البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

يتصرف فيها ، بل التزم نصبها على الحال ، لكن مرادفها يصح فيه ذلك ، وقوله : والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها ، يعني : أن هذا في أصل الوضع ، ثم صار الاستعمال لها لمعنى : جميعا ، كما قال هو وغيره ، وكافة : معناه جميعا.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) قد تقدم تفصيل هاتين الجملتين بعد قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (١) فأغنى ذلك عن إعادته ، وقال صاحب (الكتاب الموضح) أبو عبد الله نصر بن علي بن محمد : عرف بابن مريم ، ان ضم عين الكلمة في مثل هذا ، نحو : عرفة وعرفات ، هو مذهب أهل الحجاز ، وقال فيمن سكن الطاء : إنهم لما جمعوا نووا الضمة في الطاء ، ثم أسكنوها استخفافا ، وهو في تقدير الثبات يدل على أن الضمة في حكم الثابت ، أن هذه حركة يفصل بها بين الاسم والصفة ، كما هي في جمع : فعلة ، المفتوحة الفاء ، فلا تحذف عين الاسم حذفا ، إذ هي فارقة بينه وبين الصفة ، فهي منوية لا محالة. انتهى كلامه.

واتضح من هذا أنه في الصفة لا ينقل ، فإذا جمعنا : حلوة وضحكة ، المراد به صفة المؤنث ، فلا تقول : حلوات ، ولا ضحكات ، بضم عين الكلمة ، وعلى هذا قياس : فعلة ، الصفة نحو : جلفة ، لا يقال فيه جلفات.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي : عصيتم أو كفرتم ، أو أخطأتم ، أو ضللتم ، أقوال ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله : ادخلوا في السلم ، أي الإسلام ، فإن زللتم عن الدخول فيه ، وأصل الزلل للقدم ، يقال : زلت قدمه ، كما قال.

ولا شامت إن نعل عزة زلت

ثم يستعمل في الرأي والاعتقاد ، وهو الزلق ، وقد تقدم شيء من تفسيره في قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (٢).

وقرأ أبو السماك : فإن زللتم ، بكسر اللام ، وهما لغتان : كضللت وضللت.

والبينات : حجج الله ودلائله ، أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ) (٣) وجمع تعظيما له ، لأنه وإن كان واحدا بالشخص ، فهو كثير بالمعنى : أو القرآن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.

(٣) سورة البينة : ٩٨ / ١.

٣٤١

قاله ابن جريج ، أو التوراة والإنجيل قال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) (١) وقال (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) (٢) وهذا يتخرج على قول من قال : إن المخاطب أهل الكتاب ، أو الإسلام ، أو ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات ، أقوال ستة.

وفي (المنتخب) البينات : تتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية من حيث إن عذر المكلف لا يزول إلّا عند حصول البينات ، لا حصول التبيين من التكليف. انتهى كلامه.

والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول ، فلا ينسب إليها المجيء إلّا مجازا ، وفيه بعد.

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : دوموا على العلم ، إن كان الخطاب للمؤمنين ، وإن كان للكافرين أو المنافقين فهو أمر لهم بتحصيل العلم بالنظر الصحيح المؤدي إليه ، وفي وصفه هنا بالعزة التي هي تتضمن الغلبة والقدرة اللتين يحصل بهما الانتقام ، وعيد شديد لمن خالفه وزل عن منهج الحق ، وفي وصفه بالحكمة دلالة على إتقان أفعاله : وأن ما يرتبه من الزواجر لمن خالف هو من مقتضى الحكمة ، وروي أن قارئا قرأ ، غفور رحيم ، فسمعه أعرابي فأنكره ، ولم يكن يقرأ القرآن ، وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم ، لا يذكر الغفران عند الزلل ، لأنه إغراء عليه ، وقد روي عن كعب نحو هذا ، وأن الذي كان يتعلم منه أقرأه : فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فأنكره حتى سمع : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال : هكذا ينبغي!.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)؟ هل : هنا للنفي ، المعنى : ما ينظرون ، ولذلك دخلت إلّا ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها : إلّا ، كثير الاستعمال في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٣) (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤) وقال الشاعر :

وهل أنا إلّا من غزية إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزية أرشد

و : ينظرون ، هنا معناه : ينتظرون ، تقول العرب : نظرت فلانا انتظره ، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلّا بحرف جر. قال امرؤ القيس :

فانكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعي لدى أم جندب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٧.

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ١٧.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٤٧.

٣٤٢

ومفعول : ينظرون ، هو ما بعد إلّا ، أي : ما ينتظرون إلّا إتيان الله ، وهو استثناء مفرغ ، قيل : وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه ، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى ، وكان مضافا إلى الوجه ، وإنما هو من الانتظار. انتهى.

وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال : هو من النظر ، وهو تردد العين. وهو معدى بإلى ، لكنها محذوفة ، والتقدير : هل ينظرون إلّا إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد ، ولا لبس هنا ، فحذفت : إلى ، وقوله : وكان مضافا إلى الوجه يشير إلى قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) فكذلك ليس بلازم ، قد نسب النظر إلى الذوات كثيرا كقوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) (٢) (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٣) والضمير في : ينظرون ، عائد على الذالين ، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.

والإتيان : حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز ، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، فروى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون ، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به ، وهو الله تعالى.

والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه :

أحدها : أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال.

الثاني : أنه عبر به عن المجازات لهم ، والانتقام ، كما قال : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (٤) (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (٥).

الثالث : أن يكون متعلق الإتيان محذوفا ، أي : أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب ، والعقاب ، قاله الزجاج.

الرابع : أنه على حذف مضاف ، التقدير : أمر الله ، بمعنى : ما يفعله الله بهم ، لا الأمر الذي مقابله النهي ، ويبينه قوله بعد : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ).

الخامس : قدرته ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.

السادس : أن في ظلل ، بمعنى بظلل ، فيكون : في ، بمعنى : الباء ، كما قال.

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٢.

(٢) سورة الغاشية : ٨٨ / ١٧.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٢٦.

(٥) سورة الحشر : ٥٩ / ٢.

٣٤٣

خبيرون في طعن الأباهر والكلى

أي : بطعن ، لأن خبيرا لا يتعدى إلّا بالباء ، كما قال.

خبير بأدواء النساء طبيب

قال الزجاج وغيره.

والأولى أن يكون المعنى : أمر الله ، إذ قد صرح به في قوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (١) وتكون عبارة عن بأسه وعذابه ، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد ، وقيل : المحذوف : آيات الله ، فجعل مجيء آياته مجيئا له على التفخيم لشأنها ، قاله في (المنتخب). ونقل عن ابن جرير أنه قال : يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة ، وقيل : الخطاب مع اليهود ، وهم مشبهة ، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، وإذا كان كذلك فالمعنى : أنهم لا يقبلون ذلك إلّا أن يأتيهم الله ، فالآية على ظاهرها ، إذ المعنى : أن قوما ينتظرون إتيان الله ، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون.

(فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) تقدّم الكلام على ذلك في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) (٢) ويستحيل على الذات المقدّسة أن تحل في ظلة ، وقيل : المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها ، لأنه لا شيء أشد على المذنبين ، وأهول ، من وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة ، فيكون هذا من باب التمثيل ، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام ، فكان ذلك ، لأنه أعظم ، أو يأتيهم الشر من جهة الخير ، لقوله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣) ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) (٤) ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة ، فكذلك العذاب غير محصور ، وقيل : إن العذاب لا يأتي في الظلل ، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل من الغمام ، كما قال : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) (٥) فالمعنى أن عذاب الله يأتيهم في أهوال عظيمة ، كظلل الغمام.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٣٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٧.

(٣) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٤.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٥.

(٥) سورة لقمان : ٣١ / ٣٢.

٣٤٤

واختلفوا في هذا التوعد ، فقال ابن جريج : هو توعد بما يقع في الدنيا ، وقال قوم : بل توعد بيوم القيامة.

وقرأ أبي ، وعبد الله ، وقتادة ، والضحاك : في ظلال ، وكذلك روى هارون بن حاتم ، عن أبي بكر ، عن عاصم ، هنا وفي الحرفين في الزمر ، وهي : جمع ظلة ، نحو : قلة وقلال ، وهو جمع لا ينقاس ، بخلاف : ظلل ، فإنه جمع منقاس ، أو جمع : ظل نحو ضل وضلال.

و : في ظلل ، متعلق بيأتيهم ، وجوّزوا أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف ، و : من الغمام ، في موضع الصفة لظلل ، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم ، أي من ناحية الغمام ، فتكون : من ، لابتداء الغاية ، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو جعفر : والملائكة ، بالجر عطفا على : في ظلل ، أو عطفا على الغمام ، فيختلف تقدير حرف الجر ، إذ على الأول التقدير : وفي الملائكة ، وعلى الثاني التقدير : ومن الملائكة.

وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على : الله ، وقيل : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، فالإتيان في الظل مضاف إلى الملائكة ، والتقدير : إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل ، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإتيان فقط ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله ، إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) معناه : وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ، وقيل : أتم أمر هلاكهم وفرغ منه ، وقيل : فرغ من وقت الانتظار وجاء وقت المؤاخذة ، وقيل : فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة ، وقيل : فرغ من الحساب ووجب العذاب. وهذه أقوال متقاربة.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) معطوف على قوله : يأتيهم ، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل ، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع ، والتقدير : ويقضى الأمر ، ويحتمل أن يكون هذا إخبارا من الله تعالى ، أي : فرغ من أمرهم بما سبق في القدر ، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر.

وقرأ معاذ بن جبل : وقضاء الأمر ، قال : قال الزمخشري : على المصدر المرفوع عطفا على الملائكة ، وقال غيره بالمد والخفض عطفا على الملائكة ، وقيل : ويكون : في ، على هذا بمعنى الباء ، أي : بظلل من الغمام ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر.

٣٤٥

وقرأ يحيى بن معمر : وقضي الأمور ، بالجمع ، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، ولأنه لو أبرز وبنى الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ترجع ، بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن ، ويعقوب : بالتاء مفتوحة وكسر الجيم في جميع القرآن ، على أن : رجع ، لازم وباقي السبعة : بالياء وفتح الجيم مبنيا للمفعول ، وخارجة عن نافع : يرجع بالياء. وفتح الجيم على أن رجع متعد. وكلا الاستعمالين له في لسان العرب ، ولغة قليلة في المتعدي أرجع رباعيا ، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الجمع ، ومن قرأ بالياء فلكون التأنيث غير حقيقي.

وصرح باسم الله لأنه أفخم وأعظم وأوضح ، وإن كان قد جرى ذكره في قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر ، وإنما هي إعلام بأن الله إليه تصير الأمور كلها. لا إلى غيره ، إذ هو المنفرد بالمجازاة ، ولرفع إبهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم ، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء ، بل ذلك إلى الله وحده ، أو لإعلام انها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا ، فصارت إليه كلها في الآخرة.

وإذا كان الفعل مبنيا للمفعول فالفاعل المحذوف ، إما الله تعالى ، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة ، أو ذوو الأمور ، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون ، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها ، قيل : أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم : فلان معجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. انتهى. وملخصه : انه يبنى الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل ، وهذا خطأ ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل ، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحدا ، ولا الفاعل للإعجاب ، بل الفاعل غيره ، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه ، واعتقاده بجمال نفسه ، فالمعنى أنه أعجبه رأيه ، وذهب به رأيه ، فكأنه قيل : أعجبه رأيه بنفسه ، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك؟ ثم حذف الفاعل ، وبني الفعل للمفعول.

قيل : وفي قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قسمان من أقسام علم البيان :

أحدهما : الإيجاز في قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) فإن في هاتين الكلمتين يندرج في

٣٤٦

ضمنها جميع أحوال العباد منذ خلقوا إلى يوم التناد ، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد.

والثاني : الاختصاص بقوله : (وَإِلَى اللهِ) فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك. انتهى.

وقال السلمي : وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين.

وقال جعفر : كشف عن حقيقة الأمر ونهيه.

وقال القشيري : انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الزمخشري : أو لكل أحد.

وقرأ أبو عمرو ، في رواية ابن عباس : أسأل. وقرأ قوم : اسل ، وأصله اسأل ، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين ، ولم تحذف همزة الوصل لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها ، كما قالوا : الحمر في الأحمر. وقرأ الجمهور : سل ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن أصله اسأل ، فلما نقل وحذف اعتدّ بالحركة ، فحذف الهمزة لتحرك ما بعدها ، والوجه الآخر : أنه جاء على لغة من يجعل المادّة من : سين ، وواو ، ولام ، فيقول : سأل يسأل ، فقال : سل ، كما قال : خف ، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل ، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة ، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو : خافا وخافوا وخافي.

ولما تقدّم : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ) وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام ، وأنهم لا ينتظرون إلّا آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام ، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة ، ولم تنفعهم تلك الآيات ، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم ، وهذا السؤال ليس سؤالا عما لا يعلم ، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات ، وإنما هو سؤال عن معلوم ، فهو تقريع وتوبيخ ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات ، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ).

وفي هذا السؤال أيضا تثبيت وزيادة ، كما قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (١) أو : زيادة يقين المؤمن ، فالخطاب في اللفظ له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد :

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٢٠.

٣٤٧

أمّته ، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه لم يكونوا يعرفون شيئا من قصص بني إسرائيل ، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه.

(بَنِي إِسْرائِيلَ) من كان بحضرته منهم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من آمن من به منهم ، أو علماؤهم ، أو أنبياؤهم ، أقوال أربعة.

و (كَمْ) في موضع نصب على أنها مفعول ثان ل (آتَيْناهُمْ) على مذهب الجمهور ، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره ، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده ، وجعل ذلك من باب الإشتغال ، قال : وكم ، في موضع نصب إمّا بفعل مضمر بعدها ، لأن لها صدر الكلام تقديره : كم آتيناهم ، أو بإتيانهم. انتهى. وهذا غير جائز إن كان قوله : من آية تمييزا لكم ، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الإشتغال. ونظير ما أجاز أن يقول : زيدا ضربت ، فتعرب زيدا مفعولا بفعل محذوف يفسره ما بعده ، التقدير : زيدا ضربت ضربت ، وكذلك : الدرهم أعطيت زيدا ، ولا نعلم أحدا ذهب إلى ما ذهب إليه ، بل نصوص النحويين ، سيبويه فمن دونه ، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده ، وإن كان تمييز : كم ، محذوفا.

وأطلقت : كم ، على القوم أو الجماعة ، فكان التقدير : كم من جماعة آتيناهم ، فيجوز ذلك ، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على : كم ، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون : كم ، في موضع رفع بالابتداء ، والجملة من قوله : آتيناهم ، في موضع الخبر ، والعائد محذوف ، التقدير : آتيناهموه ، أو آتيناهموها ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلّا في الشعر ، أو في شاذ من القرآن ، كقراءة من قرأ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (١) برفع الحكم ، وقال ابن مالك : لو كان المبتدأ غير : كل ، والضمير مفعول به ، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلّا في الاضطرار ، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار ، ويرونه ضعيفا ، انتهى. فإذا كان لا يجوز إلّا في الاضطرار ، أو ضعيفا ، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك؟ ورجحانه وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه. وكم ، هنا استفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الاستفهام ، وقد

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٠.

٣٤٨

يخرج الاستفهام عن حقيقته إذا تقدّمه ما يخرجه ، نحو قولك : سواء عليك أقام زيد أم قعد ، و : ما أبالي أقام زيد أم قعد ، وقد علمت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد ، فكل هذا صورته صورة الاستفهام ، وهو على التركيب الاستفهامي وأحكامه ، وليس على حقيقة الاستفهام.

وهذه الجملة من قوله : (كَمْ آتَيْناهُمْ) في موضع المفعول الثاني : لسل ، لأن سأل يتعدى لإثنين ؛ أحدهما : بنفسه ، والآخر : بحرف جر ، إما عن ، وإما الباء. وقد جمع بينهما في الضرورة نحو.

فأصبحن لا يسألنه عن بما به

و : سأل ، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية ، فهي عاملة في المعنى ، غير عاملة في اللفظ ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلّا الجار ، قالوا : وإنما علقت : سل ، وإن لم تكن من أفعال القلوب ، لأن السؤال سبب للعلم ، فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك ، وقال تعالى : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (١) وقال الشاعر.

سائل بني أسد ما هذه الصوت

وقال :

واسأل بمصقلة البكري ما فعلا

وأجاز الزمخشري أن تكون : كم ، هنا خبرية ، قال : فإن قلت : كم استفهامية أم خبرية؟

قلت : يحتمل الأمرين ، ومعنى الاستفهام فيها التقدير. انتهى كلامه. وهو ليس بجيد ، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال ، لأنه يصير المعنى : سل بني إسرائيل ، وما ذكر المسئول عنه ، ثم قال : كثيرا من الآيات آتيناهم ، فيصير هذا الكلام مفلتا مما قبله ، لأن جملة : كم آتيناهم ، صار خبرا صرفا لا يتعلق به : سل ، وأنت ترى معنى الكلام ، ومصب السؤال على هذه الجملة ، فهذا لا يكون إلّا في الاستفهامية ، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف ، وهو المفعول الثاني : لسل ،

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ٤٠.

٣٤٩

ويكون المعنى : سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم أخبر تعالى أن كثيرا من الآيات آتيناهم.

(مِنْ آيَةٍ) تمييز ل : كم ، ويجوز دخول : من ، على تمييز الاستفهامية والخبرية ، سواء وليها أم فصل بينهما ، والفصل بينهما بجملة ، وبظرف ، ومجرور ، جائز على ما قرر في النحو ، وأجاز ابن عطية أن يكون : من آية ، مفعولا ثانيا : لآتيناهم ، وذلك على التقدير الذي قدّره قبل من جواز نصب : كم ، بفعل محذوف يفسره : آتيناهم ، وعلى التقدير الذي قررناه من أن : كم ، تكون كناية عن قوم أو جماعة ، وحذف تمييزها لفهم المعنى ، فإذا كان كذلك ، فإن كانت : كم ، خبرية فلا يجوز أن تكون : من آية ، مفعولا ثانيا ، لأن زيادة : من ، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش ، وإن كانت استفهامية فيمكن أن يقال : يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله ، وفيه بعد ، لأن متعلق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : كم من درهم أعطيته من رجل ، على زيادة : من ، في قولك : من رجل ، لكان فيه نظر ، وقد أمعنا الكلام على زيادة : من ، في (منهج السالك) من تأليفنا.

و : الآيات البينات ، ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحقيق نبوته ، وتصديق ما جاء به ، أو معجزات موسى صلى الله على نبينا وعليه : كالعصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، أو : القرآن قصّ الله قصص الأمم الخالية حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء ، ولا كتب ولا ارتجل ، أو معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كتسبيح الحصى ، وتفجير الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، وتسليم الحجر ، أربعة أقوال ، وقدروا بعد قوله : من آية بينة ، محذوفا ، فقدّره بعضهم : فكذبوا بها ، وبعضهم : فبدلوها.

(وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) نعمة الله : الحجج الواضحة الدالة على أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبدل بها التشبيه والتأويلات ، أو ما ورد في كتاب الله من نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يبدل به نعت الدجال ، أو الاعتراف بنبوته يبدل بها الجحد لها ، أو كتب الله المنزلة على موسى وعيسى على نبينا وعليهم‌السلام يبدل بها غير أحكامها كآية الرجم وشبهها ، أو الإسلام. قاله الطبري ؛ أو شكر النعمة يبدل بها الكفر أو آياته وهي أجل نعمة من الله ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة ، وتبديلهم إياها ، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب

٣٥٠

ضلالتهم ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) قاله الزمخشري : سبعة أقوال.

ولفظ : من يبدل ، عام وهو شرط ، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمه : ككفار قريش وغيرهم ، فإن بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة عليهم ، وقد بدلوا بالشكر عليها وقبولها الكفر.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي : من بعد ما أسديت إليه ، وتمكن من قبولها ، ومن بعد ما عرفها كقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) (٢) وأتى بلفظ : من ، أشعارا بابتداء الغاية ، وإنه يعقب : ما جاءته ، يبدله. وفي قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) تأكيد ، لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه.

وقرىء : ومن يبدل بالتخفيف ، ويبدل ، يحتاج لمفعولين : مبدل ومبدل له ، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر ، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه ، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، وتقدم الكلام على هذا في قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٣) وإذا تقرر هذا ، فالمفعول الواحد هنا محذوف ، وهو البدل ، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (٤) : فكفرا هو البدل ، ونعمة الله ، هو المبدل ، وهو الذي أصله : أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر ، فالتقدير إذن : ومن يبدل نعمة الله كفرا ، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى ، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك ، لأنه لا يترتب على تقدير : أن يكون النعمة هي البدل ، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) خبر يتضمن الوعيد ، ومن حذف حرف الجر لدلالة المعنى قوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٥) أي : بسيئاتهم ، ولا يصح أن يكون التقدير : سيئاتهم بحسنات ، فتكون السيئات هي البدل ، والحسنات هي المبدل ، لأن ذلك لا يترتب على قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٦) (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله ، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط ، تقديره : فان الله شديد العقاب له ، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٧٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٥٩ ، والأعراف : ٧ / ١٦٢.

(٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٨.

(٥ ـ ٦) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٠.

٣٥١

الكوفيين ، فيغنى عن الربط لقيامها مقام الضمير ، والأولى أن يكون الجواب محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : يعاقبه.

قال عبد القاهر في كتاب (دلائل الإعجاز) : ترك هذا الإضمار أولى ، يعنى بالإضمار شديد العقاب له ، لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفا بأنه شديد العقاب ، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب. لهذا ، ولذلك سمى العذاب عقابا ، لأنه يعقب الجرم.

وذكر بعض من جمع في التفسير : أن هذه الآية : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) مؤخرة في التلاوة ، مقدمة في المعنى ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : والتقدير : فإن زللتم إلى آخر الآية : سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها ، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ أي : أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.

ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير ، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض ، متلاحمة التركيب ، واقعة مواقعها ، فالمعنى : أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام ، ثم أخبروا أن من زلّ جازاه الله العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، ثم قيل : لا ينتظرون في إيمانهم إلّا ظهور آيات بينات ، عنادا منهم ، فقد أتتهم الآيات ، ثم سلّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات ، بقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا ، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد ، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز ، باللفظ البليغ الموجز ، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار ، وبنظم ذوي الانحصار ، منزه عنها كلام الواحد القهار.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم ، ويكذبون بالمعاد ، ويسخرون من المؤمنين الفقراء ، كعمار ، وصهيب ، وأبي عبيدة ، وسالم ، وعامر بن فهيرة ، وخباب ، وبلال ، ويقولون : لو كان نبينا لتبعه أشرافنا ، قاله ابن عباس ، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه.

وقال مقاتل : في عبد الله بن أبي ، وأصحابه ، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.

وقال عطاء : في علماء اليهود من بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، سخروا من فقراء

٣٥٢

المهاجرين ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ، أسهل شيء وأيسره.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني إسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى ، وأنهم بدلوا ، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا ، والاستبشار بها ، وتزيينها لهم ، واستقامتهم للمؤمنين ، فلبني إسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، ويكذبون على كتاب الله ، فيكتبون ما شاؤا لينالوا حظا خسيسا من حظوظ الدنيا ، ويقولون : هذا من عند الله.

وقراءة الجمهور : زين ، على بناء الفعل للمفعول ، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل ، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث ، وقرأ ابن أبي عبلة : زينت ، بالتاء وتوجيهها ظاهر ، لأن المسند إليه الفعل مؤنث ، وحذف الفاعل لفهم المعنى ، وهو : الله تعالى ، يؤيد ذلك قراءة مجاهد ، وحميد بن قيس ، وأبي حيوة : زين ، على البناء للفاعل ، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى ، إذ قبله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها ، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها ، أو بالشهوات التي خلقها فيهم ، وإليه أشار بقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) (١) الآية ، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه ، فأعجبهم بهجتها ، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية ، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه.

وقال أبوبكر الصدّيق ، رضي‌الله‌عنه ، حين قدم عليه بالمال ، قال : اللهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرح بما زينت لنا.

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين تزيينا ، ويدل عليه قراءة من قرأ : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) على البناء للفاعل. انتهى كلامه. وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر ، وإنما ذلك من خلق العبد ، فلذلك تأول التزيين على الخذلان ، أو على الإمهال ، وقيل : الزين الشيطان ، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعا ، وتقبيح ما حسن شرعا. والفرق بين التزيينين : أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة ، وتزيين الشيطان

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٤.

٣٥٣

بإذكار ما وقع غفاله ، وتحسينه بوساوسه إياها لهم ، وقيل : المزين ، نفوسهم كقوله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (١) (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (٢) (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٣) وقيل : شركاؤهم من الجن والإنس ، قال تعالى (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤) الآية وقال : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) (٥).

وقيل : المزين هذه الحياة الدنيا قال : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) (٦). وقيل : المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي.

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الضمير عائد على الذين كفروا ، وتقدّم من هم ، وكذلك تقدّم القول في : الذين آمنوا ، في سبب النزول ، ومعنى : يسخرون : يستهزئون ، وذلك لفقرهم ، أو : لاتباعهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو : لاتهامهم إياهم أنهم مصدّقون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لضعفهم وقلة عددهم ؛ أقوال أربعة.

وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله : زين ، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل ، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان ، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة ، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه ، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا ، فليس أمرا متجدّدا ، وصدرت الثانية بالمضارع ، لأنها حالة تتجدّد كل وقت وقيل : هو على الاستئناف أي : الفعل المضارع ، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير : وهم يسخرون ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، ويصير من عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية.

(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فوق : ظرف مكان ، فقيل : هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة ، لأن المؤمنين في عليين في السماء ، والكفار في سجين في الأرض وقيل : الفوقية ، مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين : نعيم المؤمنين في الجنة ، ونعيم الكافرين في الدنيا ، وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين ، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشي الشبه ، وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ ، وإما بالنسبة إلى

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٥٣.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٩٦.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٣٧.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

(٦) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٠.

٣٥٤

سخرية المؤمنين بهم في الآخرة ، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا ، فهم عالون عليهم ، متطاولون ، يضحكون منهم ، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم ، وإما بالنسبة إلى علوّ حالهم ، لأنهم في كرامة ، والكفار في هوان.

وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي ، ولتبعث المؤمن على التقوى ، وليزول قلق التكرار لو كان : والذين آمنوا ، لأن قبله : الذين أمنوا.

وانتصاب : يوم القيامة ، على الظرف ، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبرا ، أي : كائنون هم يوم القيامة ، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه ، وبين من تضاف هي إليه ، كقولك : زيد فوق عمرو في المنزل ، حتى كأنه قيل : زيد أعلى من عمرو في المنزلة ، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه ، قال ابن عطية : وهذا كله من التحميلات ، حفظ لمذهب سيبويه ، والخليل ، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك. انتهى كلامه.

وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه ، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل ، فالبصريون يمنعون : زيد أحسن أخوته ، والكوفيون يجيزونه ، وأما أن ذلك في : فوق ، فلا نعلمه ، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى ، وأعلى أفعل تفضيل ، نقل الخلاف إليها ، والذي نقوله : إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل ، وإنما تدل على مطلق العلوّ ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية ، وإنما هي تدل على مطلقها ، ولا نقول : إنها مرادفة لأسفل ، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن ، كقوله : الركب أسفل منكم ، كما أن أعلى كذلك ، فإذا تقررّ هذا كان المعنى ، والله أعلم ، والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة ، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علوّ ، بل المعنى أن العلوّ يوم القيامة إنما هو للمتقين ، وغيرهم سافلون ، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم.

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم ، فقيل : هذا الرزق في الآخرة ، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب ، ويكون معنى قوله : بغير حساب ، أي بغير نهاية ، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب ، أو يكون المعنى : أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض ، فهو بغير حساب ،

٣٥٥

وقيل : هذا الرزق في الدنيا ، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، يصير إليهم بلا حساب ، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره ، قاله ابن عباس ، وقال نحوه القفال ، قال : قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ، ورؤساء اليهود ، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه.

وقالوا ما معناه : إنها متصلة بالكفار ، وقال الزمخشري يعني : أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه ، كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة ، وهي استدراجكم بالنعمة ، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم ، انتهى كلامه.

ولم يذكر غيره في معنى هذه الجملة.

وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا ، فلا تستعظموا ذلك ، ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان ، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله ، فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة ، إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازي عليه ، فالمعنى : إن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا ، فهو فوق الكافر يوم القيامة. انتهى كلامه. والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين ، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا ، بسبب ما رزقوا : من التمكن فيها ، والرياسة ، والبسط ، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة. بسبب ما رزقوا من : الفوز ، والتفرد بالنعيم السرمدي ، بيّن أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة ، وأنه لا يحاسبه أحد ، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي ، لأن ذلك لا يكون إلّا لمن يخاف نفاذ ما عنده.

وقالوا في الحديث الصحيح : «يمين الله ملأى لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإن ذلك لم ينقص شيئا مما عنده».

ومفعول يشاء محذوف ، التقدير : من يشاء أن يرزقه ، دل عليه ما قبله ، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها : الفعل ، والفاعل ، والمفعول الأول وهو : من. فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر ، وإن كان للفاعل فهو من صفاته ، أو للمفعول فهو من صفاته ، فإذا كان للفعل كان المعنى : يرزق من يشاء رزقا غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : العد ، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته ، أو يعني به

٣٥٦

المحاسبة في الآخرة ، أي : رزقا لا يقع عليه حساب في الآخرة ، وتكون على هذا الباء زائدة.

وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال : المعنى يرزق الله غير محاسب عليه ، أي متفضلا في إعطائه لا يحاسب عليه ، أو غير عاد عليه ما يعطيه ، ويكون ذلك مجازا عن التقتير والتضييق ، فيكون : حساب مصدرا عبر به عن اسم الفاعل من : حاسب ، أو عن اسم الفاعل من : حسب ، وتكون الباء زائدة في الحال ، وقد قيل : إن الباء زيدت في الحال المنفية ، وهذه الحال لم يتقدمها نفي ، ومما قيل : إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر :

فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيب منتهاها

أي : فما رجعت خائبة ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدرا عبر به عن اسم المفعول ، أي : غير محاسب على ما يعطي تعالى ، أي : لا أحد يحاسب الله تعالى على ما منح ، فعطاؤه غمرا لا نهاية له.

وإذا كان : لمن ، وهو المفعول الأول ليرزق ، فالمعنى : إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى ، فيكون أيضا حالا منه ، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب ، أو المفعول من حسب ، أي : غير معدود عليه ما رزق ، أو على حذف مضاف أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : المحاسبة أو العد ، والباء زائدة في هذه الحال أيضا. ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى : أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظن ، ولا يقدر أن يأتيه الرزق ، كما قال : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (١) فيكون حالا أيضا أي : غير محتسب ، وهذه الأوجه كلها متكلفة ، وفيها زيادة الباء.

والأولى أن تكون الباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بباء الحال ، وعلى هذا يصلح أن تكون : للمصدر ، وللفاعل ، وللمفعول ، ويكون الحساب مرادا به المحاسبة ، أو العد ، أي : يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق ، أو : ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق.

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٣.

٣٥٧

وكون الباء لها معنى أولى من كونها زائدة ، وكون المصدر باقيا على المصدرية أولى من كونه مجازا عن اسم فاعل أو أسم مفعول وكونه مضافا لغير أولى من جعله مضافا لذي محذوفة ، ولا تعارض بين قوله : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (١) أي : محسبا أي : كافيا من : أحسبني كذا ، إذا كفاك ، وبغير حساب معناه العد ، أو المحاسبة ، أو لاختلاف متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد ، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة ، فبغير حساب في التفضل المحض ، وعطاء حسابا في الجزاء المقابل للعمل ، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما : فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه ، وفي الآخره يحاسب ، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به ، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه ، أي : يرزق ولا يحاسب عليه ، أو ولا يعد عليه ، وحسابا صفة للعطاء ، فقد اختلف من جهة من قاما به ، وزال بذلك التعارض.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من أواخر أقوال الحج وأفعاله الأمر بذكر الله في أيام معدودات ، أي : قلائل ، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به ، لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي ، ودل الأمر على مشروعيته في أيام ، وهو : جمع ، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها ، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث ، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم ، وإن كان حال من تأخر أفضل ، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم ، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم ، فلذلك أخبر أن الله رفع الإثم عنهما ، إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه الله تعالى ، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى الله تعالى.

ثم أمر بالتقوى ، وتكرار الأمر بها في الحج ، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى ، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه ، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها ، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى ، قسم الله تعالى ذلك إلى قسمين ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : يؤنقك ويروق لفظه ، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهرا ، ثم لا يكتفي بما زوّر ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد الله على ما في قلبه من ذلك ، فيحلف بالله أن سريرته مثل علانيته ، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة ، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي

__________________

(١) سورة النبإ : ٧٨ / ٣٦.

٣٥٨

الأرض ، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقا ، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود ، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، ثم ذكر أنه من شدّة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى الله تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم. أي : مصحوبا بالإثم فليس غضبه لله. إنما هو لغير الله ، فلذلك استصحبه الإثم.

ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغترّ بغير الله ، وهو جهنم ، فهي كافية له ، ومبدلته بعد عزه ذلا ، ثم ذمّ تعالى ما مهد لنفسه من جهنم ، وبئس الغاية الذم ، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم ، وهو : من باع نفسه في طلاب رضى الله تعالى ، واكتفى بهذا الوصف الشريف ، إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات ، إذ صار عبد الله يوجد حيث رضي الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف الله به ورحمه ، ورأفة الله به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان ، وذكر الرأفة التي هي ، قيل : أرق من الرحمة.

ثم نادى المؤمنين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وأمرهم بالدخول في الإسلام ، وثنى بالنهي ، لأن الأمر أشق من النهي ، لأن الأمر فعل والنهي ترك ، ولمجاورته قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) فصار نظير : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (١) ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : سلوك معاصي الله ، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ، لأن في إيضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٢).

ثم أعرض تعالى عن خطابهم ، وأخبر عنهم إخبار الغائبين ، مسليا لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام ، فقال : ما ينتظرون إلّا قيام الساعة يوم فصل الله بين العباد ، وقضاء الأمر ، ورجوع جميع الأمور إليه ، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم ، كما جاء في الحديث : «إن يوم القيامة يأتيهم الله في صورة» كذا ، على ما يليق بتقديسه عن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٦.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ٣١.

٣٥٩

جميع ما يشبه المخلوقين ، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص.

ثم قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) منبها على أن دأب من أرسل إليه الأنبياء ، وظهرت لهم المعجزات الإعراض عن ذلك ، وعدم قبول الإيمان ، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه ، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق.

ثم أخبر تعالى : أن من بدل نعمة الله عاقبه أشدّ العقاب ، قابل نعمة الله التي هي مظنة الشكر بالكفر ، ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم الله ، وهو : تزيين الحياة الدنيا ، فرغبوا في الفاني وزهدوا في الباقي إيثارا للعاجل على الآجل ، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين ، حيث ما يتوهم في وصف الإيمان ، والرغبة فيما عند الله تعالى ، وذكر أنهم هم العالون يوم القيامة ، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون ، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين ، وهم الذين يحبهم ، بغير حساب ، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير ، والتقدير : وأعاد ذكرهم بلفظ : من يشاء ، تنبيها على إرادته لهم ، ومحبته إياهم ، واختصاصهم به ، إذ لو قال : والله يرزقهم بغير حساب ، لفات هذا المعنى من ذكر المشيئة التي هي الإرادة.

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ

٣٦٠