البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

الأكل والشرب واللباس ، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشا وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم الحمس. وهذا قول الجمهور. وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها.

والإفاضة المأمور بها هي من عرفات ، إلّا أن : ثم ، على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا) الإفاضة قد تقدّمت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان؟ وأجيب عن هذا بوجوه.

أحدها : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأمورا بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذا ضربك زيد فاضربه؟ فلا يكون زيدا مأمورا بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس ، وزعم بعضهم أن : ثم ، هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوّز بعض النحويين أن : ثم ، تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب. وقد حمل بعض الناس : ثم ، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديما وتأخيرا ، فجعل : (ثُمَّ أَفِيضُوا) معطوفا على قوله : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل : ثم ، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى ، والمخاطبون بقوله (ثُمَّ أَفِيضُوا) جميع المسلمين ، وقد قال بهذا : الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن. وقال الزمخشري فإن قلت : فكيف موقع : ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي : ثم ، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد

٣٠١

ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : ثم أفيضوا ، التفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن أحدهما صواب والثانية خطأ. انتهى كلامه.

وليست الآية كالمثال الذي مثله ، وحاصل ما ذكر أن : ثم ، تسلب الترتيب ، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ، ولم يجز في الآية أيضا ذكر الإفاضة الخطأ فيكون : ثم ، في قوله : ثم أفيضوا ، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم.

و : من حيث ، متعلق : بأفيضوا ، و : من ، لابتداء الغاية ، و : حيث ، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان ، وقال القفال : من حيث أفاض الناس ، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة ، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي ، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين ، لأن الأولى في المكان ، والثانية في الزمان ، ولا تغاير ، لأن كلّا منهما يقتضي الآخر ويدل عليه ، فهما متلازمان. أعني : مكان الإفاضة من عرفات ، وزمانها. فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء العطف بثم.

و : الناس ، ظاهره العموم في المفيضين ، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس ، كما تقول : هذا مما يفعله الناس ، أي عادتهم ذلك ، وقيل : الناس أهل اليمن وربيعة ، وقيل : جميع العرب دون الحمس ، وقيل : الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به ، وقيل : إبراهيم وحده ، وقيل : آدم وحده ، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه ، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع ، وكذلك من له صفات كثيرة ، ومنه قوله :

فأنت الناس إذ فيك الذي قد

حواه الناس من وصف جميل

ويؤيده قراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناس ، بالياء من قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (١) وإطلاق الناس على : واحد من الناس هو خلاف الأصل ، وقد رجح هذا بأن قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم ، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم ، ولا يلزم هذا الترجيح ، لأن : حيث ، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته ، كقوله تعالى :

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١١٥.

٣٠٢

(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) (١). وتارة يراد به المستقبل ، كقوله تعالى (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ) (٢) وهذا معروف في حيث ، فلا يلزم ما ذكره.

وعلى تسليم أنه فعل ماض ، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحدا لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإفاضة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك ، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب ، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام ، أو على جنسهم الخاص.

وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس ، حين أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها ، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتى بهم جميعا ، فيبيت بها ، فتوجه أبو بكر إلى عرفات ، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع ، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر : أين تجاوزنا إلى غيرنا؟ هذا موقف آبائك! فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتى عرفات ، وبها أهل اليمن وربيعة. وهذا تأويل قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فوقف بها حتى غربت الشمس ، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام ، فوقف بها ، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.

وقراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناسي ، بالياء ، قراءة شاذة ، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم ، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى ، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه‌السلام ، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك ، أي : للوقوف بمزدلفة ، أو لا ، ويكون يراد به الجنس ، إذ الناسي يراد به التارك للشيء ، فكأن المعنى ، والله أعلم : أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من المزدلفة ، وأفاض من عرفات ، ويكون الناسي يراد به الجنس ، فيكون موافقا من حيث المعنى لقراءة الجمهور ، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا ، هم التاركون للوقوف بمزدلفة ، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج ، وهو إبراهيم عليه‌السلام ، بخلاف قريش ، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة ، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.

قال ابن عطية : ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : الناس ، كالقاض والهاد ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٩ و ١٥٠.

٣٠٣

قال : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما كون جوازه مقروءا به فلا أحفظه. انتهى كلامه.

فقوله : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقا ، ولم يجزه سيبويه إلّا في الشعر ، وأجازه الفرّاء في الكلام. وأما قوله : وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.

قال أبو العباس المهدوي : أفاض الناسي بسعيد بن جبير ، وعنه أيضا : الناس بالكسر من غير ياء. انتهى قول أبي العباس المهدوي.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول ، وأماكن الرحمة ، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب ، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع ، وأمروا بالاستغفار ، وإن كان فيهم من لم يذنب ، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنبا وأحرم ، فيكون الاستغفار من مثل هذا لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات ، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص ، بل طلب غفران الذنوب ، وقيل : إنه أمر بطلب غفران خاص ، والتقدير : واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة ، فإنه غفور لكم ، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم ، وفي سفركم ومقامكم. وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة ، أو معها ، دليل على أن ذلك الوقت ، وذلك المكان المفاض منه ، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها ، والرحمة والمغفرة.

وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب عشية عرفة فقال : «أيها الناس! إن الله تعالى تطاول عليكم في مقامكم ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، إلّا التبعات فيما بينكم ، فامضوا على اسم الله» فلما كان غداة جمع خطب فقال : «أيها الناس! إن الله قد تطاول عليكم ، فعوّض التبعات من عنده».

وأخرج أبو عمرو بن عبد البر في (التمهيد) ثلاثة أحاديث تدل على أن الله تعالى يباهي بحجاج بيته ملائكته ، وأنه يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم ، وأنه ضمن عنهم التبعات.

و : استغفر ، يتعدى لاثنين ، الثاني منهما بحرف الجر ، وهو من : فعول ، استغفرت الله من الذنب ، وهو الأصل ، ويجوز أن تحذف : من ، كما قال الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل

٣٠٤

تقديره : من ذنب ، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن : استغفر ، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين ، وأن قولهم : استغفر الله من الذنب ، إنما جاء على سبيل التضمين ، كأنه قال : تبت إلى الله من الذنب ، وهو محجوج بقول سيبويه ، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو ، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به ، ولم يجىء في القرآن مثبتا ، لا مجرورا بمن ، ولا منصوبا ، بخلاف : غفر ، فإنه تارة جاء في القرآن مذكورا مفعوله ، كقوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (١) وتارة محذوفا. كقوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) وجاء : استغفر ، أيضا معدّى باللام ، كما قال تعالى : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (٢) (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (٣) وكأن هذه اللام ، والله أعلم ، لام العلة ، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله ، واستفعل هنا للطلب ، كاستوهب واستطعم واستعان ، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٤).

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار ، وهو أنه تعالى كثير الغفران ، كثير الرحمة ، وهاتان الصفتان للمبالغة ، وأكثر بناء : فعول ، من : فعل ، نحو : غفور ، وصفوح ، وصبور ، وشكور ، وضروب ، وقتول ، وتروك ، وهجوم ، وعلوك ، وأكثر بناء : فعيل ، من فعل بكسر العين نحو : رحيم ، وعليم ، وحفيظ ، وسميع ، وقد يتعارضان. قالوا : رقب فهو رقيب ، وقدر فهو قدير ، وجهل فهو جهول ؛ وقد تقدم الكلام على نحو هذه الجمل ، أعني : أن يكون آخر الكلام ذكر اسم الله ، ثم يعاد بلفظه بعد : إن ، والأولى أن يطلق الغفران والرحمة ، وإن ذلك من شأنه تعالى.

وقيل : إن المغفرة الموعودة في الآية هي عند الدفع من عرفات ، وقيل : إنها عند الدفع من جمع إلى منى ، والأولى ما قدمناه.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم ، فيقول أحدهم : كان يقري الضيف ، ويضرب بالسيف ، ويطعم الطعام ، وينحر الجزور ، ويفك العاني ، ويجر النواصي ، ويفعل كذا وكذا. فنزلت.

وقال الحسن : كانوا إذا حدثوا أقسموا بالآباء ، فيقولون. وأبيك ، فنزلت.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٥.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٥.

(٣) سورة غافر : ٤٠ / ٥٥ ومحمد : ٤٧ / ١٩.

(٤) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

٣٠٥

وقال السدي : كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال فأعطني بمثل ذلك! ليس يذكر الله ، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه ، وقال : معناه أبو وائل ، وابن زيد ، فنزلت : فإذا قضيتم ، أي أديتم وفرغتم. كقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) (١) أي : أديت ، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود ، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ ، كقوله : وما فاتكم فاقضوا وإذا علق على فعل غيره ، فالمراد منه الإلزام ، كقوله : قضى الحاكم بينهما ، والمراد من الآية الفراغ.

وقال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء ، كقولك : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج ، بل الدخول فيه ، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات ، والمشعر الحرام ، والطواف والسعي ، فيكون المعنى : فاذا شرعتم في قضاء المناسك ، أي : في أدائها فاذكروا. وهذا خلاف الظاهر ، لأن الظاهر الفراغ من المناسك لا الشروع فيها ، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في : فإذا ، بعد الجمل السابقة.

والمناسك هي مواضع العبادة ، فيكون هذا على حذف مضاف ، أي : أعمال مناسككم ، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج ، قاله الحسن ، أو الذبائح وإراقة الدماء ، قاله مجاهد.

فاذكروا الله : هذا جواب : إذ ، والمعنى : إذا فرغتم من الوقوف بعرفة ، ونفرتم من منى ، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة ، وسهلها ويسرها عليكم ، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير ، وانهماك النفس والمال ، وقيل : الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ، وقيل : بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم هذا هو ذكر مفاخرهم ، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم ، أو القسم بآبائهم ، وقيل : ذكر آباءهم في حال الصغر ، ولهجه بأبيه يقول : أبه أبه ، أول ما يتكلم. وقيل : معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سبّا ، قاله أبو الجوزاء ، عن ابن عباس. ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ :

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ١٠.

٣٠٦

كذكركم آباؤكم ، برفع الآباء ، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ : أباكم ، على الإفراد ، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، التقدير : كما يذكركم آباؤكم. والمعنى : ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه. ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع ، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع ، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد ، بل آباء.

و : أو ، هنا قيل : للتخيير ، وقيل : للاباحة ، وقيل : بمعنى بل أشدّ ، جوزوا في إعرابه وجوها اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكرا بعد أشدّ تمييزا بعد أفعل التفضيل ، فلا يمكن إقراره تميزا إلّا بهذه التقادير التي قدّروها ، ووجه إشكال كونه تمييزا أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله ، تقول : زيد أحسن وجها ، لأن الوجه ليس زيدا فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجل. فعلى هذا يكون التركيب في مثل : أضرب زيدا كضرب عمر وخالدا أو أشدّ ضرب ، بالجر لا بالنصب ، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله ، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه.

أحدها : أن يكون معطوفا على موضع الكاف في : ذكركم ، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، أي : ذكرا كذكركم آباءكم أو أشد ، وجعلوا الذكر ذكرا على جهة المجاز ، كما قالوا : شاعر شعر ، قاله أبو علي وابن جني.

الثاني : أن يكون معطوفا على آبائكم ، قاله الزمخشري ، قال : بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم ، على أن ذكرا من فعل المذكور انتهى. وهو كلام قلق ، ومعناه : أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير : أو قوما أشد ذكرا من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم ، أي من فعل القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم ، ومعنى قوله : من آبائكم أي : من ذكركم لآبائكم.

الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل الكون. والكلام محمول على المعنى. التقدير : أو كونوا أشد ذكرا له منكم لأبائكم. ودل عليه أن معنى : فاذكروا الله ؛ كونوا ذاكريه.

قال أبو البقاء : قال : وهذا أسهل من حمله على المجاز ، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني.

وجوزوا الجر في أشد على وجهين. أحدهما : أن يكون معطوفا على : ذكركم ،

٣٠٧

الزجاج ، وابن عطية ، وغيرهما. فيكون التقدير : أو كذكر أشدّ ذكرا ، فيكون إذ ذاك قد جعل للذكر ذكر.

الثاني : أن يكون معطوفا على الضمير المجرور بالمصدر في : كذكركم ، قاله الزمخشري. قال ما نصه : أو أشدّ ذكرا في موضع جر ، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : كذكركم ، كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكرا ، وفي قول الزمخشري : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون : أشدّ ، منصوبا على الحال ، وهو نعت لقوله : ذكرا لو تأخر ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، كقولهم.

لمية موحشا طلل

فلو تأخر لكان : لمية طلل موحش ، وكذلك لو تأخر هذا لكان : أو ذكرا أشدّ ، يعنى : من ذكركم آباءكم ، ويكون إذ ذاك : أو ذكرا أشدّ معطوفا على محل الكاف من : كذكركم ، ويجوز أن يكون ذكرا مصدرا ، لقوله : فاذكروا كذكركم ، في موضع الحال ، لأنه في التقدير : نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال ، ويكون : أو أشدّ ، معطوفا على محل الكاف حالا معطوفة على حال ، ويصير كقوله : أضرب مثل ضرب فلان ضربا ، التقدير ضربا مثل ضرب فلان ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع. ولو تقدّم لكان : فاذكروا ذكرا كذكركم ، فكان اللفظ يتكرر ، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ ، فلهذا المعنى ، ولحسن القطع ، تأخر.

لا يقال في الوجه الأول : إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو : أو ، وبين المعطوف الذي هو : ذكرا ، بالحال الذي هو : أشدّ ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسما أو ظرفا أو مجرورا ، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف ، وقد وجد هذا الشرط الآخر ، وهو كون الحرف على أزيد من حرف ، وفقد الشرط الأول ، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور ، بل هو حال ، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى ، فهي شبيهة بالحرف ، فيجوز فيها ما جاز في الظرف. وهذا أولى من جعل : ذكرا ، تمييزا لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى ، فيكون : للذكر

٣٠٨

ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفا على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشدّ ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفا على : آباءكم ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفا على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب. والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدعو إلّا بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وإن هذا من الالتفات. ولو جاء على الخطاب لكان : فمنكم من يقول : ومنكم.

وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثمّ قسما ثالثا لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لامره ، الساكتون عن كل دعاء ، وافتشاء ، ومفعول آتنا الثاني محذوف ، تقديره : ما تريد ، أو : مطلوبنا ، أو ما أشبه.

هذا وجعل في زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل في بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتي ، وأحدهما جائز اختصارا واقتصارا ، لأن هذا باب : أعطى ، وذلك جائز فيه.

(وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) تقدّم تفسير هذا في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١) واحتملت هذه الجملة هنا معنيين : أحدهما : الاخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا. والثاني : أن يكون المعنى إخبارا عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) ولو جرى على لفظ من ، لكان : ربّ آتني. وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٢.

٣٠٩

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الحسنة : مطلقة ، والمعنى : أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة ، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة ، قاله علي. أو : العافية في الصحة وكفاف المال ، قاله قتادة. أو : العلم ، أو العبادة ، قاله الحسن. أو : المال ، قاله السدي ، وأبو وائل ، وابن زيد. أو : الرزق الواسع ، قاله مقاتل. أو : النعمة في الدنيا ، قاله : ابن قتيبة ، أو القناعة بالرزق ، أو : التوفيق والعصمة ، أو : الأولاد الأبرار ، أو : الثبات على الإيمان ، أو : حلاوة الطاعة ، أو : اتباع السنة ، أو : ثناء الخلق ، أو : الصحة والأمن والكفاية والنصرة على الأعداء ، أو : الفهم في كتاب الله تعالى. أو : صحبة الصالحين ، قاله جعفر. وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة.

(وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة ، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، أو النعمة ، أو الحور العين ، أو تيسير الحساب ، أو مرافقة الأنبياء ، أو لذة الرؤية ، أو الرضا ، أو اللقاء.

وقال ابن عطية : هي الحسنة بإجماع. قيل : وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد صار مثل الفرخ ، وأنه سأله عما كان يدعو به ، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة ، وأنه قال له : «لا تستطيعه» وقال : «هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا ...» إلى آخره. فدعا بهما الله تعالى فشفاه.

وصح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ما كان يدعو به ، وكان يقول ذلك فيما بين الركن والحجر الأسود ، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف.

وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح ، ثم اتبعه علي ، والناس أجمعون ؛ وأنس سئل الدعاء فدعا بها ، ثم سئل الزيادة فأعادها ، ثم سئل الزيادة فقال : ما تريدون؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة.

(وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) : الواو فيها لعطف شيئين على شيئين ، فعطفت في الآخرة حسنة ، على : الدنيا حسنة ، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، تقول : أعلمت زيدا أخاك منطلقا وعمرا أباه مقيما ، إلّا إن ناب عن عاملين ففيه خلاف ، وفي الجواز تفصيل. وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم ، فأجاز ذلك مستدلا به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص

٣١٠

بالشعر ، لأن الآية ليست من هذا الباب ، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو : ضربت زيدا وفي الدار عمرا ، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (١) وبقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (٢) وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو.

(وَقِنا عَذابَ النَّارِ) هو سؤال بالوقاية من النار ، وهو : أن لا يدخلوها ، وهي نار جهنم ، وقيل : المرأة السوء الكثيرة الشر.

وقال القيثري : واللام في النار لام الجنس ، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة. انتهى.

وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم : وفي الآخرة حسنة ، يقتضي أن من دخل الجنة ، ولو آخر الناس ، صدق عليه أنه : أوتي في الآخرة حسنة ، قد دعوا الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار ، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولا دون عذاب ، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منها بالشفاعة. ويحتمل أن يكون مؤكدا لطلب دخول الجنة ، كما قال بعض الصحابة.

إنما أقول في دعائي : اللهم أدخلني الجنة ، وعافني من النار ، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حولها ندندن».

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) تقدّم انقسام الناس إلى فريقين : فريق اقتصر في سؤاله على دنياه ، وفريق أشرك في دنياه أخراه ، فالظاهر أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، إذ المحكوم به ، وهو كون : نصيب لهم مما كسبوا ، مشترك بينهما ، والمعنى : أن كل فريق له نصيب مما كسب ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. ولا يكون الكسب هنا الدعاء ، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين ، وأن أنصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم.

وقيل : المراد بالكسب هنا الدعاء ، أي : لكل واحد منهم نصيب مما دعا به. وسمي الدعاء كسبا لأنه عمل ، فيكون ذلك ضمانا للإجابة ووعدا منه تعالى أنه يعطي كلّا منه نصيبا

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٨.

٣١١

مما اقتضاه دعاؤه ، إما الدنيا فقط ، وإما الدنيا والآخرة ، فيكون كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) (١) و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) (٢) و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) (٣) الآيات.

وكما جاء في الصحيح : وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل الله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها. وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة.

و : من ، في قوله : مما كسبوا ، يحتمل أن تكون للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا ، ويحتمل أن يكون للسبب ، و : ما ، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي : من كسبهم ، وقيل : أولئك ، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط ، ولم يذكر ابن عطية غيره. وذكره الزمخشري بإزائه.

قال ابن عطية : وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد ، وقال الزمخشري : أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة ، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : مما خطاياهم اغرقوا ، ثم قال بعد كلام : ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعا ، وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا. انتهى كلامه.

والأظهر ما قدمناه من أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، ويؤيده قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق ، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق ، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم ، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين.

وروي عن ابن عباس : أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت ، يكون الثواب بينه وبين الميت ، وروي عنه أيضا ، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه. وكان مات؟ وفي آخره ، قال : فهل لي من أجره؟ فنزلت هذه الآية ، قيل : وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها ، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه. انتهى. وليست كما ذكر منفصلة ، بل هي متصلة بما قبلها ، لأن ما قبلها هو في الحج ، وأن انقسام الفريقين هو في الحج ، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط ، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة. وحصل

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٠.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٨.

(٣) سورة هود : ١١ / ١٥.

٣١٢

الجواب للسائل عن حجه عن أبيه : أله فيه أجر؟ لعموم قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكري دابته ويشرط عليهم أن يحج ، فهل يجزى عنه؟ وذلك لعموم قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا).

(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه ، وسرعته بانقضائه عجلا كقصد مدته ، فروي : بقدر حلب شاة ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر. أو لكونه لا يحتاج إلى فكر ، ولا رؤية كالعاجز ، قاله أبو سليمان. أو : لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، قاله الزجاج. أو : لكون حساب العالم كحساب رجل واحد أو لقرب مجيء الحساب ، قاله مقاتل.

قيل : كنى بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذا كانت ناشئة عنها كقوله : (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) يعنى ما جزائي ، وقيل : كنى بالحساب عن العلم بمجاري الأمور ، لأن الحساب يفضي إلى العلم ، قاله الزجاج أيضا.

وقيل : عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده ، وقيل : عبر به عن القدرة والوفاء ، أي : لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : سريع مجيء يوم الحساب. فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة. وقيل : سرعة الحساب تعالى رحمته وكثرتها ، فهي لا تغب ولا تنقطع. وروي ما يقاربه عن ابن عباس.

وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين ، ويكون حساب الكفار تقريعا وتوبيخا ، لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزى بها ، وهو ظاهر قوله : (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (١) وقال الجمهور : الكفار لا يحاسبون ، قال تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢) (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٣) وظاهر ثقل الموازين وخفتها ، وما ترتب عليها في الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة : أن الحج له أشهر معلومات ، وجمعها على أشهر لقلتها ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة. بكمالها ، على ما يقتضيه ظاهر الجمع ،

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢٦.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٥.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٣.

٣١٣

ووصفها : بمعلومات ، لعلمهم بها. وأخبر تعالى أن من ألزم نفسه الحج فيها فلا يرفت ولا يفسق ولا يجادل ، فنهاه عن مفسد الحج مما كان جائزا قبله ، وما كان غير جائز مطلقا ليسوي بين التحريمين ، وإن كان أحدهما مؤقتا ، والآخر ليس بمؤقت. ثم لما نهى عن هذه المفسدات ، أخبر تعالى أن ما يفعله الإنسان من الخير الذي فرض الحج منه يعلمه الله ، فهو تعالى يثيب عليه. ثم أمر تعالى بالتزوّد للدّار الآخرة بأعمال الطاعات ، ودخل فيها ما هم ملتبسون به من الحج ، وأخبر أن خير الزاد هو ما كان وقاية بينك وبين النار ، ثم نادى ذوي العقول ، الذين هم أهل الخطاب ، وأمرهم باتقاء عقابه ، لأنه قد تقدّم ذكر المناهي ، فناسب أن ينتهوا على اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه ، ثم أنه لما كان الحاج مشغولا بهذه العبادة الشاقة ، ملتبسا بأقوالها وأفعالها ، كان مما يتوهم أنها لا يمزج وقتها بشيء غير أفعالها ، فبين تعالى أنه لا حرج على من ابتغى فيها فضلا بتجارة ، أو اجارة ، أو غير ذلك من الأعمال المعينة على كلف الدنيا ، ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات ، ليرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحج ، لئلا يستغرقهم التعلق بالتجارات والمكاسب ، ثم أمرهم بالذكر على هدايته التي منحها إياهم ، وقد كانوا قبل في ضلال ، فاصطفاهم للهداية ، ثم أمرهم بأن يفيضوا من حيث أفاض الناس ، وهي التي جرت عادة الناس بأن يفيضوا منها ، وذلك المكان هو عرفة ، والمعنى أنهم أمروا أن يكونوا تلك الإفاضة السابقة من عرفة لا من غيرها ، كما ذكر في سبب النزول. وأتى بثم لا لترتيب في الزمان ، بل للترتيب في الذكر ، لا في الوقوع.

ثم أمر بالاستغفار ، ثم أمر بعد أداء المناسك بذكر الله تعالى ، ولما كان الإنسان كثيرا ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر ، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر ، مثل ذكر الله بذلك الذكر ، ثم أكد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله : أو أشدّ ، ليفهم أن ما مثل به أولا ليس إلّا على طريق ضرب المثل لهم ؛ والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين.

ثم قسم مقصد الحاج إلى دنيويّ صرف ، وإلى دنيويّ وأخروي ، وبيّن ذلك في سؤاله إياه وذكر ان من اقتصر على دنياه فإنه لا حظ له في الآخرة ، ثم أشار إلى مجموع الصنفين بأن كلا منهما له مما كسب من أعماله حظ ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وأنه تعالى حسابه سريع ، فيجازي العبد بما كسب.

٣١٤

وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)

العجلة : الإسراع في شيء والمبادرة ، وتعجل تفعل منه وهو إما بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي يجيء لها تفعل فيكون بمعنى استعجل ، كقولهم : تكبر واستكبر ، وتيقن واستيقن ، وتقضى واستقضى ، وتعجل واستعجل ، يأتي لازما ومتعديا ، تقول : تعجلت في الشيء وتعجلته ، واستعجلت في الشيء واستعجلت زيدا ، وإمّا بمعنى الفعل المجرّد فيكون بمعنى : عجل ، كقولهم : تلبث بمعنى لبث ، وتعجب وعجب ، وتبرّ أو برىء ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.

الحشر : جمع القوم من كل ناحية ، والمحشر مجتمعهم ، يقال منه : حشر يحشر ،

٣١٥

وحشرات الأرض دوابها الصغار ، وقال الراغب : الحشر : ضم المفترق وسوقه ، وهو بمعنى الجمع الذي قلناه.

الإعجاب : افعال من العجب وأصله ، لما لم يكن مثله قاله المفضل ، وهو الاستحسان للشيء والميل إليه والتعظيم ، تقول أعجبني زيد. والهمزة فيه للتعدّي ، وقال الراغب : العجب حيرة تعرض للانسان بسبب الشيء وليس هو شيئا له في ذاته حالة ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب ، ومن لا يعرفه. وحقيقة أعجبني كذا أي : ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه. انتهى كلامه. وقد يقال عجبت من كذا في الإنكار ، كما قال زياد الأعجم :

عجبت والدهر كثير عجبه

من عنزي سبني لم أضربه

اللدد : شدّة الخصومة ، يقال : لددت تلد لددا ولدادة ، ورجل ألدّ وامرأة لدّاء ، ورجال ونساء لدّ ، ورجل التدد ويلتدد أيضا شديد الخصومة ، وإذا غلب خصمه قيل : لدّه يلدّه ، متعديا ، وقال الراجز :

يلدّ أقران الرجال اللدد

واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما : صفحتاه ، قاله الزجاج ، وقيل : من لديدي الوادي وهما جانباه ، سميا بذلك لإعوجاجهما ، وقيل : هو من لدّه : حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته ومقاومته.

الخصام : مصدر خاصم ، وجمع خصم يقال : خصم وخصوم وخصام ، كبحر وبحور وبحار ، والأصل في الخصومة التعميق في البحث عن الشيء ، ولذلك قيل : في زوايا الأوعية : خصوم ، الواحد. خصم.

النسل : مصدر : نسل ينسل ، وأصله الخروج بسرعة ومن قولهم : نسل وبر البعير ، وشعر الحمار ، وريش الطائر : خرج فسقط منه ، وقيل : النسل الخروج متتابعا ، ومنه : نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه ، وقال :

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

والإطلاق على الولد نسلا من إطلاق المصدر على المفعول ، يسمى بذلك لخروجه من ظهر الأب ، وسقوطه من بطن الأمّ بسرعة.

٣١٦

جهنم : علم للنار وقيل : اسم الدرك الأسفل فيها ، وهي عربية مشتقة من قولهم : ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، وقد سمي الرجل بجهنام أيضا فهو علم ، وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة ، فالنون على هذا زائدة ، فوزنه : فعنل ، وقد نصوا على أن جهناما وزنه فعنال.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن فعنلا بناء مفقود في كلامهم ، وجعل دونكا : فعللا ، كعدبس. والواو أصل في بنات الأربعة كهي في : ورنتل ، والصحيح إثبات هذا البناء. وجاءت منه ألفاظ ، قالوا : ضغنط من الضغاطة ، وهي الضخامة ، وسفنج ، وهجنف : للظليم والزونك : القصير سمي بذلك لأنه يزوك في مشيته. أي : يتبختر ، قال حسان :

أجمعت انك أنت ألأم من مشى

في فحش زانية وزوك غراب

وقال بعضهم في معناه : زونكي.

وهذا كله يدل على زيادة النون في : جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث ، وقيل : هي أعجمية وأصلها كهنام ، فعربت بإبدال من الكاف جيما. وبإسقاط الألف ، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية.

حسب : بمعنى : كاف ، تقول أحسبني الشيء : كفاني ، فوقع حسب موقع : محسب ، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء زائدة ، وإذا استعمل خبرا لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف ، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة ، تقول : مررت برجل حسبك ، ويجيء معه التمييز نحو : برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر.

المهاد : الفراش وهو ما وطئ للنوم ، وقيل : هو جمع مهد ، وهو الموضع المهيأ للنوم.

السلم : بكسر السين وفتحها : الصلح ، ويذكر ويؤنث ، وأصله من الاستسلام ، وهو الانقياد. وحكى البصريون عن العرب : بنو فلان سلم وسلم بمعنى واحد ، ويطلق بالفتح والكسر على الإسلام ، قاله الكسائي وجماعة من أهل اللغة ، وأنشدوا بعض قول كندة :

دعوت عشيرتي للسلم لما

رأيتهم تولوا مدبرينا

٣١٧

أي : للإسلام ، قال ذلك لما ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال آخر في الفتح :

شرائع السّلم قد بانت معالمها

فما يرى الكفر إلّا من به خبل

يريد : الإسلام ، لأنه قابله بالكفر ، وقيل بالكسر : الإسلام وبالفتح : الصلح.

كافة : هو اسم فاعل استعمل بمعنى : جميعا ، وأصل اشتقاقه من كف الشيء : منع من أخذه ، والكف المنع ، ومنه كفة القميص حاشيته ، ومنه الكف وهو طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف منع بصره أن ينظر ، ومنه كفة الميزان لأنها تمنع الموزون أن ينتشر ، وقال بعض اللغويين : كفة بالضم لكل مستطيل ، وبالكسر لكل مستدير ، وكافة : مما لزم انتصابه على الحال نحو : قاطبة ، فاخراجها عن النصب حالا لحن.

التزيين : التحسين ، والزينة مما يتحسن به ويتجمل ، وفعل من الزين بمعنى الفعل المجرد ، والتضعيف فيه ليس للتعدية ، وكونه بمعنى المجرد وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل كقولهم : قدّر الله ، وقدر. وميز وماز ، وبشر وبشر ، ويبنى من الزين افتعل افتعال : ازدان بابدال التاء دالا ، وهو لازم.

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية ، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج ، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة ، قولان. وعن عمر أنه كان يكبر بفسطاطه بمنى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق ، وفي الطواف ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر من المعدودات ، هذا مذهب الشافعي ، وأحمد ، ومالك وأبي حنيفة ، قاله : ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وابراهيم ، وقتادة ، والسدّي ، والربيع ، والضحاك. أو يوم النحر ويومان بعده ، قاله : ابن عمر ، وعلي ، وقال : اذبح في أيها شئت ، أو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق ، قاله : المروزي. أو أيام العشر ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قيل : وقولهم أيام العشر ، غلط من الرواة ، وقال ابن عطية : إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد الشعر الذي بعد يوم النحر ، وفي ذلك بعد.

٣١٨

وتكلم المفسرون هنا على قوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ، عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) (١) ونحن نؤخر الكلام على ذلك إلى مكانه إن شاء الله.

واستدل ابن عطية للقول الأول وهو : ان الأيام المعدودات : أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر منها. بأن قال : ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر. وهو ثاني يوم النحر ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم القر ، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات انتهى كلامه.

ولا يلزم ما قاله ، لأن قوله : فمن تعجل في يومين ، لا يمكن حمله على ظاهره ، لأن الظرف المبني إذا عمل فيه الفعل فلا بد من وقوعه في كل واحد من اليومين ، لو قلت : ضربت زيدا يومين ، فلا بد من وقوع الضرب به في كل واحد من اليومين ، وهنا لا يمكن ذلك ، لأن التعجيل بالنفر لم يقع في كل واحد من اليومين ، فلا بد من ارتكاب مجاز ، إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما ، ويصير نظير : (نَسِيا حُوتَهُما) (٢) و (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٣) وإنما الناسي أحدهما ، وكذلك ، إنما يخرجان من أحدهما. أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف ، التقدير : فمن تعجل في ثاني يومين بعد يوم النحر ، فيكون اليوم الذي بعد يوم القر المتعجل فيه ، ويحتمل أن يكون المحذوف في : تمام يومين أو إكمال يومين ، فلا يلزم أن يقع التعجل في شيء من اليومين ، بل بعدهما. وعلى هذا يصح أن يعد يوم النحر من الأيام المعدودات ، ولا يلزم أن يكون النفر يوم القر ، كما ذكره ابن عطية.

وظاهر قوله (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات ، ولم يبين ما هذه الأيام ، لكن قوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) يشعر أن تلك الأيام هي التي ينفر فيها ، وهي أيام التشريق ، وقد قال في (ريّ الظمآن) : أجمع المفسرون على أن الأيام المعدودات أيام التشريق. انتهى.

وجعل الأيام ظرفا للذكر يدل على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب ، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت ، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه ، ويؤيده قوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) وان الخطاب بقوله : واذكروا ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٨.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٦١.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٢.

٣١٩

ظاهر أنه للحجاج ، إذ الكلام معهم ، والخطاب قبل لهم ، والإخبار بعد عنهم ، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به.

ومن حمل الذكر هنا على أنه الذكر المشروع عقب الصلاة فهو منهم في الوقت وفي الكيفية.

أما وقته : فمن صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، أو : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ، قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو حنيفة. أو : من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي الصبح آخر أيام التشريق ، وروي عن مالك هذا. أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق ، قاله يحيى بن سعيد. أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، قاله مالك ، والشافعي. أو : من ظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله ابن شهاب. أو : من ظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله سعيد بن جبير. أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول ، قاله الحسن. أو : من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر ، قاله أبو وائل. أو : من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ، قاله زيد بن ثابت ، وبه أخذ أبو يوسف في أحد قوليه.

وأما الكيفية : فمشهور مذهب مالك ثلاث تكبيرات وفي مذهبه أيضا رواية أنه يزيد بعدها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد. ومذهب أبي حنيفه ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر. ومذهب الشافعي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وقال أبو حنيفة : يختص التكبير بإدبار الصلوات المكتوبة في جماعة ، وقال مالك : مفردا كان أو في جماعة عقب كل فريضة ، وبه قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ؛ وعن أحمد : القولان ، والمسافر كالمقيم في التكبير عند علماء الأمصار ، ومشاهير الصحابة ، والتابعين. وعن أبي حنيفة : أن المسافرين إذا صلوا جماعة لا تكبير عليهم ، فلو اقتدى مسافر بمقيم كبّر ، وينبغي أن يكبر عقب السلام ، والجمهور يعمل شيئا يقطع به الصلاة من الكلام وغيره ، وقيل استدبار القبلة ، والجمهور على ذلك ، فإن نسي التكبير حين فرغ وذكر قبل أن يخرج من المجلس فينبغي أن يكبر.

٣٢٠