البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وقرأ باقي السبعة : لرؤوف ، مهموزا على وزن ندس ، قال الشاعر :

يرى للمسلمين عليه حقا

كحق الوالد الرؤوف الرحيم

وقال الوليد بن عقبة :

وشر الظالمين فلا تكنه

يقابل عمه الرؤوف الرحيم

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : لروف ، بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله ، ساكنة كانت أو متحركة. ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغا فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغا فيها ، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة. وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرءوف بهم. وقال القشيري : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل ؛ ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب. (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) : أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرّر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حوّل ، فهم به له في جميع الأحوال. قال قائلهم :

حيثما دارت الزجاجة درنا

يحسب الجاهلون أنا جننا

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) : تقدّم حديث البراء ، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية. وقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) : أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي ، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد ، في بعض المواضع ، ومنه : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) (١) ، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ) (٢) ، (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) (٣). وقال الشاعر :

لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم

مرابط للأمهار والعكر الدثر

قال الزمخشري : قد نرى : ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٦٤.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩٧.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٨.

٢١

انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضادّ ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب ، على مذهب المحققين من النحويين ، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه ، أو لتقليل نظيره. ثم قال : ومعناه كثرة الرؤية ، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادّعاه ، وهو كثرة الرؤية ، لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب ، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي ، ولا غير المضي ، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية ، وهو التقلب ، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة ، لا يقال فيه : قلب بصره في السماء ، وإنما يقال : قلب إذا ردّد. فالتكثير ، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب ، نحو : قطعته فتقطع ، وكسرته فتكسر ، وما طاوع التكثير ففيه التكثير. والوجه هنا قيل : أريد به مدلول ظاهره. قال قتادة والسدّي وغيرهما : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة. وقيل : كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء. وقال الزمخشري : كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان ، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود ، فكان يراعي نزول جبريل عليه‌السلام والوحي بالتحويل. انتهى كلامه ، وهو كلام الناس قبله. فالأول : قول ابن عباس ، وهو ليصيب قبلة إبراهيم. والثاني : قول السدّي والربيع ، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة. والثالث : قول مجاهد ، وهو قول اليهود : ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، فأراد مخالفتهم. وقيل : كنى بالوجه عن البصر ، لأنه أشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب. تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان. وقال :

رجعت بما أبغي ووجهي بمائه

وهو من الكناية بالكل عن الجزء ، ولا يحسن أن يقال : إنه على حذف مضاف ، ويكون التقدير بصر وجهك ، لأن هذا لا يكاد يستعمل ، إنما يقال : بصرك وعينك وأنفك ؛ لا يكاد يقال : أنف وجهك ، ولا خد وجهك. في السماء : متعلق بالمصدر ، وهو تقلب ، وهو يتعدى بفي ، فهي على ظاهرها. قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (١) ، أي في نواحي السماء ، في هذه الجهة ، وفي هذه الجهة. وقيل : في بمعنى إلى. وقيل : في السماء متعلق بنرى ، وفي : بمعنى من ، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك ، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان ، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان. وذكرت

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٦.

٢٢

الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه ، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ، ويكون كما جاء : بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة ، والظاهر الأول ، وهو تعلق المجرور بالمصدر ، وأن في على حقيقتها. واختص التقلب بالسماء ، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة ، كالمطر والأنوار والوحي ، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، ولأن السماء قبلة الدعاء ، ولأنه كان ينتظر جبريل ، وكان ينزل من السماء.

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها. وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب. ونكر القبلة ، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام. وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ، لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرّح بذلك. قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين. والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس. قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها. ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة. وأقول : في قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة. وأراد بالوجه : جملة البدن ، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن. وكنى بالوجه عن الجملة ، لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض. وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ). وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو. وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار الشافعي. وقال الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ، لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد. والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي

٢٣

كانت في نصف المسجد ، فحسن أن يقال : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ) ، يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة. ويدل على صحة ما ذكرناه. أن المصلي خارج المسجد متوجها إلى المسجد ، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة ، لم تصح صلاته. وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب ، لم يكن لذكره فائدة ، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة. قال ابن عباس وغيره : وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيت كله. وقال ابن عمر : إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة ، والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وفي حرف عبد الله ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام. والقائلون بأن معنى الشطر : النحو ، اختلفوا ، فقال ابن عباس : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك. وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والظاهر أن المقصود بالشطر : النحو والجهة ، لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما على من خرج لبعده عن مسامتتها. وفي ذكر المسجد الحرام ، دون ذكر الكعبة ، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة ، لا مراعاة عينها. واستدل مالك من قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، على أن المصلي ينظر أمامه ، لا إلى موضع سجوده ، خلافا للثوري والشافعي والحسن بن حيّ ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده ، وخلافا لشريك القاضي ، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى موضع حجره. قال الحافظ أبو بكر بن العربي : إنما قلنا ينظر أمامه ، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١).

(وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان ، أي في أيّ موضع كنتم ، وهو شرط وجزاء ، والفاء جواب الشرط ، وكنتم في موضع جزم. وحيث : هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية ، الخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط ، لأن الشرط مبهم. فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

٢٤

وضمنت معنى الشرط ، وجوزي بها ، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال. وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها ، وخلاف الفراء في ذلك. (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) : وهذا أمر لأمّة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما تقدّم أمره بذلك ، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد ، مع مزيد عموم في الأماكن ، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض ، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد. ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المتشوف لأمر التحويل ، بدأ بأمره أولا ثم أتبع أمر أمته ثانيا لأنهم تبع له في ذلك ، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي حرف عبد الله : فولوا وجوهكم قبله. وقرأ ابن أبي عبلة : فولوا وجوهكم تلقاءه ، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر : النحو ..

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم. وقال السدّي : هم اليهود. (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) : أي التوجه إلى المسجد الحرام ، (الْحَقُ) : الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته. وقال قتادة والضحاك : إن القبلة هي الكعبة. وقال الكسائي : الضمير يعود على الشطر ، وهو قريب من القول الثاني ، لأن الشطر هو الجهة. وقيل : يعود على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي يعرفون صدقه ونبوّته ، قاله قتادة أيضا ومجاهد. ومفسر هذه الضمائر متقدم. فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) ، فيعود على المصدر المفهوم من قوله : (فَوَلُّوا) ، ومفسر ضمير القبلة قوله : (قِبْلَةً تَرْضاها) ، ومفسر ضمير الشطر قوله : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعلى هذا الوجه يكون التفاتان. والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين ، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد ، لأن معموله هو أن وصلتها ، فيحتمل الوجهين ، وعلمهم بذلك ، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وإما لأن في كتابهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي صادق ، فلا يأمر إلا بالحق ، وإما لجواز النسخ ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى القبلتين. (مِنْ رَبِّهِمْ) : جار ومجرور في موضع الحال ، أي ثابتا من ربهم. وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد ، إنما هو بأمر من الله تعالى. وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك ، كما قال تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب. فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب ، فتكون من باب الالتفات. ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم ،

٢٥

تحريكا لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق ، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر. ومن قرأ بالياء ، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة. وعلى كلتا القراءتين ، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ، ولا يغفل عنها ، وهو متضمن الوعيد.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له. أعلمه أولا أنهم يعلمون أنه الحق ، وهم يكتمونه ، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه. ثم سلاه عن قبولهم الحق ، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة ، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق ، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك. وإذا كانوا لا يتبعونك ، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات ، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة. والمعنى : بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق. واللام في : ولئن ، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف ، والشرط متأخر عنه ، فالجواب للقسم وهو قوله : (ما تَبِعُوا) ، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى : أي ما يتبعون قبلتك ، لأن الشرط قيد في الجملة ، والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلا ، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطا في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (١) ، التقدير : ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جوابا للقسم المحذوف ، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل ، فهو ماض من حيث اللفظ ، مستقبل من حيث المعنى ، لأن الشرط قيد فيه ، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف ، سد مسده جواب القسم ، ولذلك أتى فعل الشرط ماضيا في اللفظ ، لأنه إذا كان الجواب محذوفا ، وجب مضى فعل الشرط لفظا ، إلا في ضرورة الشعر ، فقد يأتي مضارعا. وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو ، ولذلك كانت ما في الجواب ، فجعل ما تبعوا جوابا لإن ، لأن إن بمعنى لو ، فكما أن لو تجاب بما ، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو ، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو ، لم يكن جوابها مصدرا بما ، بل لا بد من الفاء. تقول : إن تزرني فما أزورك ، ولا يجوز : ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفا لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط ، جاز أن

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٥١.

٢٦

يكون الجواب للشرط دون القسم. وليس هذا مذهب البصريين ، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو. واستعمال إن بمعنى لو قليل ، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك ، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها. وقال ابن عطية : وجاء جواب لئن كجواب لو ، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع ، وإن تطلب الاستقبال ، لأنهما جميعا يترتب قبلهما القسم. فالجواب إنما هو للقسم ، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، هذا قول سيبويه. انتهى كلامه.

وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد ، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن ، وقوله بعد : فالجواب إنما هو للقسم ، يدل على أن الجواب ليس لإن ، والتعليل بعد بقوله ، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، لا يصلح أن يعلل به قوله : فالجواب إنما هو للقسم ، بل يصلح أن يكون تعليلا ، لأن الجواب لإن ، وأجريت في ذلك مجرى لو. وأما قوله : هذا قول سيبويه ، فليس في كتاب سيبويه ، إلا أن ما تبعوا جواب القسم ، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل. قال سيبويه : وقالوا لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وقال أيضا : وقال تعالى : (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (١) : أي ما يمسكهما. وقال بعض الناس : كل واحدة من : لئن ولو ، تقوم مقام الأخرى ، ويجاب بما يجاب به ، ومنه : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) (٢) ، لأن معناه : ولو أرسلنا ريحا. وكذلك لو يجاب جواب لئن ، كقولك : لو أحسنت إليّ أحسن إليك ، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج. وقال سيبويه : لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى ، لأن معناهما مختلف ، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال ، تقديره : لا يتبعون ، وليظلن. انتهى كلامه.

وتلخص من هذا كله أن في قوله : (ما تَبِعُوا) قولين : أحدهما : أنها جواب قسم محذوف ، وهو قول سيبويه. والثاني : أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو ، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج. وظاهر قوله : (أُوتُوا الْكِتابَ) : العموم ، وقد قال به هنا قوم. وقال الأصم : المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب ، وفي الآية المتأخرة. ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم ، وخصوص ما تأخر ، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم ، وهو شأن المعاند ، وأنه قد آمن به كثير من أهل

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٤١.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٥١.

٢٧

الكتاب وتبعوا قبلته. واختلفوا في قوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم ، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك ، على نحو : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (١) ، ويكون إذ ذاك إخبارا عن المجموع ، من حيث هو مجموع ، لا حكم على الأفراد. وقال الأصم : بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن. وقد تقدم أن من قول الأصم : أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص ، فكأنه قال : كل فرد فرد من أولئك المختصين بالعناد ، المستمرّين على جحود الحق ، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك. وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية ، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه ، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون ، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه. قيل : واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق ، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته ، فلو اتبعوا قبلته ، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وعلمه جهلا ، وهو محال ، وما استلزم المحال فهو محال. وأضاف تعالى القبلة إليه ، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها. أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته ، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح ، ولا عن شبهة عرضت ، وإنما ذلك على سبيل العناد ، ومن نازع عنادا فلا يرجى منه انتزاع.

(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) : هذه جملة خبرية. قيل : ومعناها النهي ، أي لا تتبع قبلتهم ، ومعناها : الدوام على ما أنت عليه ، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر. وقيل : هي باقية على معنى الخبر ، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة ، فجاءت هذه الجملة رفعا لتجويز النسخ ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب ، فإنهم قالوا : يا محمد ، عد إلى قبلتنا ، ونؤمن بك ونتبعك ، مخادعة منهم ، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم ، أو بين بذلك حصول عصمته ، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم ، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة ، أي ما هم بتاركي باطلهم ، وما أنت بتارك حقك. وأفرد القبلة في قوله : قبلتهم ، وإن كانت مثناة ، إذ لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة ، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين ، فصار الاثنان واحدا من جهة البطلان ، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ ، لأن قبله (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين ، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله : (بِتابِعٍ) ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها ، لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٥.

٢٨

وقرأ بعض القراء : بتابع قبلتهم على الإضافة ، وكلاهما فصيح ، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته ، وقد تقدم في أيهما أقيس.

(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) : الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب. والمعنى : أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى ، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تتنصّر ، وإلى أن النصارى لا تتهود ، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض. وقد رأينا اليهود والنصارى كثيرا ما يدخلون في ملة الإسلام ، ولم يشاهد يهوديا تنصر ، ولا نصرانيا تهوّد. والمراد بالبعضين : من هو باق على دينه من أهل الكتاب ، هذا قول السدي وابن زيد ، وهو الظاهر. وقيل : أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب ، والبعض الثاني من كان على دينه منهم ، لأن كلا منهما يسفه حلم الآخر ويكفره ، إذ تباينت طريقتهما. ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك؟ وتضمنت هذه الجمل : أن أهل الكتاب ، وإن اتفقوا على خلافك ، فهم مختلفون في القبلة ، وقبلة اليهود بيت المقدس ، وقبلة النصارى مطلع الشمس.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ، اللام أيضا مؤذنة بقسم محذوف ، ولذلك جاء الجواب بقوله : إنك ، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط. يقول الرجل لامرأته : إن صعدت إلى السماء فأنت طالق ، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء. وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم : أنهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) ، قال : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢) ، وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع. وفهم من ذلك الاستحالة ، لأن المعلق على المستحيل مستحيل. ويصير معنى هذه الجملة ، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع ، ويصير المعنى : لا يعد ظالما ، ولا تكونه ، لأنك لا تتبع أهواءهم ، وكذلك لا يحبط عملك ، لأن إشراكك ممتنع ، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم ، لأنه لا يدعي أنه إله. وقالوا : ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه ، فهو محمول على إرادة أمته ، ومن يمكن وقوع ذلك منه ، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر ، والتفخيم لشأنه ، حتى يحصل التباعد منه. ونظير ذلك قولهم : إياك أعني : واسمعي يا جارة.

__________________

(١) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٩.

٢٩

قال الزمخشري : قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ، كلام وارد على سبيل الفرض ، والتقدير بمعنى : ولئن اتبعتهم مثلا بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر ، إنك إذا لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين ، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وإلهاب للثبات على الحق. انتهى كلامه. وقال في المنتخب : اختلفوا في هذا الخطاب. قال بعضهم : هو للرسول ، وقال بعضهم : هو للرسول وغيره. وقال بعضهم : هو لغير الرسول ، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب. أهواءهم : تقدّم أنه جمع هوى ، ولا يجمع على أهوية ، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل في الخير ، وأصله الميل والمحبة ، وجمع ، وإن كان أصله المصدر ، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) : أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله ، فأطلق اسم الأثر على المؤثر. سمى تلك الدلائل علما ، مبالغة وتعظيما وتنبيها على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم. وقد فسر العلم هنا بالحق ، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق. وقال مقاتل : العلم هنا : البيان ، وجاء في هذا المكان : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ) ، وقال قبل هذا : (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ) (١) ، وجاء في الرعد : (بَعْدِ ما جاءَكَ) (٢) ، فاختص موضعا بالذي ، وموضعين بما ، وهذا الموضع بمن. والذي نقوله في هذا : أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف ، لأن ما والذي موصولان ، فأيا منهما ذكرت ، كان فصيحا حسنا. وأما المجيء بمن ، فهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء ، وأما قوله : بعد ، فهو على معنى من ، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى ، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها. وقال بعضهم : في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي ، لأن الذي أخص ، وما أشد إبهاما ، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين ، الذي هو الإسلام ، المانع من ملتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ، لأنه علم بكل أصول الدين ، وخص بلفظ ما ، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين ، أحدهما القبلة ، والآخر الكتاب ، لأنه أشار إلى قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) (٣) ، قال :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢٠.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٧.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣٦.

٣٠

وأما دخول من ، ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة ، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة ، إن اتبعت أهواءهم ، كنت ظالما واضعا الباطل في موضع الحق. انتهى كلامه.

(إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أذنت بتقديره اللام في لئن ، ودل على جواب الشرط ، لا يقال : إنه يكون جوابا لهما ، لامتناع ذلك لفظا ومعنى. أما المعنى ، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه ، لأن القسم إنما جيء به توكيدا للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملا ، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم ، لم يحتج إلى مزيد رابط ، وإذا كانت جواب شرط ، احتاجت لمزيد رابط ، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء ، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معا. ودخلت إذا بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما ، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدّم ، لأنه سبق قسم وشرط ، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت ، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم يتأخر ، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي : فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة. وتحرير معنى إذن صعب ، وقد اضطرب الناس في معناها ، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه ، وقد أمعنا الكلام في ذلك في (كتاب التكميل) من تأليفنا ، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا أو تقديرا ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان مسببا عما قبلها ، فهي في ذلك على وجهين : أحدهما : أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول : إذا أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك. وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني : أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم ، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة ، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها ، والعامل يعتمد عليه ، وذلك نحو : إن تأتني إذن آتك ، وو الله إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن ، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها ، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : أزورك فتقول :

٣١

إذن أنا أكرمك ، وجاز توسطها نحو : أنا إذا أكرمك ، وتأخرها. وإذا تقرر هذا ، فجاءت إذا في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : هم علماء اليهود والنصارى ، أو من آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود ، كابن سلام وغيره ، أو من آمن به مطلقا ، أقوال. والكتاب : التوراة ، أو الإنجيل ، أو مجموعهما ، أو القرآن. أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم ، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا ، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى ، معبرا عنه بنون العظمة ، وكذا ما يجيء من نحو هذا ، مرادا به الإكرام نحو : هدينا ، واجتبينا ، واصطفينا. قيل : ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول ، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (١) ، وإذ أريد بالكتاب أكثر من واحد ، فوحد ، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر.

(يَعْرِفُونَهُ) : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم ، وجوز أن يكون الذين مجرورا على أنه صفة للظالمين ، أو على أنه بدل من الظالمين ، أو على أنه بدل من (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في الآية التي قبلها ، ومرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، ومنصوبا على إضمار ، أعني : وعلى هذه الأعاريب يكون قوله : (يَعْرِفُونَهُ) ، جملة في موضع الحال ، إما من المفعول الأول في آتيناهم ، أو من الثاني الذي هو الكتاب ، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول ، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر ، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله : (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ). والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وروي عن ابن عباس ، واختاره الزجاج ، ورجحه التبريزي ، وبدأ به الزمخشري فقال : يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. قال الزمخشري وغيره : واللفظ للزمخشري ، وجاز الإضمار ، وإن لم يسبق له ذكر ، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علما معلوم بغير إعلام. انتهى. وأقول : ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر : بل هذا من باب الالتفات ، لأنه قال تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٨٩.

٣٢

تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ) ، ثم قال : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ) إلى آخر الآية ، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب ، أقبل على الناس فقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) واخترناهم لتحمل العلم والوحي ، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه ، لا يشكون في معرفته ، ولا في صدق أخباره ، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة ، لما في كتابهم من ذكره ونعته ، والنص عليه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر ، وأنه من باب الالتفات ، وتبينت حكمة الالتفات. ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام ، رضي‌الله‌عنهما ، وقال : إن الله قد أنزل على نبيه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) الآية ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشدّ من معرفتي بابني. فقال عمر : وكيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقا ، وقد نعته الله في كتابنا ، ولا أدري ما يصنع النساء. فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت ، وقد روي هذا الأثر مختصرا بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها ، وفيه : فقبل عمر رأسه. وإذا كان الضمير للرسول ، فقيل : المراد معرفة الوجه وتميزه ، لا معرفة حقيقة النسب. وقيل : المعنى يعرفون صدقه ونبوّته. وقيل : الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة أيضا ، وابن جريج والربيع. وقيل : عائد على القرآن. وقيل : على العلم. وقيل : على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء ، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء ، لأنه قال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون حصولها بالرؤية والوصف ، أو بالقرآن ، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن ، وبنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ، أو بالقبلة ، أو التحويل ، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق.

(كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ، الكاف : في موضع نصب ، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفانا مثل عرفانهم. أبناءهم : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف ، كان التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة ، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك ، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد ، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى ، ومعرفة متعلقها

٣٣

المحسوس. وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور ، فيكونون قد خصوا بذلك ، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوب الآباء. ويحتمل أن يراد بالأبناء : الأولاد ، فيكون ذلك من باب التغليب. وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس ، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه ، بخلاف الأبناء ، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) : أي من الذين آتيناهم الكتاب ، وهم المصرّون على الكفر والعناد ، من علماء اليهود والنصارى ، على أحسن التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب ، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى ، الذين قيل فيهم : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) (١) ، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ. والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله قتادة ومجاهد ، والتوجه إلى الكعبة ، أو أن الكعبة هي القبلة ، أو أعم من ذلك ، فيندرج فيه كل حق.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : جملة حالية ، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالا مؤكدة ، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به ، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فيكون إذ ذاك حالا مبينة.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : قرأ الجمهور : برفع الحق على أنه مبتدأ ، والخبر هو من ربك ، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق من ربك ، والضمير عائد على الحق المكتوم ، أي ما كتموه هو الحق من ربك ، ويكون المجرور في موضع الحال ، أو خبرا بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد ، وهو الحق الذي عليه الرسول ، أو الحق الذي كتموه ، أو للجنس على معنى : أن الحق هو من الله ، لا من غيره ، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله ، كالذي عليه الرسول ، وما لم تثبت حقيقته ، فليس من الله ، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب : الحق بالنصب ، وأعرب بأن يكون بدلا من الحق المكتوم ، فيكون التقدير : يكتمون الحق من ربك ، قاله الزمخشري ؛ أو على أن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٨.

٣٤

يكون معمولا ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فبه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة. ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك : لا تكن ظالما ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك : لا تكن ظالما نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموما ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) (١) ، (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) (٢). والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كأن فيه نصا على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) ، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلا من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته. ففي ذلك تنبيه على شكر الله ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك. وقرأ الجمهور : ولكل : منونا ، وجهة : مرفوعا ،

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٩٥.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٧.

٣٥

هو موليها : بكسر اللام اسم فاعل. وقرأ ابن عامر : هو مولاها ، بفتح اللام اسم مفعول وهي ، قراءة ابن عباس. وقرأ قوم شاذا : ولكل وجهة ، بخفض اللام من كل من غير تنوين ، وجهة : بالخفض منونا على الإضافة ، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة ، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره. فقيل : المعنى : ولكل طائفة من أهل الأديان. وقيل : المعنى : ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق ، إلى جهة الكعبة ، وراءها وقدّامها ، ويمينها وشمالها ، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها. وقيل : المعنى : ولكل نبي قبلة ، قاله ابن عباس. وقيل : المعنى : ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة ، فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة ، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهة : قبلة ، وهو قول ابن عباس ، وهي قراءة أبيّ ، قرأ : ولكل قبلة. وقرأ عبد الله : ولكل جعلنا قبلة. وقال الحسن : وجهة : طريقة ، كما قال : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (١) ، أي لكل نبي طريقة. وقال قتادة : وجهة : أي صلاة يصلونها ، وهو من قوله : هو موليها عائد على كل على لفظه ، لا على معناه ، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها ، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى ، أي هو موليها وجهه أو نفسه ، قاله ابن عباس وعطاء والربيع ، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ : هو مولاها. وقيل : هو عائد على الله تعالى ، قاله الأخفش والزجاج ، أي الله موليها إياه ، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها. فمعنى هو موليها على هذا التقدير : شارعها ومكلفهم بها. والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة. وأما قراءة من قرأ : ولكل وجهة على الإضافة ، فقال محمد بن جرير : هي خطأ ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر ، أحد القراء السبعة ، وقد وجهت هذه القراءة. قال الزمخشري : المعنى : ولكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام لتقدّم المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى كلامه ، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام. لا يجوز أن يقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه. وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة. كان قويا ، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدما ، ولا يمكن أن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٨.

٣٦

يكون العامل قويا ضعيفا في حالة واحدة ، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين ، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا :

سراقة للقرآن يدرسه

وليس نظير ما مثل به من قوله : لزيد ضربت ، أي زيدا ضربت ، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد ، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها ، كتقديرنا زيدا أنا ضاربه ، أي اضرب زيدا أنا ضاربه ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر. تقول : زيدا مررت به ، أي لابست زيدا ، ولا يجوز : بزيد مررت به ، فيكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر ، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال ، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر ، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر ، بل إذا أردت الاشتغال نصبته ، هكذا جرى كلام العرب. قال تعالى : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١). وقال الشاعر :

أثعلبة الفوارس أم رباحا

عدلت به طهية والخشابا

وأما تمثيله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي. فإن قلت : لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ ، وهو الهاء ، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف ، وأنث على معنى الطوائف ، وقد تقدم ذكرهم ، ويكون التقدير : وكل وجهة الله مولّي الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب : أنه منع من هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله ، إذا تقدّم. أما ما يتعدى إلى اثنين ، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم ، ولا إذا تأخر. وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة. ومولّ هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين ، فلذلك لا يجوز هذا التقدير. وقال ابن عطية ، في توجيه هذه القراءة : أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولّاكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله : لكل وجهة على الأمر في قوله : فاستبقوا الخيرات ، للاهتمام بالوجهة ، كما تقدم المفعول. انتهى كلام ابن عطية ، وهو توجيه لا بأس به.

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣١.

٣٧

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة ، أو قبلة ، أو صلاة ، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة : الاستباق في أمر الكعبة رغما لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة ، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق ، فهو يدل على الاشتراك. (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) (١) ، أي نتسابق ، كما تقول. تضاربوا. واستبق لا يتعدى ، لأن تسابق لا يتعدى ، وذلك أن الفعل المتعدي ، إذا بنيت من لفظ ، معناه : تفاعل للاشتراك ، صار لازما ، تقول : ضربت زيدا ، ثم تقول : تضاربنا ، فلذلك قيل : إن إلى هنا محذوفة ، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي :

ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل

سواكم فإني مهتد غير مائل

يريد ومن يمل إلى سواكم (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) : هذه جملة تتضمن وعظا وتحذيرا وإظهارا لقدرته ، ومعنى : (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) : أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب ، فأنتم لا تعجزونه ، وافقتم أم خالفتم ، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة. وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا ، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام ، قاله الزمخشري. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات ، وهذا منها. وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان الله بكم جميعا لقدرته على ذلك.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها ، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج ، لأن قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ) ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة. فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفرا في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ، ثم عطف عليه : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، ليبين مساواتهم له في ذلك ، أي في

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٧.

٣٨

حالة السفر ، والأولى في حالة الإقامة. وقرأ عبد الله بن عمير : ومن حيث بالفتح ، فتح تخفيفا. وقد تقدم القول في حيث في قوله : (حَيْثُ شِئْتُما).

(وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق ، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل. وفي الأول قال : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة ، فردّ عليهم بأشياء منها : أن علماءهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة ، وذلك هو محض التعبد. فالجهات كلها بالنسبة إلى البارئ تعالى مستوية ، فكونه خص باستقبال هذه زمانا ، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة ، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض. فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به ، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ، بل هو المطلع عليها ، المجازي بالثواب من امتثل أمره ، وبالعقاب من خالفه. وجاء في قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) في المكانين ، وفي قوله : (وَمَا اللهُ) في المكانين ، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ، ذكر الرب المقتضي للنعم ، لننظر منها إلى المنعم ، ونستدل بها عليه ، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) : ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيدا لما قبلها في الآية التي تليها فقط ، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى ، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة ، والثانية في السفر ، وأما الثالثة فهي في السفر ، فهي تأكيد للثانية. وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم ، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس ، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبلة ، إذ كان ذلك صعبا عليهم ، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت. وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين ، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب ، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة. وقال المهدوي : كررت هذه الأوامر ، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد ، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر. وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق ، ولهذا المعنى وقع التكرير في القصص. وقيل : لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا ، كررت للتأكيد والتقرير وإزالة

٣٩

الشبهة ، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد. فقيل : الأولى من قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) ، نسخ للقبلة الأولى ، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة ، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان. وقيل : الأولى في المسجد الحرام ، والثانية خارج المسجد ، والثالثة خارج البلد. وقيل : الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة ، والثاني إلى مكان لا ترى فيه ، فسوى بين الحالتين. وقيل : الخروج الأول متصل بذكر السبب ، وهو : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، والثاني متصل بانتفاء الحجة ، وهو : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ). وقيل : الأول لجميع الأحوال ، والثاني لجميع الأمكنة ، والثالث لجميع الأزمنة. وقيل : الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام ، والثاني : أن يكون خارجا عنه وهو في البلد ، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فسوى بين هذه الأحوال ، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد. وقيل : التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر ، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر هذه القبلة ، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق ، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) ، فقطع بذلك قول المعاندين. وقيل : الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، بقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) ، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق ، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود. وقيل : ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) ، فأزال هذا الوهم بقوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، أي ما حولناك لمجرد الرضا ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق ، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى ، ثم أعاد ثالثا ، والمراد : دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة. وقيل : كرر (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) ، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن ، في أي مكان كان الإنسان ، نائيا كان عنها ، أو دانيا منها ، وذلك في حال التمكن والاختيار ، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة ، وفي النافلة في حالة السفر ، وعلى الراحلة في السفر.

(لِئَلَّا يَكُونَ) : هذه لام كي ، وأن بعدها لا النافية ، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون ، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أن لا تفعل أفعل. وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء ، بعدها لام ألف ، فجعلوا صورة للهمزة الياء ، وذلك

٤٠