البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

أريد لانسى ذكرها ...

ليس كما ذكر ، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء ، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (١) (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) (٢) و (أَنْ يُطْفِؤُا) (٣) (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) (٤). وقال الشاعر :

أريد لأنسى ذكرها ...

وقال تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) (٥) و (أَنْ أُسْلِمَ) (٦) وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها ، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر ، كأنه قال : الإرادة للتبيين ، وإرادتي لهذا ، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب (التكميل في شرح التسهيل) فتطالع هناك.

وتلخص مما ذكرناه أن ما قال : من أنه قول البصريين ليس كما قال : إنما يتمشى قوله : وهي ، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء ، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضا لأنه قال : هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ، ويريد إكمال العدة. ثم قال : وهي مع الفعل مقدرة بأن ، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءا من المفعول ، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءا من المفعول ، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل ، فهي جزء له ، والشيء الواحد لا يكون جزءا لشيء غير جزء له ، فتناقض.

وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفا على : اليسر ، فلا يمكن إلّا بزيادة اللام وإضمار : أن ، بعدها ، أو يجعل اللام لمعنى : أن ، فلا تكون أن مضمرة بعدها ، وكلاهما ضعيف.

القول الثاني : أن تكون اللام في (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) لام الأمر قال ابن عطية ، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. انتهى كلامه. ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية ، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا : أمر الفاعل المخاطب فيه التفات ، قالوا : أحدهما لغة رديئة قليلة ، وهو إقرار تاء الخطاب ولام

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٦.

(٢) سورة الصف : ٦١ / ٨.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٣٢.

(٤) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ٧١.

(٦) سورة غافر : ٤٠ / ٦٦.

٢٠١

الأمر قبلها ، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة ، وهو ، أن يكون الفعل عاريا من حرف المضارعة ومن اللام ، ويضعف هذا القول أيضا أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام ، فلو كانت لام الأمر لكانت كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها ، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر ، وقول ابن عطية : والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، يعني : أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل ، وإذا كانت كاللام في : ضربت لزيد ، كانت من قبل عطف المفردات.

القول الثالث : أن تكون اللام للتعليل ، واختلف قائلو هذا القول على أقوال. أحدها : أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة ، التقدير : لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة ، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول : إرادة اليسر. الثاني : أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل ، التقدير : وفعل هذا لتكملوا العدة ، قاله الفراء. الثالث : أن يكون معطوفا على علة محذوفة وقد حذف معلولها ، التقدير : فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا ، قاله الزجاج. الرابع : أن يكون الفعل المعلل مقدرا بعد التعليل ، تقديره : ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، قال ابن عطية : وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس : أن الواو زائدة ، التقدير : يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة ، وهذا قول ضعيف. السادس : أن يكون الفعل المعلل مقدرا بعد قوله ؛ (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وتقديره : شرع ذلك. قاله الزمخشري ، قال ما نصه : شرع ذلك ، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله : لتكملوا ، علة الأمر بمراعاة العدة ، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ، ولعلكم تشكرون ، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلّا النقاد المحذق من علماء البيان. انتهى كلامه.

والألف واللام في قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) الظاهر أنها للعهد ، فيكون ذلك راجعا إلى قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي : وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها ، وقيل : عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوما أم كان ثلاثين ، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه.

(وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) معطوف على : ولتكملوا العدة ، والكلام في اللام

٢٠٢

كالكلام في لام : ولتكملوا ومعنى التكبير هنا تعظيم الله والثناء عليه ، فلا يختص ذلك بلفظ التكبير ، بل يعظم الله ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم ، وقيل : هو التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان.

وروي عن ابن عباس أنه قال : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبروا ، وقيل : هو التكبير المسنون في العيد ، وقال سفيان : هو التكبير يوم الفطر.

واختلف في مدته وفي كيفيته ، فعن ابن عباس : يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره ، وقيل : وهو قول الشافعي : من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وقال زيد بن أسلم ، ومالك : من حين يخرج من منزله إلى أن يخرج الإمام. وروى ابن القاسم ، وعلي بن زياد : إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا في جلوسه حتى تطلع الشمس ، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام.

واختلف عن أحمد ، فنقل الأثر عنه أنه إذا جاء إلى المصلى يقطع ؛ قال أبو يعلى : يعني : وخرج الإمام ، ونقل حنبل عنه أنه يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة.

واختلفوا في الأضحى ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد : الفطر والأضحى سواء في ذلك ، وبه قال ابن المسيب ، وأبو سلمة ، وعروة ، وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر.

وكيفيته عند الجمهور : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثلاثا ، وهو مروي عن جابر ، وقيل : يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله ، والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا. وقال ابن المنذر : كان مالك لا يجد فيه حدّا ، وقال ابن العربي : اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب ، وقال أحمد : كل واسع ، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه.

ورجح في (المنتخب) أن إكمال العدة هو في صوم رمضان ، وأن تكبير الله هو عند الانقضاء على ما هدى إلى هذه الطاعة ، وليس بمعنى التعظيم. قال : لأن تكبير الله بمعنى تعظيمه هو واجب في جميع الأوقات وفي كل الطاعات ، فلا معنى للتخصيص انتهى. و : على ، تتعلق : بتكبروا ، وفيها إشعار بالعلية ، كما تقول : أشكرك على ما أسديت إليّ.

٢٠٣

قال الزمخشري : وإنما عدى فعل التكبر بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد ، كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. انتهى كلامه.

وقوله : كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن : على ، متعلقا ، بتكبروا المضمنة معنى الحمد ، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها ، والتقدير الإعرابي هو ، أن تقول : كأنه قيل : ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم ، كما قدّر الناس في قولهم : قتل الله زيادا عني أي : صرف الله زيادا عني بالقتل ، وفي. قول الشاعر :

ويركب يوم الروع فينا فوارس

بصيرون في طعن الأباهر والكلى

أي : تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر ، والظاهر في : ما ، أنها مصدرية أي : على هدايتكم ، وجوّزوا أن تكون : ما ، بمعنى الذي ، وفيه بعد ، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما : حذف العائد على : ما ، أي : على الذي هداكموه وقدّرناه منصوبا لا مجرورا بإلى ، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجرورا. والثاني : حذف مضاف به يصح الكلام ، التقدير : على اتباع الذي هداكموه ، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.

والظاهر أن معنى : هداكم ، حصول الهداية لكم من غير تقييد ، وقيل : المعنى ، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم ، وإذا كانت بمعنى : الذي ، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية ، قاله ابن عطية : فيكون الشكر على الهداية ، وقيل : المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم.

وقال الزمخشري : ومعنى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وإرادة أن تشكروا ، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة ، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق ، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله ، فلذلك أوّله الزمخشري بالإرادة ، وجعله ابن عطية من البشر ، والقولان متكافئان ، وإذا كان التكليف شاقا ناسب أن يعقب بترجي التقوى ، وإذا كان تيسيرا ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر ، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر ، وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) وجاء عقيب قوله :

٢٠٤

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقبله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ثم قال : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف ، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية ، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) سبب النزول فيما قال الحسن : أن قوما ، قيل : اليهود ، وقيل : المؤمنون ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه. وقال عطاء : لما نزل. (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) قال قوم : في أي ساعة ندعو؟ فنزل (وَإِذا سَأَلَكَ) ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) طلب تكبيره وشكره بيّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبته ، تنبيها على أن يكون ولا بد مسبوقا بالثناء الجميل.

والكاف في : سألك ، خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنه قيل : أنزل عليك فيه القرآن ، فجاء هذا الخطاب مناسبا لهذا المحذوف. و : عبادي ، ظاهره العموم ، وقيل : أريد به الخصوص : إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب ، واما عبادي. و : عني ، فالضمير فيه لله تعالى ، وهو من باب الالتفات ، لأنه سبق و : لتكبروا الله ، فهو خروج من غائب إلى متكلم ، و : عني ، متعلق بسألك ، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله : فإني قريب ، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قربا بالمكان ، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعا لدعائه ، مسرعا في إنجاح طلب من سأله ، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه ، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه. ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢) وما روي من قوله عليه‌السلام : «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم».

والفاء في قوله : فإني قريب ، جواب إذا ، وثم قول محذوف تقديره : فقل لهم إني قريب ، لإنه لا يترتب على الشرط القرب ، إنما يترتب الإخبار عن القرب.

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) أجيب : إما صفة لقريب ، أو خبر بعد خبر ، وروعي الضمير في : فإني ، فلذلك جاء أجيب ، ولم يراع الخبر فيجيء : يجيب ، على طريقة

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ١٦.

٢٠٥

الإسناد للغائب طريقان للعرب : أشهرهما : مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا ، وكقولهم : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (١) (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٢). وكقول الشاعر :

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة

والطريق الثاني : مراعاة الخبر كقولك : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ يريد الخير ، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية ، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم ب (منهج السالك) والعامل في : إذا ، قوله أجيب.

وروي أنه نزل قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) لما نزل : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) وقال المشركون : كيف يكون قريبا من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ ، سمك كل سماء خمسمائة عام ، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك ، فبين بقوله : (أُجِيبُ) : أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة ، وظاهر قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) عموم الدعوات ، إذ لا يريد دعوة واحدة ، والهاء في : دعوة ، هنّا ليست للمرة ، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو. رحمة ، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داع مخصوص ، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد ، وإنما هي للعموم. والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء ، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله.

وذكروا قيودا في هذا الكلام ، وتخصيصات ، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى. التقدير : إن شئت ، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى ، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، وقيل : بوفق القضاء أي : أجيب إن وافق قضائي ، وهو راجع لمعنى المشيئة ، وقيل : يكون المسئول خير السائل ، أي : إن كان خيرا. وقيل : يكون المسئول غير محال ، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل ، ولا يبلغه المقصود مما طلب ، فخصصوا الداعي بأن يكون : مطيعا مجتنبا لمعاصيه.

وقد صح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الرجل يطيل السفر : «أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنّى يستجاب له»؟.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٤٧.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٥٥.

٢٠٦

قالوا : ومن شرطه أن لا يمل ، ففي (الصحيح): يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي.

وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم ، ولا قطيعة رحم ، ولا معصية ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها». وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور ، وأن لا يقصد فيه السجع ، سجع الجاهلية ، وأن يكون غير ملحون.

وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر ، وفي الثلث الأخير من الليل ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار ، وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصف في سبيل الله ، والعيدين ، والساعة التي أخبر عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم الجمعة : وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة : كذا ورد مفسرا في الحديث ، وقيل : بعد عصر الجمعة ، وعند ما تزول الشمس.

ومن الأماكن : في الكعبة ، وتحت ميزابها ، وفي الحرم ، وفي حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجامع الأقصى.

وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه ، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله ، ولا يقطع رجاءه من فضله ، فإن الله تعالى قال : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (١) وقال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه ، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢).

وقالت المعتزلة : الإجابة مختصة بالمؤمنين (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٣) لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ، والفاسق لا يستحق التعظيم ، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة.

قيل : والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار الافتقار إلى الله تعالى ، والشرع قد ورد

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٥٣.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٦. وسورة ص : ٣٨ / ٧٩.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٨٢.

٢٠٧

بالأمر به ، وقد دعت الأنبياء والرسل ، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية ، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه ، وذكر شبها له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة ، وقالوا : الأولى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى ، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء ، والحث عليه ، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس ، إنهم علماء الحقيقة : يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل ، فلا حاجة إليها.

وقال قوم منهم. إن كان في حالة الدعاء أصلح ، وقلبه أطيب ، وسره أصفى ، ونفسه أزكى ، فليدع ؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به.

وقال قوم منهم : ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة بالله ، وعدم الاعتراض ، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار.

وقال قوم منهم : ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه ، قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١).

وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه. أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله ، لأنك دعوته ووجدته ، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاء سمي القبول إجابة ، لتجانس اللفظ.

الوجه الثاني : أن الإجابة هو السماع فكأنه قال : أسمع.

الوجه الثالث : أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة ، والإجابة قبول التوبة.

الوجه الرابع : أن يكون الدعاء هو العبادة ، وفي الحديث : «الدعاء العبادة» قال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢) ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (٣) والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب.

الوجه الخامس : الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسئول وبمنعه ، فالمعنى : إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد.

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٣.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٣) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

٢٠٨

وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي : فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني ، قاله ثعلب ، فيكون : استفعل ، قد جاءت بمعنى الطلب ، كاستغفر ، وهو الكثير فيها : أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، قاله مجاهد ، وأبو عبيدة ، وغيرهما. ويكون : استفعل ، فيه بمعنى أفعل ، وهو كثير في القرآن (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ) (١) (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) (٢) إلا أن تعديته في القرآن باللام ، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال :

وداع دعا يا من يجيب إلى النداء

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي : فلم يجبه ، ومثل ذلك ، أعني كون استفعل موافق أفعل ، قولهم : استبل بمعنى أبل ، واستحصد الزرع واحصد ، واستعجل الشيء وأعجل ، واستثاره وأثاره ، ويكون استفعل موافقة أفعل متعديا ولازما ، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٣).

وقال أبو رجاء الخراساني : معناه فليدعوا لي ، وقال الأخفش : فليذعنوا الإجابة ، وقال مجاهد أيضا ، والربيع : فليطيعوا ، وقيل : الاستجابة هنا التلبية ، وهو : لبيك اللهم لبيك ، واللام لام الأمر ، وهي ساكنة ، ولا نعلم أحدا قرأها بالكسر.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) معطوف على : فليجيبوا لي ، ومعناه الأمر بالإيمان بالله ، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بعد لأن صدر الآية يقتضي أنهم مؤمنون ، فلذلك يؤول على الديمومة ، أو على إخلاص الدين ، والدعوة ، والعمل ، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه ، أو بالإيمان في : أني أجيب دعاءهم ، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني.

(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين ، وقرأ قوم : يرشدون مبنيا للمفعول ، وروي عن أبي حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة : يرشدون بفتح الياء وكسر الشين ، وذلك باختلاف عنهما ، وقرىء أيضا يرشدون بفتحهما ، والمعنى : أنهم إذا استجابوا لله

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.

(٣) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

٢٠٩

وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم ، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم ، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له ، وبالإيمان به ، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلّا وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك ، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه ، وإنما ذلك مختص بك.

ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ، ناسب ذكر الرشاد وهو : الهداية ، كما قال تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٣).

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن البراء : لما نزل صوم رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فنزلت ، وقيل : كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة ، أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة ، وأن عمر ، وكعبا الأنصاري ، وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائما فغشي عليه عند انتصاف النهار ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت.

وقال بعض العلماء : نزلت الآية في زلة ندرت ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة ، هذا أحكام العناية.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه : كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا ، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة ، وفي العدد ، وفي الشرائط ، وسائر تكاليف الصوم. وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل ، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا ، وقيل : بعد العشاء ، وكان المسلمون كذلك ، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول ، أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر ، لطفا بهم. وناسب أيضا قوله تعالى : في آخر آية الصوم : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وهذا من التيسير.

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٦.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢.

(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ١١٨.

٢١٠

وقوله : أحل ، يقتضي أنه كان حراما قبل ذلك ، وقد تقدّم نقل ذلك في سبب النزول ، لكنه لم يكن حراما في جميع الليلة ، ألا ترى أن ذلك كان حلالا ، لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء؟.

وقرأ الجمهور : أحل ، مبنيا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وقرىء ، أحل مبنيا للفاعل ، ونصب : الرفث به ، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه ، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله ، وأما أن يكون من باب الالتفات ، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، لأن قبله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ولكم ، متعلق بأحل ، وهو التفات ، لأن قبله ضمير غائب ، وانتصاب : ليلة ، على الظرف ، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس ، قالوا : والناصب لهذا الظرف : أحل ، وليس بشيء ، لأن : ليلة ، ليس بظرف لأحل ، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث ، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث ، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا ، فلا يتقدّم معموله ، لكن يقدّر له ناصب ، وتقديره : الرفث ليلة الصيام ، فحذف ، وجعل المذكور مبنيا له كما قالوا في قوله :

وبعض الحلم عند ا

لجهل للذلة إذعان

أن تقديره : إذعان للذلة إذعان ، وكما خرّجوا قوله : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (١) و (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (٢) أي ناصح لكما ، وقال : لعملكم ، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول ، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر ، وأضيفت : الليلة ، إلى الصيام على سبيل الاتساع ، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلّا بصوم جزء منها صحت الإضافة.

وقرأ الجمهور : الرفث ، وقرأ عبد الله : الرفوث ، وكنى به هنا عن الجماع ، والرفث قالوا : هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ : النيك ، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجينا لما وجد منهم ، إذ كان ذلك حراما عليهم ، فوقعوا فيه كما قال فيه : (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) فجعل ذلك خيانة ، وعدى بإلى ، وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء ، وحسن اللفظ به هذا التضمين ، فصار ذلك قريبا من الكنايات التي جاءت في

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢١.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٦٨.

٢١١

القرآن من قوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) (١) (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) (٢) (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) (٣) (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ).

والنساء جمع الجمع ، وهو نسوة ، أو جمع امرأة على غير اللفظ ، وأضاف : النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص ، إذ لا يحل الإفضاء إلّا لمن اختصت بالمفضي : أما بتزويج أو ملك.

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) اللباس ، أصله في الثوب ، ثم يستعمل في المرأة.

قال أبو عبيدة : يقال للمرأة هي لباسك ، وفراشك ، وإزارك لما بينهما من الممازجة. ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه في العناق ، شبّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان.

قال الربيع : هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ ، وقال مجاهد ، والسدي : هن سكن لكم ، أي : يسكن بعضكم إلى بعض ، كقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) (٤) وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال ، وهو عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس ، وقدّم : هنّ لباس لكم ، على قوله : وأنتم لباس لهنّ ، لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها ، والرجل هو البادئ بطلب ذلك الفعل ، ولا تكاد المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل.

جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان : الطباق المعنوي ، بقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ) ، فإنه يقتضي تحريما سابقا ، فكأنه أحل لكم ما حرّم عليكم ، أو ما حرّم على من قبلكم ، والكناية بقوله : الرفث ، وهو كناية عن الجماع ، والاستعارة البديعة بقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) ، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر ، تقول : لابست ملابسة ولباسا.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) : إن كانت : علم ، معداة تعدية عرف ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٣.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٧.

٢١٢

فسدت أن مسد المفعول ، أو التعدية التي هي لها في الأصل ، فسدّت مسدّ المفعولين ، على مذهب سيبويه ، وقد تقدم لنا نظير هذا. وتختانون : هو من الخيانة ، وافتعل هنا بمعنى فعل ، فاختان : بمعنى : خان ، كاقتدر بمعنى : قدر.

قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى ، والاختيان هنا معبر به عما وقعوا فيه من المعصية بالجماع ، وبالأكل بعد النوم ، وكان ذلك خيانة لأنفسهم ، لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم ، فكأنه قيل : تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير ، وقيل : معناه ، تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه ، وقيل : معناه : تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم.

يقال : تخوّن ، وتخوّل ، بمعنى : تعهد ، فتكون النون بدلا من اللام لأنه باللام أشهر. وقال أبو مسلم : هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس ، ولذلك قال : أنفسكم ، ولم يقل : الله ، وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك ، وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره ، وقيل : ذلك على تقدير ولم يقع بعد ، والمعنى : تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ، وهذا فيه ضعف لوجود : كان ، ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل ، ولمنافاة ظاهر قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ).

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي : قبل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور ، وقيل : معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١) (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) (٢) (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٣) معناه كله التخفيف ، وقيل : معناه أسقط عنكم ما افترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء ، أو بعد النوم على الخلاف ، وهذا القول راجع لمعنى القول الثاني : (وَعَفا عَنْكُمْ) أي : عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم ، وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب» فهما راجعان إلى معنى واحد ، وعاقب بينهما للمبالغة ، وقيل : المعنى سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف ، أي : ترك لكم التحريم ، كما تقول : هذا شيء معفو عنه ، أي : متروك ، ويقال : أعطاه عفوا أي سهلا لم يكلفه إلى سؤال ، وجرى الفرس شأوين عفوا ، أي : من ذاته من غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط ، أو نخس بمهماز.

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٢.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ١٨٧.

٢١٣

(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) تقدم الكلام على ، الآن ، في قوله : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) (١) أي : فهذا الزمان ، أي : ليلة الصيام باشروهن ، وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي ، ولأن الإجماع انعقد عليه ، والمباشرة في قول الجمهور : الجماع ، وقيل : الجماع فما دونه ، وهو مشتق من تلاصق البشرتين ، فيدخل فيه المعانقة والملامسة. وإن قلنا : المراد به هنا الجماع ، لقوله : الرفث ، ولسبب النزول ، فإباحته تتضمن إباحة ما دونه.

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي : اطلبوا ، وفي تفسير : ما كتب الله ، أقوال.

أحدها : أنه الولد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، والحكم بن عتيبة : لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم الله لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد ، وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط ، لكن لابتغاء ما شرع الله النكاح له من التناسل : «تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة».

الثاني : هو محل الوطء أي : ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) (٢).

الثالث : هو ما أباحه بعد الحظر ، أي : ابتغوا الرخصة والإباحة ، قاله قتادة : وابن زيد.

الرابع : وابتغوا ليلة القدر ، قاله معاذ بن جبل ، وروي عن ابن عباس. قال الزمخشري : وهو قريب من بدع التفاسير.

الخامس : هو القرآن ، قاله ابن عباس ، والزجاج. أي : ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به ، ويرجحه قراءة الحسن ، ومعاوية بن قرة : واتبعوا من الاتباع ، ورويت أيضا عن ابن عباس.

السادس : هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهنّ ، لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردّة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.

٢١٤

السابع : هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (١).

الثامن : إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر.

وكتب هنا بمعنى : جعل ، كقوله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢) أو بمعنى : قضى ، أو بمعنى : أثبت في اللوح المحفوظ ، أو : في القرآن.

والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها ، والمعنى ، والله أعلم : ابتغوا وافعلوا ما أذن الله لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام ، ويرجح هذا قراءة الأعمش : وأتوا ما كتب الله لكم. وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) أمر إباحة أيضا ، أبيح لهم ثلاثة الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) غاية الثلاثة الأشياء من : الجماع ، والأكل ، والشرب. وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بن قيس ، فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره ، وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره (لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ظاهره أنه الخيط المعهود ، ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطا أبيض وخيطا أسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، إلى أن نزل قوله تعالى : (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار.

روى ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية ، وروى أنه كان بين نزول : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وبين نزول (مِنَ الْفَجْرِ) سنة من رمضان إلى رمضان.

قال الزمخشري : ومن لا يجوّز تأخير البيان ـ وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ـ وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم ، فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوّزه فيقول : ليس بعبث ، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى كلامه. وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، بل هو من باب النسخ ، ألا ترى أن الصحابة عملت به ، أعني بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت : (مِنَ الْفَجْرِ) ، فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٦ ، وسورة المعارج : ٧٠ / ٣٠.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

٢١٥

ظاهرهما ، وصارا ذلك مجازين ، شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل ، شبها بخيطين أبيض وأسود ، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله : (مِنَ الْفَجْرِ) ، كقولك : رأيت أسدا من زيد ، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة ، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة ، لأن الاستعارة لا تكون إلّا حيث يدل عليها الحال ، أو الكلام ، وهنا لو لم يأت : من الفجر ، لم يعلم الاستعارة ، ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول : من الفجر ، حتى إن بعضهم ، وهو عدي بن حاتم ، غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله : من الفجر ، فحمل الخيطين على الحقيقة. وحكي ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك وقال : «إن كان وسادك لعريضا» وروي : «إنك لعريض القفاء».

إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل ، والقفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرجل ، وقال :

عريض القفا ميزانه عن شماله

قد أنحصّ من حسب القراريط شاربه

وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطا.

وقال الزجاج : هما فجران : أحدهما يبدو سواد معترضا ، وهو الخيط الأسود ؛ والأخر يطلع ساطعا يملأ الأفق ، فعنده الخيطان : هما الفجران ، سميا بذلك لامتدادهما تشبيها بالخيطين. وقوله : من الفجر ، يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق ، وهو البياض المستطير في الأفق ، لا الصبح الكاذب ، وهو البياض المستطيل ، لأن الفجر هو انفجار النور ، وهو بالثاني لا بالأوّل ، وشبه بالخيط وذلك بأول حاله ، لأنه يبدو دقيقا ثم يرتفع مستطيرا ، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك. هذا مذهب الجمهور ، وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود ، وسمرة بن جندب.

وقيل : يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق ، وعلى رؤوس الجبال ، وهذا مروي عن عثمان ، وحذيفة وابن عباس ، وطلق بن علي ، وعطاء ، والأعمش ، وغيرهم.

وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار ، وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئا

٢١٦

من هذه ، ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام ، أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع.

وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر ، فقال أحدهما : طلع الفجر ، وقال الآخر : لم يطلع. فقال اختلفتما ، فأكل وبان لا قضاء عليه.

قال الثوري ، وعبيد الله بن الحسن ، والشافعي ، وقال مالك : إن أكل شاكّا في الفجر لزمه القضاء ، والقولان عن أبي حنيفة.

وفي هذه التغيية أيضا دلالة على جواز المباشرة إلى التبين ، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذونا فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر ، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة. والحسن يرى : أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه ، وقد روت عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصبح جنبا من جماع وهو صائم ، وهذه التغيية إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة ، فلو كانت مقمرة أو مغيمة ، أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر ، فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر ، إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع ، فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراء لدينه.

وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة : المباشرة ، والأكل ، والشرب. وأما ما عداها من القيء ، والحقنة ، وغير ذلك ، فإنه كان على الإباحة ، فبقي عليها.

وأما الفقهاء فقالوا : خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها ، وأما القيء ، والحقنة ، فالنفس تكرههما ، والسعوط نادر ، فلهذا لم يذكرها.

ومن الأولى ، هي لإبتداء الغاية ، قيل : وهي مع ما بعدها في موضع نصب ، لأن المعنى : حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود ، كما يقال : بانت اليد من زندها ، أي فارقته ، ومن ، الثانية للتبعيض ، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ، ويتعلق أيضا بيتبين ، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد ، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى ، فمن الأولى هي لابتداء الغاية ، ومن الثانية هي للتبعيض. ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معا ، على قول الزجاج ، لأن الفجر عنده فجران ، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد ، بل يكون جنسا.

٢١٧

وقيل : ويجوز أن يكون (مِنَ الْفَجْرِ) حالا من الضمير في الأبيض ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : كائنا من الفجر ، ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا ، فكأنه قيل : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، من الخيط الأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحديهما بيان للثاني ، وكان الاكتفاء به أولى ، لأن المقصود بالتبين ، والمنوط بتبيينه : الحكم من إباحة المباشرة ، والأكل ، والشرب. ولقلق اللفظ لو صرح به ، إذ كان : يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل ، فيكون من الفجر بيانا للخيط الأبيض ، ومن الليل بيانا للخيط الأسود. ولكون : من الخيط الأسود ، جاء فضلة فناسب حذف بيانه.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) : تقدم ذكر وجوب الصوم ، فلذلك ، لم يؤمر به هنا ، ولم يتقدّم ذكر غايته ، فذكرت هنا الغاية ، وهو قوله : (إِلَى اللَّيْلِ) والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها ، لم يدخل في حكم ما قبلها ، و : الليل ، ليس من جنس النهار ، فلا يدخل في حكمه ، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل.

قال ابن عباس : أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء ، فأمر الله تعالى بالخلاف لهم ، وبالإفطار عند غروب الشمس.

والأمر بالإتمام هنا للوجوب ، لأن الصوم واجب ، فإتمامه واجب ، بخلاف : المباشرة ، والأكل ، والشرب ، فإن ذلك مباح في الأصل ، فكان الأمر بها الإباحة.

وقال الراغب : فيه دليل على جواز النية بالنهار ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال. انتهى.

أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر ، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم ، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه ، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار.

وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضا ، بل من الكلام الذي قبلها.

وأما الدلالة على نفي صوم الوصال ، فليس بظاهر ، لأنه غيّا وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط ، ولا منافاة بين هذا وبين الوصال ، وصح في الحديث النهي عن

٢١٨

الوصال ، فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم ، وبعضهم على الكراهة. وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتابعين ، كعبد الله بن الزبير ، وإبراهيم التيمي ، وأبي الحوراء ، ورخص بعضهم فيه إلى السحر ، منهم : أحمد ، وإسحاق ، وابن وهب.

وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه ، وهو قول الجمهور ، وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ؛ وقال إسحاق وأهل الظاهر : لا قضاء عليه كالناسي ؛ وروي ذلك عن عمر ، وقال مالك : من أفطر شاكا في الغروب قضى وكفر ؛ وفي ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياسا على الشاك في الفجر ، فلو قطع الإتمام متعمدا لجماع ، فالإجماع على وجوب القضاء ، أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي ، والقضاء والكفارة عند بقية العلماء ، أو ناسيا بجماع فكالمتعمد عند الجمهور. وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي ، وعند مالك يلزمه القضاء ، ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل ، بل رفع نية الصوم ، فهو على صومه عند الجمهور ، ولا يلزمه قضاء ، قال ابن حبيب ؛ وعند مالك في المدوّنة : أنه يفطر وعليه القضاء.

وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلّا على من تقدّم له الصوم ، فلو أصبح مفطرا من غير عذر لم يجب عليه الإمساك ، لأنه لم يسبق له صوم فيتمه ، قالوا : لكن السنة أوجبت عليه الإمساك ، وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنفية لاندراجه تحت عموم : و (أَتِمُّوا الصِّيامَ).

وقالت الشافعية : المراد منه صوم الفرض ، لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض. قال بعض أرباب الحقائق : لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ ، قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك ، فقال في حقه و (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ). وحظك : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ).

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام ، كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد ، فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الآية وسياق المباشرة المذكورة قبل.

٢١٩

وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط ، وقال بذلك فرقة ، فالمنهي عنه الجماع ، وقال الجمهور : يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به ، وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم ، وأن الاعتكاف يبطل بالجماع. وأما دواعي النكاح : كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك ، وقال أبو حنيفة : إن فعل فأنزل فسد ، وقال المزني عن الشافعي : إن فعل فسد ، وقال الشافعي ، أيضا : لا يفسد من الوطء إلّا بما مثله من الأجنبية يوجب ، وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معتكف في المسجد ، ولا شك أنها كانت تمسه. قالوا : فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور ، وإذا كانت المباشرة معنيا بها اللمس ، وكان قد نهي عنه فالجماع أجرى وأولى ، لأن فيه اللمس وزيادة ، وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة.

والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله ، وهو من الشرائع القديمة.

وقرأ قتادة : وأنتم عكفون ، بغير ألف ، والجملة في موضع الحال أي : لا تباشروهن في هذه الحالة ، وظاهر الآية يقتضي جواز الاعتكاف ، والإجماع على أنه ليس بواجب ، وثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتكف ، فهو سنة ، ولم تتعرض الآية لمطلوبيته ، فنذكر شرائطه ، وشرطه الصوم ، وهو مروي عن علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والثوري والحسن بن صالح ؛ وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف. وقال جماعة من التابعين ، منهم سعيد ، وإبراهيم : ليس الصوم شرطا. وروى طاووس عن ابن عباس مثله ، وبه قال الشافعي.

وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان ، بل كل ما يسمى لبثا في زمن ما ، يسمى عكوفا. وهو مذهب الشافعي. وقال مالك : لا يعتكف أقل من عشرة أيام ، هذا مشهور مذهبه ، وروي عنه : أن أقلّه يوم وليلة.

وظاهر إطلاق العكوف أيضا يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار ، وأحدهما ، فعلى هذا ، لو نذر اعتكاف ليلة فقط صحّ ، أو يوم فقط صحّ ، وهو مذهب الشافعي. وقال سحنون : لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه. وقال أبو حنيفة : لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها.

وفي الخروج من المعتكف ، والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة ، والدخول إليه ، وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقه.

٢٢٠