البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

فخالف فلا والله تهبط تلعة

أي : لا تهبط ، وقيل : ارادة أن تبروا ، والتقادير الأول متلاقية من حيث المعنى ، وروي هذا المعنى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جريج ، وابراهيم ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، في آخر من روي عنهم أن المعنى : لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ، فيتعلق بقوله : ولا تجعلوا ، ولا يظهر هذا المعنى لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر ، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر ، ولا ينعقد منه شرط وجزاء لو قلت في معنى هذا النهي وعلته : إن حلفت بالله بررت ، لم يصح وذلك كما تقول : لا تضرب زيدا لئلا يؤذيك ، فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب ، والمعنى : إن لم تضربه لم يؤذك ، وإن ضربته أذاك ، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر ، ولا على وجوده ، بل يترتب على الامتناع من الحلف وجود البر ، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر ، وهذا الذي ذكرناه يؤيد القول بان التقدير : إرادة أن تبروا ، لأنه يعلل الامتناع من الحلف بإرادة وجود البر ، ويتعلق منه الشرط والجزاء ، تقول : إن حلفت لم تبر ، وإن لم تحلف بررت.

وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي ، أي : إرادة أن تبروا ، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين ، فإن قلت : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس؟ قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى ، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا ، إن هذا من أعظم أبواب البر.

وأما معنى التقوى فظاهر ، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما الإصلاح بين الناس ، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظما لله تعالى إلى هذا الحد ، محترزا عن الإخلال بواجب حقه ، اعتقدوا فيه كونه معظما لله ، وكونه صادقا بعيدا من الأغراض الفاسدة ، فيتقبلون قوله ، فيحصل الصلح بتوسطه. انتهى هذا الكلام.

وفي (المنتخب) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال : ومعناها على الأخرى يزيد على أن يكون عرضة ، بمعنى معرضا للأمر ، قال : ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتتبذلوه

٤٤١

بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (١) باشنع المذام ، وجعل الحلاف مقدمتها ، وأن تبروا ، علة للنهي أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترئ ، على الله ، غير معظم له ، فلا يكون برا متقيا ، ولا يتق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم.

وقيل : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين ، لتبروا المحلوف لهم ، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب. روي هذا المعنى عن ابن عباس ، فقيد المعلول بالكذب ، وقيد العلة بالناس ، والإصلاح بالكذب ، وهو خلاف الظاهر.

وقال الزمخشري : ويتعلق : أن تبروا ، بالفعل و : بالعرضة ، أي : ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. انتهى. ولا يصح هذا التقدير ، لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول باجنبي ، لأنه علق : لأيمانكم ، بتجعلوا ، وعلق : لأن تبروا بعرضة ، فقد فصل بين : عرضة ، وبين : لأن تبروا بقوله : لأيمانكم ، وهو أجنبي منهما ، لأنه معمول عنده لتجعلوا ، وذلك لا يجوز ، ونظير ما أجازه أن تقول : أمرر وأضرب بزيد هندا ، فهذا لا يجوز ونصوا على انه لا يجوز : جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق ، لما فيه من الفصل بالأجنبي.

والذي يظهر لي أن تبروا ، في موضع نصب على إسقاط الخافض ، والعمل فيه قوله : لأيمانكم ، التقدير : لأقسامكم على أن تبروا ، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى ، وجعله معرضا لأقسامهم على البر والتقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة ، لما نخاف في ذلك من الحنث ، فكيف إذا كانت أقساما على ما تنافى البر والتقوى والإصلاح؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ منه مكانه الذي يليق به ، فصار في موضع : أن تبروا ، ثلاثة أقوال الرفع على الابتداء ، والخلاف في تقدير الجر ، والجر على وجهين : عطف البيان والبدل ، والنصب على وجهين : إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره ، وإما على أن يكون معمولا : لأيمانكم ، على إسقاط الخافض.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ١٠.

٤٤٢

للعلة والمعلول ، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم ، كما قدم الحلف على الإرادة.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضا للأيمان ، كان ذلك حتما لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك ، لأن العادة جرت لهم بالأيمان ، فذكر أن ما كان منها لغوا فهو لا يؤاخذ به ، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين ، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد ، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو ، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد.

واختلفت أقوال المفسرين في تفسير لغو اليمين ، فقال أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والسدي عن أشياخه ، ومالك في أشهر قوليه ، وأبو حنيفة : هو الحلف على غلبة الظن ، فيكشف الغيب خلاف ذلك ؛ وقالت عائشة ، وابن عباس أيضا ، وطاووس ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو صالح ، والشافعي : هو ما يجرى على اللسان في درج الكلام والاستعجال : لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد لليمين ؛ وهو أحد قولي مالك. وقال سعيد بن جبير ، وابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وابنا الزبير عبد الله وعروة : هو الحلف على فعل المعصية ، إلّا أن ابن جبير قال : لا يفعل ويكفر ، وباقيهم قالوا : لا يفعل ولا كفارة عليه ، وقال ابن عباس أيضا. وعلي ، وطاووس : هو الحلف في حال الغضب. وقال النخعي : هو الحلف على شيء ينساه ، وقال ابن عباس أيضا ، والضحاك : هو ما تجب فيه الكفارة إذا كفرت سقطت ، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها ، والرجوع إلى الذي هو خير ؛ وقال مكحول ، وابن جبير أيضا ، وجماعة : هو أن يحرم على نفسه ما أحل الله ، كقوله : مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، والحلال عليّ حرام ، وقال بهذا القول مالك إلّا في الزوجة ، فألزم فيها التحريم إلّا أن يخرجها الحالف بقلبه ، وقال زيد بن أسلم وابنه : هو دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغية ، إن فعل كذا ، وقال مجاهد : هو حلف المتبايعين ، يقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر : والله ما أشتريه إلّا بكذا ، وقال مسروق : هو ما لا يلزمه الوقاية ، وروي عنه ، وعن الشعبي : أنه الحلف على المعصية ؛ وقيل : هو يمين المكره ، حكاه ابن عبد البر.

وهذه الأقوال يحتملها لفظ اللغو ، إلّا أن الأظهر هو ما فسرناه أولا ، لأنه قابله كسب القلب ، وهو تعمده للشيء ، فجميع الأقوال غيره ينطبق عليها أنها كسب القلب ، لأن للقلب

٤٤٣

قصدا إليها : ونفي الوحدة يدل على أنه لا إثم ولا كفارة ، فيضعف قول من قال : إنها تختص بالإثم ، ويفسر اللغو باليمين المكفرة ، وسئل الحسن عن اللغو ، والمسبية ذات الزوج ، فوثب الفرزدق وقال : أما سمعت ما قلت :

ولست بمأخوذ بشيء تقوله

إذا لم تعمد عاقدات العزائم؟

وما قلت :

وذات حليل أنكحتنا رماحنا

حلالا ، ولولا سبيها لم تطلق؟

فقال الحسن : ما اذكاك لولا حنثك.

باللغو : متعلق : بيؤاخذكم ، والباء سببية ، مثلها في (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) (١) (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (٢). وفي أيمانكم ، متعلق بالفعل ، أو بالمصدر ، أو بمحذوف ، أي : كائنا في أيمانكم ، فيكون حالا ، ويقربه أنك لو جعلته في صلة : الذي ، ووصفت به اللغو لاستقام.

(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي باليمين التي للقلب فيها كسب ، فكل يمين عقدها القلب فهي كسب له ؛ وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد ، كآية المائدة (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) (٣) ، وقال ابن عباس ، والنخعي : هو أن يحلف كاذبا أو على باطل ، وهي الغموس ؛ وقال زيد بن أسلم : هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال : هو مشرك إن فعل كذا ، وقال قتادة : بما تعمد القلب من المآثم. وهذا الذي ذكره تعالى : من المؤاخذة ، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموسا ، أو غير غموس وترك تكفيرها ، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر.

واختلفوا في اليمين الغموس ، فقال مالك ، وجماعة : لا تكفر ، وهي أعظم ذنبا من ذلك. وقال عطاء ، وقتادة ، والربيع ، والشافعي : تكفر ، والكفارة مؤاخذة.

والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وهي المصبورة ، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٦١.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٠.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٨٩.

٤٤٤

وقسمت الأيمان إلى : لغو ومنعقدة ، وغموس ، والمنعقدة : هي على المستقبل التي يصح فيها الحنث والبر ، وبينا اللغو والغموس ، وقسمت أيضا إلى : حلف على ما من محرم وهي : الكاذبة ، ومباح : وهي الصادقة ، وعلى مستقبل عقدها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية أو مكروه ، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها ، ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها القلب ، ولكن جرت على اللسان وهي : اللغو ، أو تقصدها وهي : المنعقدة ، وهما ضدان باعتبار أن لا توجد اليمين ، إذ الإنسان قد يخلو من اليمين ، وهذان النوعان من النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه : لكن ، وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما خلاف ، وقد تقدّم طرف من هذا ، وإبدال الهمزة واوا في مثل : يؤاخذ ، مقيس ، ونحوه : يؤذن ، ويؤلف ، وفي قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) محذوف تقديره : ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، و : ما ، في قوله : بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، ويحسنه مقابلته بالمصدر ، وهو قوله : باللغو ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة.

(وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الأيمان ، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران ، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة ، وإطماع في سعة رحمته ، لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه ، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة ، كسائر وعيده تعالى.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) قال ابن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يترك المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها ، فيتركها لا أيما ، ولا ذات زوج ، فأنزل الله هذه الآية.

وقال ابن عباس : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر ، فوقت الله ذلك.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تقدّم شيء من أحكام النساء ، وشيء من أحكام الإيمان ، وهذه الآية جمعت بين الشيئين.

وقرأ عبد الله : للذين آلوا ، بلفظ الماضي وقرأ أبي ، وابن عباس : للذين يقسمون.

والإيلاء ، كما تقدّم ، هو الحلف ، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في

٤٤٥

الجاهلية ، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء ، فقال ابن عباس : هو الحلف أن لا يطأها أبدا ، وقال ابن مسعود ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن سليمان ، وإسحاق : هو الحلف أن لا يقربها يوما أو أقل أو أكثر ، ثم لا يطأها أربعة أشهر ، فتبين منه بالإيلاء.

وقال الثوري ، وأبو حنيفة : هو الحلف أن لا يطأ أربعة أشهر ، وبعد مضيها يسقط الإيلاء ، ويكون الطلاق ، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء ، وهو الجماع في داخل المدّة.

وقال الجمهور : هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر ، أو ما دونها ، فليس بمول ، وكانت يمينا محضا ، لو وطأ في هذه المدّة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي ثور.

والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقا ، غير مقيد بزمان ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، شمول الحر والعبد ، والسكران والسفيه ، والمولى عليه غير المجنون ، والخصي غير المجبوب ، ومن يرجى منه الوطء ، وكذا الأخرس بما يفهم عنه من كناية أو إشارة.

واختلف في المجبوب فقيل : لا يصح إيلاؤه ؛ وقيل : يصح ، وأجل إيلاء العبد كأجل إيلاء الحرّ لاندراجه في عموم قوله : للذين يؤلون ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ؛ وقال عطاء ، والزهري ، ومالك ، وإسحاق : أجله شهران ؛ وقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة : إيلاؤه من زوجته الأمة شهران ، ومن الحرّة أربعة وقال الشعبي : أجل إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرّة.

وظاهر قوله : يؤلون ، مطلق الإيلاء ، فيحصل ، سواء كان ذلك قصد به إصلاح ولد رضيع ، أو لم يقصد ، وسواء كان في مغاضبة ومسارّة ، أو لم يكن ، وقال عطاء ، ومالك : إذا كان لإصلاح ولد رضيع فليس يلزمه حكم الإيلاء ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الشافعي في أحد قوبه ، والقول الآخر : إنه لا اعتبار برضاع ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، والليث : شرطه أن لا يكون في غضب. وقال ابن مسعود ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، الإيلاء في غضب وغير غضب. قال ابن المنذر : وهو الأصح لعموم الآية ، ولإجماعهم على أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى ، وكذلك

٤٤٦

الإيلاء ، والجمهور حملوا قوّله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) على الحلف على امتناع الوطء فقط ؛ وقال الشعبي ، والقاسم ، وسالم ، وابن المسيب : هو الحلف على الامتناع من أن يطأها ، أو لا يكلمها ، أو أن يضارها ، أو يغاضبها. فهذا كله عند هؤلاء إيلاء ، إلّا أن ابن المسيب قال : إذا حلف لا يكلمها وكان يطأها فليس بإيلاء ، وإنما تكون تلك إيلاء إذا اقترن بها الامتناع من الوطء.

وأقوال من ذكر مع ابن المسيب قالوا ما محتمله ما قاله ابن المسيب ، وما يحتمله أن فساد العشرة إيلاء ، وإلى هذا الاحتمال ذهب الطبري.

وظاهر الآية يدل على مذهب هؤلاء ، لأنه قال : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) فلم ينص على وطء ولا غيره.

و : من ، يتعلق بقوله : يؤلون ، وآلى لا يتعدّى بمن ، فقيل : من ، بمعنى : على ، وقيل : بمعنى في ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي : على ترك وطء نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم. وقيل : من ، زائدة والتقدير : يؤلون أن يعتزلوا نسائهم. وقيل : يتعلق بمحذوف ، والتقدير : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف ، قاله الزمخشري ، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه ، وإنما يتعلق بيؤلون على أحد وجهين : إما أن يكون : من ، للسبب أي : يحلفون بسبب نسائهم ، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع ، فيعدى بمن ، فكأنه قيل : للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم ، و : من نسائهم ، عام في الزوجات من حرة وأمة وكتابية ومدخول بها وغيرها.

وقال عطاء ، والزهري ، والثوري : لا إيلاء إلّا بعد الدخول. وقال مالك ، لا إيلاء من صغيرة لم تبلغ ، فان آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.

وظاهر قوله : للذين يؤلون ، عموم الإيلاء بأي يمين كانت ، قال الشافعي في (الجديد) : لا يقع الإيلاء إلّا بالحلف بالله وحده. وقال ابن عباس : كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء ، وبه قال النخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأهل العراق ، ومالك ، وأهل الحجاز ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، والقاضي أبو بكر بن العربي ، والشافعي في القول الأخير.

وقال أبو حنيفة : إذا قال : أقسم بالله ، فهي يمين مطلقا ولا يكون بها موليا ، وإن قال : وإن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول ؛ وقال أبو حنيفة : إن كان ذلك الشهر

٤٤٧

يمضي قبل الأربعة الأشهر فليس بمول ، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة ، وخالف أبو حنيفة فيما إذا قال : إن وطئتك فعليّ أن أصلي ركعتين أنه لا يكون موليا. وقال محمد : يكون موليا.

وذكر بعض المفسرين هنا فروعا كثيرة في الإيلاء ، وإنما نذكر نحن ما له بعض تعلق بالقرآن على عادتنا ، وليس التفسير موضوعا لاستقراء جزئيات الفروع ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، حصول اليمين منهم ، سواء حلف أن لا يطأ في موضع معين ، أو مطلقا ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم ، والأوزاعي ، وأحمد : لا يكون موليا من حلف أن لا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار فإن حلف أن لا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك.

ولا يدخل الذمي في قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) لقوله (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وبه قال مالك ، كما لا يصح ظهار. وقال أبو حنيفة إن حلف باسم من أسماء الله تعالى ، أو بصفة من صفاته ، أو حلف بما يصح منه كالطلاق ، فهو مول ؛ ولو استثنى المولي في يمينه فالجمهور على أنه لا يكون موليا كسائر الأيمان المقرونة بالاستثناء ؛ وقال ابن القاسم ، عن مالك : يكون موليا ، لكنه لو وطأ فلا كفارة عليه ، وقاله ابن الماجشون في (المبسوط) عن مالك : لا يكون موليا.

(تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل ، لكنه اتسع فيه فصير مفعولا به ، ولذلك صحت الإضافة إليه ، وكان الأصل : تربصهم أربعة أشهر ، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع ، فتكون الإضافة على تقدير : في ، خلافا لمن ذهب إلى ذلك.

وظاهر هذا ، أن ابتداء أجل الإيلاء من وقت حلف لا من وقت المخاصمة والرفع إلى الحاكم ، قيل : وحكمه ضرب أربعة أشهر ، لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج ، وقصة عمر مشهور في سماع المرأة تنشد بالليل :

ألا طال هذا الليل واسود جانبه

وأرقني أن لا حبيب ألاعبه.

وسؤاله : كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقيل له : لا تصبر أكثر من أربعة أشهر. فجعل ذلك أمدا لكل سرية يبعثها.

(فَإِنْ فاؤُ) أي : رجعوا بالوطء ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، ويكفي من ذلك عند

٤٤٨

الجمهور مغيب الحشفة للقادر ، فإن كان له عذر أو مرض أو سجن أو شبه ذلك ، فارتجاعه صحيح ، وهي امرأته ، وإن زال عذره فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت ، قاله مالك في (المدونة) و (المبسوط). وقال الحسن ، والنخعي ، وعكرمة ، والأوزاعي : يجزي المعذور أن يشهد على فيأته بقلبه ، وقال النخعي أيضا : يصح الفيء بالقول ، والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء إذا رأيت أن لم ينتشر ، وقيل : الفيء هو الرضى ، وقيل : الرجوع باللسان بكل حال ، قاله أبو قلابة ، وإبراهيم ، ومن قال : إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته ؛ وقال أحمد : إذا كان له عذر يفيء بقلبه ، وقال ابن جبير ، وابن المسيب ، وطائفة : الفيء لا يكون إلا بالجماع في حال القدرة وغيرها ، من سجن أو سفر أو مرض وغيره.

وأمال : فاؤا ، جرية بن عائذ لقوله : فئت ، وقرأ عبد الله فإن فاؤا فيهنّ ، وقرأ أبي : فان فاؤا فيها ، وروي عنه : فيهنّ ، كقراءة عبد الله. والضمير عائد على الأشهر ، ويؤيد هذه القراءة مذهب أبي حنيفة : بأن الفيئة لا تكون إلّا في الأشهر ، وإن لم يفىء فيها دخل عليه الطلاق من غير أن يوقف بعد مضي الأربعة الأشهر ، وإلى هذا ذهب : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان بن عفان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن زيد ، والحسن ، ومسروق ؛ وقال عمر ، وعثمان ، وعلي أيضا ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عامر المسيب ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف ، فأما قاء وإلا طلق عليه ؛ والقراءة المتواترة : فإن فاؤا بغيرهنّ ، ولا فيها ، فاحتمل أن يكون التقدير : فإن فاؤا في الأشهر ، واحتمل أن يكون : فإن فاؤا بعد انقضائها.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) استدل بهذا من قال : إنه إذا فاء المولي ووطأ فلا كفارة عليه في يمينه ، وإلى هذا ذهب الحسن ، وإبراهيم ؛ وذهب الجمهور مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته ، فيكون الغفران هنا إشعارا بإسقاط الإثم بفعل الكفارة ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وابن المسيب : إنه غفران الإثم ، وعليه كفارة ، وعلى المذهب الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة ، وقال أبو حنيفة : ولا كفارة على العاجز عن الوطء إذا فاء ، وقال إسحاق : قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر أو تقوى ، أو باب من أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله ، ولا كفارة عليه ، والحجة له ، (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولم يذكر كفارة ، وقيل : معنى ذلك غفور لمآثم اليمين ، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير ، قاله ابن زياد ، وهو راجع

٤٤٩

للقول الثاني ، وقيل : معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضربها زوجها ، فيكون وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج ، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) قرأ ابن عباس : وإن عزموا السراح ، وانتصاب الطلاق : إما على إسقاط حرف الجر ، وهو على ، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال :

عزمت على إقامة ذي صباح

وأما إن تضمن : عزم ، معنى : نوى ، فيتعدى إلى مفعول به.

ومعنى العزم هنا التصميم على الطلاق ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، تقديره : فليوقعوه ، أي : الطلاق ، وفي قوله في هذا التقسيم : (فَإِنْ فاؤُ) و (إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمضي الأربعة الأشهر من غير قول ، بل لا بد من القول لقوله : عزموا الطلاق ، لأن العزم على فعل الشيء ليس فعلا للشيء ، ويؤكده : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إذ لا يسمع إلّا الأقوال ، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه ، إذ قدرناه : فليوقعوه ، أي الطلاق ، فجاء : سميع ، باعتبار إيقاع الطلاق ، لأنه من باب المسموعات ، وهو جواب الشرط ، وجاء : عليم ، باعتبار العزم على الطلاق ، لأنه من باب النيات ، وهو الشرط ، ولا تدرك النيات إلّا بالعلم.

وتأخر هذا الوصف لمؤاخاة رؤوس الآي ، ولأن العلم أعم من السمع ، فمتعلقه أعم ، ومتعلق السمع أخص ، وأبعد من قال : فإن الله سميع لإيلائه ، لبعد انتظامه مع الشرط قبله. وقال الزمخشري : فإن قلت ما تقول في قوله : فإن الله سميع عليم؟ وعزمهم الطلاق مما لا يعلم ولا يسمع؟ قلت : الغالب أن العازم للطلاق ، وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقارنة ودمدمة ، ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك حديث لا يسمعه إلّا الله ، كما يسمع وسوسة الشيطان. انتهى كلامه.

وقد قدّمنا أن صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى : وإن عزموا الطلاق أوقعوه ، أي : الطلاق ، والإيقاع لا يكون إلّا باللفظ ، فهو من باب المسموعات ، والصفة تتعلق بالجواب لا بالشرط ، فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري.

وفي قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) دلالة على مطلق الطلاق ، فلا يدل على خصوصية طلاق بكونه رجعيا أو بائنا ، وقد اختلف في الطلاق الداخل على المولي في ذلك ، فقال عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة :

٤٥٠

هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها وقال ابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، ومكحول ، والزهري ، ومالك ، وابن شبرمة : هي رجعية.

وفي الحكم للمولي بأحد الأمرين ، إما الفيئة ، وإما الطلاق دليل على أنه لا يجوز تقديم الكفارة في الإيلاء قبل الفيء على قول من يوجب الكفارة ، لأنه لو جاز ذلك لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق ، لأنه إن حنث لم يلزم بالحنث شيء ، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا ، ففي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء ، قاله محمد بن الحسن ، ومذهب أبي حنيفة ومشهور مذهب مالك : أنه يجوز تقديم الكفارة. وقال الزمخشري : وإن عزموا الطلاق فتربصوا إلى مضي المدة. فإن الله سميع عليم ، وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعلى قول الشافعي معناه : فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا بعد مضي المدة. انتهى.

وكان قد تقدّم في تفسير قوله : فإن فاؤا ، ما نصه فإن فاؤا في الأشهر ، بدليل قراءة عبد الله ، فإن فاؤا فيهنّ فإن الله غفور رحيم ، يغفر للمؤمنين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء ، وهو الغالب ، وإن كان يجوز أن يكون على رضى منهن ، خوفا على الولد من الغيل ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة ، فنزل الزمخشري الآية على مذهب أبي حنيفة ، وغاير بين متعلق الفعلين من الطرفين ، إذ جعل بعد : فاؤا ، في مدة الأشهر ، وبعد : عزموا ، بعد مضي المدة ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الفيئة والعزم على الطلاق لا يكونان إلا بعد مضي الأشهر ، ولما أحسّ الزمخشري بهذا اعترض على نفسه فقال : فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص؟ قلت : موقع صحيح ، لأن قوله : فإن فاؤا ، وإن عزموا ، تفصيل لقوله : للذين يؤلون من نسائهم ، والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم ، إلى آخره. وإلّا لم أقم إلّا ريثما أتحول. انتهى كلامه. وليس بصحيح لأن ما مثل به ليس مطابقا لما في الآية ، ألا ترى أن المثال فيه إخبار عن المفصل حاله ، وهو قوله : أنا نزيلكم هذا الشهر ، وما بعد الشرطين مصرح فيه بالجواب الدال على اختلاف متعلق فعل الجزاء ، والآية ليس كذلك التركيب فيها ، لأن الذين يؤلون ليس مخبرا عنهم ، ولا مسندا إليهم حكم ، وإنما المخبر عنه هو : تربصهم ، فالمعنى تربص المولي أربعة أشهر مشروع لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : فإن فاؤا ، وإن عزموا ، فالظاهر أنه يعقب

٤٥١

تربص المدة المشروعة بأسرها ، لأن الفيئة تكون فيها ، والعزم بعدها ، لأن هذا التقييد. المغاير لا يدل عليه اللفظ ، وإنما تطابق الآية أن نقول : للضيف إكرام ثلاثة أيام ، فإن أقام فنحن كرماء مؤثرون ، وإن عزم على الرحيل فله أن يرحل. فالذي يتبادر إليه الذهن أن الشرطين مقدران بعد إكرامه الثلاثة الأيام ، وأما أن يكون المعنى : فإن أقام في مدة الثلاثة الأيام ، وإن عزم على الرحيل بعد ذلك ، فهذا الاختلاف في الطرفين لا يتبادر إليه الذهن ، وإن كان مما يحتمله اللفظ ، وفرق بين الظاهر والمحتمل ، ولا يفرق بين الآية وتمثيل الزمخشري إلّا من ارتاض ذهنه في التراكيب العربية ، وعرى من حمل كتاب الله على الفروع المذهبية ، باتباعه الحق واجتنابه العصبية.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ذكر بعضهم في سبب نزول هذه الآية ما لا يعد سببا ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جدا ، لأنه حكم غالب من أحكام النساء ، لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائما ، وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة ، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور ، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر ، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء ، فناسب ذكرها بعقبها ، وظاهر : والمطلقات ، العموم ، ولكنه مخصوص بالمدخول بهن ذوات الأقراء ، لأن حكم غير المدخول بها ، والحامل ، والآيسة منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء.

وروي عن ابن عباس وقتادة أن الحكم كان عاما في المطلقات ، ثم نسخ الحكم من المطلقات سوى المدخول بها ذات الأقراء ، وهذا ضعيف ، وإطلاق العام ويراد به الخاص لا يحتاج إلى دليل لكثرته ، ولا أن يجعل سؤالا وجوابا. كما قال الزمخشري ، قال : فإن قلت كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم. قلت : بل اللفظ مطلق في تناول الجنس ، صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. انتهى.

وما ذكره ليس بصحيح ، لأن دلالة العام ليست دلالة المطلق ، ولا لفظ العام مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، بل هي دلالة على كل فرد فرد ، موضوعة لهذا المعنى ، فلا يصلح لكل الجنس وبعضه ، لأن ما وضع عاما يتناول كل فرد فرد ، ويستغرق الأفراد لا يقال فيه : إنه صالح لكله وبعضه ، فلا يجيء في أحد ما يصلح له ، ولا هو كالاسم المشترك ، لأن الاسم المشترك له وضعان وأوضاع بإزاء مدلوليه أو مدلولاته ، فلكل مدلول وضع ، والعام ليس له إلّا وضع واحد على ما أوضحناه ، فليس كالمشترك.

٤٥٢

(وَالْمُطَلَّقاتُ) مبتدأ و (يَتَرَبَّصْنَ) خبر عن المبتدأ ، وصورته صورة الخبر ، وهو أمر من حيث المعنى ، وقيل : هو أمر لفظا ومعنى على إضمار اللام أي : ليتربصن ، وهذا على رأي الكوفيين ، وقيل : والمطلقات على حذف مضاف ، أي : وحكم المطلقات ويتربصن على حذف : أن ، حتى يصح خبرا عن ذلك المضاف المحذوف ، التقدير : وحكم المطلقات أن يتربصن ، وهذا بعيد جدا.

وقال الزمخشري ، بعد أن قال : هو خبر في معنى الأمر ، قال : فإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد الأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص ، فهو يخبر عنه ، موجودا ، ونحوه قولهم في الدعاء : رحمه‌الله ، أخرج في صورة الخبر عن الله ثقة بالاستجابة ، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها ، وبناؤه على المبتدأ مما زاد فضل تأكيد ، ولو قيل : ويتربصن المطلقات ، لم يكن بتلك الوكادة. انتهى. وهو كلام حسن ، وإنما كانت الجملة الابتدائية فيها زيادة توكيد على جملة الفعل والفاعل لتكرار الاسم فيها مرتين : إحداهما بظهوره ، والأخرى بإضماره ، وجملة الفعل والفاعل يذكر فيها الاسم مرة واحدة.

وقال في (ري الظمآن) زيد فعل يستعمل في أمرين : أحدهما : تخصيص ذلك الفعل بذكر الأمر ، كقولهم : أنا كتبت في المهمّ الفلاني إلى السلطان ، والمراد دعوى الانفراد. الثاني : أن لا يكون المقصود ذلك ، بل المقصود أن تقديم المحدث عنه بحديث آكد لإثبات ذلك الفعل له ، كقولهم : هو يعطي الجزيل ، لا يريد الحصر ، بل المراد أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه.

ومعنى يتربصن : ينتظرن ولا يقدمن على تزوج. وقال القرطبي : هو خير على بابه ، وهو خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع ، قيل : وحمله على الخبر هو الأولى ، لأن المخبر به لا بد من كونه ، وأما الأمر فقد يمتثل ، وقد لا يمتثل ، ولأنها لا تحتاج إلى نية وعزم. وتربص متعد ، إذ معناه : انتظر ، وجاء في القرآن محذوفا مفعوله ، ومثبتا ، فمن المحذوف هذا ، وقدروه : بتربص التزويج ، أو الأزواج ، ومن المثبت قوله : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) (١) (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٢).

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥٢.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٣٠.

٤٥٣

و : بأنفسهن ، متعلق : بتربص ، وظاهر الباء مع تربص أنها للسبب ، أي : من أجل أنفسهن ، ولا بد أن ذلك من ذكر الأنفس ، لأنه لو قيل في الكلام : يتربص بهن لم يجز ، لأنه فيه تعدية الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل إلى الضمير المجرور ، نحو : هند تمر بها ، وهو غير جائز ، ويجوز هنا أن تكون زائدة للتوكيد ، والمعنى : يتربصن أنفسهن ، كما تقول : جاء زيد بنفسه ، وجاء زيد بعينه ، أي : نفسه وعينه ، لا يقال : إن التوكيد هنا لا يجوز ، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل ، وهو النون التي هي ضمير الإناث في : تربصن ، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل ، وكان يكون التركيب : يتربصن هن بأنفسهن ، لأن هذا التوكيد ، لما جرّ بالباء ، خرج عن التبعية ، وفقدت فيه العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل ، حتى يؤكد بمنفصل ، إذا أريد التوكيد للنفس والعين ، ونظير جواز هذا : أحسن بزيد وأجمل ، التقدير : وأجمل به ، فحذف وإن كان فاعلا ، هذا مذهب البصريين ، ولأنه لما جرّ بالباء خرج في الصورة عن الفاعل ، وصار كالفضلة ، فجاز حذفه : هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل جواز : قاموا أنفسهم ، من غير توكيد ، وفائدة التأكيد هنا : أنهنّ يباشرن التربص ، وزوال احتمال أن غيرهنّ تباشر ذلك بهنّ ، بل هنّ أنفسهنّ هنّ المأمورات بالتربص ، إذ ذاك أدعى لوقوع الفعل منهنّ ، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهنّ من الطموح إلى الرجال والتزويج ، فمتى أكد الكلام دل على شدة المطلوبة.

وانتصاب : ثلاثة ، على أنه ظرف ، إذ قدرنا : تربص ، قد أخذ مفعوله ، والمعنى : مدة ثلاثة قروء ، وقيل : انتصابه على أنه مفعول ، أي : ينتظرن معنى ثلاثة قروء ، وكلا الإعرابين منقول.

وتقدم الكلام في مدلول القروء في لسان العرب ، واختلف في المراد هنا.

فقال أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، وابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، ومقاتل ، والسدي ، والربيع ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وغيرهم من فقهاء الكوفة : هو الحيض.

وقال زيد بن ثابت ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وعائشة ، وابن عمر ، وابن عباس ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، وسليمان بن يسار ، والأوزاعي ، والثوري ، والحسن بن صالح ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم من فقهاء الحجاز : هو الطهر.

٤٥٤

وقال أحمد : كنت أقول القرء الطهر ، وأنا الآن أذهب إلى أنه الحيض.

وروي عن الشافعي : أن القرء : الانتقال من الطهر إلى الحيض ، ولا يرى الانتقال من الحيض إلى الطهر قرءا.

وقد تقدّم قول آخر : إنه الخروج من طهر إلى حيض ، أو من حيض إلى طهر. ولذكر ترجيح كل قائل ما ذهب إليه مكان غير هذا.

وظاهر قوله : ثلاثة قروء ، أن العدّة تنقضي بثلاثة القروء ، ومن قال : إن القرء الحيض يقول ، إذا طلقت في طهر لم توطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة ثم تغتسل ، فبالغسل تنقضي العدة.

روي عن علي ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وغيرهم من الصحابة : «أن زوجها أحق بردّها ما لم تغتسل» حتى قال شريك : لو فرطت في الغسل ، فلم تغتسل عشرين سنة ، كان زوجها أحق بالرجعة ، والذي يظهر من الآية أن الغسل لا دخول له في انقضاء العدة.

وروي عن زيد ، وابن عمر ، وعائشة : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ، ولا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ، وذلك أن هؤلاء يقولون بأن القرء هو الطهر ، فإذا طلقت في طهر لم تمس فيه ، اعتدت بما بقي منه ، ولو ساعة ، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة بأوّل نقطة تراها ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وداود.

وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث إلّا بتحقق أنه دم حيض ، لاحتمال أن يكون دفعة دم من غير الحيض ، وكل من قال : إن القرء الاطهار ، يعتد بالطهر الذي طلقت فيه ، وشذ ابن شهاب فقال : تعتد بثلاثة أقراء سوى بقية ذلك الطهر ، ولا تنقضي العدة حتى تدخل في الحيضة الرابعة ، لأن الله تعالى قال : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، ولو طلقت في الحيض انقضت عدتها بالشروع في الحيضة الرابعة.

وقال أبو حنيفة : لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الرابعة ، وقال : إذا طهرت لأكثر الحيض انقضت عدتها قبل الغسل أو لأوّله ، فلا تنقضي حتى تغتسل ، أو تتيمم عند عدم الماء ، أو يمضي عليها وقت الصلاة.

وظاهر عموم المطلقات دخول الزوجة الأمة في الاعتداد بثلاثة قروء ، وبه قال داود ،

٤٥٥

وجماعة أهل الظاهر ، وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ؛ وروي عن ابن سيرين أنه قال : ما أرى عدة الأمة إلّا كعدة الحرة ، إلّا ان مضت سنة في ذلك ، فالسنة أحق أن تتبع وقال الجمهور : عدتها قرآن.

وقرأ الجمهور : وقروء ، على وزن فعول ؛ وقرأ الزهري : قروّ ، بالتشديد من غير همز ، وروي ذلك عن نافع ؛ وقرأ الحسن : قرو بفتح القاف وسكون الراء وواو خفيفة ، وتوجيه الجمع للكثرة في هذا المكان ، ولم يأت : ثلاثة أقراء ، انه من باب التوسع في وضع أحد الجمعين مكان الآخر ، أعني : جمع القلة مكان جمع الكثرة ، والعكس. وكما جاء : بأنفسهنّ وأن النكاح يجمع النفس على نفوس في الكثرة ، وقد يكثر استعمال أحد الجمعين ، فيكون ذلك سببا للإتيان به في موضع الآخر ويبقى الآخر قريبا من المهمل ، وذلك نحو : شسوع أوثر على أشساع لقلة استعمال أشساع ، وإن لم يكن شاذا ، لأن شسعا ينقاس فيه أفعال ؛ وقيل : وضع بمعنى الكثرة ، لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء ؛ وقيل : أوثر قروء على أقراء لأن واحده قرء ، بفتح القاف ، وجمع فعلى على أفعال شاذ ، وأجاز المبرّد : ثلاثة حمير ، وثلاثة كلاب ، على إرادة : من كلاب ، ومن حمير. فقد يتخرّج على ما أجازه : ثلاثة قروء ، أي : من قروء.

وتوجيه تشديد الواو ، وهو أنه أبدل من الهمزة واوا وأدغمت واو فعول فيها ، وهو تسهيل جائز منقاس ، وتوجيه قراءة الحسن أنه أضاف العدد إلى اسم الجنس ، إذ اسم الجنس يطلق على الواحد وعلى الجمع على حسب ما تريد من المعنى ، ودل العدد على أنه لا يراد به الواحد.

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) المنهي عن كتمانه الحيض ، تقول لست حائضا وهي حائض ، أو حضت وما حاضت ، لتطويل العدة أو استعجال الفرقة ، قال عكرمة ، والنخعي ، والزهري. أو : الحبل ، قاله عمر ، وابن عباس. أو الحيض والحبل معا ، قاله ابن عمر ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد ، والربيع ، ولهنّ في كتم ذلك مقاصد ، فأخبر الله تعالى أن كتم ذلك حرام ؛ ودل قوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ) أنهن مؤتمنات على ذلك ، ولو أبيح الاستقصاء لم يمكن الكتم ؛ وقال سليمان بن يسار : لم نؤمر أن نفتح النساء فنظر إلى فروجهنّ ، ولكن وكل ذلك اليهنّ ، إذ كنّ مؤتمنات. انتهى. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكتم المرأة ما خلق الله في رحمها من حمل ولا حيض ، وفيه تغليط ، وإنكار.

٤٥٦

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : اللاتي تبغين إسقاط ما في بطونهنّ من الأجنة ، فلا يعترفن به ، ويجحدنه لذلك فجعل كتمان ما في أرحامهنّ كناية عن إسقاطه. انتهى كلامه ، والآية تحتمله.

قال ابن المنذر : كل من حفظت عنه من أهل العلم قال : إذا قالت المرأة في عشرة أيام حضت إنها لا تصدق ، ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول : قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه ، واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة فقال مالك : إن ادّعت الانقضاء في أمد تنقضي العدة في مثله ، قبل قولها : أو في مدة تقع نادرا ، فقولان ، قال في (المدوّنة) إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر ، صدقت إذا صدقها النساء ، وبه قال علي وشريح ، وقال في كتاب (محمد) لا تصدق إلا في شهر ونصف ، ونحو منه قول أبي ثور ، أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما ، وقيل : لا تصدق في أقل من ستين يوما.

وروي عن علي أنه استحلف امرأة لم تستكمل الحيض ، وقضى بذلك عثمان.

و : لهنّ ، متعلق : بيحل ، واللام للتبليغ ، و : ما ، في : ما خلق ، الأظهر أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أيضا التقدير : خلقه. و : في أرحامهنّ ، متعلق بخلقه ، وجوّز أن تكون في أرحامهنّ حالا من المحذوف ، قيل : وهي حال مقدرة ، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه.

وقرأ مبشر بن عبيد : في أرحامهنّ وبردّهنّ ، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل ، وإنما كسرت لكسرة ما قبلها.

(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). هذا شرط جوابه محذوف على الأصح من المذاهب ، حذف لدلالة ما قبله عليه ، ويقدر هنا من لفظه ، أي : إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر ، فلا يحل لهنّ ذلك. والمعنى : أن من اتصف بالإيمان لا يقدم على ارتكاب ما لا يحل له ، وعلق ذلك على هذا الشرط ، وإن كان الإيمان حاصلا لهنّ إيعادا وتعظيما للكتم ، وهذا كقولهم : إن كنت مؤمنا فلا تظلم ، وإن كنت حرا فانتصر. يجعل ما كان موجودا كالمعدوم ، ويعلق عليه ، وإن كان موجودا في نفس الأمر.

والمعنى : إن كنّ مؤمنات فلا يحل لهنّ الكتم ، وأنت مؤمن فلا تظلم ، وأنت حر فانتصر ، وقيل : في الكلام محذوف : أي ، إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر حق الإيمان.

وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، وهو ضعيف ، وتضمن هذا الكلام الوعيد ، فقال ابن

٤٥٧

عباس : لما استحقه الرجل من الرجعة ؛ وقال قتادة : لإلحاق الولد بغيره ، كفعل أهل الجاهلية.

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) قرأ مسلمة بن محارب : وبعولتهنّ ، بسكون التاء ، فرارا من ثقل توالي الحركات ، وهو مثل ما حكى أبو زيد : ورسلنا ، بسكون اللام. وذكر أبو عمرو : أن لغة تميم تسكين المرفوع من : يعلمهم ، ونحوه. وسماهم بعولة باعتبار ما كانوا عليه ، أو لأن الرجعية زوجة على ما ذهب إليه بعضهم.

والمعنى أن الأزواج أحق لمراجعتهنّ.

وقرأ أبي : بردتهنّ بالتاء بعد الدال ، وتتعلق : الباء ، وفي ، بقوله : أحق ، وقيل : تتعلق : في ، بردهنّ ؛ وأشار بقوله : في ذلك ، إلى الأجل الذي أمرت أن تتربص فيه ، وهو زمان العدة. وقيل : في الحمل المكتوم ، والضمير في : بعولتهن ، عائد على المطلقات ، وهو مخصوص بالرجعيات ، وفيه دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله ولا يوجب تخصيصه ، لأن قوله : والمطلقات ، عام في المبتوتات والرجعيات ، و : بعولتهن أحق بردهن ، خاص في الرجعيات ، ونظيره عندهم (وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) (١) فهذا عموم ، ثم قال : (وَإِنْ جاهَداكَ) (٢) وهذا خاص في المشركين.

والأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه الحكم ، تقديره : وبعولة رجعياتهن ، و : أحق ، هنا ليست على بابها ، لأن غير الزوج لا حق له ولا تسليط على الزوجة في مدة العدة ، إنما ذلك للزوج ولا حق لها أيضا في ذلك ، بل لو أبت كان له ردها ، فكأنه قيل : وبعولتهن حقيقون بردهن. ودل قوله : بردهنّ ، على انفصال سابق ، فمن قال : إن المطلقة الرجعية محرمة الوطء فالرد حقيقي على بابه ، ومن قال : هي مباحة الوطء وأحكامها أحكام الزوجة ، فلما كان هناك سبب تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدّة ، جاز إطلاق الرد عليه ، إذ كان رافعا لذلك السبب.

واختلفوا فيما به الرد ؛ فقال سعيد ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، وطاووس ، والزهري ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة : إذا جامعها فقد راجعها ويشهد ؛ وقال الليث ، وطائفة من أصحاب مالك : إن وطأه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها ؛ وقال مالك : إن وطئها في العدة يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة وينبغي للمرأة أن تمنعه

__________________

(١ ـ ٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٨.

٤٥٨

الوطء حتى يشهد ، وبه قال إسحاق : فإن وطأ ولم ينو الرجعة ، فقال مالك : يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد.

وقال ابن القاسم : فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في مدة بقية الاستبراء ، فان فعل فسخ نكاحه ولا يتأبد تحريمها عليه ، لأن الماء ماؤه ؛ وقال الشافعي : إذا جامعها فليس برجعة نوى بذلك الرجعة أم لا ، ولها مهر مثلها ؛ وقال مالك : لا شيء عليه ، قال أبو عمرو : لا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي.

قال الشافعي : ؛ ولا تصح الرجعة إلّا بالقول ، وبه قال جابر بن زيد ، وأبو قلابة ، وأبو ثور ؛ قال الباجي في (المنتقى) : ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول ، ولو قبل أو باشر أثم عند مالك ، وليس برجعة. والسنة أن يشهد قبل ذلك ؛ وقال أبو حنيفة ، والثوري : إن لمسها بشهوة ، أو نظر إلى فرجها بشهوة فهو رجعة ، وينبغي أن يشهد في قول مالك ، والشافعي ، وإسحاق وأبي عبيد ، وأبي ثور.

وهل يجوز له أن يسافر بها قبل ارتجاعها؟ منعه مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه؟ وعن الحسن بن زياد : إن له أن يسافر بها قبل الرجعة.

وهل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها وتتزين له أو تتشوّف؟ أجاز ذلك أبو حنيفة ؛ وقال مالك : لا يدخل عليها إلّا بإذن ، ولا ينظر إليها إلّا وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها ، ولا بأس أن يؤاكلها إذا كان معها غيرها ، ولا يبيت معها في بيت ؛ قال ابن القاسم : ثم رجع مالك عن ذلك ، فقال : لا يدخل عليها ، ولا يرى شعرها ، وقال سعيد يستأذن عليها إذا دخل ويسلم ، أو يشعرها بالتنخم والتنحنح ، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي ، فإن لم يكن لها إلّا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا ؛ وقال : الشافعي هي محرمة تحريم المبتوتة حتى تراجع بالكلام ، كما تقدم.

وأجمعوا على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة لامرأته : كنت راجعتك في العدة ، وأنكرت! إن القول قولها مع يمينها وفيه خلاف لأبي حنيفة ، فلو كانت الزوجة أمة ، والزوج ادعى الرجعة في العدة بعد انقضائها ، فالقول قول الزوجة الأمة ، وإن كذبها مولاها! هذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور.

وقال أبو يوسف ، ومحمد : القول قول المولى وهو أحق بها.

(إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) هذا شرط آخر حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، وظاهره أن

٤٥٩

إباحة الرجعة معقودة بشريطة إرادة الإصلاح ، ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا راجعها مضارا في الرجعة ، مريدا لتطويل العدة عليها إن رجعته صحيحة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (١) قالوا : فدل ذلك على صحة الرجعة ، وإن قصد الضرر ، لأن المراجعة لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالما بفعلها.

قال الماوردي : في الإصلاح المشار إليه وجهان : أحدهما : إصلاح ما بينهما من الفساد بالطلاق ؛ الثاني : القيام لما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق. انتهى كلامه.

قالوا : ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي ، وعن رضاها ، وعن تسمية مهر ، وعن الإشهاد على الرجعة على الصحيح ، ويسقط بالرجعة بقية العدة ، ويحل جماعها في الحال ، ويحتاج في اثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع ، والذي يظهر لي أن المرأة بالطلاق تنفصل من الرجل ، فلا يجوز له أن تعود إليه. إلّا بنكاح ثان ، ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها ، فإما أن يبقى شيء من عدتها ، أو لا يبقى. إن بقي شيء من عدتها فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح ، ومفهوم الشرط أنه إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك ، وإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزويجها ، وإما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح ، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه ، فإن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع ، قلنا به ، ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا ، وإن ذلك من أوليات الفقه التي لا يسوغ النزاع فيها ، وأن كل حكم يحتاج إلى دليل.

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) هذا من بديع الكلام ، إذ حذف شيئا من الأول أثبت نظيره في الآخر ، وأثبت شيئا في الأول حذف نظيره في الآخر ، وأصل التركيب ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ ، فحذفت على أزواجهنّ لإثبات : عليهنّ ، وحذف لأزواجهنّ لإثبات لهنّ.

واختلف في هذه المثلية ، فقيل : المماثلة في الموافقة والطواعية ، وقال معناه الضحاك ؛ وقيل : المماثلة في التزين والتصنع ، وقاله ابن عباس ، وقال : أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية ؛ وقيل : المماثلة في تقوى الله فيهنّ ، كما عليهنّ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣١.

٤٦٠