البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

والثالث : ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير ، ومقداره ، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب ، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو : العلم.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال أبو ذر ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو أمامة ، وعبد الله بن بشر الغافقي ، ومكحول ، ورباح بن بريد ، والأوزاعي : هي في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله ، ومرتبطها. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.

وقال ابن عباس أيضا ، والكلبي : نزلت في علي ، كانت عنده أربعة دراهم ، قال الكلبي ، لم يملك غيرها ، فتصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية.

وقال ابن عباس أيضا : نزلت في عليّ بعث بوسق تمر إلى أهل الصفة ليلا ، وفي عبد الرحمن بن عوف بعث إليهم بدراهم كثيرة نهارا.

وقال قتادة : نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. انتهى. وقيل : نزلت في أبي بكر ، تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في الجهر.

والآية ، وإن نزلت على سبب خاص ، فهي عامة في جميع ما دلت عليه ألفاظ الآية ، والمعنى أنهم ، فيما قال الزمخشري : يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ، ولم يؤخروه ، ولم يتعللوا بوقت ولا حال. انتهى.

ولم يبين في هذه الآية أفضلية الصدقة في أحد الزمانين ، ولا في إحدى الحالتين اعتمادا على الآية قبلها ، وهي : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) أو جاء تفصيلا على حسب الواقع من صدقة أبي بكر ، وصدقة علي ، وقد يقال : إن تقديم الليل على النهار ، والسر على العلانية يدل على تلك الأفضلية ، والليل مظنة صدقة السر ، فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل ، والحال التي كانت فيها أفضل.

٧٠١

والباء في : بالليل ، ظرفية ، وانتصاب : سرا وعلانية ، على أنهما مصدران في موضع الحال أي : مسرين ومعلنين ، أو : على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه ، أو : نعتان لمصدر محذوف أي : إنفاقا سرا ، على مشهور الإغراب في : قمت طويلا ، أي قياما طويلا.

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدّم تفسير هذا فلا نعيده ، ودخلت : الفاء في فلهم ، لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه.

قال ابن عطية : وإنما يوجد الشبه ، يعني بين الموصول واسم الشرط ، إذا كان : الذي ، موصولا بفعل ، وإذا لم يدخل على : الذي ، عامل يغير معناه. انتهى. فحصر الشبه فيما إذا كان : الذي ، موصولا بفعل ، وهذا كلام غير محرر ، إذ ما ذكر له قيود :

أولها : أن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف ، وفي الألف واللام خلاف ، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.

الثاني : قوله موصولا بفعل ، فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك ، بل شرط الفعل أن يكون قابلا لأداة الشرط ، فلو قلت : الذي يأتيني ، أو : لما يأتيني ، أو : ما يأتيني ، أو : ليس يأتيني ، فله درهم ، لم يجز لأداة الشرط ، لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك ، وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك ، بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك ، فمتى كانت الصلة واحدا منهما جاز دخول الفاء. وقوله : وإذا لم يدخل على : الذي ، عامل يغير معناه عبارة غير مخلصة ، لأن العامل الداخل عليه كائنا ما كان لا يغير معنى الموصول ، إنما ينبغي أن يقول : معنى جملة الابتداء في الموصول ، وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من : تمن ، أو تشبيه ، أو ظن ، أو غير ذلك. لو قلت : الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز ، وكان ينبغي أيضا لابن عطية أن يذكر أن شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقا بالصلة ، نحو ما جاء في الآية ، لأن ترتب الأجر إنما هو على الإنفاق. ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ يستدعي كلاما طويلا ، وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل ، قد ذكرنا ذلك في كتاب (التذكرة) من تأليفنا.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ

٧٠٢

جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)

الربا : الزيادة يقال : ربا يربو وأرباه غيره. وأربى الرجل ، عامل بالربا ، ومنه الربوة والرابي. وقال حاتم :

وأسمر خطيا كأن كعوبه

نوى القشب قد أربى ذراعا على العشر

وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها ، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة ، وبالألف. وتبدل الباء ميما قالوا : الرما ، كما أبدلوها في كتب قالوا : كتم ، ويثنى : ربوان ، بالواو عند البصريين ، لأن ألفه منقلبة عنها. وقال الكوفيون : ويكتب بالياء ، وكذلك الثلاثي المضموم الأول نحو : ضحى ، فتقول : ربيان وضحيان ، فإن كان مفتوحا نحو : صفا ، فاتفقوا على الواو.

وأما الربا الشرعي فهو محدود في كتب الفقهاء على حسب اختلاف مذاهبهم.

تخبط : تفعل من الخبط وهو الضرب على غير استواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي : خبط عشواء ، وتورط في عمياء. وقول علقمة :

وفي كل حي قد خبطت بنعمة

أي : أعطيت من أردت بلا تمييز كرما.

سلف : مضى وانقضى ، ومنه سالف الدهر أي ماضيه.

عاد عودا : رجع ، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى صار ، وأنشد :

تعد فيكم جزر الجزور رماحنا

ويرجعن بالأسياف منكسرات

المحق : نقصان الشيء حالا بعد حال. ومنه : المحاق في الهلال ، يقال : محقه الله فانمحق وامتحق أنشد الليث :

يزداد حتى إذا ما تمّ أعقبه

كرّ الجديدين نقصا ثم ينمحق

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله ، وأنه

٧٠٣

يكون ذلك من طيب ما كسب ، ولا يكون من الخبيث. فذكر نوع غالب عليهم في الجاهلية ، وهو : خبيث ، وهو : الربا ، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا ، وأيضا فتظهر مناسبة أخرى ، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال ، والربا فيه زيادة مال ، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد ، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه ، كقوله : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (١) وقول الشاعر :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقول الآخر :

خيلا كأمثال السعالي شرّبا

وقول الآخر :

بخيل عليها جنّة عبقريّة

والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل ، وأن الخبر : عنهم ، مختص بالآكل الربا ، وقيل : عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل ، لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه ، كما قال تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) (٢) وقيل : الربا هنا كناية عن الحرام ، لا يخص الربا الذي في الجاهلية ، ولا الربا الشرعي. وقرأ العدوي : الربو ، بالواو قيل : وهي لغة الحيرة ، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة ، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو ، فقال : هذه أفعو ، فأجرى القارئ الوصل إجراء الوقف.

وحكى أبو زيد : أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة ، وهي قراءة بعيدة ، لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة ، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة كسرة ، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال : في أفعى : أفعو ، في الوقف. وأن القارئ إما أنه لم يضبط حركة الباء ، أو سمى قربها من الضمة ضما.

و : لا يقومون ، خبر عن : الذين ، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة حالية ، وهو بعيد جدا ، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه. وظاهر هذا الإخبار أنه إخبار عن الذين

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٦٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦١.

٧٠٤

يأكلون الربا ، وقيل : هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك ، بدليل قولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) وقوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١) ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر ، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة.

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وجبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد : معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلّا كالمجانين ، عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر ، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها ، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله : لا يقومون يوم القيامة.

وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا ، فجوزي في الآخرة بمثل فعله. وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى أكلة الربا ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون ، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم.

قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره قد جن. هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :

وتصبح عن غب السرى وكأنها

ألمّ بها من طائف الجن أولق

لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. انتهى كلامه. وهو حسن ، إلّا كما يقوم الكاف في موضع الحال ، أو نعتا لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبويه وغيره ، وتقدم في مواضع.

و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، أي : كقيام الذي ، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلّا كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان. قيل : معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهرا لبطن ، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.

وظاهر الآية أن الشيطان يتخبط الإنسان ، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٩.

٧٠٥

بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس ، وليس في العقل ما يمنع من ذلك ، وقيل : ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه ، فنسب إلى الشيطان مجازا تشبيها بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم ، وقيل : أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، يقولون : رجل ممسوس ، وجنّ الرجل.

قال الزمخشري : ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات. انتهى.

وتخبط هنا : تفعّل ، موافق للمجرد ، وهو خبط ، وهو أحد معاني : تفعل ، نحو : تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه.

من المس ، المس الجنون يقال : مس فهو ممسوس وبه مس. أنشد ابن الأنباري ، رحمه‌الله تعالى :

أعلل نفسي بما لا يكون

كذي المس جن ولم يخنق

وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، وسمي الجنون مسا كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ويتعلق : من المس ، بقوله : يتخبطه ، وهو على سبيل التأكيد ، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلّا من المس ، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي ، فأزال قوله : من المس ، هذا الاحتمال. وقيل : يتعلق : بيقوم ، أي : كما يقوم من جنونه المصروع.

وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق قوله : من المس؟

قلت : بلا يقومون ، أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلّا كما يقوم المصروع. انتهى.

وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون ، وهو الذي ذهب إليه في تعلق : من المس ، بقوله : لا يقومون ، ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنه قد شرح المس بالجنون ، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلّا في الآخرة ، وهناك ليس بهم جنون ولا مس ، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل

٧٠٦

الربا في الدنيا ، فيكون المعنى : لا يقومون يوم القيامة ، أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلّا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس ، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع.

والوجه الثاني : أن : ما ، بعد : إلّا ، لا يتعلق بما قبلها ، إلّا إن كان في حيز الاستثناء ، وهذا ليس في حيز الاستثناء ، ولذلك منعوا أن يتعلق (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (١) بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) (٢) وان التقدير : ما أرسلنا بالبينات والزبر إلّا رجالا.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة ، ويكون مبتدأ ، والمجرور الخبر ، أي : ذلك القيام كائن بسبب أنهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره : قيامهم ذلك إلّا أن في هذا الوجه فصلا بين المصدر ومتعلقه الذي هو : بأنهم ، على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر ، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر ، وقدّره الزمخشري : ذلك العقاب بسبب أنهم ، والعقاب هو ذلك القيام ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا ، أي ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا ، أي : مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع ، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ، ولم يعكسوا تنزيلا لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع ، وهذا من عكس التشبيه ، وهو موجود في كلام العرب.

قاله ذو الرمّة :

ورمل كأروال العذارى قطعته

وهو كثير في أشعار المولدين ، كما قال أبو القاسم بن هانىء :

كأن ضياء الشمس غرّة جعفر

رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا

وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه ، فيقول : زدني في الأجل وأزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير ، فكذبهم الله تعالى. وقيل : كانت ثقيف أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه قالوا : إنما هو مثل البيع.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٤٣.

٧٠٧

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا). ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، وفي ذلك ردّ عليهم إذ ساووا بينهما ، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى ، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره ، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح ، إذ جعل الدليل في إبطال قولهم هو : أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقال بعض العلماء : قياسهم فاسد ، لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه ، والربا فيه التغابن وأكل المال البطل ، لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها ، بخلاف البيع ، فإن الثمن مقابل بالمثمن ..

قال جعفر الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس ، وقيل : حرم لأنه متلف للأموال ، مهلك للناس. وقال بعضهم : يحتمل أن يكون : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) من كلامهم ، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم ، فكان ذلك كفرا منهم.

والظاهر : عموم البيع والربا في كل بيع ، وفي كل ربا ، إلّا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان ، فلا يقدّم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلّا ببيان ، وهذا فرق ما بين العام والمجمل ، وقيل : هو عموم دخله التخصيص ، ومجمل دخله التفسير ، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه.

والظاهر أن الآية كما قالوا في الكفار ، لقوله : (فَلَهُ ما سَلَفَ) لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف ، بل ينقض ويردّ فعله ، وإن كان جاهلا بالتحريم ، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية.

(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) حذف تاء التأنيث من : جاءته ، للفصل ، ولأن تأنيث الموعظة مجازي. وقرأ أبيّ ، والحسن : فمن جاءته بالتاء على الأصل ، وتلت عائشة هذه الآية سألتها العالية بنت أبقع ، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقدا من زيد بن أرقم ، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه ، فقالت عائشة : بئسما شريت وما اشتريت ، فابلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا أن يتوب ، فقالت العالية : أرأيت إن لم آخذ منه إلّا رأس مالي؟ فتلت الآية عائشة. والموعظة : التحريم ، أو : الوعيد ، أو : القرآن ، أقوال. ويتعلق : من ربه ، بجاءته ، أو : بمحذوف ، فيكون صفة لموعظة ، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه ، الناظر له في مصالحه ، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة. إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده ، فانتهى تبع النهي ، ورجع عن المعاملة بالربا ، أو عن كل محرم من

٧٠٨

الاكتساب (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي ما تقدم له أخذه من الربا لا تبعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ، ومن كان يتجر هنالك. وهذا على قول من قال : الآية مخصوصة بالكفار ، ومن قال : إنها عامة فمعناه : فله ما سلف ، قبل التحريم.

(وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) الظاهر أن الضمير في : أمره ، عائد على المنتهي ، إذ سياق الكلام معه ، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ، كما تقول : أمره إلى طاعة وخير ، وموضع رجاء ، والأمر هنا ليس في الربا خاصة ، بل وجملة أموره ، وقيل : في الجزاء والمحاسبة ، وقيل : في العفو والعقوبة ، وقيل : أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة ، لا إلى الذين عاملهم ، فلا يطالبونه بشيء ، وقيل : المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة ، قاله الحسن.

وقيل : الضمير يعود على : ما سلف ، أي في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : يعود على ذي الربا ، أي : في أن يثبته على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية. قاله ابن جبير ، ومقاتل ، وقيل : يعود على الربا أي في إمرار تحريمه ، أو غير ذلك ، وقيل : في عفو الله من شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي.

(وَمَنْ عادَ) إلى فعل الربا ، والقول بأن البيع مثل الربا ، قال سفيان : ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تقدّم تفسير هذه الجملة الواقعة خبرا : لمن ، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد ، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأييد.

وقال الزمخشري : وهذا دليل بيّن على تخليد الفساق. انتهى. وهو جار على مذهبه الاعتزالي في : أن الفاسق يخلد في النار أبدا ولا يخرج منها ، وورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات ، وروي عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله ، وسأل مالكا رحمه‌الله رجل رأى سكران يتقافز ، يريد أن يأخذ القمر ، فقال : امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر ، أتطلق امرأته؟ فقال له مالك ، بعد أن ردّه مرتين : امرأتك طالق ، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا ، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أي : يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه ، رواه أبو

٧٠٩

صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير ؛ وعن ابن مسعود : أن الربا وإن كثر ، فعاقبته إلى قل. وروى الضحاك عن ابن عباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقة وصلة رحم وجهاد ونحو ذلك.

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) قيل : الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة ، وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة ، وقيل : الزيادة معنوية ، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة ، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث.

وقرأ ابن الزبير ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يمحق ويربي ، من : محق وربى مشدّدا.

وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق ، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) فيه تغليظ أمر الربا وإيذان أنه من فعل الكفار لا من فعل أهل الإسلام ، وأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم ، وإن كان تعالى لا يحب الكافر ، تنبيها على عظم أمر الربا ومخالفة الله وقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وأنه لا يقول ذلك ، ويسوي بين البيع والربا ليستدل به على أكل الربا إلّا مبالغ في الكفر ، مبالغ في الإثم. وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث اختلف اللفظان. وقال ابن فورك : ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في : كفار ، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض. انتهى. وهذا فيه بعد ، إذ إطلاق القرآن ؛ الكافر ، والكافرون ، والكفار ، إنما هو على من كفر بالله ، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية ، كقوله : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) (١).

وقال ابن فورك : ومعنى الآية : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) محسنا صالحا ، بل يريده مسيئا فاجرا ، ويحتمل أن يريد : والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم.

وقال ابن عطية : وهذه تأويلات مستكرهة : أما الأول فأفرط في تعدية الفعل ، وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ، ولطف به ، وحرص على حفظه وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه ، نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن. انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٠.

٧١٠

والحب حقيقة ، وهو الميل الطبيعي ، منتف عن الله تعالى ، وابن فورك جعله بمعنى الإرادة ، فيكون صفة ذات ، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهار الدلائل ، فيكون صفة فعل وقد تقدّم الكلام على ذلك.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا ، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة ، وأنه كافر أثيم ، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين.

وظاهر الآية العموم ، وقال مكي : معناه أن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا بما أنزل عليهم ، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات. انتهى. ونص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإن كانا مندرجين في عموم الأعمال البدنية والمالية ، وألفاظ الآية تقدّم تفسيرها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم ، وقيل : في عباس ، وقيل : في عثمان ، وقال السدّي : في عباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، وملخصه أنهم أرادوا أن يتقاضوا رباهم ، فنزلت. ولما تقدّم قوله : (فَلَهُ ما سَلَفَ) (١) وكان المعنى : فله ما سلف قبل التحريم ، أي : لا تبعة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٥.

٧١١

عليه فيما أخذه قبل التحريم ، واحتمل أن يكون قوله : ما سلف ، أي : ما تقدّم العقد عليه ، فلا فرق بين المقبوض منه وبين ما في الذمة ، وإنما يمنع إنشاء عقد ربوي بعد التحريم ، أزال تعالى هذا الاحتمال بأن أمر بترك ما بقي من الربا في العقود السابقة ، قبل التحريم ، وأن ما بقي في الذمة من الربا هو كالمنشأ بعد التحريم ، وناداهم باسم الإيمان تحريضا لهم على قبول الأمر بترك ما بقي من الربا ، وبدأ أولا بالأمر بتقوى الله ، إذ هي أصل كل شيء ، ثم أمر ثانيا بترك ما بقي من الربا.

وفتحت عين : وذروا ، حملا على : دعوا ، وفتحت عين : دعوا ، حملا على : يدع ، وفتحت في يدع ، وقياسها الكسر ، إذ لامه حرف حلق وقرأ الحسن : ما بقا ، بقلب الياء ألفا ، وهي لغة لطيء ، ولبعض العرب. وقال علقمة بن عبدة التميمي :

زها الشوق حتى ظل إنسان عينه

يفيض بمغمور من الماء متأق

وروي عنه أيضا أنه قرأ : ما بقي ، بإسكان الياء وقال الشاعر :

لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي

على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا

وقال جرير :

هو الخليفة فارضوا ما رضى لكم

ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقدّم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلا فافعل كذا! قاله ابن عطية ، أو بأن المعنى : إن صح إيمانكم ، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباثه امتثال ما أمرتم به من ذلك ، قاله الزمخشري ، وفيه دسيسه اعتزال ، لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها ، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمنا ، وهو مدعى المعتزلة. وقيل : ان بمعنى إذ أي إذ كنتم مؤمنين قاله مقاتل بن سليمان ، وهو قول لبعض النحويين ، أن : إن ، تكون بمعنى : إذ ، وهو ضعيف مردود ولا يثبت في اللغة ، وقيل : هو شرط يراد به الاستدامة ، وقيل : يراد به الكمال ، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصرّ الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمنا بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر ، هذا وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها ، وقيل : الإيمان متغاير بحسب متعلقه ، فمعنى الأول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم. ومعنى الثاني : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقلوبكم.

٧١٢

وقيل : يحتمل أن يريد : يا أيها الذي آمنوا بمن قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنبياء ، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلّا بهذا ، قاله ابن فورك.

قال ابن عطية : وهو مردود بما روي في سبب الآية. انتهى. يعني أنها نزلت في عباس ، وعثمان ، أو في عباس ، وخالد ، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء ، وقيل : هو شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. انتهى. وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلّا على تأويل استدامة الإيمان ، وذكر ابن عطية : أن أبا السماك ، وهو العدوي ، قرأ هنا : من الرّبو ، بكسر الراء المشدّدة وضم الباء وسكون الواو ، وقد ذكرنا قراءته كذلك في قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) (١) وشيئا من الكلام عليها.

وقال أبو الفتح : شذ هذا الحرف في أمرين ، أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما ، والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلّا في الفعل ، نحو : يغزو ، ويدعو.

وأما ذو ، الطائية بمعنى : الذي فشاذة جدا ، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع ، فتقول : رأيت ذا قام. وجه القراءة أنه فخم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم : الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة. انتهى كلام أبي الفتح.

ويعني بقوله : بناء لازما ، أنه قد يكون ذلك عارضا نحو : الحبك ، فكسرة الحاء ليست لازمة ، ومن قولهم الردؤ ، في الوقف ، فضمة الدال ليست لازمة ، ولذلك لم يوجد في أبنية كلامهم فعل لا في اسم ولا فعل ، وأما قوله : وهذا شيء لم يأت إلّا في الفعل ، نحو : يغزو ، فهذا كما ذكر إلّا أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع ، فله أن يقول : لما لم يكن ذلك لازما في النصب والجر ، لم يكن ناقضا لما ذكروا ، ونقول : إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للاتباع ، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة يغزو.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ظاهره : فإن لم تتركوا ما بقي من الربا ، وسمى الترك فعلا ، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا لزم من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى. وقال الرازي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٥.

٧١٣

من الله ورسوله ، ومن ذهب إلى هذا قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها.

وقرأ حمزة ، وأبو بكر في غير رواية البرجمي ، وابن غالب عنه : فآذنوا ، أمر من : آذن الرباعي بمعنى : أعلم ، مثل قوله : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) (١).

وقرأ باقي السبعة : فأذنوا ، أمر من : أذن ، الثلاثي ، مثل قوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (٢).

وقرأ الحسن : فأيقنوا بحرب.

والظاهر أن الخطاب في قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) هو لمن صدرت الآية بذكره ، وهم المؤمنون ، وقيل : الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا ، فعلى هذا المحاربة ظاهرة ، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب ، كما جاء : «من أهان لي وليا فقد آذنني بالمحاربة». وقيل : المراد نفس الحرب.

ونقول : الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام ، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة ، أو ممن لا يقدر عليه ، حاربه كما تحارب الفئة الباغية.

وقال ابن عباس : من عامل بالربا يستتاب ، فإن تاب وإلّا ضربت عنقه.

ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحا للربا ، مصرا على ذلك ، ومعنى الآية : فإن لم تنتهوا حاربكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : المعنى : فأنتم حرب الله ورسوله ، أي : أعداء. والحرب داعية القتل ، وقالوا : حرب الله النار ، وحرب رسوله السيف.

وروي عن ابن عباس أنه : «يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب». والباء في بحرب على قراءة القصر للإلصاق ، تقول : أذن بكذا ، أي : علم ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : المعنى فاستيقنوا بحرب من الله.

وقال الزمخشري : وهو من الأذن ، وهو الاستماع ، لأنه من طريق العلم. انتهى.

وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر. وقال ابن عطية : هي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه ، فكأنه قيل لهم : قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٩.

(٢) سورة النبأ : ٧٨ / ٣٨.

٧١٤

ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون ، إذ هم الآذنون فيها ، وبها ، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله ، وتيقنهم لذلك. انتهى كلامه. فيظهر منه ان الباء في : (بِحَرْبٍ) ظرفية. أي : فاذنوا في حرب ، كما تقول أذن في كذا ، ومعناه أنه سوغه ومكن منه.

قال أبو علي : ومن قرأ فآذنوا بالمدّ ، فتقديره : فأعلموا من لم بنته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) (١) وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم علمهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم.

فقراءة المد أرجح ، لأنها أبلغ وآكد.

وقال الطبري : قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المدّ بإعلام غيرهم ، وقال ابن عطية : والقراءتان عندي سواء ، لأن المخاطب محصور ، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل : فآذنوا ، فقد عمهم الأمر. وإن قيل : فآذنوا ، بالمدّ فالمعنى : أنفسكم ، أو : بعضكم بعضا. وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبت ، فأعلموا نفوسكم هذا ، ثم انظروا في الأرجح لكم : ترك الربا أو الحرب. انتهى.

وروي : أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يد لنا بحرب الله ورسوله.

ومن ، في قوله : من الله ، لابتداء الغاية ، وفيه تهويل عظيم ، إذ الحرب من الله تعالى ومن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطيقه أحد ، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف ، أي : من حروب الله.

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت : كان هذا أبلغ لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. انتهى. وإنما كان أبلغ لأن فيها نصا بأن الحرب من الله لهم ، فالله تعالى هو الذي يحاربهم ، ولو قيل : بحرب الله ، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل ، فيكون الله هو المحارب لهم ، وأن تكون مضافة للمفعول ، فيكونوا هم المحاربين الله. فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٩.

٧١٥

(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) أي : إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال : أصولها ، وأما الأرباح فزوائد وطوارئ عليها. قال بعضهم : إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله ، فيصير مالهم فيأ للمسلمين ، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلّا ذلك ، ومفهوم الشرط أنه : إن لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم ، وتسمية أصل المال رأسا مجاز.

(لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) قرأ الجمهور الأول مبنيا للفاعل ، والثاني مبنيا للمفعول ، أي : لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال ، وقيل : بالمطل. وقرأ أبان ، والمفضل ، عن عاصم الأول مبنيا للمفعول ، والثاني مبينا للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : وإن تبتم ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله.

والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة ، وقيل : الجملة حال من المجرور في : لكم ، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل ، قاله الأخفش.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا ، فنزلت. قيل : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وقيل : أمر به في صدر الإسلام ، فإن ثبت هذا فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه : جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة : اليسر.

وقرأ الجمهور : ذو عسرة ، على أن : كان ، تامة ، وهو قول سيبويه ، وأبي علي ، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون : كان ، ناقصة هنا. وقدّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر ، وقدر أيضا : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق ، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا ، لا اقتصارا ولا اختصارا لعلة ذكروها في النحو.

وقرأ أبي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وابن عباس : ذا عسرة. وقرأ الأعمش : معسرا. وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي ان في كان اسمها

٧١٦

ضميرا تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام ، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه.

وقرىء : ومن كان ذا عسرة ، وهي قراءة أبان بن عثمان. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان : فإن كان ، بالفاء ، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسرا ، وذلك بعد : إن كان ، فقيل : يختص بأهل الربا. ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم ، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا ، وفيهم نزلت.

وقيل : ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار ، وأن العدم طارئ جاذب يحتاج إلى أن يثبت.

(فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) قرأ الجمهور : فنظرة ، على وزن نبقة. وقرأ أبو رجاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : بسكون الظاء وهي لغة تميمية ، يقولون في : كبد كبد. وقرأ عطاء : فناظرة ، على وزن : فاعلة وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (١) وكقوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢) وكقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) (٣) وقال : قرأ عطاء : فناظره ، بمعنى : فصاحب الحق ناظره ، أي : منتظره ، أو : صاحب نظرته ، على طريقة النسب ، كقولهم : مكان عاشب ، وباقل ، بمعنى : ذو عشب وذو بقل. وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها. انتهى. ونقلها ابن عطية. وعن مجاهد : جعلاه أمرا ، والهاء ضمير الغريم. وقرأ عبد الله : فناظروه ، أي : فأنتم ناظروه. أي : فأنتم منتظروه.

فهذه ست قراءات ، ومن جعله اسم مصدر أو مصدرا فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه.

وقرأ نافع وحده : ميسرة ، بضم السين ، والضم لغة أهل الحجاز ، وهو قليل ؛ كمقبرة ، ومشرفة ، ومسربة. والكثير مفعلة بفتح العين. وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة ، وهي لغة أهل نجد. وقرأ عبد الله : إلى ميسوره ، على وزن مفعول مضافا إلى ضمير الغريم ، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم : ما له معقول

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٥.

(٣) سورة غافر : ٤٠ / ١٩.

٧١٧

ولا مجلود ، أي : عقل وجلد ، ولم يثبت سيبويه مفعولا مصدرا ، وقرأ عطاء ومجاهد : إلى ميسره ، بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم. وقرىء كذلك بفتح السين ، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة. كقوله :

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي : عدة ، وهذا أعني حذف التاء لأجل الإضافة ، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين ، وأداهم إلى هذا التأويل : أن مفعلا ليس في الأسماء المفردة ، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد :

أبلغ النعمان عنى مألكا

أنه قد طال حبسي وانتظار

وفي قول جميل :

بثين الزمي لا إنّ لا إن لزمته

على كثرة الواشين أي معون

فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة. وكذلك قوله :

ليوم روع أو فعال مكرم

هذا تأويل أبي علي ، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء. وقال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، يعني في الآحاد ، كذا قال أبو علي ، وحكي عن سيبويه : مهلك ، مثلث اللام. وأجاز الكسائي أن يكون : مفعل ، واحدا ولا يخالف قول سيبويه ، إذ يقال : ليس في الكلام كذا ، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان ، كأنه لا يعتد بالقليل ، ولا يجعل له حكم.

وتقدّم شيء من الإشارة إلى الخلاف : أهذا الإنظار يختص بدين الربا؟ وهو قول ابن عباس ، وشريح ، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره؟ وهو قول أبي هريرة ، والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن خيثم ، وعامة الفقهاء.

وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة ، منها : «من أنظر معسرا ، ووضع عنه ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». ومنها : «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : يا رب ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلّا أنك رزقتني مالا فكنت أوسع على المقتر ، وأنظر المعسر ، فيقول الله عزوجل : أنا أحق بذلك منك. فتجاوزوا عن عبدي».

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي : تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من

٧١٨

الإنظار ، قاله الضحاك والسدي ، وابن زيد ، والجمهور. وقيل : وان تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة ، وهذا ضعيف ، لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين ، فالحمل على فائدة جديدة أولى. ولأن : أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها ، والمراد بالخير : حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة. وقال قتادة : ندبوا إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير.

وقرأ الجمهور : وأن تصدقوا ، بإدغام التاء في الصاد ، وقرأ عاصم : تصدقوا ، بحذف التاء. وفي مصحف عبد الله : تتصدقوا ، بتاءين وهو الأصل ، والإدغام تخفيف. والحذف أكثر تخفيفا.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : يريد العمل ، فجعله من لوازم العلم ، وقيل : تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض ، وقيل : تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم.

قيل : آخر آية نزلت آية الربا ، قاله عمر ، وابن عباس ، ويحمل على أنها من آخر ما نزل ، لأن الجمهور قالوا : آخر آية نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فقيل : قبل موته بتسع ليال ، ثم لم ينزل شيء. وروي : بثلاث ساعات ، وقيل : عاش بعدها صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا وثمانين يوما. وقيل : أحدا وعشرين يوما. وقيل : سبعة أيام. وروي أنه قال : «اجعلوها بين آية الربا وآية الدين». وروي أنه قال عليه‌السلام : جاءني جبريل فقال : اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة.

وتقدم الكلام على : واتقوا يوما ، في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي) (١).

وقرأ يعقوب ، وأبو عمرو : ترجعون ، مبنيا للفاعل ، وخبر عباس عن أبي عمرو ، وقرأ باقي السبعة مبنيا للمفعول وقرأ الحسن : يرجعون ، على معنى يرجع جميع الناس ، وهو من باب الالتفات. قال ابن جني : كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب ، فقال لهم : واتقوا ، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم. انتهى.

وقرأ أبي : تردون ، بضم التاء ، حكاه عنه ابن عطية. وقال الزمخشري : وقرأ عبد الله : يردون. وقرأ أبي : تصيرون. انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٨.

٧١٩

قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أظهر لقوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) أي تعطى وافيا جزاء (ما كَسَبَتْ) من خير وشر ، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب ، وفيه ردّ على الجبرية.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب ، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب ، وأعاد الضمير أولا في : كسبت ، على لفظ : النفس ، وفي قوله : وهم لا يظلمون ، على المعنى لأجل فاصلة الآي ، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة ، ومن قرأ : يرجعون ، بالياء فتجيء : وهم ، عليه غائبا مجموعا لغائب مجموع.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ

٧٢٠