البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وظاهر قوله : (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد ، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال ، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها ، ونظير ذلك : لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلّا فرسا ، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف ، فذكر : المساجد ، إنما هو لأن الاعتكاف غالبا لا يكون إلّا فيها ، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.

والظاهر من قوله : في المساجد ، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد ، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف ، وبه قال أبو قلابة ، وابن عيينة ، والشافعي ، وداود الطبري ، وابن المنذر ، وهو أحد قولي مالك ، والقول الآخر : أنه لا اعتكاف إلّا في مسجد يجمع فيه ، وبه قال عبد الله ، وعائشة ، وإبراهيم ، وابن جبير ، وعروة وأبو جعفر.

وقال قوم : إنه لا اعتكاف إلّا في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة.

وقال قوم : لا اعتكاف إلّا في مسجد نبي ، وبه قال ابن المسيب ، وهو موافق لما قبله ، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وروى الحارث عن عليّ : أنه لا اعتكاف إلّا في المسجد الحرام ، وفي مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال ، وأما النساء فمسكوت عنهن. وقال أبو حنيفة : تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره ، وقال مالك : تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها. وقال الشافعي : حيث شاءت.

وقرأ مجاهد ، والأعمش : في المسجد ، على الإفراد ، وقال الأعمش : هو المسجد الحرام ، والظاهر أنه للجنس. ويرجح هذا قراءة من جمع فقرأ في المساجد.

وقال بعض الصوفية في قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) الآية. أخبر الله أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ. انتهى.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف ، لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى

٢٢١

هنا. وكانت آية الصيام قد تضمنت عدّة أوامر ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي ، ثم جاء آخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف ، فأطلق على الكل : حدود ، تغليبا للمنطوق به ، واعتبارا بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر. فقيل : حدود الله ، واحتيج إلى هذا التأويل ، لأن المأمور بفعله لا يقال فيه : فلا تقربوها ، وحدود الله : شروطه ، قاله السدّي. أو : فرائضه ، قاله شهر بن حوشب. أو : معاصيه ، قاله الضحاك. وقال معناه الزمخشري ، قال : محارمه ومناهية ، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية.

وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا ، وحيث ذكرت ، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها ، ولم تأت منكرة ولا معرّفة بالألف واللام لهذا المعنى.

(فَلا تَقْرَبُوها) النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها ، وهذا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». والرتع حول الحمى وقربانه واحد ، وجاء هنا : فلا تقربوها ، وفي مكان آخر : (فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) (١) وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) ، لأنه غلب هنا جهة النهي ، إذ هو المعقب بقوله : تلك حدود الله ، وما كان منهيا عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ ، وأما حيث جاء : فلا تعتدوها ، فجاء عقب بيان عدد الطلاق ، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض ، فناسب أن ينهي عن التعدي فيها ، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها ، وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) (٢) جاء بعد أحكام المواريث ، وذكر أنصباء الوارث ، والنظر في أموال الأيتام ، وبيان عدد ما يحل من الزوجات ، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه. وجاء قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) ، عقيب قوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) (٣) ثم وعد من أطاع بالجنة ، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار ، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته.

وقال أبو مسلم معنى : لا تقربوها : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ، كقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٩.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٤.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٢.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٢ ، وسورة الإسراء : ١٧ / ٣٤.

٢٢٢

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) أي : مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته ، وقال أبو مسلم : المراد بالآيات : الفرائض التي بينها ، كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل. انتهى كلامه. وهذا لا يتأتى إلّا على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به.

(لِلنَّاسِ) : ظاهره العموم وقال ابن عطية : معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى ، بدلالة الآيات التي يتضمن (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (١) انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص ، بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم ، ويكسيها لهم حتى تصير حلية واضحة ، ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها ، لأنك تقول : بينت له فما بين ، كما تقول : علمته فما تعلم.

ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين ، يجعل فيهم البيان ، فلذلك ادّعى أن المعنى على الخصوص ، لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى ، جعل في قوم الضلال ، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم ، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعا منا ومن المعتزلة ، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة ، وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر مشتهى بالطبع اشتهاء عظيما بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلّا التقوى ، فلذلك ختمت هذه الآية بها أي : هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) قال مقاتل : نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي ، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أرض ، وكان امرؤ القيس المطلوب ، وعدان الطالب ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت ، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائما له ، ممنوعا من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه

__________________

(١) سورة الرعد : ١٢ / ٢٧ ، وسورة فاطر : ٣٥ / ٨.

٢٢٣

إلّا من الحلال الخالص الذي ينور القلب ، ويزيده بصيرة ، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة ، فلذلك نهى عن أكل الحرام المضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه ، وتخلل أيضا بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي ، وسؤال العباد الله تعالى ، وقد جاء في الحديث : «إن من كان مطعمه حراما ، وملبسه حراما ، ومشربه حراما ، ثم سأل الله أنّى يستجاب له». فناسب أيضا النهي عن أكل المال الحرام.

ويجوز أن تكون المناسبة : أنه لما أوجب عليهم الصوم ، كما أوجبه على من كان من قبلهم ، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم ، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا ، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل ، كما قال تعالى : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (١) (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (٢) (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (٣) وأن يكونوا مخالفيهم قولا ، وفعلا ، وصوما ، وفطرا ، وكسبا ، واعتقادا ، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور : «خالفوا اليهود» وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض ، إذ نزل (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) (٤) لاعتزال اليهود ، بأن لا يؤاكلوهنّ ، ولا يناموا معهنّ في بيت. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افعلوا كل شيء إلا النكاح». فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه.

والمفهوم من قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا) ، الأكل المعروف ، لأنه الحقيقة. وذكره دون سائر وجوه الاعتداء والاستيلاء ، لأنه أهم الحوائج ، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال. ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازا عبر به عن الأخذ والاستيلاء ، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين ، وإضافة الأموال إلى المخاطبين. والمعنى : ولا يأكل بعضكم مال بعض ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٥) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهيا ومنهيا عنه ، وآكلا ومأكولا منه ، فخلط الضمير لهذه الصلاحية ، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره ، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة ، بل هي من باب الإضافة بالملابسة. وأجاز قوم الإضافة للمالكين ، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب ، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم ، لقوله : تريدونها بينكم بالباطل.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٤.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٧٥.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.

(٥) سورة النساء : ٤ / ٢٩.

٢٢٤

وقال الزجاج بالظلم ، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب ، والنهب ، والقمار ، وحلوان الكاهن ، والخيانة ، والرشاء ، وما يأخذه المنجمون ، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع.

وقال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه ، فيجحد المال ويخاصم صاحبه. وهو يعلم أنه آثم ؛ وقال عكرمة : هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم ، وقال ابن عباس ، أيضا : هو أخذ المال بشهادة الزور ، قال ابن عطية : ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع ، لأن الغبن كأنه وهبة. انتهى. وهو صحيح.

والناصب للظرف : تأكلوا ، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان ، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص ، ثم بين المعاني. وفي قوله : بينكم ، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك ، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض ، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج إلى هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك ، وقيل : انتصاب : بينكم ، على الحال من : أموالكم ، فيتعلق بمحذوف أي : كائنة بينكم ، وهو ضعيف ، والباء في : بالباطل ، للسبب وهي تتعلق : بتأكلوا ، وجوزوا أن تكون بالباطل ، حالا من الأموال ، وأن تكون حالا من الفاعل.

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) هو مجزوم بالعطف على النهي ، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية. والظاهر ، أن الضمير في : بها ، عائد على الأموال ، فنهوا عن أمرين : أحدهما : أخذ المال بالباطل ، والثاني : صرفه لأخذه بالباطل ، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوبا على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري ، وحكى ابن عطية أنه قيل : تدلوا ، في موضع نصب على الظرف ، قال : وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى.

ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به ، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي ، وتجويز الزمخشري ذلك هنا ، فتلك مسألة : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالنصب.

٢٢٥

قال النحويون : إذا نصبت كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين :

أحدهما : أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده ، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما ، لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة ، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات؟.

والثاني : وهو أقوى ، إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له ، لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما ، بل إنما يترتب على وجود أحدهما ، وهو : الإدلاء بالأموال إلى الحكام. والإدلاء هنا قيل : معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام ، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم. أما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكون المال أمانة : كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدّعى عليه ، والباء على هذا القول للسبب ، وقيل : معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها. قال ابن عطية : وهذا القول يترجح ، لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم ، وهو الأقل ، وأيضا : فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا ، من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنها يمدّ بها لتقضي الحاجة. انتهى كلامه. وهو حسن.

وقيل : المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم : أدلى فلان بحجته ، قام بها ، وهو راجع لمعنى القول الأوّل ، والضمير في : بها عائد على الأموال ، كما قررناه ، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور ، أي : لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام ، فيحتمل على هذا القول : أن يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود ، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور ، ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم ، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس ، بسبب شهادة أولئك الشهود.

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً) أي : قطعة وطائفة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ) قيل. هي أموال الأيتام ، وقيل : هي الودائع. والأولى العموم ، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق ، و : من أموال الناس ، في موضع الصفة أي : فريقا كائنا من أموال الناس. (بِالْإِثْمِ) متعلق بقوله : لتأكلوا ، وفسر بالحكم بشهادة الزور ، وقيل : بالرشوة ، وقيل : بالحلف الكاذب ، وقيل : بالصلح ، مع العلم بأن المقضي له ظالم ، والأحسن

٢٢٦

العموم ، فكل ما أخذ به المال ومآله إلى الإثم فهو إثم ، والأصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر :

جمالية تعتلى بالرداف

إذا كذب الآثمات الهجيرا

أي : المقصرات ، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثما.

والباء في : بالإثم للسبب ، ويحتمل أن تكون للحال أي : متلبسين بالإثم ، وهو الذنب ، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية أي : أنكم مبطلون آثمون ، وما أعدّ لكم من الجزاء على ذلك ، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها ، وخصوصا حقوق العباد. وفي الحديث : «فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا ، فإن ما أقضي له قطعة من نار».

وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم ، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه ، وهذا في الأموال باتفاق ، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر ، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور ، والمحكوم له يعلم بذلك.

فقال أبو حنيفة : هو نافذ ، وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور.

وقال الجمهور : ينفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا.

وفي قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم ، وحكم له الحاكم بأخذ مال ، فإنه يجوز له أخذه ، كأن يلقى لأبيه دينا وأقام البينة على ذلك الدين ، فحكم له به الحاكم ، فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك ، إذ من الجائز أن أباه وهبه ، أو أن المدين قضاه ، أو أنه مكره في الإقرار ، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه. والأصل عدم براءة المقرّ ، وعدم إكراهه ، فيجوز له أن يأخذه.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريبا لهم ، وتحريكا لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام ، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسيا في هذا التكليف الشاقّ بمن قبلنا ، فليس مخصوصا بنا ، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى ، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله : أيّاما معدودات أوّل : يحصرها العدّ من قلتها ، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره ، وأوجب عليه قضاء عدتها إذا صح وأقام ، ثم

٢٢٧

ذكر أن من أطاق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدي بإطعام مساكين ، ثم ذكر أن التطوّع بالخير ، هو خير ، وان الصوم أفضل من الفطر ، والفداء ، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان ، وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولا بالأخف فالأخف ، ينتهي إلى الحدّ الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة ، فيستقرّ الحكم.

ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه ، وعذر من كان مريضا أو مسافرا ، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام ، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين للتيسير.

ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر ، وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة ، ولتعظيم الله ، ولرجاء الشكر ، فقابل كل مشروع بما يناسبه ، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم ، ذكر قربه بالمكانة منهم ، فإذا سألوه أجابهم ، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه ، ثم طلب منهم الاستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا دعوه ، ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان ، لأنه أصل العبادات وبصحته تصح ، ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به ، ثم امتنّ عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه ، وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها ، ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن ، ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم ، ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الأخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) ، وكذلك الأكل والشرب ، وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر ، ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل. ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم ، وكان من أحوال الصائم الاعتكاف ، وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراما نبه على ذلك بقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

ثم أشار إلى الحواجز وهي : الحدود ، وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدّها هو الله تعالى ، فنهاهم عن قربانها ، فضلا عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها ، ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة

٢٢٨

الله تعالى ، ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل ، وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها ، ونهاكم أيضا عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئا من الأموال التي لا يستحقونها ، وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحا لهم ، وتوبيخا لهم ، لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيء كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها. وبما يترتب عليها.

ولما كان افتتاح هذه الآيات الكريمة بالأمر المحتم بالصيام وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات ، حتى إنه جاء في الحديث : «فإن امرئ سبه ، فليقل : إني صائم». وجاء عن الله تعالى : «الصوم لي وأنا أجزي به» ، وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه ، اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل ، ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه ، فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من «الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش». فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به ، واختتمت بمحرم منهي عنه ، وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضا أمر ونهي ، وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى تعالى عنه ، أعاننا الله عليها.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا

٢٢٩

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)

(الْأَهِلَّةِ) : جمع هلال ، وهو مقيس في فعال المضعف ، نحو : عنان وأعنة ، وشذ فيه فعل قالوا : عنن في : عنان ، وحجج في حجاج.

والهلال ، ذكر صاحب (كتاب شجر الدر) في اللغة : أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي ، وذؤابة النعل ، وقطعة من الغبار ، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع ، وقطعة من رحى ، وسلخ الحية ، ومقاولة الأجير على الشهور ، والمباراة في رقة النسج ، والمباراة في التهليل. وجمع هلة وهي المفرجة ، والثعبان ، وبقية الماء في الحوض. انتهى ما ذكره ملخصا.

ويسمى الذي في السماء هلالا لليلتين ، وقيل : لثلاث. وقال أبو الهيثم : لليلتين من أوله وليلتين من آخره. وما بين ذلك يسمى قمرا. وقال الأصمعي : سمي هلال إلى أن يحجر ، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق ، وقيل : يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل ، وذلك إنما يكون في سبع. قالوا : وسمي هلالا لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم : استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، وهو رفع الصوت بالتلبية ، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته.

وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال ، ويقال : أهل الهلال ، واستهل وأهللنا واستهللناه ، هذا قول عامة أهل اللغة. وقال شمر : يقال استهل الهلال أيضا يعني مبنيا للفاعل وهو الهلال ، وشهر مستهل وأنشد :

وشهر مستهل بعد شهر

وحول بعده حول جديد

ويقال أيضا : استهل : بمعنى تبين ، ولا يقال أهل ، ويقال أهللنا عن ليلة كذا ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : يقال أهل الهلال واستهل ، وأهللنا الهلال واستهللناه ،

٢٣٠

انتهى. وقد تقدّم لنا الكلام في مادة هلل ، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا.

(مَواقِيتُ) : جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم : الميقات منتهى الوقت ، قال تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (١).

ثقف الشيء : إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ، ومنه : رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه ، ومنه : فأما تثقفهم في الحرب وقول الشاعر :

فأما تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

وقال ابن عطية : (ثَقِفْتُمُوهُمْ) أحكمتم غلبتهم ، يقال : رجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. انتهى. ويقال : ثقف الشيء ثقافة إذا حذقه ، ومنه أخذت الثقافة بالسيف ، والثقافة أيضا حديدة تكون للقوّاس والرمّاح يقوم بها المعوج ، وثقف الشيء : لزمه ، وهو ثقف إذا كان سريع العلم ، وثقفته : قوّمته ، ومنه الرماح المثقفة ، أي : المقومة وقال الشاعر :

ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا

وقد نهلت منا المثقّفة السمر

يعنى الرماح المقومة.

(التَّهْلُكَةِ). على وزن تفعلة ، مصدر لهلك ، وتفعلة مصدرا قليل ، حكى سيبويه منه : التضرة والتسرة ، ومثله من الأعيان : التنصبة ، والتنفلة ، يقال : هلك هلكا وهلاكا وتهلكة وهلكاء على وزن فعلاء ، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر ، وكذلك بالتاء ، هو مثلث حركات العين ، والضم في مهلك نادر ، والهلاك في ذي الروح : الموت ، وفي غيره : الفناء والنفاد.

وكون التهلكة مصدرا حكاه أبو علي عن أبي عبيدة ، وقلة غيره من النحويين قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك ، يعني المشدّد اللام ، فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار. انتهى كلامه.

وما ذهب إليه ليس بجيد ، لأن فيها حملا على شاذ ، ودعوى إبدال لا دليل عليه ، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعلة ذات الضم ، على تفعلة ذات الكسر ، وجعل

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٢.

٢٣١

تهلكة مصدرا لهلك المشدّد اللام ، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل ، نحو : كسر تكسيرا ، ولا يأتي على تفعلة ، إلا شاذا ، فالأولى جعل تهلكة مصدرا ، إذ قد جاء ذلك نحو : التضرة. وأما تهلكة فالأحسن أيضا أن يكون مصدرا لهلك المخفف اللام ، لأن بمعنى تهلكة بضم اللام ، وقد جاء في مصادر فعل : تفعلة قالوا : جل الرجل تجلة ، أي جلالا ، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدرا لهلك المشدّد اللام ، وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ ، وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال ، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذا.

وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له ، إذا ليس في المصادر غيره ، وليس قوله بصحيح ، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرّة مصدرين.

وقيل : التهلكة ما أمكن التحرز منه ، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه ، وقيل التهلكة : الشيء المهلك ، والهلاك حدوث التلف ، وقيل : التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك.

(أُحْصِرْتُمْ) قال يونس بن حبيب : أحصر الرجل رد عن وجه يريده ، قيل : حصر وأحصر لمعنى واحد ، قاله الشيباني ، والزجاج ، وقاله ابن عطية عن الفراء ، وقال ابن ميادة :

وما هجر ليلى أن يكون تباعدت

عليك ولا أن أحصرتك شغول

وقيل : أحصر بالمرض ، وحصره العدوّ ، قاله يعقوب. وقال الزجاج أيضا : الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض : أحصر ، والمحبوس : حصر ، وقال أبو عبيدة والفراء أيضا أحصر فهو محصر ، فإن حبس في سجن أو دار قيل حصر فهو : محصور ، وقال ثعلب : أصل الحصر والإحصار : الحبس ، وحصر في الحبس أقوى من أحصر ، وقال ابن فارس في (المجمل) : حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ. ويقال : حصره صدره أي : ضاق ، ورجل حصر : وهو الذي لا يبوح بسره ، قال جرير :

ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرّك يا تميم ضنينا

والحصر : احتباس الغائط ، والحصير : الملك ، لأنه كالمحبوس الحجاب. قال لبيد :

حتى لدى باب الحصير قيام

والحصير معروف : وهو سقيف من بردى سمى بذلك لانضمام بعضه إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره.

٢٣٢

(الْهَدْيِ) الهدي ما يهدى إلى بيت الله تعالى تقربا إليه ، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره. يقال : أهديت إلى البيت الحرام هديا وهديّا بالتشديد ، والتخفيف ، فالتشديد جمع هديّة ، كمطية ومطيّ ، والتخفيف جمع هدية كجذية السرج ، وجذي. قال الفراء : لا واحد للهدي ، وقيل : التشديد لغة تميم ، ومنه قول زهير :

فلم أر معشرا أسروا هديّا

ولم أر جار بيت يستباء

وقيل : الهديّ ، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل ، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه ، فيقع للافراد والجمع. وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نعم أو غير ذلك يسمى هديا ، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم.

وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هديا على ما سيأتي ذكره إن شاء الله.

الحلق : مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدّد ونورة ، والحلق مجرى الطعام بعد الفم.

الأذى : مصدر ، وهو بمعنى الألم ، تقول : آذاني زيد إيذاء آلمني.

الصدقة : ما أعطي من مال بلا عوض تقربا إلى الله تعالى.

النسك : قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها ، كالنسيكة المخلصة من الدنس ، ثم قيل للذبيحة : نسك ، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى ، وقيل : النسك مصدر نسك ينسك نسكا ونسكا ، كما تقول حلم الرجل ، حلما وحلما.

الأمن : زوال ما يحذر ، يقال : أمن يأمن أمنا وأمنة.

الثلاثة : عدد معروف ، ويقال منه : ثلثت القوم أثلثهم ، أي صيرتهم ثلاثة بي.

والثلاثون عدد معروف ، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة ، وثلث ممنوعا من الصرف ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.

العقاب : مصدر عاقب أي جازى المسيء على إساءته ، وهو مشتق من العاقبة ، كأنه يراد عاقبة فعله المسيء.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) نزلت على سؤال قوم من

٢٣٣

المسلمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الهلال ، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم. وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاري ، قالا : يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام ، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال ، وكذلك الإفطار في شهر شوال ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».

وكان أيضا قد تقدّم كلام في شيء من أعمال الحج ، وهو : الطواف ، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها.

وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى ، وفي الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو : الحج ، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها. وروي عن ابن عباس أنه قال : ما كان أمة أقل سؤالا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (١) والثاني : هذا ، وستة بعدها ، وفي غيرها : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) (٢) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) (٣) (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (٤) (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) (٥) (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) (٦) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) (٧) قيل : اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح في شرح المبدأ ، واثنان في الآخر في شرح المعاد ، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (٨) الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول ، تشتمل على شرح المبدأ ، والثانية وهي الرابعة أيضا من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد.

والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة ، وإن كان من سأل اثنين ، كما روي ، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلّا من واحد منهم أو اثنين ، وهذا كثير في كلامهم ، قيل : أو لكون الإثنين جمعا على سبيل الاتساع والمجاز.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤.

(٣) سورة الأنفال : ٨ / ١.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٥.

(٥) سورة الكهف : ١٨ / ٨٣.

(٦) سورة طه : ٢٠ / ١٠٥.

(٧) سورة النازعات : ٧٩ / ٤٢.

(٨) سورة النساء : ٤ / ١ ، وسورة الحج : ٢٢ / ١.

٢٣٤

والكاف : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و : يسألونك ، خبر ، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب : وإن كانت نزلت بعد السؤال ، وهو المنقول في أسباب النزول ، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت.

و : عن ، متعلقة بقوله : يسألونك ، يقال : سأل به وعنه ، بمعنى واحد ، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة ، بل عن حكمة اختلاف أحوالها ، وفائدة ذلك ، ولذلك أجاب بقوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها.

والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه ، قالوا : من حيث كونه هلالا في شهر ، غير كونه هلالا في آخر.

وقرأ الجمهور : عن الأهلة ، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة ، وقرأ شاذا بإدغام نون : عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف.

(قُلْ هِيَ) أي : الأهلة (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) هذه : الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال ، والمعاملات ، والإيمان ، والعدد ، والصوم ، والفطر ، ومدة الحمل والرضاع ، والنذور المعلقة بالأوقات ، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلّا بالأهلة. وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١) وفي قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (٢).

وقال الراغب : الوقت الزمان المفروض للعمل ، ومعنى : مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم. انتهى.

وقال الرماني : الوقت مقدار من الزمان محدّد في ذاته ، والتوقيت تقدير حدّه ، وكلما قدّرت له غاية فهو موقت ، والميقات منتهى الوقت ، والآخرة منتهى الخلق ، والإهلال ميقات الشهر ، ومواضع الإحرام مواقيت الحج ، لأنها مقادير ينتهي إليها ، والميقات مقدار جعل علما لما يقدّر من العمل. انتهى كلامه.

وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء ردّ على الفلاسفة في قولهم : إن الإحرام الفلكية

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٥.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٢.

٢٣٥

لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى.

والحج : معطوف على قوله : للناس ، قالوا : التقدير ومواقيت للحج ، فحذف الثاني اكتفاء بالأوّل ، والمعنى : لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته. ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة ، أفرد بالذكر ، وكأنه تخصيص بعد تعميم ، إذ قوله : مواقيت للناس ، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس ، وإنما المعنى : مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت دينا ودنيا. فجاء قوله : والحج ، بعد ذلك تخصيصا بعد تعميم. ففي الحقيقة ليس معطوفا على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب. ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب ، اقتصر على قوله : مواقيت للناس.

وقال القفال : إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج ، وأنه لا يجوز نقل الحج على تلك الأشهر لأشهر أخر ، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. انتهى كلامه.

وقرأ الجمهور : والحج ، بفتح الحاء. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : والحج بكسرها في جميع القرآن في قوله : (حِجُّ الْبَيْتِ) (١) فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم. وقال سيبويه : الحج ، كالردّ والسدّ ، والحج ، كالذكر ، فهما مصدران. والظاهر من قوله : مواقيت للناس والحج ، ما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومالك عن جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة ، خلافا لمن قال : لا يصح إلّا في أشهر الحج. قيل : وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين ، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضا ، ولا شهورا ، لعموم قوله : مواقيت للناس. ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال ، وكانت بالشهور ، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام ، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين ، وكذلك فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين آلى من نسائه شهرا ، وكذلك الإجارات ، والأيمان ، والديون ، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك ، وسقط اعتبار العدد ، وبذلك حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصوم ، وفيها ردّ على أهل الظاهر. ومن قال بقولهم : إن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.

٢٣٦

المساقات تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة ، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو : مالك ، وأبو ثور ، وأحمد ؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه ، وبه قال الشافعي ، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال : ما فصل ، فسواء رئي كبيرا أو صغيرا ، فإنه لليلة التي رئي فيها.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى). قال البراء بن عازب ، والزهري ، وقتادة : سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران ، وقيل : كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطا ، ولا بيتا ، ولا دارا من بابه ، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقبا بدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلما ، يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه ، ويرون ذلك برا إلّا أن يكون ذلك من الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية. فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال : إني أحمس ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أحمس». فنزلت. ذكر هذا مختصرا السدي.

وروى الربيع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل وخلفه رجل من الأنصار ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم دخلت وأنت قد أحرمت»؟ قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أحمس ، إني من قوم لا يدينون بذلك». فقال الرجل : وأنا ديني دينك فنزلت.

وقال إبراهيم : كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز ، وقيل : كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة ، ويبقى كذلك حولا كاملا.

وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية رادا على من جعل إتيان البيوت من ظهورها برا ، آمرا بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تضافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تضافرت من هذه الأسباب.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر ، فبين لهم أن ذلك ليس من البر ، وإنما جرت

٢٣٧

العادة به قبل الحج أن يفعلوه ، في الحج ، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة ، وما حكمة ذلك ، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم ، فأفعاله جارية على الحكمة ، ردّ عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها ، إذا أحرموا ، ليس من الحكمة في شيء ، ولا من البر ، أو لما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معا ، ووصل إحداهما بالأخرى.

وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال.

أحدها : أن ذلك ضرب ، مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ، ولكن اتقوا واسألوا العلماء. فهذا كما يقال : أتيت الأمر من بابه ، قاله أبو عبيدة.

الثاني : أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا لمخالفة الواجب في الحج ، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء ، فانهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى ، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فضرب مثلا للمخالفة ، وقيل : واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم. قاله أبو مسلم.

الثالث : أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح ، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلّا الصواب ، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله ، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة ، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم ، فالمعنى : أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر ، صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم ما تظنونه برا ، إنما البرّ أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم ، وهو حكمة الخالق على المجهول ، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمون ، قاله في (ريّ الظمآن) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري.

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى : ليس البرّ ، وما ينبغي أن يكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله.

ثم قال : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) أي : وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن

٢٣٨

يباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطئ النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١). انتهى كلامه.

وحكى هذا القول مختصرا ابن عطية ، فقال : وقال غير أبي عبيدة : ليس البرّ أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها ، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع ، أنه كنى بالبيوت عن النساء ، الإيواء اليهنّ كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهنّ ، وآتوهنّ من حيث يحل من قبلهنّ. قاله ابن زيد ، وحكاه مكي ، والمهدوي عن ابن الأنباري.

وقال ابن عطية : كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام ، انتهى.

والباء في : بان تأتوا زائدة في خبر ليس ، وبأن تأتوا ، خبر ليس ، ويتقدّر بمصدر ، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى ، وبالأعرف عما دونه في التعريف ، لأن : أن وصلتها ، عندهم بمنزلة الضمير.

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وقالون ، وعباس ، عن أبي عمرو ؛ والعجلي عن حمزة ؛ والشموني عن الأعشى ، عن أبي بكر : البيوت ، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء ، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول ، وبه قرأ باقي السبعة و : من ، متعلقة : بتأتوا ، وهي لابتداء الغاية ، والضمير في : أبوابها ، عائد على البيوت. وعاد كضمير المؤنث الواحدة ، لأن البيوت جمع كثرة ، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره ، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير ، والأفصح في كثيره أن يفرد. كهو في ضمير المؤنث الواحدة ، ويجوز العكس. وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره ، والأفصح أن يجمع الضمير. ولذلك جاء في القرآن : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) (٢) ونحوه ، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) التأويلات التي في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) (٣) سائغة

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٧٧.

٢٣٩

هنا ، من أنه أطلق البر ، وهو المصدر ، على من وقع منه على سبيل المبالغة ، أو فيه حذف من الأوّل ، أي : ذا البرّ ، ومن الثاني أي : بر من آمن. وتقدّم الترجيح في ذلك.

وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافا كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف ، وقال في آخرها : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١) وقال هنا : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) والتقوى لا تحصل إلّا بحصول تلك الأوصاف ، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمنا إذ جاء معها : هو المتقي.

وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيف : ولكنّ ، ورفع : البرّ ، والباقون بالتشديد والنصب.

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) تفسيرها : يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).

(وَاتَّقُوا اللهَ) : أمر باتقاء الله ، وتقدمت جملتان خبريتان وهما (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى ، والثانية راجعة للثانية ، وهذا من بديع الكلام.

ولما كان ظاهر قوله : من اتقى ، محذوف المفعول ، نص في قوله : واتقوا الله ، على من يتقي ، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة ، وهي قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فعلق التقوى برجاء الفلاح ، وهو الظفر بالبغية.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. قال ابن عباس : نزلت لما صدّ المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش ، ويصدوهم ، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت. وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك ، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها ، لأن ما قبلها متضمن شيئا من متعلقات الحج ، ويظهر أيضا أن المناسب هو : أنه لما أمر تعالى بالتقوى ، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٧.

٢٤٠