البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية ، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون : من ، موصولة. لأنها إذ ذاك مضمنة معنى اسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في : به ، للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، ومن رأسه ، يجوز أن يكون متعلقا بما يتعلق به : به ، وأن يكون في موضع الصفة ل : أذى ، وعلى التقديرين يكون : من ، لابتداء الغاية.

(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ارتفاع : فدية ، على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية. وذكر بعض المفسرين أنه قرىء بالنصب على إضمار فعل التقدير : فليفد فدية.

ومن صيام ، في موضع الصفة ، وأو ، هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء.

وقرأ الحسن ، والزهري : أو نسك ، بإسكان السين ؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن : الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة. وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم. وبه قال مالك ، والجمهور ؛ وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام. ومحله زمانا متى اختار ، ومكانا حيث اختار.

وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع. وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدّان مدّان ، بالمدّ النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود. وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب.

وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدّين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر.

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم. وقال مالك ، والثوري ،

٢٦١

ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدّين مدّين ، بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلّا ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء. وقال الحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وعطاء أيضا ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة. قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلّا ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلّا بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي.

وظاهر الفدية أنها لا تكون إلّا بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق.

وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلّا بمن به مرض أو أذى فيحلق ، فلو حلق ، أو جزّ ، أو أزال بنورة شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالما ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة وغيرها سواء عنده.

فلو فعله ناسيا ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك. وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) يعني : من الإحصار ، هذا الأمن مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة. والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم.

ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال : هنا الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو.

٢٦٢

ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه. وقد جاء في الحديث : «الزكام أمان من الجذام» خرّجه ابن ماجة ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص. أي : من وجع السنّ ، ووجع الأذن ، ووجع البطن.

والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فاذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلّى سبيلهم.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) تقدّم الكلام في المتاع في قوله : (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١) وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين ، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت إنشاء الحج.

واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد الله بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي.

وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا آمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة ، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي.

وقال علي : أي : فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي.

وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه.

وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدّم معتمرا من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشىء منها الحج من عامه ذلك ، فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالا يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٦ ؛ وسورة الأعراف : ٧ / ٢٤ ، وسورة الأنبياء : ٢١ / ١١١.

٢٦٣

والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة أنحاء. تمتع ، وافراد ، وقران. وقد بين ذلك في كتب الفقه.

ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) تقدّم الكلام على هذه الجملة تفسيرا وإعرابا في قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فأغنى عن إعادته.

والفاء في : فاذا أمنتم ، للعطف وفي : فمن تمتع ، جواب الشرط ، وفي : فما ، جواب للشرط الثاني. ويقع الشرط وجوابه جوابا للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلافا لجواب نحو : إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق.

وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجري مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه.

وصورة التمتع على من جعل قوله : فإذا أمنتم فمن تمتع ، خاصة بالمحصرين ، تقدّمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات.

إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولا في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة. فيفرغ من العمرة ثم يقيم حلالا إلى أن ينشىء الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد.

الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى : قرانا ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معا ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى. فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى ؛ وروي عن عبد الله بن عمر : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور.

٢٦٤

وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلّا بسياق الهدي ، وهو عندكم : بدنة لا يجوز دونها.

وقال مالك : ما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ؛ وقال ابن الماجشون. إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد الله بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع.

الثالثة : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها. وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد.

وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد. أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه. وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن.

وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعا فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعا ، وعلى هذا قالوا : الإجماع لأن التمتع مغيا إلى الحج ولم يقع المغيا.

وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاووس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعا.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) مفعول : يجد ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه. (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) : ارتفع صيام على الابتداء ، أي : فعليه ، أو على الخبر ، أي : فواجب. وقرىء : فصيام ، بالنصب أي : فليصم صيام ثلاثة أيام ، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع ، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة. (فِي الْحَجِ) أي : في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين ، إحرام العمرة ، وإحرام الحج ، قاله عكرمة ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، قال : والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوما قبلهما ، وإن مضى هذا الوقت لم يجزه إلّا الدم ،

٢٦٥

وقال عطاء أيضا ، ومجاهد : لا يصومها إلّا في عشر ذي الحجة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي. وقال ابن عمر ، والحسن ، والحكم : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وكل هؤلاء يقولون : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة ، لأنه بانقضائه ينقضي الحج. وقال علي ، وابن عمر : لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج. وعن عائشة ، وعروة ، وابن عمر في رواية ابنه سالم عنه : أنها أيام التشريق. وقيل : زمانها بعد إحرامه ، وقيل : يوم النحر ، قاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي ؛ وبه قال مالك ؛ وقال الشافعي ، وأحمد : يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة.

وروي هذا عن مالك ، وهو قوله في (الموطأ) ليكون يوم عرفة مفطرا. وعن أحمد : يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال قوم : له أن يؤخرها ابتداء إلى يوم التشريق ، لأنه لا يجب عليه الصوم إلّا بأن لا يجد الهدي يوم النحر.

وقال عروة : يصومها مادام بمكة ، وقاله أيضا مالك ، وجماعة من أهل المدينة ، وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها.

وظاهر قوله : في الحج ، أن يكون المحذوف : زمانا ، لأنه المقابل في قوله : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إذ معناه في وقت الرجوع ، ووقت الحج هو أشهره ، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان ، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جوابا للشرط ، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ، أي : في وقته ، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج ، وبعده ، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق ، لأنها من وقت الحج ؛ ومن قدر محذوفا آخر ، أي : في وقت أفعال الحج ، لم يجز الصيام إلّا بعد الإحرام بالحج ، والقول الأول أظهر لقلة الحذف ، ومن لم يلحظ أشهر الحج ، وجوز أن يكون مادام بمكة ، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان ، أي : فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج. والظاهر : وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي ، فلو ابتدأ في الصوم ، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو فرضه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والشافعي ، وأبو ثور ، واختاره ابن المنذر.

وقال مالك : أحب أن يهدي ، فإن صام أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن أيسر في اليوم

٢٦٦

الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام ، وبه قال الثوري ، وابن أبي نجيح ، وحماد.

(وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبدة : وسبعة ، بالنصب. قال الزمخشري : عطفا على محل ثلاثة أيام ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام كقولك : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) (١) انتهى. وخرجه الحوفي ، وابن عطية على إضمار فعل ، أي : فليصوموا ، أو : فصوموا سبعة ، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز ، ومجيء : وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به ، كما قيل : وسبعة أيام ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام ، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفا ، وعليه جاء : ثم اتبعه بست من شوال ، وحكى الكسائي : صمنا من الشهر خمسا ، والعامل في : إذا ، هو صيام ثلاثة أيام ، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما ، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان ، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل ، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين ، كما تقول : أكرمت زيدا يوم الخميس وعمرا يوم الجمعة.

وإذا ، هنا محض ظرف ، ولا شرط فيها ، وفي : رجعتم ، التفات ، وحمل على معنى : من ، أما الالتفات فإن قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) اسم غائب ، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب ، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع ، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع ، ولو راعى اللفظ لأفرد ، ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة.

ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، في آخر : وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة ، وعطاء ، وابن جبير ، ومجاهد ، والربيع ، وقالوا : هذه رخصة من الله تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلّا أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ؛ وقال أحمد ، وإسحاق : يجزئه الصوم في الطريق ؛ وقال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ، وهذا مذهب أبي حنيفة. فمن

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٤ و ١٥.

٢٦٧

بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق ؛ وقال مالك في (الكتاب) : إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم.

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل ، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة ، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه : أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنها هي الخبر المستقل به فائدة الإسناد ، فجيء بها للتوكيد ، كما تقول : زيد رجل صالح.

وقال ابن عرفة : مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما.

وحسّن هذا القول الزمخشري بأن قال : فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة ، كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ؛ قال ابن عرفة : وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب ، وقد جاء : لا يحسب ولا يكتب ، وورد ذلك في كثير من أشعارهم ؛ قال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها

لست أعوام وذا العام سابع

وقال الأعشى :

ثلاث بالغداة فهي حسبي

وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ربي

وشرب المرء فوق الري داء

وقال الفرزدق :

ثلاث واثنتان وهن خمس

وسادسة تميل إلى شمام

وقال آخر :

فسرت إليهم عشرين شهرا

وأربعة فذلك حجتان

وقال المفضل : لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر ، وقال الزجاج : جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة ، لأن الواو قد تقوم مقام : أو ، ومنه (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) فأزال احتمال التخيير ، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه ، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين ، لأن الواو لا تكون بمعنى : أو.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣ ، وسورة فاطر : ٣٥ / ١.

٢٦٨

وقال الزمخشري : الواو ، قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن ، وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا ، أو واحدا منهما كان ممتثلا؟ ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة. انتهى كلامه. وفيه نظر ، لأنه لا تتوهم الإباحة هنا ، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب ، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير ، لأن التخيير قد يكون في الواجبات.

وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة ، وقيل : هو تقديم وتأخير تقديره : فتلك عشرة : ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم ، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد ، ولا يصح مثل هذا القول عنه ، وننزه القرآن عن مثله ، وقيل : ذكر العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) (١) أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٢).

وقيل : ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد ، بل الكثرة ، روى أبو عمرو بن العلاء ، وابن الأعرابي عن العرب : سبع الله لك الأجر ، أي : أكثر ، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار ، فله سبع ، وله سبعون ، وله سبعمائة ، وقال الأزهري في قوله تعالى : (سَبْعِينَ مَرَّةً) (٣) هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة ، ونقل أيضا عن المبرد أنه قال : تلك عشرة ، لأنه يجوز أن يظنّ السامع أن ثم شيئا آخر بعد السبع ، فأزال الظنّ. وقيل : أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، لاشتباه سبعة وتسعة ، وقيل : أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج ، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع ، والعشرة هي الموصوفة بالكمال ، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول.

قال الحسن : كاملة في الثواب في سدّها مسدّ الهدي في المعنى لذي جعلت بدلا عنه ، وقيل : كاملة في الغرض والترتيب ، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة ، وقيل : كاملة في الثواب لمن لم يتمتع.

وقيل : كاملة ، توكيد كما تقول : كتبته بيدي ، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٤) قال الزمخشري : وفيه ، يعني : في التأكيد زيادة توصية بصيامها ، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل : إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به ، وكان منك بمنزلة :

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ١٠.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٩.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٨٠.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٢٦.

٢٦٩

الله الله لا تقصر ، وقيل : الصيغة خبر ومعناها الأمر ، أي : اكملوا صومها ، فذلك فرضها. وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكدا خلافا لظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر.

وبهذه الفوائد التي ذكرناها ردّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فهو إيضاح للواضحات ، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة ، وذلك محال.

والكمال وصف نسبيّ لا يختص بالعددية. كما زعموا لعنهم الله :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

(ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تقدّم ذكر التمتع ، وذكر ما يلزمه ، وهو : الهدي ، وذكر بدله : وهو الصوم ، واختلفوا في المشار إليه بذلك ، فقيل : المتمتع وما يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، فلا متعة ، ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه ، والقارن والمتمتع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه ، وقيل : ما يلزم المتمتع وهو : الهدي ، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئا ، وإنما الهدي ، وبدله على الأفقي.

وقد تقدّم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا ، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه ، لأن المناسب في الترخص : اللام ، والمناسب في الواجبات على.

وإذا جاء ذلك : لمن ، ولم يجىء : على من ، وزعم بعضهم أن : اللام ، هنا بمعنى : على ، كقوله : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) (١).

وحاضروا المسجد الحرام. قال ابن عباس ، ومجاهد : أهل الحرم كله ، وقال مكحول ، وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة ، وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين ، وقال عطاء بن أبي رباح : أهل مكة ، وضجنان ، وذي طوى ، وما أشبهها. وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال قوم : أهل الحرم ، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة ، وهو مذهب الشافعي. وقال قوم : أهل

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢٥.

٢٧٠

مكة ، وأهل ذي طوى ، وهو مذهب مالك. وقال بعض العلماء : من كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة.

والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط ، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز ، فيه بعد ، وبعضه أبعد من بعض ، وذكر حضور الأهل والمراد حضوره وهو ، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون.

(وَاتَّقُوا اللهَ) لما تقدم : أمر ، ونهي ، وواجب ، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه الله تعالى ، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصا على تحصيل التقوى ، إذ بها يأمن من العقاب ، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة ، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع ، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ، ثم ذكر ، من هي له حقيقة ، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حال الأهلة ، وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر ، وكان من الإخبار بالمغيب ، فوقع السؤال عن ذلك ، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم ، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج ، ثم ذكر شيئا مما كان يفعله من أحرم بالحج ، وكانوا يرون ذلك برا ، فرد عليهم فيه ، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها ، وأخبروا أن البر هو في تقوى الله ، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها ، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم ، ونهوا عن الاعتداء ، وأخبر أن الله تعالى لا يحب من اعتدى ، ثم أمروا بقتل من ظفروا به ، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه ، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن ، أو بالتعذيب أشد من القتل ، لأن في القتل راحة من هذا كله ، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه ، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلّا إن قاتلوكم ، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية وإسلاما ، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال ، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم ، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم ، ولا يقتل الإنسان إلّا من كان متمكنا من قتله ، ثم ذكر أن من كفر بالله فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله ، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم

٢٧١

لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام ، فإن الإسلام يجبّ ما قبله ، ولما كان الأمر بالقتال ، فيما سبق ، مقيدا مرة بمن قاتل ، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه ، أمرهم بالقتال على كل حال من قاتل ومن لم يقاتل ، وعند المسجد الحرام وغيره ، فنسخ هذا الأمر تلك القيود ، وصار مغيا أو معللا بانتفاء الفتنة وخلوص الدين لله ، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه ، وإنما الاعتداء على الظالمين ، وهم الكافرون ، كما ختم الأمر السابق بأن من انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر الله له ورحمه ، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه ، وهو شهر ذي القعدة ، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا لعمرة القضاء جائز لكم بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية ، وصدوكم عن البيت ، ثم أكد ذلك بقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فكما هتكوا حرمة شهركم لا تبالوا بهتك حرمته لهم ، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته ، تأكيد لما سبق ، وأمر بالتقوى ، فلا يوقع في المجازاة غير ما سوّغه له ، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى ، ومن كان الله معه فهو المنصور على عدوه ، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه ، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها ، ونهانا عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا ، ويقوون هم علينا ، فيؤول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم إلى هلاكنا ، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى ، ثم أمرهم تعالى بالإحسان ، وأنه تعالى يحب من أحسن ، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ، وأن يكون فعل ذلك لوجه الله تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة ، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم ، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك لله تعالى.

ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة فيجب عليه ما يسر من الهدي ، والهدي يشمل : البعير ، والبقرة ، والشاة ، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ، والذي جرت العادة به في الهدي أن محله هو الحرم ، فخوطبوا بما كان سابقا لهم علمه به ، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله ، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك ، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك. وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره ،

٢٧٢

واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة ، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين ، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي ، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي ، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي ، أو فقدان الهدي ، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في زمن وقوع الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه.

ثم أخبر أن هذه الأيام ، وإن اختلف زمان صيامها ، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة ، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها ، لكن الجميع كامل في الثواب والأجر ، إذ هو ممثل ما أمر الله تعالى به ، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج ، وما أمر بإيقاعه في غير الحج.

ثم ذكر أن هذا التمتع ، ولازمه من الهدي أو الصوم ، هو مشروع لغير المكي ، ثم لما تقدّم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواهي ، كرر الأمر بالتقوى ، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى.

وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام ، مستحكمة النظام ، منسوقا بعضها على بعض ، ولا كنسق اللآلئ مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي. سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى ، معجزة أن يأتى بمثلها أحد من الورى.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا

٢٧٣

وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)

الجدال : فعال مصدر : جادل ، وهي المخاصمة الشديدة ، مشتق ذلك من الجدالة ، وهي الأرض. كان كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب منه الجدالة ، ومنه قول الشاعر :

قد أنزل الآلة بعد الآلة

وأنزل العاجز بالجدالة

أي : بالأرض ، وقيل : اشتق ذلك من الجدل وهو القتل ، ومنه قيل : زمام مجدول ، وقيل : له جديل ، لفتله وقيل : للصقر : الأجدل لشدّته واجتماع حلقه ، كأن بعضه فتل في بعض فقوي.

الزاد : معروف ، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول ، ومشروب ، ومركوب ، وملبوس ، إن احتاج إلى ذلك ، وألفه منقلبة عن واو ، يدل على ذلك قولهم : تزوّد ، تفعّل من الزاد.

الإفاضة : الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة شبه بفيض الماء والدمع ، فأفاض من الفيض لا من فوض ، وهو اختلاط الناس بلا سايس يسوسهم ، وأفعل هذا بمعنى المجرد ، وليست الهمزة للتعدية ، لأنه لا يحفظ : أفضت زيد ، بهذا المعنى الذي شرحناه ، وإن كان يجوز في فاض الدمع أن يعدى بالهمزة ، فتقول : أفاض الحزن ، أي : جعله يفيض.

وزعم الزجاج ، وتبعه الزمخشري ، وصاحب (المنتخب) أن الهمزة في أفاض الناس للتعدية ، قال : وأصله : أفضتم أنفسكم ، وشرحه صاحب (المنتخب) بالاندفاع في السير بكثرة ، وكان ينبغي أن يشرحه بلفظ متعدد.

قال معناه : دفع بعضكم بعضا ، قال : لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضا ، وقيل : الإفاضة الرجوع من حيث بدأتم ، وقيل : السير السريع ، وقيل : التفرق

٢٧٤

بكثرة ، وقيل : الدفع بكثرة ، ويقال : رجل فياض أي مندفق بالعطاء ، وقيل : الانصراف ، من قولهم : أفاض بالقداح ، وعلى القداح ، وهي الميسر ، وأفاض البعير بجرانه.

عرفات علم على الجبل الذي يقفون عليه في الحج ، فقيل : ليس بمشتق ، وقيل : هو مشتق من المعرفة ، وذلك سبب تسميته بهذا الاسم.

وفي تعيين المعرفة أقاويل : فقيل : لمعرفة ابراهيم بهذه البقعة إذ كانت قد نعتت له قبل ذلك. وقيل : لمعرفته بهاجر وإسماعيل بهذه البقعة ، وكانت سارة قد أخرجت إسماعيل في غيبة ابراهيم ، فانطلق في طلبه حين فقده ، فوجده وأمّه بعرفات ، وقيل : لمعرفته في ليلة عرفة أن الرؤيا التي رآها ليلة يوم التروية بذبح ولده كانت من الله ، وقيل : لما أتى جبريل على آخر المشاعر في توقيفه لابراهيم عليها ، قال له : أعرفت؟ قال : عرفت ، فسميت عرفة ، وقيل : لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لتعارف آدم وحوّاء بها ، لأن هبوطه كان بوادي سرنديب ، وهبوطها كان بجدّة ، وأمره الله ببناء الكعبة ، فجاء ممتثلا ، فتعارفا بهذه البقعة.

وقيل : من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ، وقيل : من العرف ، وهو : الصبر ، وقيل : العرب تسمي ما علا عرفات وعرفة ، ومنه : عرف الديك لعلوه ، وعرفات مرتفع على جميع جبال الحجاز ، وعرفات وإن كان اسم جبل فهو مؤنث ، حكى سيبوية : هذه عرفات مباركا فيها ، وهي مرادفة لعرفة ، وقيل : إنها جمع ، فإن عنى في الأصل فصحيح وإن عنى حالة كونها علما فليس بصحيح ، لأن الجمعية تنافي العلمية.

وقال قوم : عرفة اسم اليوم ، وعرفات اسم البقعة.

والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة ، وقيل : تنوين صرف ، واعتذر عن كونه منصرفا مع التأنيث والعلمية ، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، وإن كان بالتقدير : كسعاد ، فلا يصح تقديرها في عرفات ، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت ، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأنث تقديرها. انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري ، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر ، ويجوز حذفه حالة التسمية ، وحكى الكوفيون ، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة ، وأنشدوا بيت امرئ القيس :

٢٧٥

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي

بالفتح.

النصيب : الحظ وجمعه على أفعلاء شاذ ، لأنه اسم ، قالوا : أنصباء وقياسه : فعل نحو : كثيب وكثب.

سريع : اسم فاعل من : سرع يسرع سرعة فهو سريع ، ويقال : أسرع وكلاهما لازم.

الحساب : مصدر حاسب ، وقال أحمد بن يحيى : حسبت الحساب أحسبه حسبا وحسبانا ، والحساب الاسم ، وقيل : الحساب مصدر حسب الشيء ، والحساب في اللغة هو العدوّ ؛ وقال الليث بن المظفر ، ويعقوب : حسب يحسب حسبانا وحسابة وحسبة وحسبا ، وأنشد :

وأسرعت حسبة في ذلك العدد

ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والاحساب : الاعتداء بالشيء. وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حسابا لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما. بين أن الحج له وقت معلوم ، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها.

والحج أشهر ، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف ، إذ الأشهر ليست الحج ، وذلك الحذف أما في المبتدأ ، فالتقدير : أشهر الحج ، أو وقت الحج ، أو : في الخبر ، أي : الحج حج أشهر ، أو يكون : الأصل في أشهر ، فاتسع فيه ، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه ، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز ، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب ، ولا يمتنع في العربية.

قال ابن عطية : ومن قدر الكلام : في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد. انتهى كلامه. ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر ، كما ذكر ابن عطية : لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع ، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين ، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبرا عن المصادر ، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب ، وسواء كان الحدث مستغرقا للزمان أو غير مستغرق ، وأما الكوفيون فعندهم في

٢٧٦

ذلك تفصيل ، وهو : أن الحدث إما أن يكون مستغرقا للزمان ، فيرفع ، ولا يجوز فيه النصب ، أو غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب في الرفع ، فيقول : ميعادك يوم ، وثلاثة أيام ، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين ، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر ، لأن : أشهرا ، نكرة غير محصورة.

وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه ، فيمكن أن يكون له القولان ، قول البصريين ، وقول هشام ، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) (١) فإنه جاء على : فعول ، وهو جمع الكثرة.

وظاهر لفظ أشهر الجمع ، وهو : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كله ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك.

وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والسدي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وابن حبيب ، عن مالك ، هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة.

وروي هذا عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وحكى الزمخشري ، وصاحب (المنتخب) عن الشافعي : أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر.

وهذان القولان فيهما مجاز ، إذ أطلق على بعض الشهر ، شهر.

وقال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإنما قالوا ذلك تغليبا لأكثر الزمان على أقله ، وهو كما نقل في الحديث : أيام منى ثلاثة أيام وإنما هي يومان وبعض الثالث ، وهو من باب إطلاق بعض على كل ، وكما قال الشاعر :

ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال

على أحد التأويلين ، قيل : ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع ، وقال الزمخشري. فإن قلت : فكيف كان الشهران. وبعض الشهر أشهرا؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٢) فلا سؤال فيه إذن ، وإنما يكون موضعا للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات. انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٦.

(٢) سورة التحريم : ٦٦ / ٤.

٢٧٧

وما ذكره الدعوى فيه عامة ، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، وهذا فيه النزاع. والدليل الذي ذكره خاص ، وهو : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وهذا لا خلاف فيه ، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو. و : أشهر ، ليس من باب (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فلا يمكن أن يستدل به عليه.

وقوله : فلا سؤال فيه ، إذن ليس بجيد ، لأنه فرض السؤال بقوله : فإن قلت؟ وقوله فإنما كان يكون موضعا للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر ، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر ، كذلك قد يدخل المحاز في العدد ، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء : له اليوم يومان لم أره؟ قال : وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإلى قول امرئ :

ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

على ما قدّمنا ذكره ، وإلى ما حكي عن العرب ، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الانتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه ، وانتفت الرؤية في بعضه ، كان يوم كامل لم تره فيه ، فإذا كان هذا موجودا في كلامهم فلا فرق بين أشهر ، وبين ثلاثة أشهر ، ولكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد.

قالوا : وثمرة الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها ، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث ، يظهر في تعلق الذم فيما يقع من الأعمال يوم النحر ، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج ، وعلى الثاني يلزمه ، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر ، وأخّر عمل ذلك عن وقته.

وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلّا فيها ، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبه قال النخعي. قال : ولا يحل حتى يقضي حجه.

وقال عطاء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو الثور : لا يصح ، وينقلب عمرة ويحل لها. وقال ابن عباس : من سنة الحج الإحرام به.

وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) هل التقدير : الإحرام بالحج أو أفعال الحج؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة

٢٧٨

لا تقع ، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها ، فكأن هذه الأشهر مخلصة للحج.

وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرّة ، وينهاهم عن الاعتمار فيهن ، وعن ابن عمر أنه قال لرجل : إن أطلقني انتظرت ، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.

ومعنى : معلومات ، معروفات عند الناس ، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقررا عندهم.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) أي : من ألزم نفسه الحج فيهن ، وأصل الفرض الحر الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، والمراد بهذا الغرض ما يصير به المحرم محرما ، قال ابن مسعود : وهو الإهلال بالحج والإحرام ، وقال عطاء ، وطاووس : هو أن يلبي ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم‌الله ، وهي رواية شريك عن ابن عباس : إن فرض الحج بالتلبية.

وروي عن عائشة : لا إحرام إلّا لمن أهلّ ولبىّ ، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه ، وابن حبيب ، وقالوا ، هم وأهل الظاهر : إنها ركن من أركان الحج.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام. فقد أحرم ، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية ، أو ما قام مقامها من الدم ، وروي عن ابن عمر : إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم ، وروي عن علي ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، وابن جبير : أنه لا يكون محرما بذلك ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن : فرض الحج الإحرام به ، وبه قال الشافعي.

وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية. وملخص ذلك أنه يكون محرما بالنية ، والإحرام عند مالك ، والشافعي ، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة ، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء.

و : من ، شرطية أو موصولة ، و : فيهن ، متعلق بفرض ، والضمير عائد على : أشهر ، ولم يقل : فيها ، لأن أشهرا جمع قلة ، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجري مجرى الجمع مطلقا للعاقلات على الكثير المستعمل أيضا ، وقال قوم : هما سواء في الاستعمال.

٢٧٩

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) الرفث هنا قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، والسدي : هو الجماع ؛ وقال ابن عمر ، وطاووس ، وعطاء ، وغيرهم : هو الإفحاش للمرأة بالكلام ، كقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، لا يكني ، وقال قوم : الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهن أم لا ؛ وقال قوم : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله ، وقال أبو عبيدة : هو اللغو من الكلام ، وقال ابن الزبير : هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز.

وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع ، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبسا بالحج لحرمة الحج.

والفسوق : فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد ، وحلق شعر ، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء دون شيء قاله ابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس. أو الذبح للأصنام ومنه : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (١) قاله ابن زيد ، ومالك ، أو التنابذ بالألقاب قال : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) (٢) قاله الضحاك ، أو السباب منه : «سباب المسلم فسوق». قاله ابن عمر أيضا ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والسدي ، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ).

وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره ، وكذلك التنابذ ، ورجح ابن عطية ، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال : إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال ، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي : «والذي نفسي بيده ، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله ، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال».

وقال العلماء : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه ؛ وقال الفراء : هو الذي لم يعص الله بعده.

والجدال : هنا مماراة المسلم حتى يغضب ، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد. أو السباب ، قاله ابن عمر ، وقتادة. أو :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٤٥.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١١.

٢٨٠