنّي أخاف عليك سطوة الملك ، لعل غمّ السجن حملك على أن تتروّح (٤) بما ليس عندك فيه علم ، مع

__________________

(١) في تاريخ الطبري ١ / ٣١٩ كيرش ابن أخشويرش.

(٢) الخول : النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الحاشية (القاموس).

(٣) عبر الرؤيا يعبرها عبرا ، وعبّرها تعبيرا : فسّرها وأخبر بما يؤول. (تاج العروس : عبر).

(٤) يقال : تروح الماء إذا أخذ ريح غيره لقربه منه (تاج العروس : روح).

٣٥٠

أني أظن إن كان أحد عنده من هذه الرؤيا علم فأنت هو. قال دانيال : لا تخف عليّ ، فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي ، فانطلق صاحب السجن ، فأخبر بخت نصّر بذلك ، فدعا دانيال ، فأدخل عليه (١) ، ولا يدخل عليه أحد إلّا سجد له ، فوقف دانيال فلم يسجد له ، فقال الملك لمن في البيت : اخرجوا ، فخرجوا ، فقال بخت نصّر لدانيال : أخبرني عما يمنعك أن تسجد لي ، قال دانيال : إن لي ربا آتاني هذا العلم الذي سمعت به على أن لا أسجد لغيره ، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني العلم ، ثم أصير في يديك أميّا لا ينتفع بي ، فتقتلني ، فرأيت بترك سجدة أهون من القتل ، وخطر سجدة أهون من الكرب والبلاء الذي أنت فيه ، فتركت السجود نظرا لي ولك ، فقال بخت نصّر : لم يكن قطّ أوثق في نفسي منك حين وفيت لإلهك ، وأعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود ، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت؟ قال : نعم. عندي علمها وتفسيرها. رأيت صنما (٢) عظيما رجلاه في الأرض ورأسه في السماء. أعلاه من ذهب ، ووسطه من فضة ، وسفله من نحاس ، وساقاه من حديد ، ورجلاه من فخار (٣) ، فبينا كنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه ، وإحكام صنعته ، قذفه الله حتى طحنه (٤) ، فاختلط ذهبه ، وفضته ، ونحاسه ، وحديده ، وفخّاره ، حتى يخيل لك أنه لو اجتمع جميع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ، ولو هبّت ريح لأذرته ، ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم ، ويكبر حتى ملأ الأرض كلها ، فصرت لا ترى إلّا السماء والحجر ، قال له بخت نصّر : صدقت هذه الرؤيا فما تأويلها؟ فقال دانيال : أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره ، وأما الذهب فهذا الزمان وهذه الأمة التي أنت فيها ، وأنت ملكها ، وأما الفضة ، ابنك من بعدها تملّكها ، وأما النحاس فأما الروم ، وأما الحديد ففارس ، وأما الفخّار فأمتان تملكها امرأتان ، إحداهما في مشرق اليمن ، والأخرى في غربي الشام ، وأما الحجر الذي قذف به الصنم ، فدين يقذف الله به هذه

__________________

(١) الذي في تاريخ الطبري ١ / ٣٢٤ أن بختنصر دعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشايل من ذراري الأنبياء ، وسألهم أن يعبروا له الرؤيا التي أربها وأنسيها.

(٢) في تاريخ الطبري : تمثالا.

(٣) في تاريخ الطبري : قدماه وساقاه من فخار ، وركبتاه وفخذاه من نحاس ، وبطنه من فضة ، وصدره من ذهب ، ورأسه وعنقه من حديد.

(٤) في تاريخ الطبري : أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته.

٣٥١

الأمم في آخر الزمان ليظهره عليها ، يبعث الله نبيا أمّيا من العرب ، فيدوّخ الله به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوّخ أصناف الصنم ، ويظهره على الأديان والأمم ، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى ملأها ، فيحق الله به الحق ، ويزهق به الباطل ، ويهدي به أهل الضلال ، ويعلّم به الأميين ، ويقوّي به الضّعفة ، ويعز به الأذلّة ، وينصر به المستضعفين ، قال له بخت نصّر : ما أعلم أحدا استعنت به منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك ، ولا لأحد عندي يد أعظم من يدك ، وأنا جازيك بإحسانك ، فاختر من ثلاث خلال أعرضهن عليك : واحدة إن أحببت أن أردّك إلى بلادك وأعمر لك كل شيء خرّبته ، وإن أحببت كتبت لك أمانا تأمن به حيث ما سلكت ، وإن أحببت أن تقيم معي ، فأواسيك. قال : أما قولك : تردّني إلى بلادي وتعمر لي ما خربت ؛ فإنها أرض كتب الله عليها الخراب وعلى أهلها الفناء إلى أجل معلوم ، وليس تقدر على أن تعمر ما خرب الله عزوجل ، ولا تردّ أجلا أجّله الله حتى يبلغ الكتاب أجله ، وينقضي هذا البلاء الذي كتب الله على إيلياء وأهلها ، وأما قولك : إنك تكتب لي أمانا آمن به حيث ما توجهت ؛ فإنه لا ينبغي أن أطلب مع أمان الله أمان مخلوق ، وأما ما ذكرت من مواساتك ؛ فإن ذلك أوفق لي يومي هذا حتى يقضي الله فينا قضاءه ، فجمع بخت نصّر ولده وحشمه وأهل العلم والرأي ، فقال لهم : هذا رجل حكيم قد فرّج الله عني الكرب الذي عجزت عنه به ، وإنّي قد رأيت أن أوليه أمركم ، فخذوا من أدبه وحكمته ، وأعظموا حقه ، فإن جاءكم رسولان أحدهما مني والآخر من دانيال ، فآثروا حاجته على حاجتي ، ونزل منه دانيال بأفضل المنازل ، وجعل تدبير ملكه إليه ، فلما رأى ذلك عظماء أهل بابل حسدوا دانيال ، واجتمعوا إلى بخت نصّر ، فقالوا له : لم يكن على الأرض ملك أعزّ من ملكنا ولا أعظم ، ولا قوم أهيب في صدور أهل الأرض منا حتى دانت لنا الأرض ، واعترفت لنا الأمم ، فليس يطمع فينا أحد ، وإنا نخبرك أن الأمم قد طمعوا فينا منذ قلّدت أمر ملكك هذا العبد الإسرائيلي ، وإنك لم تفعل هذا حتى أنكرت عقلك ورأيك ، وعجزت عن السياسة ، وقد نصحناك ، فقال لهم بخت نصّر : ما أنكرت عقلي ولا رأيي ، ولا تزيدني الأيام إلّا تجربة وعلما ، ولكنه كان نزل بي ما رأيتم ، فعجز عنه رأيي ، وعجزتم أنتم ، ففرّج عني ، فما ذا تنقمون أن عمدت إلى أحكم أهل الأرض فاستعنت به مع رأيي ، وكلّ ذلك أريد به صلاح أمركم وقوام ملككم؟ قالوا : فإن كان كما تقول ، أفليس يخبرك أن له ربا عظيما هو الذي يدبّر له أمره ويطلعه على الغيب؟ قال بخت نصّر : بلى ، يزعم أنّ له ربا لولاه لم يك شيئا ، ولا يعلم شيئا. قالوا له : هذا العبد الضعيف قدر على أن يتخذ إلها يخبره بما شاء ،

٣٥٢

فكيف لا تقدر أنت في مثل خطرك وعظم ما أوتيت من الملك على أن تتخذ إلها ، فيخبرك بحاجتك ويكفيك ما أهمّك ، وتستغني به عن الناس ، ونحن لك على ذلك مؤازرون؟ قال بخت نصّر : فأنتم وذاك. قالوا : فأعطنا الطاعة والسلطان حتى نفرغ مما تريد ، ففعل بهم ذلك ، فعلموا صنما طوله في السماء سبعون ذرعا وعرضه عشرون ذراعا من الألواح ثم دسروه (١) بالحديد والمسامير ، وألبسوه الذهب ، وكلّلوه بالياقوت وألوان الجوهر ، ثم صنعوا له عيدا عظيما ، وذبحوا له الذبائح ، وواعدوا الناس لذلك اليوم يجتمعون فيه ، فيعبدون ذلك الصنم ويسجدون له ، واتخذوا أخدودا في الأرض ، فأوقدوا فيها نارا عظيمة ، وهم أصحاب الأخدود ، وكانت الأخدود باليمن وببابل ، فأما الذي كان باليمن فاتخذه يوسف ذو نواس الحميري (٢) ، وهو الذي ملك حمير ، وكان صاحب عنفصير (٣) ، وهو الذي قتل الناس وأحرقهم بالنار ليدعوا الإسلام (٤).

وكانت الأخدود الأخرى ببابل اتخذها بخت نصر ، فلما اجتمع الناس يوم عيدهم ، أمروهم بالسجود لذلك الصنم فسجدوا ، فمن أبي حرّقوه في تلك الأخدود ، وكان بخت نصّر سبى من إيلياء سبعين ألف غلام ، فقسمهم في ملوك بابل ، ما خلا دانيال وميشائيل وميخائيل وعيصو ومرنيوس (٥) فأقاموا بذلك زمانا يستخدمونهم حتى أدرك الوصفاء ، فأنكر أهل بابل شأنهم ، فقالوا لبخت نصّر : إنا أنكرنا شأننا منذ أدرك عبيدنا ، فإنا نحب أن تنفيهم منا فتخرجهم عنا ، أو تأذن لنا فنقتلهم. فقال لهم : أنتم وذاك. قال : فقتلوهم جميعا ، وبقي هؤلاء العدّة التي في يدي الملك (٦) ، فكانوا يدعون الله ويقولون : يا رب قد عذبت آباءنا

__________________

(١) دسر : يقال دسرت المسمار أدسره دسرا ، وكل ما سمّر فقد دسر ، والدسر إصلاح السفينة بالدسار ، اسم للمسمار (تاج العروس : دسر).

(٢) ذو نواس الحميري كان يهوديا ، وقد ملك اليمن ، وكان أهل نجران على دين عبد الله بن التامر ، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه ، وقد سار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم وجمعهم ودعاهم إلى اليهودية فخيّرهم بين القتل أو الدخول فيها ، فاختاروا القتل ، فخدّ لهم الأخدود ، فحرّق بالنار وقتل بالسيف ، ومثل بهم كل مثلة ، حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا.

راجع أخباره في تاريخ الطبري ١ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦.

(٣) كذا في مختصر ابن منظور ، ولم أحله.

(٤) كذا.

(٥) كذا ورد هنا في مختصر ابن منظور ، وتقدم قريبا : «حرسوس» وكلاهما لم نقف عليه.

(٦) سماهم الطبري في تاريخه ١ / ٣٢٤ دانيال وحنانيا وعزاريا وميشايل.

٣٥٣

بذنوبهم فما بالنا؟! فأوحى الله إلى دانيال : إنّي مخلّصهم ، فعطف عليهم بخت نصّر فلم يقتلهم ، فلما أخرجوا صنمهم ليوم عيدهم ، دعوا هؤلاء العدّة من بني إسرائيل ، فقالوا لهم : اسجدوا لآلهتنا ، فقالوا : إنّ هذا ليس بإله نسجد له ، إنما هو خشب عملته الرجال ، فإن شئتم سجدنا للذي خلقه فاغتنموا خلافهم ليحرقوهم وليغيظوا بهم دانيال ، فكتفوهم ثم رموا بهم في تلك النار فباتوا فيها حتى أصبحوا ، فاطّلع بخت نصّر عليهم من قصره ، فرأى فيها خمسة نفر في النار ، ورأى خامسهم خلقا عظيما له ريش ، فرأى النار قد عادت جليدا ، وإذا صاحب الريش يكنفهم ويلحفهم بريشه من برد الجليد ، فلما نظر بخت نصّر إلى ذلك امتلأ رعبا ، فدعا قومه فقال : كم كنتم ألقيتم في النار؟ قالوا : أربعة. قال : فإنّ معهم خامسا له ريش وهيبة وجسم لا يقدر قدرها. قالوا : ليس لنا به علم ، فدعا دانيال ، فسأله. فقال : هؤلاء الأربعة أعرفهم فمن الخامس صاحب الريش؟ قال دانيال : الخامس الذي وكله الله بالظّل والبرد والثلج والجليد ، وهذه الخزائن بيده ، فأرسله إلى هؤلاء الفتية حتى صيّر النار جليدا حتى لا يضرّهم برد الجليد. وقيل : إن دانيال قال لبخت نصّر لما سأله عن الخامس ، قال : ذاك جبريل بعثه الله إليهم يروّح عنهم ويؤنسهم ، وقيل : إن بخت نصّر قال لدانيال : ألا أعلمتني حين عرض لهم فأحول بينهم وبين ما صنعوا بهم! قال دانيال : حملني على ذلك الرفق بك لما أدخل عليك أهل مملكتك ووثقت لهم بنصر الله ، وأن الله لم يخذلهم ، وأردت أن يرى قومك عزة الله وسلطانه وكيف يعزّ أولياءه ، فأمر بهم فأخرجوا من النار.

قال وهب : لما وقفوا بين يدي بخت نصّر قال : كيف بتّم البارحة؟ قالوا : بأفضل ليلة مرت علينا منذ خلقنا ، قال بخت نصّر : وهي أفضل من لياليكم في بلادكم؟ قالوا له : سبحان الله ومتى كنا نطمع في بلادنا ملائكة الرحمن أن يلحفونا بالريش ، ويردون عنا أذى البرد ، ويستغفرون لنا ، ويصافحونا! فأمرهم أن يلحقوا بدانيال فأكرمهم ، فلم يزالوا حتى أتى على ذلك ثلاث سنين ، ثم إن بخت نصّر رأى رؤيا أهول وأعظم مما كان رأى ، فأرسل إلى عظماء قومه ، فقال لهم : إني قد رأيت في مضجعي هذا ولم أتحوّل عنه رؤيا فيما يخيّل إليّ أشدّ من الأولى ، وخشيت أن يكون فيها هلاكي وهلاككم ، وذهاب ملككم وقد نسيتها فما ترون؟ فجعلوا علة عجزهم دانيال ، فقالوا : إنك عمدت إلى أسحر العالمين فوضعته عند رأسك ، فهو يفزعك بسحره ، ويريك الأحلام لينال منك المنزلة والكرامة ، فشأنك وشأنه ، وقد عمّرت قبله زمانا لا ترى شيئا تكرهه. وأنت مستغن برأيك ، فأدخلت على نفسك هذا البلاء ، فقال لهم بخت نصّر : أما عندكم غير هذا؟ قالوا : لا. قال : اخرجوا عني ، ثم دعا دانيال ، فقال :

٣٥٤

إنّي قد رأيت في مضجعي هذا ولم أتحوّل عنه رؤيا قد نسيتها هي عندي أعظم من الأولى فهل عندك علمها؟ قال : نعم. قال : إذا فاقصصها عليّ ، قال دانيال : رأيت شجرة عظيمة أصلها ثابت وفرعها ذاهب في السماء ، في فرعها طير السماء كلّه ، وفي ظلّها وحوش الأرض وسباعها كلّها ، فبينا أنت تنظر إليها ، وقد أعجبك حسنها وعظمها وخضرتها ، والذي جمع الله في فرعها من الطير ، وفي ظلها من الوحوش ؛ إذ أقبل ملك يحمل حديدا كأنه الفأس على عاتقه ، وهو يؤمّ الشجرة ؛ إذ ناداه ملك من فوقه من باب من أبواب السماء فقال له : ما أمرك ربك في هذه الشجرة؟ قال : أمرني أن لا أدع منها شيئا ، فناداه الملك من فوقه : إنّ الله يأمرك أن لا تستأصلها من أصلها خذ بعضها وأبق بعضها ، فنظرت إلى الملك قد ضرب رأسها بالفأس فانقطع منها بعض أغصانها ، وتفرّق ما كان فيها من الطير ، وما كان في ظلّها من السباع ، وبقي الجذع متغيّرا قد تغيّر حسنه وخضرته لا هيئة له. قال بخت نصّر : هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها؟ قال دانيال : أنت الشجرة ، وما رأيت في رأسها من الطير فولدك وأهلك وحشمك ، وما رأيت في ظلّها من السباع والوحوش فخولك وعبيدك ورعيّتك ، كانوا في ظلّك وملكك ، وقد أغضبت الله فيما بايعت هؤلاء عليه من عمل هذا الصنم ، فإنهم لن يأتوا بمثل الله أبدا ، فذكر الله بك عند ما أراد من هلاكك فصفح عنك ، ثم رأيت الملك وقد همّ أن يستأصل الشجرة من أصلها ، فناداه الآخر من فوقه أن يأخذ منها ويبقي منها ، وكذلك يصنع الله بك يأخذ منك ويبقي. قال بخت نصّر : وكيف يفعل بي؟ قال : يبتليك ببدنك ، يعرّفك به قدرته ، فلا يدع صورة مما خلق وأخرى فيها الروح إلّا مسخك فيها ، فلبثت في ذلك البلاء سبع سنين ، ولو شاء أن يجعل ذلك في أوشك من طرفة عين لفعل ، ولكن ليطول عليك البلاء ويعرفك أنه ليس لك من دونه وال ، ولا يملك لك أحد معه شيئا ، ثم لا يحوّلك في صورة من تلك الصور إلّا كنت ملك ذلك الجنس وتعلوه وتقهره ، فإذا انقضت السبع سنين رجعت إنسانا كما كنت أول مرة ، فقال بخت نصّر : فهل يقبل ربك مني توبة أو فدية أو رجعة؟ فقال : لا ، حتى يعرّفك قدرته وينفذ قضاءه فيك. قال : فلما قال هذا اعتزل ملكه وأهله ووكّل ابنه ، وأمره أن يكون السائس دانيال ، وأغلق عليه أبوابه وقعد يبكي على نفسه ، فمكث في البكاء سبعة أيام ، فلما غمّه البكاء ظهر فوق بيته يتروّح من غمّ ما هو فيه ، فساعة ظهر أنبت الله له ريشا وزغبا ، وجعل له مخاليب ومنقارا ، فصار عقابا ، ثم ذهب يطير فلا يقوم له طير في السماء إلّا قهره ، وتحدّث به أصحاب النّسور الذين يصيدون الطير فقالوا : إنه حدث في السماء طير عظيم على صورة العقاب لا يقوم له شيء ولا يطيقه إنسان ، ثم حوّله

٣٥٥

فرسا ، فتحدّث به أصحاب الأرمال (١) ، وقالوا : إنه حدث في المروج حصان من الخيل ما رأينا مثله عظما وجسما ، لا يقوم له شيء ، ولا يرومه إنسان ، فجعل لا يمسخ في شيء إلا ذكر عظمه وقوته وتحدّث بذلك ، فلم يزل في ذلك سبع سنين وولده وملكه على حاله لم يتغيروا ، ولم يحدثوا فيه شيئا ، وكان يأمرهم دانيال أن لا يغيّروا من أمره شيئا حتى يرجع إليهم. وفي رواية ، وكان إذا مسخ في جنس ذكرا فاشتهى الإناث واغتلم حوّله أنثى ، فأحرم (٢) واشتهى الذكور حوّله الله ذكرا ، فكان لا يصل إلى شهوته من الجماع ، ولا يوصل إليه.

قالوا : وكان آخر خلق مسخ فيه بخت نصّر البعوضة ، فأقبل في صورتها يطير حتى دخل بيته ، فحوّله الله إنسانا ، فاغتسل بالماء ولبس المسوح (٣) ، وألقى جفن (٤) سيفه ، ثم خرج به صلتا (٥) يتوكأ عليه حتى برز إلى جنّاته ، فأمر بجمع قومه فاجتمعوا كأجمع ما كانوا قطّ ، ثم قال : يا أيها الناس إنّي وإياكم كنا نعبد من دون الله ما لا يضرنا ولا ينفعنا ، ولا يخلقنا ولا يرزقنا ، ولا يميتنا ولا يحيينا ، ولا يملك لنا من الله شيئا ، وإنّه قد تبيّن لي من قدرة الله في نفسي أن لا إله إلّا إله بني إسرائيل ، فمن بايعني على هذا أو أجابني إليه ، فأنا منه وهو مني ، وأنا وهو في الحق سواء ، ومن أبى وخالف ضربته بسيفي هذا ، وأشار به إليهم ـ وكان فيهم مهيبا ـ حتّى يحكم الله بيني وبينه ، ألا وإنّي قد أجّلتكم يومي هذا ، فإذا أصبحت فأجيبوني ، ثم انصرف عنهم ، فساعة دخل بيته وقعد على فراشه قبض الله روحه.

فقال وهب بن منبّه :

__________________

(١) كذا في مختصر ابن منظور ، وبهامشه كتب محققه : كذا بالأصل ولعله «الأزمال» بالزاي ، من النشاط والسرعة ، يقال : فرس أزمولة إذا انتشر في عدوه وأسرع.

(٢) حرمت المعزى وغيرها من ذوات الظلف وكذا الذئبة والكلبة حراما بالكسر ، إذا أرادت الفحل ، والاسم الحرمة وقال الجوهري : الحرمة هي شهوة الجماع ، وقد استعمل في الحديث لذكور الأناسي ، قال ابن الأثير : وكأن الحرمة بغير الآدمي من الحيوان أخص. (تاج العروس : حرم).

(٣) المسوح وأحدها المسح بالكسر ، وهو ثوب من الشعر غليظ ، (تاج العروس : مسح).

(٤) الجفن غمد السيف (تاج العروس : جفن).

(٥) الصلت : الجبين الواضح ، وقيل : الواسع ، وقيل : الأملس ، وقيل : البارز.

والصلت هنا : السيف الصقيل المنجرد الماضي في الضريبة ، يقال : أصلت السيف إذا جردته (تاج العروس : صلت).

٣٥٦

سألني ابن عباس عن قصة بخت نصّر فقصصتها عليه ، فقال ابن عباس : ما شبّهت إيمانه إلّا بإيمان سحرة فرعون حين (قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [سورة طه ، الآية : ٧٠].

وكان وهب بن منبّه يقول :

لما مسخ بخت نصّر كان في ذلك يعقل عقل الإنسان ، ثم ردّ الله روحه فدعا إلى توحيد الله ، وقال : كل إله باطل إلّا إله السماء.

قال بكار :

فقيل لوهب : أمؤمنا مات؟ فقال : وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : قد آمن قبل أن يموت ، وقال بعضهم : قتل الأنبياء ، وحرّق الكتب ، وخرّب بيت المقدس ، فلن تقبل منه التوبة.

وقيل :

إن بخت نصّر لما قتل بني إسرائيل وخرّب بيت المقدس ، وسار بسبايا بني إسرائيل إلى أرض بابل ، فسامهم سوء العذاب ، فأراد أن يتناول السماء ، فجمع بني إسرائيل وعظماء أهل بابل ممن عنده علم ، فقال لهم : إنّي قد قهرت أهل الأرض ، فأريد أن أتناول ملك السماء ، فهل عندكم علم أو حيلة أصعد إلى السماء؟ فقالوا : لا. فقال لهم : انطلقوا فاطلبوا لي حيلة أصعد بها إلى السماء. فسلّط الله عليه بعوضة ، فدخلت منخره ، فوقعت في دماغه فلم تزل البعوضة تعذّبه وتأكل دماغه ، فلم يزل ينطح رأسه على الحجر حتى مات ، ثم أوصى أن شقّوا هامته فينظروا ما كان فيه. قال : ففعلوا ، فرأوا قدرة الله ، فإذا هم ببعوضة قد تعلّقت بدماغه. والله أعلم أي ذلك كان.

قالوا :

وملك بخت نصّر خمس وأربعون سنة ، منها تسع عشرة سنة قبل خراب أورشلم ـ وهي بيت المقدس ـ وسباء بابل ، وست وعشرون سنة بعد الخراب. قالوا : كان أمره بعد ما رفع عيسى بن مريم ، وقيل : كان قبل عيسى بن مريم ، وقيل : كان قبل الاسكندر والمسيح بأكثر من ثلاث مائة سنة. قالوا : ومن زمن آدم إلى سبي بابل أربعة آلاف وتسع مائة وثمان عشرة سنة.

٣٥٧

[٩٧٣٧] [بختيار السلار

نائب طغتكين (١) على دمشق.

كان ورعا نزها حسن السيرة ، وافر الحرمة ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كثير المحاسن.

حزن الناس عليه لما مات ، وولي ابنه عمر السلار بعده سنة إحدى عشرة وخمسمائة].

[٩٧٣٨] بخيت (٢) بن محمد بن حسّان البسريّ (٣)

[قال ابن ماكولا](٤) :

[أما (٥)] بخيت أوله باء مضمومة وخاء معجمة مفتوحة وآخره تاء معجمة باثنتين من فوقها هو : بخيت بن أبي عبيد البسري.

[حكى عن أبيه](٦) :

من أهل بسر (٧). كان أبوه من كبار الزهاد.

[حكى عن أبيه.

روى عنه أبو بكر الهلالي ، وأبو العباس أحمد بن معز الصوري الجلودي ، وأبو زرعة الحسيني ، ومعاذ بن أحمد الصوري ، وأبو بكر محمد بن منصور بن بطيش الغساني. وأبو بكر بن معمر الطبراني.

__________________

[٩٧٣٧] استدركت ترجمته بكاملها عن الوافي بالوفيات ١٠ / ٨٦.

(١) تقدمت ترجمته في ٢٥ / ٣ رقم ٢٩٦٨ (ط دار الفكر).

[٩٧٣٨] تقدمت ترجمته في ٥٢ / ٢٧٨ رقم ٦٢٠٦.

(٢) تحرفت في معجم البلدان إلى نجيب.

(٣) ترجمته في معجم البلدان (بسر) ١ / ٤٢٠ والإكمال ١ / ٢١٠ وانظر الأنساب (البسري ١ / ٣٥٠) واللباب لابن الأثير ١ / ١٥٢.

(٤) زيادة للإيضاح.

(٥) زيادة عن الإكمال ١ / ٢١٠.

(٦) الزيادة عن الإكمال.

(٧) بسر قرية إلى جانب زرع ، كما في استدراك ابن نقطة (الإكمال ١ / ٤٨٧).

وفي معجم البلدان : بسر بالضم ، قرية من أعمال حوران من أراضي دمشق بموضع يقال له اللحا إلى جنب زرّة ، وهي زرع في قول العامة.

٣٥٨

حدث عن أبيه بكتاب : قوام الإسلام ، وبكتاب الطبيب](١).

قال أبو بكر الهلالي :

اجتمع أصحاب الحديث بطبريّة إلى بخيت بن أبي عبيد البسري ، فسألوا أن يملي عليهم حديثا ، فقال : ما أحبّ أن ألقى الله وأنا صاحب حديث. قالوا : فاحك لنا عن أبيك شيئا ، فقال : سمعت أبي يقول :

البيت خال والكباش تنتطح

فمن نجا برأسه فقد ربح (٢)

[٩٧٣٩] بدر بن الهيثم بن خالد بن عبد الرحمن

وقيل : بدر بن الهيثم بن نصر مولى بني هاشم الدّمشقي.

حدّث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طاعة الإمام حقّ على المرء المسلم ، ما لم يأمر بمعصية الله ، فإذا أمر بمعصية الله عزوجل فلا طاعة له» [١٤٠٤٤].

[٩٧٤٠] بدر بن عبد الله أبو النّجم

مولى المعتضد بالله المعروف بالحمامي وبالكبير.

قدم دمشق من مصر ممدّا لأميرها طغجّ بن جفّ (٣) الفرغاني في خلافة المكتفي من

__________________

(١) ما بين معكوفتين استدرك عن معجم البلدان ١ / ٤٢٠.

(٢) قوله : من نجا برأسه فقد ربح.

مثل : يضرب في إبطاء الحاجة وتعذرها حتى يرضى صاحبها بالسلامة منها ، قال أبو عبيد ، وهذا الشعر أراه قيل في ليالي صفين :

الليل داج والكباش تنتطح

نطاح أسد ما أراها تصطلح

فمن نجا برأسه فقد ربح

مجمع الأمثال للميداني ٢ / ٢٩٩ ط. دار الفكر.

[٩٧٤٠] ترجمته في تاريخ بغداد ٧ / ١٠٥ والوافي بالوفيات ١٠ / ٩٤ وأمراء دمشق في الإسلام ص ٣٥ والأنساب (الحمامي) ٢ / ٢٥٥ وولاة مصر للكندي ص ٢٦٨ ، ٢٧١ ، ٢٨٠ ، ٢٨١. وتحفة ذوي الألباب ١ / ٣٣١ والنجوم الزاهرة ٣ / ٢٠٥. والحمامي بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم هذه النسبة إلى الحمام ، ـ التي هي الطيور ـ واقتنائها (الأنساب).

(٣) تقدمت ترجمته في ٢٥ / ٤ رقم ٢٩٦٩.

٣٥٩

قبل الطّولونية لما حاصر القرمطيّ (١) دمشق ، فلقيه بكناكر (٢) ، فقتل القرمطي ، وانصرف إلى طبريّة راجعا إلى مصر ، ثم رجع من الطريق واليا على دمشق من قبل هارون بن خمارويه ابن أحمد بن طولون ، فقدمها في شعبان سنة تسعين ومائتين.

[قال أبو بكر الخطيب](٣) : أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا أبو بكر محمد بن بدر الأمير حدثنا أبي أبو النّجم بدر الكبير عن عبيد الله بن محمد بن رماحس قال : حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي قال (٤) :

لما أسرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين يوم هوازن ، وذهب يفرّق السّبي ، أتيته فأنشأت أقول :

امنن علينا رسول الله في كرم

فإنّك المرء ترجوه وننتظر (٥)

امنن على بيضة قد عاقها (٦) قدر

مشتّت (٧) شملها في دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافا (٨) على حزن

على قلوبهم الغمّاء والغمر (٩)

إن لم تداركهم (١٠) نعماء تنشرها

يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها

إذ فوك يملؤه (١١) من محضها الدّرر

__________________

(١) اختلفوا في اسمه فقيل يحيى وقيل محمد وقيل أحمد ، وقيل علي ، ويكنى أبا القاسم انظر أخبار القرامطة (١٦ ـ ١٩ ، و٢٧٨ ـ ٢٧٩).

(٢) في معجم البلدان : كنيكر ، وقال : تصغير كنكر ، قرية بدمشق قتل بها علي بن أحمد بن محمد البرقعي الملقب بالشيخ القرمطي.

وهي اليوم تتبع محافظة دمشق ، وتبعد عن دمشق ٤٠ كلم.

(٣) زيادة منا للإيضاح.

(٤) الخبر والشعر في تاريخ بغداد ٧ / ١٠٥ ـ ١٠٦ وأسد الغابة ٢ / ١١٠ ـ ١١١ والاستيعاب ٢ / ٥٧٥ ـ ٥٧٦ (هامش الإصابة) وخبر زهير بن صرد رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ـ في قصة يوم حنين ـ وابن حجر في الإصابة ٢ / ٢٢٥ (ط دار الفكر) ، وفيهما الخبر بدون الشعر.

(٥) في أسد الغابة : وندّخر.

(٦) في أسد الغابة : «اعتافها» بدل : قد عاقها.

(٧) في الاستيعاب وأسد الغابة : ممزق.

(٨) في أسد الغابة : تهتانا.

(٩) البيت السابق ليس في الاستيعاب.

(١٠) في أسد الغابة : تداركها.

(١١) في الاستيعاب : تملأ من مخضها.

٣٦٠