البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

أولئك بأخبار أربعة : الأول : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا ، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم نارا ، فلا يحسون بها إلا بعد الموت. ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار ، استدراجا وإملاء لهم. ويكون في هذا المعنى بعض تجوز ، لأنه حالة الأكل لم يكن نارا ، إنما بعد صارت في بطونهم نارا. وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة ، فهو حقيقة أيضا. واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل نارا في الآخرة ، ثم يطعمهم الله إياه في النار. وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه. وأكثر العلماء على تأويل قوله : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله ، والاشتراء به الثمن القليل ، بالنار. وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار. وعبر بالأكل ، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال. وذكر في بطونهم ، إما على سبيل التوكيد ، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن ، فصار نظير : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١). أو كناية عن ملء البطن ، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه ، وفلان أكل في بعض بطنه. أو لرفع توهم المجاز ، إذ يقال : أكل فلان ماله ، إذا بذره ، وإن لم يأكله. وجعل المأكول النار ، تسمية له بما يؤول إليه ، لأنه سبب النار ، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم ، يريدون الدية ، لأنها بدل من الدم ، قال الشاعر :

فلو أن حيا يقبل المال فدية

لسقنا إليه المال كالسيل مفعما

ولكن لنا قوم أصيب أخوهم

رضا العار واختاروا على اللبن الدما

وقال آخر :

أكلت دما إن لم أرعك بضربة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

وقال آخر :

تأكل كل ليلة أكافا

أي ثمن أكاف ، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك. وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير ، ومن ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (٢) ، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ، وذكر في بطونهم تنبيها على شرههم وتقبيحا لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٠.

١٢١

متناول ، قاله الراغب. وقال ابن عطية نحوه ، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم ، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : هذا الخبر الثاني عن أولئك ، وظاهره نفي الكلام مطلقا ، أعني مباشرتهم بالكلام ، فيكون ما جاء في القرآن ، أو في السنة ، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام ، متأولا بأنه يأمر من يقول لهم ذلك ، نحو قوله تعالى : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١) ، ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم ، دلالة على الغضب عليهم ، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه؟ لأن في التكلم ، ولو كان بشر ، تأنيسا ما والتفاتا إلى المكلم. وقيل : معنى ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم. وليس المراد نفي الكلام ، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين ، قاله الحسن. وقيل : المعنى ليس على العموم ، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم ، كقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) ، والسؤال لا يكون إلا بالتكليم ، وقال : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ). فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية ، وإنما يكلمهم كلاما يشق عليهم. وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. وقيل : ولا يكلمهم الله ، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه. وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام ، لأن من كلمته ، كنت قد استدعيت كلامه ، كأنه قال : لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣) ، فنفى الكلام ، وهو يراد ما يلزم عنه ، وهو استدعاء الكلام.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) : هذا هو الخبر الثالث ، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء ، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء. وقيل : المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة. وقيل : المعنى لا يثني عليهم من قولهم : زكى فلانا ، إذا أثنى عليه ، قاله الزجاج. وقيل : لا يطهرهم من دنس كفرهم ، وهو معنى قول بعضهم : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، قاله ابن جرير. وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : هذا هو الخبر الرابع لأولئك ، وقد تقدم تفسير قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) ، في أول السورة. وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩٢.

(٣) سورة المرسلات : ٧٧ / ٣٦.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٠.

١٢٢

الأربعة ، وانعطفت بالواو الجامعة لها. وعطف الأخبار بالواو ، ولا خلاف في جوازه ، بخلاف أن لا تكون معطوفة ، فإن في ذلك خلافا وتفصيلا. وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها ، ومناسب عطف بعضها على بعض ، لما نذكره فنقول : متى ذكر وصف ورتب عليه أمر ، فللعرب فيه طريقان : أحدهما : أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها ، الأول منها لأول تلك الأوصاف ، والثاني للثاني ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي ، حيث قوبل الأول بالأول ، والثاني بالثاني. وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاورا لما يليه من تلك الأوصاف ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ، لا من حيث الترتيب اللفظي ، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل.

لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل ، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية ، بدأ أولا في الخبر بقوله : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان ، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) ، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم ، وابتنى على كتمانهم الدين ، واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلا ، أنهم شهود زور وأخبار سوء ، حيث غيروا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا ، فقوبل ذلك كله بقوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ). ثم ذكر أخيرا ما أعد لهم من العذاب الأليم ، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، وعلى الكتمان قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) ، وعلى مجموع الوصفين قوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فبدأ أولا : بما يقابل فردا فردا ، وثانيا : بما يقابل المجموع. ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله ، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله. ولما كانت الثانية مسندة إليهم ، ليس فيها إسناد إلى الله ، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم ، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار. وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها ، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات ، ثم فصل أشياء من المحرمات ، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئا من دين الله ، ومما أنزله على أنبيائه ، فكان ذلك تحذيرا أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب ، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمنا قليلا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ، أولئك : اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم ، وذكر ما أوعدوا به ، وتقدم تفسير : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) مستوعبا في أول السورة ، فأغنى عن إعادته. (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) : لما قدم حالهم في

١٢٣

الدنيا ، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة ، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة ، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى. وسبب النعيم الأطول السرمدي ، العذاب الأطول السرمدي ، الذي هو نتيجة الضلالة ، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق ، وكتموه لغرض خسيس دنياوي. فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة. وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب ، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة. واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة ، وعدم النظر في العواقب.

(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) : اختلف في ما ، فالأظهر أنها تعجبية ، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١) ، (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (٢). وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا ، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور ، والثاني قول الفراء وابن درستويه ، والثالث والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية ، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين ، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده ، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟ وإذا قلنا : إن الكلام هو تعجب ، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب ، وهذا مستحيل في حق الله تعالى ، فهو راجع لمن يصح ذلك منه ، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم : ما أصبرهم على النار! واختلف قائلو التعجب ، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال : إذا قيل لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٣) ، سكتوا وانقطع كلامهم ، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص. وضعف قول الأصم ، بأن ظاهر التعجب ، أنه من صبرهم في الحال ، لا أنهم سيصبرون ، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع. وقيل : الصبر مجاز عن البقاء في النار ، أي ما أبقاهم في النار. أم هو صبر يوصفون به في الدنيا؟ وهو قول الجمهور. واختلف ، أهو حقيقة أم مجاز؟ والقائلون بأنه حقيقة ، قالوا : معناه ما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار ، لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار إلى النار ، قاله المؤرج. وقيل : التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار ، كما تقول : ما أشبه

__________________

(١) سورة عبس : ٨٠ / ١٧.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣٨.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨.

١٢٤

سخاءك بحاتم ، أي بسخاء حاتم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وهو قول الكسائي وقطرب ، وهو قريب من قول المؤرج. وقيل : اصبر هنا بمعنى أجرأ ، وهي لغة يمانية ، فيكون لفظ اصبر إذ ذاك مشتركا بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه ، ومعنى الجراءة ، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار ، قاله الحسن وقتادة والربيع وابن جبير. قال الفراء : أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه ، فوجبت اليمين على أحدهما ، فحلف له خصمه ، فقال له : ما أصبرك على الله! أي ما أجرأك على الله! والقائلون بأنه مجاز. فقيل : هو مجاز أريد به العمل ، أي ما أعلمهم بأعمال أهل النار! قاله مجاهد. وقيل : هو مجاز أريد به قلة الجزع ، أي ما أقل جزعهم من النار! وقيل : هو مجاز أريد به الرضا ، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضيا بمعلوله ولازمه ، إذا علم ذلك اللزوم. فلما أقدموا على ما يوجب النار ، وهم عالمون بذلك ، صاروا كالراضين بعذاب الله والصابرين عليه ، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن! وقال الزمخشري : فما أصبرهم على النار! تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم. انتهى كلامه ، وانتهى القول في أن الكلام تعجب. وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية ، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم ، أي : أيّ شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهو قول ابن عباس والسدي. يقال : صبره وأصبره بمعنى : أي جعله يصبر ، لا أن أصبر هنا بمعنى : حبس واضطر ، فيكون أفعل بمعنى : فعل ، خلافا للمبرد ، إذ زعم أن أصبر بمعنى : صبر ، ولا نعرف ذلك في اللغة ، وإنما تكون الهمزة للنقل ، أي يجعل ذا صبر. وذهب قوم إلى أن ما نافية ، والمعنى : أن الله ما أصبرهم على النار ، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب ، فتلخص في معنى قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) التعجب والاستفهام والنفي ، وتلخص في التعجب ، أهو حقيقة أم مجاز؟ وكلاهما : أذلك في الدنيا أو في الآخرة؟.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ، ذلك : إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، قاله الزجاج ؛ أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار ، قاله الحسن ، أو العذاب ، قاله الزمخشري ؛ أو الاشتراء ، قاله ابن عطية ، تقريعا على بعض التفاسير في الكتاب من قوله : (نَزَّلَ الْكِتابَ) ، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به ، أو الكتمان. وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم ، وعلى

١٢٥

سمعهم ، وعلى أبصارهم ، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون. واختلف في إعراب ذلك فقيل : هو منصوب بفعل محذوف تقديره : فعلنا ذلك ، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل : مرفوع ، واختلفوا ، أهو فاعل ، والتقدير : وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا ، أم مبتدأ ، والخبر قوله : (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ)؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق ، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور ، وهو العذاب ، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق ، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه ، وأقام السبب مقام المسبب. والتفسير المعنوي : ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق ، أو الكتاب الذي نزله بالحق. وقال الأخفش : الخبر محذوف تقديره : ذلك معلوم بأن الله ، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر ، والكتاب التوراة والإنجيل ، أو القرآن ، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه ، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء ، أقوال أربعة. بالحق ، قال ابن عباس : بالعدل. وقال مقاتل : ضد الباطل. وقال مكي : بالواجب ، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) ، قيل : هم اليهود ، والكتاب : التوراة ، واختلافهم : كتمانهم بعث عيسى ، ثم بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. آمنوا ببعض ، وهو ما أظهروه ، وكفروا ببعض ، وهو ما كتموه. وقيل : هم اليهود والنصارى ، قاله السدي ؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما‌السلام ، وبإنكار الإنجيل ، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا. وقيل : كفار العرب ، والكتاب : القرآن. قال بعضهم : هو سحر ، وبعضهم : هو أساطير الأولين ، وبعضهم : هو مفترى إلى غير ذلك. وقيل : أهل الكتاب والمشركون. قال أهل الكتاب : إنه من كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس هو من كلام الله. وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقالوا : دارست ، وقالوا : إن هذا إلا اختلاق ، إلى غير ذلك. وقال المشركون : بعضهم قال : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : كهانة ، وبعضهم : ساطير ، وبعضهم : افتراء إلى غير ذلك. والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر ، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين ، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع. وفي المنتخب : الأقرب ، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهما ، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه ، وعرفوا تأويله. فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به ،

١٢٦

فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم ، دون القرآن. انتهى كلامه.

(لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) : تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق ، أو من كون هذا يشق على صاحبه. وكنى بالشقاق عن العداوة ، ووصف الشقاق بالبعد ، إما لكونه بعيدا عن الحق ، أو لكونه بعيدا عن الألفة. أو كنى به عن الطول ، أي في معاداة طويلة لا تنقطع. وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق ، وأن غيره افتراء ، وقد كذبوا في ذلك. كتب الله يشبه بعضها بعضا ، ويصدق بعضها بعضا.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانيا ، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب ، ونهيهم عن اتباع الشيطان ، وذكر خطواته ، كأنهم يقتفون آثاره ، ويطؤون عقبه. فكلما خطا خطوة ، وضعوا أقدامهم عليها ، وذلك مبالغة في اتباعه. ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه ، لأنه هو العدوّ المظهر لعداوته. ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي. ولما كان لهم متبوعا وهم تابعوه ، ناسب ذكر الأمر ، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس. ثم ذكر ما به أمرهم ، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله ، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله ، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله ، واقتفاء اتباع آبائهم ، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبي العقل والهداية ، لكانوا متبعيهم ، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله ، وجريا لخلفهم على سلف سننهم ، من غير نظر ولا استدلال.

ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله ، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ. ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمي ، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان ، فلذلك ختم بقوله (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، لأن طرق العقل والعلم منسدة عليهم. ثم نادى المؤمنين نداء خاصا ، وأمرهم بالأكل من الطيب وبالشكر لله. ثم ذكر أشياء مما حرم ، وأباح الأكل منها حال الاضطرار ، وشرط في تناول ذلك أن لا يكون المضطر باغيا ولا عاديا. ولما أحل أكل الطيبات وحرم ما حرم هنا ، ذكر أحوال من كتم ما أنزل الله واشترى به النزر اليسير ، لتعتبر هذه الأمة بحال من كتم العلم وباعه بأخس ثمن ، إذ أخبر تعالى أنه لا يأكل في بطنه إلا النار ، أي ما يوجب أكله النار. وأن الله لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم حين يكلم المؤمنين تكليم رحمة وإحسان. وذكر أنهم مع انتفاء التعليم الذي هو أعلى الرتب للمرؤوس من الرئيس ، حيث أهله لمناجاته ومحادثته ، وانتفاء الثناء عليهم لهم العذاب المؤلم. ثم بالغ في ذمهم بأن هؤلاء هم الذين آثروا الضلال على الهدى ، والعذاب على النعيم. ثم ذكر أنهم بصدد أن يتعجب من جلدهم على النار ، وأن

١٢٧

ما حصل لهم من العذاب هو بسبب ما أنزل الله من الكتاب فخالفوه. ثم ذكر أن الذين اختلفوا فيما أنزل الله هم في معاداة لا تنقطع.

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

قبل : ظرف مكان ، تقول : زيد قبلك. وشرح المعنى : أنه في المكان الذي هو مقابلك فيه. وقد يتسع فيه فيكون بمعنى : العندية المعنوية. تقول لي : قبل زيد دين. الرقاب : جمع رقبة ، والرقبة : مؤخر العنق ، واشتقاقها من المراقبة ، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم. ولهذا المعنى يقال : أعتق الله رقبته ، ولا يقال : أعتق الله عنقه ، لأنها لما سميت رقبة ، كانت كأنها تراقب العذاب. ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد : رقوب ، لأجل مراعاتها موت ولدها. قال في المنتخب : وفعال جمع يطرد لفعلة ، سواء كانت اسما نحو : رقبة ورقاب ، أو صفة نحو : حسنة وحسان ، وقد يعبر بالرقبة

١٢٨

عن الشخص بجملته. البأساء : اسم مشتق من البؤس ، إلا أنه مؤنث وليس بصفة ، وقيل : هو صفة أقيمت مقام الموصوف. والبؤس والبأساء : الفقر ، يقال منه : بئس الرجل ، إذا افتقر ، قال الشاعر :

ولم يك في بؤس إذا بات ليلة

يناغي غزالا ساجي الطرف أكحلا

والبأس : شدة القتال ، ومنه حديث عليّ : كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقال : بؤس الرجل ، أي شجع. الضراء : من الضر ، فقيل : ليس بصفة ، وقيل : هو صفة أقيمت مقام الموصوف. وفي الحديث : «وأعوذ بك من ضر أو مضرة». وقال أهل اللغة : الضراء ، بالفتح : ضد النفع ، والضر ، بالضم. الزمانة. القصاص : مصد قاص يقاص مقاصة وقصاصا ؛ نحو : قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا. والقصاص : مقابلة الشيء بمثله ، ومنه : قتل من قتل بالمقتول ، وأصله من قصصت الأثر : أي اتبعته ، لأنه اتباع بدم المقتول ، ومنه قصّ الشعر : اتباع أثره. الحر : معروف ، تقول : حر الغلام يحرّ حرّية فهو حرّ ، وجمعه ، أعني فعلا الصفة على أحرار محفوظ. وقالوا مرّوا إمرارا ، فإن كانت فعلا صفة للآدميين ، جمعت بالواو والنون ، وكما أن أحرارا محفوظ في الجمع ، كذلك حرائر محفوظ في جمع حرّة مؤنثة. القتلى : جمع قتيل ، وهو منقاس في فعيل ، الوصف بمعنى ممات أو موجع. الأنثى : معروف ، وهي فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل للمرأة. ويقال للخصيتين أنثيان ، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث ، ولا تكون للإلحاق ، لفقد فعلل في كلامهم. الأداء : بمعنى التأدية ، أدّيت الدين : قضيته ، وأدّى عنك رسالة : بلغها أنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ، أي لا يبلغ. أولوا : من الأسماء التي هي في الرفع بالواو ، وفي الجرّ والنصب بالياء. ومعنى أولوا : أصحاب ، ومفرده من غير لفظه ، وهو ذو بمعنى : صاحب. وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ ، ومؤنثه أولات بمعنى : صاحبات ، وإعرابها كإعرابها ، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة ، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر ، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف ، ولو سميت باولوا ، زدت نونا فقلت : جاء من أولون ، ورأيت أولين ، ومررت بأولين ، نص على ذلك سيبويه ، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل الإضافة. كما تقول : ضاربو زيد ، وضاربين زيدا. الألباب : جمع لب ، وهو العقل الخالي من الهوى ، سمي بذلك ، إما لبنائه من قولهم : ألبّ بالمكان ، ولبّ به : أقام ، وإما من اللباب ، وهو الخالص. وهذا الجمع مطرد ، أعني أن يجمع فعل اسم على أفعال ، والفعل منه على فعل بضم العين وكسرها ، قالوا : لببت.

١٢٩

ولبيت ومجيء المضاعف على فعل بضم العين شاذ ، استغنوا عنه بفعل نحو : عزّ يعزّ ، وخفّ يخفّ. فما جاء من ذلك شاذا : لبيت ، وسررت ، وفللت ، ودممت ، وعززت. وقد سمع الفتح فيها إلا في : لبيت ، فسمع الكسر كما ذكرنا. الجنف : الجور ، جنف ، بكسر النون ، يجنف ، فهو جنف وجانف عن النحاس ، قال الشاعر :

إني امرؤ منعت أرومة عامر

ضيمي وقد جنفت على خصوم

وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى :

تجانف عن حجر اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وقال آخر :

هم المولى وإن جنفوا علينا

وأنا من لقائهم لزور

ويقال : أجنف الرجل ، جاء بالجنف ، كما يقال : ألام الرجل ، أتى بما يلام عليه ، وأخس : أتى بخسيس.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قال قتادة ، والربيع ، ومقاتل ، وعوف الأعرابي : نزلت في اليهود والنصارى ، كانت اليهود تصلي للمغرب والنصارى للمشرق ، ويزعم كل فريق ان البرّ ذلك.

وقال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، والضحاك ، وسفيان : نزلت في المؤمنين ، سأل رجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، فدعاه وتلاها عليه.

وقال بعض المفسرين : كان الرجل إذا نطق بالشهادتين وصلى إلى أي ناحية ثم مات وجبت له الجنة ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت الفرائض ، وحدّت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزلها الله.

وقيل : سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويلهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنها إن كانت في أهل الكتاب ، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلا ، وذكر ما أعد لهم ، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلّا صلاتهم ، وزعمهم أن ذلك البر ، فردّ عليهم بهذه الآية. وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق

١٣٠

أهل الكتابين ، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى.

وقرأ حمزة ، وحفص (لَيْسَ الْبِرَّ) بنصب الراء ، وقرأ باقي السبعة برفع الراء.

وقال الأعمش في مصحف عبد الله : لا تحسبن البرّ ، وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله أيضا : ليس البر بأن تولوا ، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس ، وأن تولوا في موضع الاسم ، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي ، وهذه القراءة من وجه أولى ، وهو أن جعل فيها اسم ليس : أن تولوا ، وجعل الخبر البر ، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام ، وقراءة الجمهور أولى من وجه ، وهو : أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل ، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها : بما .. أراد الحكم عليها بأنها حرف ، كما لا يجوز توسيط خبر ما ، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبورود ذلك في كلام العرب.

قال الشاعر :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

وليس سواء عالم وجهول

وقال الآخر.

أليس عظيما أن تلمّ ملمّة

وليس علينا في الخطوب معوّل

وقرأه : بأن تولوا ، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها. قال الشاعر :

أليس عجيبا بأن الفتى

يصاب ببعض الذي في يديه

أدخل الباء على اسم ليس ، وإنما موضعها الخبر ، وحسّن ذلك في البيت ذكر العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة ، وصار معنى الكلام : أعجب بأن الفتى ، ولو قلت : أليس قائما بزيد لم يجز.

والبرّ اسم جامع للخير ، وتقدم الكلام فيه ، وانتصاب قبل على الظرف وناصبه تولوا ، والمعنى : أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القبلة حتى وقع التحويل إلى الكعبة.

وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فردّ الله عليهم ، وقيل : ليس البر فيما أنتم عليه ، فإنه منسوخ خارج من البر.

١٣١

وقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة.

وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه‌السلام لقوله تعالى : (مَكاناً شَرْقِيًّا) (١) واليهود مغربه والآية ردّ على الفريقين.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) البرّ : معنى من المعاني ، فلا يكون خبره الذوات إلّا مجازا ، فإمّا أن يجعل : البرّ ، هو نفس من آمن ، على طريق المبالغة ، قاله أبو عبيدة ، والمعنى : ولكنّ البارّ. وإمّا أن يكون على حذف من الأول ، أي : ولكنّ ذا البر ، قاله الزجاج. أو من الثاني أي : برّ من آمن ، قاله قطرب ، وعلى هذا خرّجه سيبويه ، قال في كتابه : وقال جل وعز : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) وإنما هو : ولكن البرّ برّ من آمن بالله. انتهى.

وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : ليس الكرم أن تبذل درهما ، ولكنّ الكرم بذل الآلاف ، فلا يناسب : ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلّا إن كان قبله : ليس الكريم بباذل درهم.

وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء ، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل ، تقول : بررت أبرّ ، فأنا برّ وبارّ ، قيل : فبنى تارة على فعل ، نحو : كهل ، وصعب ، وتارة على فاعل ، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ ، ومثله : سرّ ، وقرّ ، وربّ ، أي : سارّ ، وقار ، وبارّ ، ورابّ.

وقال الفراء : من آمن ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبرا للأوّل ، كأنه قال : ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل ، وأنشد الفراء :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

ولكنما الفتيان كل فتى ندب

جعل نبات اللحية خبرا للفتى ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : ولكن بسكون النون خفيفة ، ورفع البرّ ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ ، والإعراب واضح ، وقد تقدّم نظير القراءتين في (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) (٢).

(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحا بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٢.

١٣٢

وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره» ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه ، ومضمون الآية : ان البرّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور.

أحدها : الإيمان بالله ، وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أمّا اليهود فللتجسم ولقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (١) وأمّا النصارى فلقولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (٢).

الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود أخلوا به حيث قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً) (٣) والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.

والثالث : الإيمان بالملائكة ، واليهود عادوا جبريل.

والرابع : الإيمان بكتب الله ، والنصارى واليهود أنكروا القرآن.

والخامس : الإيمان بالنبيين ، واليهود قتلوهم ، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والسادس : بذل الأموال على وفق أمر الله ، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال.

والسابع : إقامة الصلاة والزكاة ، واليهود يمتنعون منها.

والثامن : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوه.

وهذا النفي السابق ، والاستدراك لا يحمل على ظاهرهما ، لأنه نفى أن يكون التوجه إلى القبلة برا ، ثم حكم بأن البرّ أمور.

أحدها : الصلاة ، ولا بدّ فيها من استقبال القبلة ، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البرّ ، لا على نفي أصله ، أي : ليس البر كله هو هذا ، ولكن البر هو ما ذكر ، ويحمل على نفي أصل البرّ ، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثما وفجورا ، فلا يعدّ في البر ، أو لأن استقبال القبلة لا يكون برا إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى ، وإنما يكون برا مع الإيمان وتلك الشرائط.

وقدم الملائكة والكتب على الرسل ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلّا بواسطة الرسل ، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي ، لأن

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٠ ، وسورة آل عمران : ٣ / ٢٤.

١٣٣

الملك يوجد أولا ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي ، لا الترتيب الذهني.

وقدّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، لأن المكلف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلّا بالرسالة ، وهي لا تتم إلّا بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحى به : وهو الكتاب ، والموحى إليه : وهو الرسول.

وقدّم الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو : إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان.

وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان ، حصلت حقيقة الإيمان ، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات ، وتعلق قدرته بكل الممكنات ، وإرادته وكونه سميعا وبصيرا متكلما ، وكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم ، من أحكام : المعاد ، والثواب ، والعقاب ، وما يتصل بذلك. والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة. والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة. والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم.

قال الراغب : فإن قيل لم قدّم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله :

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١) قيل : يجوز ذلك ، مع أن الواو لا تقتضي ترتيبا من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة ، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده ، فأخر ذكره. ولما ذكر حال المؤمنين ، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة ، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى ، ثم أمر الآخرة ، فقدّم ذكره تنبيها على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ثم مراعاة غيرهما. انتهى كلامه ..

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) إيتاء المال هنا قيل : كان واجبا ، ثم نسخ بالزكاة ، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٣٦.

١٣٤

وقيل : هي الزكاة ، وبين بذلك مصارفها ، وضعف بعطف الزكاة عليه ، فدل على أنه غيرها.

قيل : هي نوافل الصدقات والمبار ، وضعف بقوله آخر الآية (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وقف التقوى عليه ، ولو كان ندبا لما وقف التقوى ، وهذا التضعيف ليس بشيء لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف السابقة المشتملة على المفروض والمندوب ، فلم يفرد التقوى ، ثم اتصف بالمندوب فقط ولا وقفها عليه ، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك ، لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى.

وقيل : هو حق واجب غير الزكاة.

قال الشعبي : إن في المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية.

وقيل : رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام للمضطر ، فأمّا ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق ، فيحمل على الحقوق المقدرة. أما ما لا يكون مقدرا فغير منسوخ ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة ، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك ، وذلك كله غير مقدّر.

(عَلى حُبِّهِ) متعلق ب (آتَى) وهو حال ، والمعنى : أنه يعطي المال محبا له ، أي : في حال محبته للمال واختياره وإيثاره ، وهذا وصف عظيم ، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشيء تعلق المحب بمحبوبه ، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله ، كما جاء : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، والظاهر أن الضمير في (حُبِّهِ) عائد على المال لأنه أقرب مذكور ، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلّا بدليل ، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي ، كما فسرناه ، وقيل : الفاعل المؤتون ، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم ، وإلى الأول ذهب ابن عباس ، أي : أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره ، فقول ابن الفضل : إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى ، أي : على حب الإيتاء ، بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به ، وعلى أبعد من المال ، وأما المعنى فلأن من فعل شيئا وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك ، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها ، وقال زهير :

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

١٣٥

وقول من أعاده على الله تعالى أبعد ، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب ، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافا للفاعل ، وهو أيضا بعيد.

قال ابن عطية : ويجىء قوله (عَلى حُبِّهِ) اعتراضا بليغا أثناء القول انتهى كلامه.

فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك ، لأن شرط ذلك أن تكون جملة ، وأن لا يكون لها محل من الإعراب ، وهذه ليست بجملة ، ولها محل من الإعراب. وإن أراد بالاعتراض فصلا بين المفعولين بالحال فيصح ، لكن فيه إلباس ، فكان ينبغي أن يقول فصلا بليغا بين أثناء القول.

(ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم ، وهو : من تقرب إليك بولادة ، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم ، كما ذهب إليه قوم ، لأن الحرم حكم شرعي ، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب ، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد. وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، في قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (١) فاغنى عن إعادته.

(ذَوِي الْقُرْبى) وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور ، (الْمالَ) هو المفعول الثاني.

ولما كان المقصود الأعظم هو إيتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى.

وأما على مذهب السهيلي فإن (الْمالَ) عنده هو المفعول الأول ، و (ذَوِي الْقُرْبى) وما بعده هو المفعول الثاني ، فأتى التقديم على أصله عنده. و (الْيَتامى) معطوف على (ذَوِي الْقُرْبى) حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، ومتى فعل ذلك أخطأ ، فإن كان مراهقا عارفا بمواقع حقه ، والصدقة تؤكل أو تلبس ، جاز دفعها إليه ، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليها يتيم ، فيدفع للبالغ ولوليّ الصغير. انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

١٣٦

ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق : آتيت زيدا مالا ، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) : الضيف ، قاله قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ؛ أو المسافر يمرّ عليك من بلد إلى بلد ، قاله مجاهد ، وقتادة أيضا ، والربيع بن أنس.

وسمي : ابن السبيل بملازمته السبيل ، وهو الطريق ، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء ، ولمن مرت عليه دهور : ابن الليالي والأيام.

وقيل : سمي ابن سبيل لأن السبيل تبرزه ، شبه إبرازها له بالولادة ، فأطلقت عليه البنوّة مجازا والمنقطع في بلد دون بلده ، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة ، قاله أبو حنيفة ، وأحمد ، وابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى ؛ أو الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة ، قاله الماوردي ، وغيره عن الشافعي.

والسائلون : هم المستطعمون ، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سدّ خلته ، إذ لا تباح له المسألة إلّا عند ذلك.

ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة ، أجاز ايتاءه للمسلم والكافر ، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة.

و (الرِّقابِ) : هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم ، قاله عليّ وابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي.

أو : عبيد يشترون ويعتقون ، قاله مجاهد ، ومالك ، وأبو عبيد ، وأبو ثور. وروي عن أحمد القولان السابقان.

أو : الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر ؛ وقيل : هؤلاء الأصناف الثلاثة ، وهو الظاهر. فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا ، فقيل : لا يجوز إلّا في إعانة المكاتبين ، وقيل : يجوز في ذلك ، وفيمن يشتريه فيعتقه. وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران ، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديما ، الأولى فالأولى ، لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أو كد الوجوه في صرف المال إليها ، ولذلك يستحق بها الإرث ، فلذلك قدّم ثم أتبع باليتامى لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه

١٣٧

لصغره ، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله ، ثم بالسائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم ذكره.

قال الراغب : اختير هذا الترتيب لما كان أولى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه ، فكان تقديمه أولى ، ثم عقبه باليتامى ، والناس في المكاسب ثلاثة : معيل غير معول ، ومعول معيل ، ومعول غير معيل. واليتيم : معول غير معيل ، فمواساته بعد الأقارب أولى. ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا ، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره عليه. انتهى كلامه.

وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة ، فإنه يجب صرف المال إليها.

وقال مالك : يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، واختلفوا في اليتيم : هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنيا؟ أو لا يعطى حتى يكون فقيرا؟ قولان لأهل العلم.

(وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) : تقدّم الكلام على نظير هاتين الجملتين ، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيدا ، وإلّا فقد تقدّمت الأقاويل فيه إذا لم يرد به الزكاة ، هذا هو الظاهر ، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا والإيتاء ، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة ، وهو أن الصلاة أفضل العبادات البدنية ، وتكرر في كل يوم وليلة ، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة ، فلذلك قدمت. وعطف قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) على صلة من ، وصلة من آمن وآتى ، وتقدمت صلة من التي هي : آمن ، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها ، وهو رأس الأعمال الدينية ، وهو المطلوب الأول. وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه ، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب ، ومن مناقبها الجلية ، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة ، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسيئين لهم ، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة ، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي :

فما لي أراني وابن عمي مالكا

متى أدن منه ينأ عني ويبعد

ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها :

١٣٨

يعاتبني في الدّين قومي وإنما

ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

ومنها :

لهم جل مالي أن تتابع لي غنى

وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم ، وفي ذلك يقول بعضهم :

إذا بعض السنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الأضياف والمسافرين ، كما قال زهير بن أبي سلمى :

على مكثريهم رزق من يعتريهم

وعند المقلين السماحة والبذل

وقال المقنع وإني لعبد الضيف ما دام نازلا وقال آخر

ورب ضيف طرق الحيّ سرى

صادف زادا وحديثا ما اشتهى

وقال مرة بن محكان :

لا تعذليني على إتيان مكرمة

ناهبتها إذ رأيت الحمد منتهبا

في عقر ناب ولا مال أجود به

والحمد خير لمن ينتابه عقبا

وقال إياس بن الأرت :

وإني لقوّال لعافيّ : مرحبا

وللطالب المعروف : إنك واجده

وإني لمما أبسط الكف بالندى

إذا شنجت كف البخيل وساعده

فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن ، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة ، يحرص عليها بذلك ، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين ، وإيتاء السبيل على سبيل المكرمة ، فلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) : والموفون معطوف على من آمن ، وقيل : رفعه على إضمار ، وهم الموفون ، والعامل في : إذا ، الموفون ، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد

١٣٩

عن وقت المعاهدة ، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) وفي مصحف عبد الله : والموفين ، نصبا على المدح.

وقرأ الجحدري : بعهودهم على الجمع.

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) : انتصب : والصابرين على المدح ، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم ، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.

وقرأ الحسن ، والأعمش ، ويعقوب : والصابرون ، عطفا على : الموفون ، وقال الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم ، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من موضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ، لأن الكلام عند الإختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام ، وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا أو جملة واحدة. انتهى كلامه.

قال الراغب : وإنما لم يقل : ووفى ، كما قال : وأقام ، لأمرين : أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح ، والثاني : أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة ، وغير مستفاد إلّا منها ، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر الوفاء بالعهد ، وهو مما تقضي به العقود المجردة ، صار عطفه على الأول أحسن ، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه جامعا للفضائل ، إذ لا فضيلة إلّا وللصبر فيها أثر بليغ ، غيرّ إعرابه تنبيها على هذا المقصد. انتهى كلامه.

واتفقوا على تفسير قوله (حِينَ الْبَأْسِ) أنه : حالة القتال.

واختلف المفسرون في : البأساء والضراء ، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد ، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك.

وقيل : البأساء : القتال ، والضراء : الحصار ، ذكره الماوردي. وهذا من باب الترقي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٠.

١٤٠