البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

الاختلاف : أيهم صادف موقف أبيهم؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، تقف قريش في غير موقف العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك ، قاله ابن زيد ، ومالك. أو يقول قوم : الحج اليوم ، وقوم الحج غدا ، قاله القاسم. أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجمع ، وبعضهم بعرفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك ، قاله مجاهد.

قال ابن عطية : وهذا أصح الأقوال ، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه.

أو قول طائفة : حجنا أبر من حجكم ، وتقول الأخرى مثل ذلك ، قاله محمد بن كعب القرطبي ، أو الفخر بالآباء ، قاله بعضهم ، أو

قول الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا أهللنا بالحج ، حين قال في حجة الوداع : «من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة» قاله مقاتل.

أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين ، قاله الزمخشري. أو كلّ ما يسمى جدالا للتغالب ، وحظ النفس ، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة.

و : الفاء ، في : فلا رفث ، هي الداخلة في جواب الشرط ، إن قدر : من ، شرطا ، وهو الأظهر ، أو في الخبر إن قدر : من ، موصولا.

وقرأ ابن مسعود والأعمش : رفوث ، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران. وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق ، وهو طريق المفضل عن عاصم ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة. وقرأ الكوفيون ، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين ؛ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر برفع : فلا رفث ولا فسوق ، والتنوين ، وفتح : ولا جدال ، من غير تنوين.

فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل : لا ، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء ، والخبر عن الجميع هو قوله : في الحج ، ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ الأول ، وحذف خبر الثاني. والثالث للدلالة ، ويجوز أن يكون خبرا عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني للدلالة ، ولا يجوز أن يكون خبرا عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل.

قيل : ويجوز أن تكون : لا ، عاملة عمل ليس فيكون : في الحج ، في موضع نصب ، وهذا الوجه جزم به ابن عطية ، فقال : و : لا ، في معنى ليس في قراءة الرفع ، وهذا الذي

٢٨١

جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف ، لأن إعمال : لا ، إعمال : ليس ، قليل جدا ، لم يجىء منه في لسان العرب إلّا ما لا بال له ، والذي يحفظ من ذلك قوله :

تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر مما قضى الله واقيا

أنشده ابن مالك ، ولا أعرف هذا البيت إلّا من جهته ، وقال النابغة الجعدي :

وحلت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا في حبها متراخيا

وقال آخر :

أنكرتها بعد أعوام مضين لها

لا الدار دار ولا الجيران جيرانا

وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر :

من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

وهذا كله يحتمل التأويل ، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله ، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح.

وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر ، والعامل فيها أفعال من لفظها ، التقدير : فلا يرفث رفثا ، ولا يفسق فسوقا ، ولا يجادل جدالا. و : في الحج ، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع.

وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين ، فالخلاف في الحركة ، أهي حركة إعراب أو حركة بناء؟ الثاني قول الجمهور ، والدلائل مذكورة في النحو ، وإذا بنى معها على على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء؟ وإن كانت : لا ، عاملة في الاسم النصب على الموضع ، ولا خبر لها ، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ؟ بل. لا ، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع ، وما بعدها خبر : لا ، إذا أجريت مجرى. إن ، في نصب الاسم ورفع الخبر ، قولان للنحويين ، الأول : قول سيبويه ، والثاني : الأخفش ، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب : في الحج ، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه ، وفي موضع خبر : لا ، على مذهب الأخفش.

وأما قراءة من رفع ونون : فلا رفث ولا فسوق ، وفتح من غير تنوين : ولا جدال ، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء ، وعلى مذهب سيبويه : إن المفتوح مع : لا ، في

٢٨٢

موضع رفع على الابتداء ، يكون : في الحج ، خبرا عن الجميع ، لأنه ليس فيه ، إلّا العطف ، عطف مبتدأ على مبتدأ.

وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون : في الحج ، إلّا خبرا للمبتدأين ، أو : لا ، أو خبر للا ، لاختلاف المعرب في الحج ، يطلبه المبتدأ أو تطلبه لا فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبرا عنهما.

وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه : و : لا ، بمعنى ليس في قراءة الرفع ، وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، و : في الحج ، خبر : لا جدال ، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك بل : في الحج ، هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين ، لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما يليها ، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء ، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر انتهى كلامه. وفيه مناقشات.

الأولى : قوله و : لا ، بمعنى : ليس ، وقد قدّمنا أن كون : لا ، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد ، وبيّنا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الابتداء.

الثانية : قوله : وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها : ليس ، لا يجوز حذفه لا اختصارا ، ولا اقتصارا ، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله :

يرجو جوارك حين ليس مجير

على طريق الضرورة أو الندور ، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه.

الثالثة : قوله بل : في الحج ، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين ، يعني بالوجهين : كونها بمعنى : ليس ، وكونها مبنية مع : لا ، وهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب ، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش ، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الابتداء فيقتضي أن يكون خبرا للمبتدأ على مذهب سيبويه ، على ما قدمناه من

٢٨٣

الخلاف ، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون : في الحج ، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين.

الرابعة : قوله : لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما تليها ، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء ، هذا تعليل لكون : في الحج ، خبرا للكل ، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز ، لأنها إذا كانت بمعنى : ليس ، كان خبرها في موضع نصب ، ولا يناسب هذا التعليل إلّا كونها تعمل عمل إن فقط ، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخفش ، لأنه على مذهب الأخفش يكون : في الحج ، في موضع رفع بلا ، و : لا ، هي العاملة الرفع ، فاختلف المعرب على مذهبه ، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء ، وقراءة الفتح في : ولا جدال ، هي على عمل : لا ، عمل إن.

الخامسة : قوله : وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر وليس كذلك ، هذا الظنّ صحيح ، وهو كما ظنّ ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن : لا ، بمعنى ليس أتت به منصوبا في شعرها ، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح ، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا ، فأجازه أبو علي ، مثل هذا في القرآن لا ينبغي.

السادسة : قوله : بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر ، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى : ليس ، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط ، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء ، وأن الخبر يكون مرفوعا لذلك المبتدأ ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى : ليس ، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعا ، لأنه ليس لنا إلّا صورة : لا رجل قائم ، ولا امرأة. فرجل هنا مبتدأ ، وقائم خبر عنه ، وهي غير عاملة ، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس ، وارتفاع الاسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس ، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعا بالابتداء ، وإلّا فلا يمكن العلم بذلك أصلا لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ ، والمرفوع بعده خبره.

وقال الزمخشري : وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ؛ وذلك أن قريشا كانت

٢٨٤

تخالف سائر العرب ، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج.

واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه‌السلام : «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه» ، وأنه لم يذكر الجدال. انتهى كلامه. وفيه تعقبات.

الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنيا ، وأما أن الرفع يقتضي النهي ، والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلّا على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب.

الثاني : قوله : كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال ، لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير.

الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير : ولا جدال ، للمتقدمين. اختلافهم : في الموقف : لابن زيد ، ومالك ، والنسيء : لمجاهد ، فجعلهما هو شيئا واحدا سببا للإخبار أن لا جدال في الحج.

الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك ، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : (وَلا فُسُوقَ) لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطا في غفران الذنوب ، فلذلك رتب صلى‌الله‌عليه‌وسلم غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكني عنه بالرفث ؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقا في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله : ولا جدال ، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج ، من : إفراغ أعماله للحج ،

٢٨٥

وعدم المخاصمة والمجادلة. فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين.

وقد بقي الكلام على هذه الجملة : أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخبارا؟ أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي؟ اختلفوا في ذلك فقال في (المنتخب) قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي. أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) (١) أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه : أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى ، إلّا إن أريد بالرفث : الجماع ، والفسوق : الزنا ، وبالجدال : الشك في الحج وفي وجوبه ، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله ، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث : الجماع ، ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعهما لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه ، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه.

وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية ، بقوله : (فَلا رَفَثَ) وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : (وَلا فُسُوقَ) وإلى قهر القوة الوهمية بقوله : (وَلا جِدالَ) فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه. انتهى ما لخصناه من كلامه.

والذي نختاره أنها جملة ، صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي ، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال إنسان مثلا : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه ، هكذا الترتيب العربي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢ ، وآل عمران : ٣ / ٩ و ٢٥. والنساء : ٤ / ٨٧. والأنعام : ٦ / ١٢. ويونس : ١٠ / ٣٧. والإسراء : ١٧ / ٩٩. والسجدة : ٣٢ / ٢. والشورى : ٤٢ / ٧. والجاثية : ٤٥ / ٢٦.

٢٨٦

الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد.

وقال في (المنتخب) أيضا : إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهيا عن ما يقتضي فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفيا للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهيا لكمال الفضيلة.

وقال ابن العربي ليس نفيا لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا ، لا إلى وجوده محسوسا ، كقوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (١) ومعناه مشروعا لا محسوسا ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) إذا قلنا إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح ، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفا انتهى كلام ابن العربي.

وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال :

أحدها : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي : الجماع ، والزنا ، والكفر.

الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود.

الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي.

الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأوّلين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت : من ، شرطية ، وفي موضع الخبر ، إن كانت : من ، موصولة. وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط ، إذا كان الشرط بالاسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدرا. ويحتمل وجهين.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

٢٨٧

أحدهما : أن يقدر : منه ، بعد : ولا جدال ، ويكون : منه ، في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، ومنه صفة للمنوين.

والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أوله ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط.

وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضا من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله : في الحج ، في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط.

قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل : فيه ، جريا على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائدا على : من ، لا على : الحج ، أي : في فارض الحج.

وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الأخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهيا عنها في الحج. أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفا وسلفا ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلّا ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره ، أنه سمعه يقول : «للمحرم من امرأته كل شيء إلّا الجماع». وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبّل امرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وابراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار.

وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل امرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطئ.

وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهيا عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيما لحرمة الحج ، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير ، لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق الصائم : «فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم؟» وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج : «إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له؟»

٢٨٨

ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيما لحرمته.

وفي قوله : ولا فسوق ، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) هذه جملة شرطية ، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (١) وخص الخير ، وإن كان تعالى عالما بالخير والشر ، حثا على فعل الخير ، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج ، وهو خير ، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها ، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل ، وبالفسوق الطاعة ، وبالجدال الوفاق ، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى ، ولأن يكون وعدا بالثواب.

وجواب الشرط وهو : يعلمه الله ، فإما أن يكون عبّر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم ، كأنه قيل : يجازكم الله به ، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم ، أي : يعلمه الله فيثيب عليه ، وفي قوله : وما تفعلوا ، التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وحمل على معنى : من ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع ، وعبر بقوله : تفعلوا ، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية ، إما تغليبا للفعل ، وإما إطلاقا على القول ، والإعتقاد لفظ الفعل ، فإنه يقال : أفعال الجوارح ، وأفعال اللسان ، وأفعال القلب ، والضمير في : يعلمه ، عائد على : ما ، من قوله : وما تفعلوا ، و : من ، في موضع نصب ، ويتعلق بمحذوف.

وقد خبط بعض المعربين فقال : إن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره : وما تفعلوه فعلا من خير يعلمه الله ، جزم بجواب الشرط ، والهاء في : يعلمه الله ، يعود إلى خير انتهى قوله.

ولو لا أنه مسطر في التفسير لما حكيته ، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، ثم قال : وهو في موضع نصب نعتا لمصدر. فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفا ، فيناقض هذا القول كون : من ، يتعلق : بتفعلوا ، لأن : من ، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوفا وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم ، فالهاء عائدة على الاسم ، أعني : اسم الشرط ، وإذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على اسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، لو قلت : من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٦.

٢٨٩

يأتني يخرج خالد ، ولا يقدر ضميرا يعود على اسم الشرط ، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف ، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو : إن تأتني يخرج خالد.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ، ويقولون : نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا؟ فيتوصلون بالناس ، وربما ظلموا وغصبوا ، فأمروا بالتزود ، وأن لا يظلموا أو يكونوا كلّا على الناس.

وروي عن ابن عمر قال : إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها ، واستأنفوا زادا آخر ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا بالتحفظ بالزاد والتزود.

فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمرا بالتزود في الأسفار الدنيوية ، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر وما بعده ، أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة ، ألا ترى أن قبله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزاء في الآخرة؟ وبعده (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار؟ ويكون مفعول : تزودوا ، محذوفا تقديره ، وتزودوا التقوى ، أو : من التقوى ، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهر ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر ، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمرا عائدا على المفعول ، أو كان يأتي ظاهرا تفخيما لذكر التقوى ، وتعظيما لشأنها. وقد قال بعضهم في التزود للآخرة :

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال بعض عرب الجاهلية :

فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

ولكن منه باقيات وراثة

فأورث بنيك بعضها وتزود

تزود إلى يوم الممات فإنه

وإن كرهته النفس آخر موعد

وصعد سعدون المجنون تلّا في مقبرة ، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم :

ألا يا عسكر الأحياء

هذا عسكر الموتى

أجابوا الدعوة الصغرى

وهم منتظرو الكبرى

٢٩٠

يحثون على الزاد

ولا زاد سوى التقوى

يقولون لكم جدوا

فهذا غاية الدنيا

وقيل : أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش ، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال ، وبالتزود لسفر المعاد ، وزاده تقوى الله تعالى ؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا ، فيكون مفعول : تزودوا ، ما ينتفعون به ، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال ، وأنفسكم من الظلم ، وقال البغوي : قال المفسرون : التقوى هنا : الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات.

والثاني : أنه أمر بالتزود لسفر الآخرة ، وهو الذي نختاره.

والثالث : أنه أمر بالتزود في السفرين ، كأن التقدير : وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله.

وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : وتزودوا الرفيق الصالح ، إلّا أن عنى به العمل الصالح ، فلا يبعد ، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه.

وقال أبو بكر الرازي : احتمل قوله : وتزودوا ، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى ، فوجب الحمل عليهما ، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين ، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج ، لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه ، كما نص على خطر الفسوق ، وإن كان محظورا في غيره ، تعظيما لحرمة الإحرام ، وإخبارا أنه فيه أعظم مأثما.

ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ، ودوام ثوابه ، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف ، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة ، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج ، وعلى هذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين سئل عن الاستطاعة ، فقال : «هي الزاد والراحلة». انتهى كلامه.

ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد ، لأنه

٢٩١

صح : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدوا خماصا ، وتروح بطانا. وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١) وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء ، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد ، وبعضهم بالجرع من الماء.

وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهرا ، وخرج منها وله عكن ، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياما كثيرة ، كل واحد منهم بتمرة في اليوم.

فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين ، وامتلاء الفرن بالعجين ، وإن لم يكن هناك طعام ، ونحو ذلك ، فحكوا وقوع ذلك. وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقا ، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم‌السلام ، فلا يتكرر ذلك إلّا من مدّع ذلك ، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون ، ويدعى ذلك لهم.

(وَاتَّقُونِ) هذا أمر بخوف الله تعالى ، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج ، وأمروا بالتزود للمعاد ، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد ، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى ، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته ، ثم قال (يا أُولِي الْأَلْبابِ) تحريكا لامتثال الأمر بالتقوى ، لأنه لا يحذر العواقب ، إلّا من كان ذا لبّ ، فهو الذي تقوم عليه حجة الله ، وهو القابل للأمر والنهي ، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله ، فكأنه لا لب له ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٢) فأغنى عن إعادته.

والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف ، فيكون عاما ، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب ، فيكون خاصا ، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) سبب نزولها ان العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية. كعكاظ ، وذي المجاز ، ومجنة ، فأباح الله لهم ذلك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ؛ وقال مجاهد أيضا : كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرمون ، فنزلت في إباحة ذلك ، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج ، وأن حجه تام.

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧٩.

٢٩٢

وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير : فضلا من ربكم في مواسم الحج ، والأولى جعل هذا تفسيرا ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.

والجناح معناه : الدرك ، وهو أعم من الإثم ، لأنه فيما يقتضي العقاب ، وفيما يقتضي الزجر والعقاب ، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة ، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج ، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل ، والاتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلّا ما نقل شاذا عن سعيد بن جبير ، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي ، وأنا أريد الحج أفيجزيني؟ قال : «لا ، ولا كرامة». وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما نهى عن الجدال ، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة ، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه ، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج ، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية ، أو لأن المسلمين لما صار كثير من المباحات محرما عليهم في الحج ، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم ، فأباح الله ذلك ، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : في مواسم الحج.

وحمل أبو مسلم الآية على أنه : فيما بعد الحج ، ونظيره : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) (١) فقاس : الحج ، على : الصلاة ، وضعف قوله بدخول الفاء في : فإذا قضيتم ، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل ، فدل على أن ما قبل الإفاضة ، وقع في زمان الحج. ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج ، لا بعد الفراغ منه ، لأن كل أحد يعلم حلّ التجارة إذ ذاك ، فحمله على محل الشبهة أولى ، ولأن قياس الحج على الصلاة ، قياس فاسد ، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول ، حيث لم يكن حاجا ، لا يقال : حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما ، لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط. ونسب للياه فزان.

الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع ؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ،

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٣ / ١٠.

٢٩٣

فلا يقال فيها : لا جناح عليكم ، إنما يقال : في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة : لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصا فالأولى تركها ، فهي إذا جارية مجرى الرخص.

وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (١) و : من وبكم ، متعلق : بتبتغوا ، و : من ، لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل. فتكون : من ، لإبتداء الغاية أيضا ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول.

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة لا تكون إلّا بعده. انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك.

وقال في (المنتخب) : الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا. انتهى كلامه.

فقوله : الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عنى مشروط وجودها ، أي : وجود الإفاضة بالحصول في عرفات ، فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرفة واتخذها مسكنا إلى أن مات لم تجب عليه الإفاضة منها ، ولم يكن مفرطا في واجب إذا مات بها ، وحجه تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها.

وقوله : وما لا يتم الواجب ، إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و : إذا ، لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه : متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإفاضة كان مجزيا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٥٨.

٢٩٤

ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجه تام ، إلّا مالكا فقال : يبطل حجه.

وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل.

ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال ابن جريج : بدنة ، وقال عطاء ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : عليه دم.

ولو أفاض قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنه لا يسقط الدم. وذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه. وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء من الليل إلّا ما صدّ عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزىء ، وأن من أفاض نهارا لا شيء عليه.

و : من ، قوله : من عرفات ، لابتداء الغاية ، وهي تتعلق : بأفضتم ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات ، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات. وحكى الباجي ، عن ابن حبيب : أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ، وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو وقف بها فروي عن ابن عباس ، والقاسم ، وسالم أنه : من أفاض من عرنة لا حج له ، وذكره ابن المنذر عن الشافعي ، وأبو المصعب عن مالك ، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام. ويهريق دما ، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضا.

وروي : عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء ، فهي كظاهر الآية.

وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيرا جميلا ، ولا يطؤا ضعيفا ، ولا يؤذوا ماشيا ، إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دفع من عرفات أعنق ، وإذا وجد فرجة نص. والعنق : سير سريع مع رفق ، والنص : سير شديد فوق العنق ، قاله الأصمعي ، والنضر بن شميل. ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس.

٢٩٥

والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد ، تشبيها بأهل عرفة ، غير مشروع ، فقال بعض أهل العلم : هو ليس بشيء ، وأول من عرّف ابن عباس بالبصر ، وعرف أيضا عمرو بن حريث ، وقال أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد فعله غير واحد : الحسن ، وبكر ، وثابت ، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.

وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها ، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري : يجب عليهم الفطر ، وأجازه بعضهم ، وصامه عثمان بن القاضي ، وابن الزبير ، وعائشة. وقال عطاء : أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف ، والجمهور على أن ترك الصوم أولى ، اتباعا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) الفاء جواب إذا ، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء ، أو صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، أو الدعاء. وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر : أمر ندب ، أم أمر وجوب؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين ، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملا ببينة فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو سنة بالمزدلفة. ولو صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة ، فقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا يجزئه ، وقال عطاء ، وعروة ، والقاسم ، وابن جبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : ليس الجمع شرطا للصحة.

ومن له عذر عن الإفاضة ممن وقف مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها ، قاله ابن المواز.

وقال مالك : يجمع بينهما إذا غاب الشفق ، وقال ابن القاسم : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل ، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها ، وإلّا صلى كل صلاة لوقتها.

وهل يصليهما باقامتين دون أذان؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين؟ أو بأذانين وإقامتين؟ أو بأذان وإقامة للأولى ، وبلا أذان ولا إقامة للثانية؟ أقوال أربعة.

الأول : قول سالم ، والقاسم ، والشافعي ، وإسحاق ، وأحمد في أحد قوليه.

والثاني : قول زفر ، والطحاوي ، وابن حزم ، وروي عن أبي حنيفة.

والثالث : قول مالك.

والرابع : قول أبي حنيفة ، والسنة أن لا يتطوع الجامع بينهما.

٢٩٦

والمشعر مفعل من شعر ، أي : المعلم. والحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام. وهذا المشعر يسمى : جمعا ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، ومجاهد ؛ وتسمي العرب وادي محسر : وادي النار ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام ، والمأزم. المضيق ، وهو مضيق واحد بين جبلين ، ثنوه لمكان الجبلين. وقيل : المشعر الحرام هو قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، وعليه الميقدة. قيل : وهو الصحيح لحديث جابر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما صلى الفجر ، يعني بالمزدلفة ، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكور للذكر بالمزدلفة ، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها ، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل ، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا عنده وكبر وهلل ، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر ، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير : فإذا أفضتم من عرفات ، ونمتم بالمزدلفة ، فاذكروا الله عند المشعر الحرام. ومعنى العندية هنا القرب منه ، وكونه يليه.

ومزدلفة كلها موقف ، إلّا وادي محسر ، وجعلت كلها موقفا لكونها في حكم المشعر ، ومتصلة به ، وقيل : سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعرا ، ووحد لاستوائه في الحكم ، فكان كالمكان الواحد.

وقال في (المنتخب) : هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور كما في عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون. انتهى كلامه.

وكون الوقوف مسنونا هو قول جمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : هو واجب ، فمن تركه من غير عذر فعليه دم ، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل. ولا شيء عليه.

وقال ابن الزبير ، والحسن ، وعلقمة ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي : الوقوف بمزدلفة فرض ، ومن فاته فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة.

والآية لا تدل إلّا على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام ، لا على الوقوف ، ولا على المبيت بمزدلفة ، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن. وقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه ، لأن المبيت بها سنة مؤكدة ، عند مالك. وهو

٢٩٧

مذهب عطاء ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور.

وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، أو قبله افتدى ، والفدية شاة.

ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص. قال بعضهم : وأولى الذكر أن يقول : اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق (فَإِذا أَفَضْتُمْ) ويتلو إلى قوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة.

والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه ، والحمد له ، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله ، وإنما المعنى : اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه ، والثناء عليه ، والمحمدة له. وعند منصوب بأذكروا ، وهذا مما يدل على أن جواب : إذا ، لا يكون عاملا فيها ، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ، لأن ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا وقت إنشاء الإفاضة.

(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) هذا الأمر الثاني هو الأول ، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر ، لأن الذكر من أفضل العبادات ، أو غير الأول ، فيراد به تعلقه بتوحيد الله ، أي : واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته ، أو اتصال الذكر لمعنى : اذكروه ذكرا بعد ذكر ، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي : أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، حكاه القاضي أبو يعلى.

والكاف في : كما ، للتشبيه ، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف ، وإما على الحال. وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع.

والمعنى : أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم ، إذا هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم ، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية ، ولهذا المعنى قال الزمخشري : أذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هدية حسنة. انتهى.

ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف ، فيكون

٢٩٨

التقدير : كما هداكم ، أي : أذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم ، وحكى سيبويه : كما أنه لا يعلم ، فتجاوز الله عنه ، أي : لأنه لا يعلم ، وأثبت لها هذا المعنى الأخفش ، وابن برهان. وما ، في : كما ، مصدرية أي : كهدايته إياكم ، وجوّز الزمخشري ، وابن عطية أن تكون : ما ، كافة للكاف عن العمل ، والفرق بينهما أن : ما ، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر ، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر ، والكافة لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة ، والأولى حملها على أن : ما ، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر ، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد ، وعلي بن مسعود بن الفرّ حال صاحب (المستوفي) واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر :

لعمرك إنني وأبا حميد

كما النشوان والرجل الحليم

أريد هجاءه وأخاف ربي

وأعلم أنه عبد لئيم

والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه ، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة ، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية. واللام في : لمن ، وما أشبهه فيها خلاف : أهي لام الابتداء لزمت للفرق؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق؟ ومذهب الفراء : في إن نحو هذا هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلّا ، وذهب الكسائي إلى أنّ : بمعنى : قد ، إذا دخل على الجملة الفعلية ، وتكون اللام زائدة ، وبمعنى : ما ، النافية إذا دخل على الجملة الاسمية ، واللام بمعنى إلّا ، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو.

فعلى قول البصريين : تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها ، وعلى مذهب الفراء : مثبتة إثباتا محصورا ، وعلى مذهب الكسائي : مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين.

ومن قبله ، يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله : لمن الضالين ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل

٢٩٩

الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله : من الضالين ، وقد تقدّم نظير هذا.

والهاء في قبله ، عائدة على الهدى المفهوم من قوله : هداكم ، أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى ، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ، وقيل : تعود الهاء على القرآن ، وقيل : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ، وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) صح عن عائشة قالت : كان الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) رجعوا إلى عرفات ، وفي (الجامع) للترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن على دينها ، وهم الحمس ، يقفون بالمزدلفة ، يقولون : نحن قطان الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

وروى محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : خرجت في طلب بعير بعرفة ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما بعرفة مع الناس قبل أن يبعث ، فقلت : والله إن هذا من الحمس ، فما شأنه واقفا هاهنا مع الناس؟ وكان وقوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة إلهاما من الله تعالى وتوفيقا إلى ما هو شرع الله ومراده ، وكانت قريش قد ابتدعت أشياء : لا يأقطون الأقط ، ولا يسلون السمن وهم محرمون ، ولا يدخلون بيتا من شعر ، ولا يستظلون إلّا في بيوت الأدم ، ولا يأكلون حتى يخرجون إلى الحل وهم حرم ، ولا يطوف القادم إلى البيت إلّا في ثياب الحمس ، ومن لم يجد ذلك طاف عريانا ، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبدا ، لا هو ولا غيره ، وتسمي العرب تلك الثياب : اللقى ، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها ، وكانت قبل تطوف عريانة ، وعلى فرجها نسعة ، حتى قالت امرأة منهم :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

فلما أنزل الله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) وأنزل : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (١) أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف بعرفة ، ومن

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣١.

٣٠٠