البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وقرأ الحسن : والمغفرة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر : قوله : (بِإِذْنِهِ) أي : والمغفرة حاصلة بتيسيره وتسويفه ، وتقدم تفسير الأذن ، وعلى قراءات الجمهور يكون بإذنه متعلقا بقوله : يدعو.

(وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس ، أي أن هذا التبيين ليس مختصا بناس دون ناس ، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ ، لأن الآية متى كانت جلية واضحة ، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر ، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات من موافقة الأمر ، ومخالفة النهي. و : للناس ، متعلق : بيبين ، و : اللام ، معناها الوصول والتبليغ ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) في صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت امرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل : كانت العرب على ما جاء في هذا الحديث ، فسأل أبو الدحداح عن ذلك ، فقال : كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت.

وقال مجاهد : كانوا يأتون الحيض استنوا سنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحيض ومساكنتها ، فنزلت.

وقيل : كانت النصارى يجامعون الحيض ولا يبالون بالحيض ، واليهود يعتزلونهنّ في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين.

وقيل : سأل أسيد بن حضير ، وعباد بن بشير ، عن المحيض فنزلت وقيل كانت اليهود تقول : من أتى امرأة من دبرها ، جاء ولده أحول ، فامتنع نساء الأنصار من ذلك ، وسئل عن إتيان الرجل امرأته وهي حائض ، وما قالت اليهود ، فنزلت.

والضمير في : ويسألونك ، ضمير جمع ، فالظاهر أن السائل عن ذلك هو ما يصدق عليه الجمع ، لا اثنان ولا واحد ، وجاء : ويسألونك ، هنا وقبله في (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) وقبله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) بالواو العاطفة على (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) قيل : لأن السؤال عن الثلاثة في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن كذا وكذا.

٤٢١

وقيل هذه سؤالات ثلاثة بغير واو (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) (١) (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ) (٢) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) (٣) وثلاثة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) قيل إنها جاءت بغير واو العطف لأن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أوقات متباينة متفرّقة ، فلم يؤت فيها بحرف العطف ، لأن كلّا منها سؤال مبتدأ. انتهى.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ، وتضمن مناكحة أهل الإيمان وإيثار ذلك ، بين حكما عظيما من أحكام النكاح ، وهو حكم النكاح في زمان الحيض. والمحيض ، كما قررناه ، هو مفعل ، هو مفعل من الحيض يصلح من حيث اللغة للمصدر والزمان والمكان ، فأكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد به المصدر ، وكأنه قيل : عن الحيض ، وبه فسره الزمخشري ؛ وبه بدأ ابن عطية قال : المحيض مصدر كالحيض ، ومثله المقيل من قال يقيل. قال الراعي :

بنيت مرافقهنّ فوق مزلة

لا يستطيع بها القراد مقيلا

وقال الطبري : المحيض اسم الحيض ، ومثله قول رؤبة في العيش :

إليك أشكوا شدّة المعيش

ومرّ أعوام نتفن ريشي

انتهى كلامه. ويظهر منه أنه فرق بين قول : المحيض مصدر كالحيض ، وبين قول الطبري : المحيض اسم الحيض ، ولا فرق بينهما ؛ يقال فيه مصدر ، ويقال فيه اسم مصدر ، والمعنى واحد. والقول بأن المحيض مصدر مروي عن ابن المسيب ؛ وقال ابن عباس : هو موضع الدم ، وبه قال محمد بن الحسن ، فعلى هذا يكون المراد منه المكان. ورجح كونه مكان الدم بقوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فلو أريد به المصدر لكان الظاهر منع الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة غير ثابت ، لزم القول بتطرق النسخ ، أو التخصيص ، وذلك خلاف الأصل ، فإذا حمل على موضع الحيض كان المعنى : فاعتزلوا النساء في موضع الحيض. قالوا واستعماله في الموضع أكثر وأشهر منه في المصدر انتهى.

ويمكن أن يرجح المصدر بقوله : (قُلْ هُوَ أَذىً). ومكان الدم نفسه ليس بأذى لأن الأذى كيفية مخصوصة وهو عرض ، والمكان جسم ، والجسم لا يكون عرضا. وأجيب عن هذا بأنه يكون على حذف إذا أريد المكان ، أي : ذو أذى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢١٧.

٤٢٢

والخطاب في : ويسألونك ، وفي : قل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في : هو ، عائد على المحيض ، والمعنى : أنه يحصل نفرة للإنسان واستقذار بسببه.

(فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) تقدّم الخلاف في المحيض أهو موضع الدم أم الحيض؟ ويحتمل أن يحمل الأول على المصدر ، والثاني على المكان ، وإن حملنا الثاني على المصدر فلا بد من حذف مضاف ، أي : فاعتزلوا وطء النساء في زمان الحيض.

واختلف في هذا الاعتزال ، فذهب ابن عباس ، وشريح ، وابن جبير ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وجماعة من أهل العلم إلى أنه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، ويعضده ما صح أنها : تشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها.

وذهبت عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، وداود إلى أنه لا يجب إلّا اعتزال الفرج فقط ، وهو الصحيح من قول الشافعي.

وروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، أخذ بظاهر الآية ، وهو قول شاذ.

ولما كان الحيض معروفا في اللغة لم يحتج إلى تفسير ولم تتعرض الآية لأقله ولا لأكثره ، بل دلت على وجوب اعتزال النساء في المحيض ، وأقله عند مالك لا حدّ له ، بل الدفعة من الدم عنده حيض ، والصفرة والكدرة حيض. والمشهور عن أبي حنيفة أن أقله ثلاثة أيام ، وبه قال الثوري. وقال عطاء والشافعي : يوم وليلة.

وأما أكثره فقال عطاء ، والشافعي : خمسة عشر يوما وقال الثوري : عشرة أيام ، وهو المشهور عن أصحاب أبي حنيفة. ومذهب مالك في ذلك كقول عطاء ، وخرج من قول نافع سبعة عشر يوما ، وقيل : ثمانية عشر يوما. وقال القرطبي : روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلّا ما يوجد في النساء عادة. وروي عن الشافعي أن ذلك مردود إلى عرف النساء كقول مالك ، وروي عن ابن جبير : الحيض إلى ثلاثة عشر ، فإذا زاد فهو استحاضة.

وجميع دلائل هذا ، وبقية أحكام الحيض مذكور في كتب الفقه.

ولم تتعرض الآية لما يجب على من وطئ في الحيض ، واختلف في ذلك العلماء ، فقال أبو حنيفة ، ومالك ، ويحيى بن سعيد ، والشافعي ، وداود : يستغفر الله ولا شيء عليه ،

٤٢٣

وقال محمد : يتصدّق بنصف دينار ، وقال أحمد : يتصدّق بدينار أو نصف دينار ، واستحسنه الطبري ، وهو قول الشافعي ببغداد.

وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطئ في الدم فدينار ، أو في انقطاعه فنصفه ، ونقل هذا القول ابن عطية عن الأوزاعي ، ونقل غيره عن الأوزاعي أنه إن وطئ وهي حائض يتصدّق بخمسين دينارا. وفي الترمذي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار».

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضل عنه : يطهرن بتشديد الطاء والهاء والفتح ، وأصله : يتطهرن ، وكذا هي في مصحف أبي ، وعبد الله. وقرأ الباقون من السبعة : يطهرن ، مضارع : طهر.

وفي مصحف أنس : ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهنّ حتى يتطهرن. وينبغي أن يحمل هذا على التفسير لا على أنه قرآن لكثرة مخالفته السواد ، ورجح الفارسي : يطهرن ، بالتخفيف إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت ، وهو ثلاثي. ورجح الطبري التشديد ، وقال : هي بمعنى تغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الخلاف في الطهر ما هو. انتهى كلامه.

قيل : وقراءة التشديد معناها حتى يغتسلن ، وقراءة التخفيف معناها ينقطع دمهن قاله الزمخشري وغيره.

وفي كتاب ابن عطية : كل واحد من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ، وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه ، قال : وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة تشديد الطاء مضمنها الاغتسال ، وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم أمر غير لازم ، وكذلك ادعاؤه الإجماع أنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال. انتهى ما في كتاب ابن عطية.

وقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) هو كناية عن الجماع ، ومؤكد لقوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ).

وظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسان ، ولكن بينت السنة أن اعتزال وقربان خاص ، ومن اختلافهم في أقل الحيض وأكثره يعرف اختلافهم في أقل الطهر وأكثره.

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي : اغتسلن بالماء ، قال ابن عطية : والخلاف في معناه كما تقدّم

٤٢٤

من التطهير بالماء أو انقطاع الدم ، وقال مجاهد وجماعة هنا : إنه أريد الغسل بالماء ، ولا بد لقرينة الأمر بالإتيان ، وإن كان قربهنّ قبل الغسل مباحا ، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلّا على الوجه الأكمل ، وإذا كان التطهر الغسل بالماء ، فمذهب مالك والشافعي وجماعة ، أنه كغسل الجنابة ، وهو قول ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ؛ وقال طاووس ، ومجاهد : الوضوء كاف في إباحة الوطء ، وذهب الأوزاعي إلى أن المبيح للوطء : هو غسل محل الوطء بالماء ، وبه قال ابن حزم.

وسبب الخلاف أن يحمل التطهر بالماء على التطهر الشرعي أو اللغوي ، فمن حمله على اللغوي قال : تغسل مكان الأذى بالماء ، ومن حمله على الشرعي حمله على أخف النوعين ، وهو الوضوء ، لمراعاة الخفة ، أو على أكمل النوعين وهو أن تغتسل كما تغتسل للجنابة إذ به يتحقق البراءة من العهدة. والاغتسال بالماء مستلزم لحصول انقطاع الدم ، لأنه لا يشرع إلّا بعده.

وإذا قلنا : لا بد من الغسل كغسل الجنابة ، فاختلف في الذمية : هل تجبر على الغسل من الحيض؟ فمن رأى أن الغسل عادة قال لا يلزمها لأن نية العبادة لا تصح من الكافر ، ومن لم ير ذلك عبادة ، بل الاغتسال من حق الزوج لإحلالها للوطء ، قال : تجبر ، على الغسل.

ومن أوجب الغسل فصفته ما روي في الصحيح عن أسماء بنت عميس أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن غسل الحيضة فقال : «تأخذ إحداكنّ ماءها وسدرها ، وتتطهر فتحسن الطهور ، ثم تصب الماء على رأسها وتضغطه حتى يبلغ أصول شعرها ، ثم تفيض الماء على سائر بدنها».

(فَأْتُوهُنَ) هذا أمر يراد به الإباحة ، كقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (١) (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) (٢) وكثيرا ما يعقب أمر الإباحة التحريم ، وهو كناية عن الجماع.

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) حيث : ظرف مكان ، فالمعنى من الجهة التي أمر الله تعالى ، وهو القبل لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض ، قاله ابن عباس ، والربيع. أو من قبل طهرهنّ لا من قبل حيضهنّ ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو رزين والسدّي.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ١٠.

٤٢٥

وروي عن ابن عباس : ويصير المعنى فأتوهنّ في الطهر لا في الحيض أو من قبل النكاح لا من قبل الفجور ، قاله محمد بن الحنفية ، أو : من حيث أحل لكم غشيانهنّ بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات ، قاله الأصم. والأول أظهر ، لأن حمل : حيث ، على المكان والموضع هو الحقيقة ، وما سواه مجاز.

وإذا حمل على الأظهر كان في ذلك رد على من أباح إتيان النساء في أدبارهن. قيل : وقد انعقد الإجماع على تحريم ذلك ، وما روي من إباحة ذلك عن أحد من العلماء فهو مختلف غير صحيح ، والمعنى ، في أمركم الله باعتزالهنّ وهو الفرج ، أو من السرة إلى الركبتين.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي : الراجعين إلى الخير. وجاء عقب الأمر والنهي إيذانا بقبول توبة يقع منه خلاف ما شرع له ، وهو عام في التوابين من الذنوب.

(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي : المبرئين من الفواحش ، وخصه بعضهم بأنه التائب من الشرك والمتطهر من الذنوب ، قاله ابن جبير ؛ أو بالعكس ، قاله عطاء ، ومقاتل ؛ وبعضهم خصه بالتائب من المجامعة في الحيض ، وقال مجاهد : من إتيان النساء في أدبارهنّ في أيام حيضهنّ ؛ وقال أبو العالية : التوابين من الكفر المتطهرين بالإيمان. وقال القتاد : التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر ، وقيل : التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب. وقال عطاء أيضا : المتطهرين بالماء ، وقيل : من أدبار النساء فلا يتلوثون بالذنب بعد التوبة ، كأن هذا القول نظير لقوله تعالى ، حكاية عن قوم لوط : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (١).

والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ودل السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض ، من مجامعتهنّ في الحيض في الفرج ، أو في الدبر ، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك ، وذلك في حالة الحيض في الفرج أو في الدبر ، ثم أباح الإتيان في الفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج ، وإن كان ليس مأمورا به في لفظ الآية ، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى ، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى ، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء ، وأبرز ذلك في صورتين عامتين ، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٨٢.

٤٢٦

التَّوَّابِينَ) أي : الراجعين إلى ما شرع (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) بالماء فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات. وذكر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر ، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف ، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد.

وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١) وسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبب الذي أثنى الله به عليهم ، فقالوا : كنا نجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء ، أو كلاما هذا معناه.

وقرأ طلحة بن مصرف : المطهرين ، بإدغام التاء في الطاء ، إذ أصله المتطهرين.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) في البخاري ومسلم : أن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها إن الولد يكون أحول ، فنزلت. وقيل : سبب النزول كراهة نساء الأنصار ذلك لما تزوجهم المهاجرون ، وكانوا يفعلون ذلك بمكة ، يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات ، روى معناه الحاكم في صحيحه ، وقيل : سبب ذلك أن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلكت! فقال : «وما الذي أهلكك؟» قال : حولت رحلي الليلة ، فنزلت.

ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، لأنه لما تقدّم (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وكان الإطلاق يقتضي تسويغ إتيانهنّ على سائر احوال الإتيان ، أكد ذلك بأن نص بما يدل على سائر الكيفيات ، وبين أيضا المحل بجعله حرثا وهو : القبل ، والحرث كما تقدّم في قصة البقرة : شق الأرض للزرع ، ثم سمى الزرع حرثا (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) (٢) وسمى الكسب حرثا ، قال الشاعر :

إذا أكل الجراد حروث قوم

فحرثي همه أكل الجراد

قالوا : يريد فامرأتي ، وأنشد أحمد بن يحيى :

إنما الأرحام أرضو

ن لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها

وعلى الله النبات

وهذه الجملة جاءت بيانا وتوضيحا لقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وهو المكان الممنوع من استعماله وقت الحيض ، ودل ذلك على أن الغرض الأصيل هو طلب النسل :

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١١٧.

٤٢٧

«تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» ، لا قضاء الشهوة فقط ، فأتوا النساء من المسلك الذي يتعلق به الغرض الأصلي ، وهو القبل.

ونساؤكم : مبتدأ ، وحرث لكم : خبر ، إما على حذف أداة التشبيه ، أي : كحرث لكم ويكون نساؤكم على حذف مضاف ، أي : وطء نسائكم كالحرث لكم ، شبه الجماع بالحرث ، إذ النطفة كالبذر ، والرحم كالأرض ، والولد كالنبات ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : موضع حرث لكم ، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن ، قالوا : وهو مثل قوله تعالى : (يَأْكُلُ الطَّعامَ) (١) ومثل قوله : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) (٢) على قول من فسره بالنساء ، ويحتمل أن يكون : حرث لكم ، بمعنى : محروثه لكم ، فيكون من باب إطلاق المصدر ، ويراد به اسم المفعول. وفي لفظة : حرث لكم ، دليل على أنه القبل لا الدبر؟ قال الماتريدي : أي مزدرع لكم ، وفيها دليل على النهي عن امتناع وطئ النساء ، لأن المزدرع إذا ترك ضاع. ودليل على إباحة الوطء لطلب النسل والولد ، لا لقضاء الشهوة. انتهى كلامه.

وفرق الراغب بين الحرث والزرع ، فقال : الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض ، والزرع مراعاته وإنباته ، ولذلك قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣) أثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع.

(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الإتيان كناية عن الوطء ، وجاء : حرث لكم ، نكرة لأنه الأصل في الخبر ، ولأنه كان المجهول ، فأفادت نسبته إلى المبتدأ جواز الاستمتاع به شرعا ، وجاء : فأتوا حرثكم ، معرفة لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق ، واختصاصا بما أضيف إليه ، ونظير ذلك أن تقول : زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك.

وإذا تقدّمت نكرة ، وأعدت اللفظ ، فلا بد أن يكون معرفة : إما بالألف واللام ، كقوله : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (٤) وإما بالإضافة كهذا.

وأنّى : بمعنى : كيف بالنسبة إلى العزل ، وترك العزل ، قاله ابن المسيب ، فتكون الكيفية مقصورة على هذين الحالين ، أو بمعنى كيف على الإطلاق في أحوال المرأة ، قاله عكرمة ، والربيع ، فتكون دلت على جواز الوطء للمرأة. في أي حال شاءها الواطئ مقبلة ومدبرة ،

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٧.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٦٣ و ٦٤.

(٤) سورة المزمل : ٧٣ / ١٦.

٤٢٨

على أي شق ، وقائمة ومضطجعة وغير ذلك من الأحوال ، وذلك في مكان الحرث ، أو : بمعنى متى؟ قاله الضحاك ، فيكون إذ ذاك ظرف زمان. ويكون المعنى : فأتوا حرثكم في أي زمان أردتم.

وقال جماعة من المفسرين : أنّى ، بمعنى أي ، والمعنى على أي صفة شئتم ، فيكون على هذا تخييرا في الخلال والهيئة ، أي : أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ، وقد وقع هذا مفسرا في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذلك لا يبالى به بعد أن يكون في صمام واحد». والصمام رأس القارورة ، ثم استعير. وقالت فرقة : أنّى ، بمعنى : أين؟ فجعلها مكانا ، واستدل بهذا على جواز نكاح المرأة في دبرها ، وممن روي عنه إباحة ذلك : محمد بن المنكدر ، وابن أبي مليكة ، وعبد الله بن عمر ، من الصحابة ، ومالك ، ووقع ذلك في العتبية. وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعل ذلك وإنكاره ، وروي عن مالك إنكار ذلك ، وسئل فقيل : يزعمون أنك تبيح إتيان النساء في أدبارهنّ؟ فقال : معاذ الله ، ألم تسمعوا قول الله عزوجل : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) وأنّى يكون الحرث إلّا في موضع البذر؟ ونقل مثل هذا عن الشافعي ، وأبي حنيفة ، ونقل جواز ذلك عن : نافع ، وجعفر الصادق ، وهو اختيار المرتضى من أئمة الشيعة ، وذكر في (المنتخب) ما استدل به لهذا المذهب وما ورد به ، فيطالع هناك ، إذ كتابنا هذا ليس موضوعا لذكر دلائل الفقه إلّا بمقدار ما يتعلق بالآية.

وقد روى تحريم ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثنا عشر صحابيا بألفاظ مختلفة كلها تدل على التحريم ، ذكرها أحمد في (مسنده) وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه (تحريم المحل المكروه).

قال ابن عطية : ولا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم ، وقال أيضا : أنى شئتم ، معناه عند جمهور العلماء من : صحابة ، وتابعين ، وأئمة : من أي وجه شئتم ، معناه : مقبلة ومدبرة على جنب ، وأنّى : إنما يجيء سؤالا وإخبارا على أمر له جهات ، فهي أعم في اللغة من : كيف ، ومن : أين ، ومن : متى. هذا هو الاستعمال العربي.

وقد فسر الناس أنّى في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبويه بكيف ، ومن أين باجتماعهما؟ وقال النحويون : أنّى ، لتعميم الأحوال ، وقد تأتي : أنى ، بمعنى : متى ، وبمعنى : أين ، وتكون استفهاما وشرطا ، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط.

٤٢٩

وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للاحوال ، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على تعميم مواضع الإتيان ، فتكون بمعنى : أين وقال. الزمخشري وقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل ، أي فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها ، من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا ، وهو موضع الحرث.

وقوله : (هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) من الكنايات اللطيفة ، والتعرضات المستحسنة ، فهذه وأشباهها في كلام لله تعالى آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه. وهو حسن.

قالوا والعامل في : أنّى فأتوا ، وهذا الذي قالوه لا يصح ، لأنا قد ذكرنا أنها تكون استفهاما أو شرطا ، لا جائز أن تكون هنا شرطا ، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان ، فيكون ذلك مبيحا لإتيان النساء في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله ، لأنه معمول لفعل الشرط ، كما أن فعل الشرط معمول له ، ولا جائز أن يكون استفهاما ، لأنها إذا كانت استفهاما اكتفت بما بعدها من فعل كقوله (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) (١) ومن اسم كقوله : (أَنَّى لَكِ هذا) (٢) ولا يفتقر إلى غير ذلك ، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها.

وعلى تقدير أن يكون استفهاما لا يعمل فيها ما قبلها ، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها ، فتبين على وجهي : أنّى ، أنها لا تكون معمولة لما قبلها ، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر.

والذي يظهر ، والله أعلم ، أنها تكون شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها ، وتكون قد جعلت فيها الأحوال. كجعل الظروف المكانية ، وأجريت مجراها تشبيها للحال بالظرف المكاني ، وقد جاء نظير ذلك في لفظ : كيف ، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم : كيف تكون أكون ، وقال تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.

٤٣٠

يَشاءُ) (١) فلا يجوز أن تكون هنا استفهاما ، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف ، ويدل عليه ما قبله ، تقديره : أنى شئتم فأتوه ، وكيف يشاء ينفق ، كما حذف جواب الشرط في قولك : أضرب زيدا أنى لقتيه ، التقدير أنى لقتيه فاضربه.

فان قلت : قد أخرجت : أنّى ، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل : كيف ، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط ، فهل الفعل الماضي الذي هو : شئتم ، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفا؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد : كيف ، في قولهم : كيف تصنع أصنع؟.

فالجواب أنه يحتمل الأمرين ، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفا صريحا ، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف ، وبينهما علاقة واضحة ، إذ كل منهما على معنى : في ، بخلاف : كيف ، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها ، فإنما قاله بالقياس ، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها ، حيث يقتضي جملة أخرى.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) مفعول قدّموا محذوف ، فقيل : التقدير ذكر الله عند القربان ، أو : طلب الولد والإفراط شفعاء ، قاله ابن عباس ، أو : الخير ، قاله السدي ، أو : قدم صدق ، قاله ابن كيسان ، أو : الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به ، قاله ابن عطية ، أو : ذكر الله على الجماع ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره». أو التسمية على الوطئ ، حكاه الزمخشري. أو : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة ، وهو خلاف ما نهيتكم عنه ، قاله الزمخشري ، وهو قول مركب من قول : من قبله.

والذي يظهر أن المعنى : وقدّموا لأنفسكم طاعة الله ، وامتثاله ما أمر ، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي ، وهو الخير الذي ذكره في قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (٢) ولذلك جاء بعده (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو تحذير لهم من المخالفة ، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده ، وهو العمل الصالح.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١٠.

٤٣١

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) الظاهر أن الضمير المجرور في : ملاقوه ، عائد على الله تعالى ، وتكون على حذف مضاف ، أي : ملاقو جزائه على أفعالكم ، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله : وقدّموا ، أي : واعلموا أنكم ملاقو ما قدّمتم من الخير والطاعة ، وهو على حذف مضاف أيضا ، أي : ملاقو جزائه ، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف ، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد ، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدّموا ، أو على الجزاء.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : بحسن العاقبة في الآخرة ، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدّم الخير ، ويستحق التبشير ، وهو الإيمان. وفي أمره لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل ، ولم يأت بضمير الغيبة ، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف ، ولكونه مع ذلك فصل آية.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة إخبار الله تعالى عن المؤمنين أنهم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخمر والميسر ، فوقع ما أخبر به تعالى ، وأمر نبيه أن يخبر من سأله عنهما بأنهما قد اشتملا على إثم كبير ، فكان هذا الإخبار مدعاة لتركهما ، ودل ذلك على تحريمهما ، والمعنى أنه يحصل بشرب الخمر واللعب بالميسر إثم ، وما اكتفى بمطلق الإثم حتى وصفه بالكبر في قراءة ، وبالكثرة في قراءة ، وقد قال تعالى في المحرمات : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) (١) (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢) فحيث وصف الإثم بالكبير ، وكان من أعظم الآثام وأوغلها في التحريم ، وأخبر أيضا أن فيهما منافع للناس ، من : أخذ الأموال بالتجارة في الخمر ، وبالقمر في الميسر ، وغير ذلك ، لأنه ما من شيء حرم إلّا فيه منفعة بوجه ما ، خصوصا ما كان الطبع مائلا إليه ، أو كان الشخص ناشئا عليه بالطبع. ثم أخبر تعالى أن ضرر الإثم الذي هو جالب إلى النار ، أعظم من النفع المنقضي بانقضاء وقته ، ليرشد العاقل إلى تجنب ما عذابه دائم ونفعه زائل.

ثم أخبر تعالى أنهم يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه؟ فأجيبوا بأن ينفقوا ما سهل عليهم إنفاقه ، ويشير (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣) ثم ذكر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات بيانا مثل ما بين في أمر الخمر ، والميسر ، وما ينفقون. ثم ذكر أنه بهذا

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٧ ؛ والنجم : ٥٣ / ٣٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٣١.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

٤٣٢

البيان يحصل الرجاء في تفكر حال الدنيا والآخرة ، فإذا فكر فيهما يرجح بالفكر إيثار الآخرة على الدنيا.

ثم استطرد من هذين السؤالين إلى السؤال عن أمر اليتامى ، وما كلفوا في شأنهم ، إذ كان اليتامى لا ينهضون بالنظر في أحوال أنفسهم ، ولصغرهم ونقص عقولهم ، فأجيبوا بأن إصلاحهم خير من إهمالهم للمصلح بتحصيل الثواب وللمصلح بتأديبه وتعليمه وتنمية ماله : «أمتي كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».

ثم أخبر أن مخالطتهم مطلوبة لأنهم إخوانكم في الإسلام ، فالإخوة موجبة للنظر في حال الأخ. وأبرز الطلب في صورة شرطية ، وأتى الجواب بما يقتضى الخلطة ، وهو كونهم إخوانكم.

ولما أمر بالإصلاح لليتامى ، ذكر أنه تعالى يعلم المفسد من المصلح ، ليحذر من الفساد ويدعو إلى الصلاح ، ومعنى علمه هنا أنه مجاز من أفسد ، و : من أصلح ، بما يناسب فعله ، ثم أخبر تعالى أنه لو شاء لكلفكم ما يشق عليكم ، فدل على أن التكاليف السابقة من تحريم الخمر والميسر ، وتكليف الصدقة ، بأن تكون عفوا ، وتكليف إصلاح اليتيم ليس فيه مشقة ولا إعنات.

ثم ختم هذا بأنه هو العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها.

ولما ذكر تعالى تحريم شيء مما كانوا يتلذذون به ، وهو شرب الخمر والأكل به ، والقمر بالميسر والأكل به ، ولما كان النكاح أيضا من أعظم الشهوات والملاذ ، استطرد إلى ذكر تحريم نوع منه ، وهو نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وهو الإشراك الموجب للتنافر والتباعد. والنكاح موجب للخلطة والمودّة قال تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (١) و (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٢) لا يتراآى داراهما ، فنهى فيهن عن نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وغيّا ذلك بحصول الإيمان ، ثم ذكر من كان رقيقا وهو مؤمن ، خير من مشرك ولو كان يعجب في حسن أو مال أو رئاسة ؛ ونبه على العلة الموجبة للترك ، وهو أن من أشرك داع إلى النار ، وجرّ ممن كان معاشر شخص ومخالطه وملابسه ، حتى في النكاح الذي هو داع إلى التآلف من كل معاشرة

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٢١.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

٤٣٣

أن يجيبه إذا دعاه لما هو من هواه ، وهم كانوا قريبين عهد بالإيمان وحديثه ، فمنعوا من ذلك سدا للتطرق إلى النار.

ثم أخبر تعالى أنه هو يدعو إلى الجنة والمغفرة ، فهو الناظر بالمصلحة لكم في تحريم ما حرّم وإباحة ما أباح ، وهو يبين آياته ويوضحها بحيث لا يظهر معها لبس ، وذلك لرجاء تذكركم واتعاظكم بالآيات.

ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك ، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات ، وغيّا ذلك بالطهر كما غيّا ما قبله بالإيمان ، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهنّ من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولا بالحيض ، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض ، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه ، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال : إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين.

ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاؤها الزوج ويختارها ، من كونها مقبلة أو مدبرة ، أو مجنبة أو مضطجعة ، ومن أي شق شاء ، لما في التنقل من مزيد الالتذاذ ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها ، والهيآت المحركة للباه.

ونبه بالحرث على أنه محل النسل ، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل النسل ، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم الحيض ، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى وأحرى ، ولما كان قدم نهي وأمر في الآيات السابقة وفي هذا ، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح ، وأن ما قدّمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه ، ثم أمر بتقوى الله تعالى ، وأمر بأن يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو الله ، فيجازينا على أعمالنا ، وأمر نبيه أن يبشر المؤمنين ، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه ، فكان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان ، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن ، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن ، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى ، وتعلق الجمل وتأنق المبنى ، من سؤال وجواب ، وتحذير من عقاب ، وترغيب في ثواب ، هدت إلى الصراط المستقيم ، وتلقيت من لدن حكيم عليم.

٤٣٤

وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)

العرضة : فعلة من العرض وهو بمعنى المفعول ، كالفرقة والقبضة ، يقال : فلان عرضة لكذا والمرأة عرضة للنكاح ، أي : معرضة له ، قال كعب :

عرضتها طامس الاعلام مجهول

وقال حسان :

(وقال الله قد يسرن جندا

هم الأنصار) عرضتها اللقاء

وقال حبيب :

متى كان سمعي عرضة للوائمي

وكيف صفت للعاذلين عزائمي

ويقال جعله عرضة للبلاء أي : معرضا ، وقال أوس بن حجر :

وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها

لرحلي وفيها جرأة وتقاذف

وقيل : هو اسم ما تعرضه دون الشيء ، من عرض العود على الإناء ، فيعترض دونه ، ويصير

٤٣٥

حاجزا ومانعا. وقيل : أصل العرضة القوة ، ومنه يقال للجمل : القوي : هذا عرضة للسفر ، أي : قوي عليه ، وللفرس الشديد الجري عرضة لارتحالنا.

اليمين : أصلها العضو ، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ، وتجمع على ، أيمان ، وعلى : أيمن ، وفي العضو والحلف ، وتستعمل : اليمين ، للجهة التي تكون للعضو المسمى باليمين ، فتنصب على الظرف ، تقول : زيد يمين عمرو ، وهي في العضو مشتقة من اليمين ، ويقال : فلان ميمون الطلعة ، وميمون النقيبة ، وميمون الطائر.

اللغو : ما يسبق به اللسان من غير قصد ، قاله الفراء ، وهو مأخوذ من قولهم لما لا يعتدّ به في الدية من أولاد الإبل : ويقال : لغا يلغو لغوا ولغى يلغي لغا ، وقال ابن المظفر : تقول العرب : اللغو واللاغية واللواغي واللغوي ، وقال ابن الأنباري : اللغو عند العرب ما يطرح من الكلام استغناء عنه ، ويقال : هو ما لا يفهم لفظه. يقال : لغا الطائر يلغو : صوّت ، ويقال : لغا بالأمر لهج به يلغا ، ويقال : اشتق من هذا اللغة ، وقال ابن عيسى ، وقد ذكر أن اللغو ما لا يفيد قال : ومنه اللغة لأنها عند غير أهلها لغو وغلط في هذا الاشتقاق ، فإن اللغة إنما اشتقت من قولهم : لغى بكذا إذا أولع به.

الحليم : الصفوح عن الذنب مع القدرة على المؤاخذة به ، يقال : حلم الرجل يحلم حلما ، وهو حليم ، وقال النابغة الجعدي :

ولا خير في حلم إذا لم يكن له

موارد تحمي صفوه أن يكدّرا

ويقال : حلم الأديم يحلم حلما ، إذا تثقب وفسد ، قال :

فإنك والكتاب إلى عليّ

كدابغه وقد حلم الأديم

و : حلم في النوم يحلم حلما وحلما ، وهو : حالم ، (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (١).

الإيلاء : مصدر آلى ، أي : حلف ، ويقال : تألى وأيتلى ، أي : حلف ، ويقال للحلف : ألية وألوّة وإلوة ، وجمع ألية ألايا ، كعشية وعشايا. وقيل : تجمع ألوة على ألايا كركوبة وركائب.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤٤.

٤٣٦

التربص : الترقب والانتظار ، مصدر : تربص وهو مقلوب التبصر ، قال :

تربص بها ريب المنون لعلها

تطلق يوما أو يموت حليلها

فاء : يفيء فيأ وفيأة ، رجع ، وسمي الظل بعد الزوال فيأ ، لأنه رجع عن جانب المشرق إلى المغرب ، وهو سريع الفيئة أي : الرجوع ، وقال علقمة :

فقلت لها فيئي فما تستفزين

ذوات العيون والبنان المخضب

العزم : ما يعقد عليه القلب ويصمم ، ويقال : عزم عليه يعزم عزما وعزما وعزيمة وعزاما ، ويقال : أعزم إعزاما ، وعزمت عليك لتفعلنّ : أقسمت.

الطلاق : انحلال عقد النكاح ، يقال منه : طلقت تطلق فهي طالق وطالقة ، قال الأعشى.

أيا جارتا بيني فإنك طالقه

ويقال : طلقت بضم اللام حكاه أحمد بن يحيى ، وأنكره الأخفش.

القرء : أصله في اللغة الوقت المعتاد تردده ، وقرء النجم وقت طلوعه ووقت غروبه ، ويقال منه : أقرأ النجم أي طلع أو غرب ، وقرء المرأة حيضها وطهرها ، فهو من الأضداد ، قاله أبو عمرو ، ويونس ، وأبو عبيد ؛ ويقال منهما : أقرأت المرأة ، وقال أبو عمرو : من العرب من يسمي الحيض مع الطهر قرءا ، وقال بعضهم : القرء ما بين الحيضتين ، وقال الأخفش : أقرأت صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت قرت بغير ألف. وقيل : القرء أصله الجمع من قولهم : قرأت الماء في الحوض ، جمعته ، ومنه : ما أقرأت هذه الناقة سلا قطّ ، أي : ما جمعت في بطنها جنينا ، فإذا أريد به الحيض : فهو اجتماع الدم في الرحم ، أو الطهر ، فهو اجتماع الدم في البدن.

الرحم : الفرج من المؤنث ، وقد يستعار للقرابة ، يقال : بينهما رحم ، أي قرابة ، ويصل الرحم.

البعل : الزوج يقال منه ، بعل يبعل بعولة ، أي : صار بعلا ، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها ، وهي تباعله إذا فعلت ذلك معه ، وامرأة حسنة التبعيل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ، والبعل أيضا الملك ، وبه سمي الصنم لأنه المكتفي بنفسه ، ومنه بعل النخل.

٤٣٧

وجمع البعل : بعول وبعولة ، كفحل وفحولة ، التاء فيه لتأنيث الجمع ولا ينقاس ، فلا يقال : في كعوب جمع كعب كعوبة.

الرجل : معروف يجمع على : رجال ، وهو مشتق من الرجلة ، وهي القوة ، يقال : رجل بيّن الرجولة والرجلة ، وهو أرجل الرجلين أي : أقواهما ، وفرس رجيل قوي على المشي ، ومنه : سميت الرجل لقوّتها على المشي ، وارتجل الكلام قوي عليه ، وترجل النهار قوي ضياؤه ، ويقال : رجل ورجلة ، كما قالوا : امرؤ وامرأة ، وكتبت من خط أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه‌الله تعالى :

كل جار ظل مغتبطا

غير جيراني بني جبله

هتكوا جيب فتاتهم

لم يبالوا حرمة الرجلة

الدرجة : المنزلة ، وأصله من درجت الشيء وأدرجته : طويته ، ودرج القوم فنوا ، وأدرجهم الله فهو كطي الشيء منزلة منزلة والدرجة المنزلة من منازل الطي ، ومنه الدرجة التي يرتقى إليها.

الإمساك : للشيء حبسه ، ومنه اسمان : مسك ومساك ، يقال : إنه لذو مسك وميساك إذا كان بخيلا ، وفيه مسكة من خير أي : قوة ، وتماسك ومسيك بيّن المساكة.

التسريح : الإرسال ، وسرح الشعر خلص بعضه من بعض ، والماشية أرسلها لترعى ، والسرح الماشية ، وناقة مسرح سهلة المسير لانطلاقها فيه.

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان ، كان بينهما شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته ، وجعل يقول : حلفت بالله ، فلا يحل لي إلّا برّ يميني.

وقال الربيع : نزلت في الرجل يحلف أن لا يصل رحمه ولا يصلح بين الناس ؛ وقال ابن جريج : في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح حين تكلم في الإفك ، وقال المقاتلان ابن حيان وابن سليمان : حلف لا ينفق على ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ؛ وقيل : حلف أن لا يأكل مع الأضياف حين أخر ولده عنهم العشاء ، وغضب هو على ولده.

وقالت عائشة : نزلت في تكرير الأيمان بالله ، فنهى أن يحلف به برا ، فكيف فاجرا.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بتقوى بالله تعالى ، وحذرهم يوم الميعاد ، نهاهم عن ابتذال اسمه ، وجعله معرضا لما يحلفون عليه دائما ، لأن من يتقي

٤٣٨

ويحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عما لا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه ، من قليل أو كثير ، عظيم أو حقير ، لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به.

وقد تكون المناسبة بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من : الخمر ، والميسر ، وإنفاق العفو ، وأمر اليتامى ، ونكاح من أشرك ، وحال وطء الحائض ، أمرهم تعالى بالتحرز في أقوالهم ، فانتظم بذلك أمرهم بالتحرز في الأفعال والأقوال.

واختلفوا في فهم هذه الجملة من قوله (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وهو خلاف مبني على الاختلاف في اشتقاق العرضة ، فقيل : نهوا عن أن يجعلوا الله معدا لايمانهم فيحلفوا به في البر والفجور ، فإن الحنث مع الإكثار فيه قلة رعي بحق الله تعالى ، كما روي عن عائشة أنها نزلت في تكثير اليمين بالله ، نهى أن يحلف الرجل به برا فكيف فاجرا؟ وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (١) وقال : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) (٢). والعرب تمدح بالإقلال من الحلف قال كثير :

قليل الألايا حافظ ليمينه

إذا صدرت منه الألية برت

والحكمة في النهي عن تكثير الأيمان بالله أن ذلك لا يبقى لليمين في قلبه وقعا ، ولا يؤمن من إقدامه على اليمين الكاذبة ، وذكر الله أجل من أن يستشهد به في الأعراض الدنيوية.

وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله قوة لأيمانكم ، وتوكيدا لها ، وروي عن قريب من هذا المعنى عن : ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والربيع ، وغيرهم قال : المعنى : فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم ، والبر والإصلاح ، وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله حاجزا ومانعا من البر والإصلاح ، ويؤكده قول من قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، أو في أبي بكر على ما تقدم في سبب النزول ، فيكون المعنى : أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم ، وإصلاح ذات بين ، أو إحسان الى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني ، فيترك البر في يمينه ، فنهوا أن يجعلوا الله حاجزا لما حلفوا عليه.

(لِأَيْمانِكُمْ) تحتمل اللام أن تكون متعلقة ، بعرضة ، فتكون كالمقوية للتعدي ، أو معدا ومرصدا لأيمانكم ، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله : (وَلا تَجْعَلُوا) فتكون للتعليل ، أي : لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم.

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ١٠.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٨٩.

٤٣٩

والظاهر أن المراد بالأيمان هنا الاقتسام ، لا المقسم عليه ، وقال الزمخشري : أي : حاجزا لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك» أي : على شيء مما يحلف عليه. انتهى كلامه. ولا حاجة هنا للخروج عن الظاهر وإنما احتيج في الحديث إلى أنه أطلق اليمين ، ويراد بها متعلقها ، لأنه قال : إذا حلفت على يمين ، فعدى حلفت بعلى ، فاحتيج إلى هذا التأويل ، وليس في الآية ما يحوج إلى هذا التأويل ، لكن الزمخشري لما حمل : عرضة ، على أن معناه حاجزا ومانعا ، اضطر إلى هذا التأويل.

(أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) قال الزجاج ، وتبعه التبريزي : أن تبروا ، في موضع رفع بالابتداء ، قال الزجاج والمعنى : بركم وتقواكم وإصلاحكم أمثل وأولى ، وجعل الكلام منتهيا عند قوله : لأيمانكم ، ومعنى الجملة التي فيها النهي عنده أنها في الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله ، فقال : علي يمين ، وهو لم يحلف ، وقدر التبريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف ، لأن فيه اقتطاع : أن تبروا ، مما قبله ، والظلم هو اتصاله به ، ولأن فيه حذفا لا دليل عليه وقال الزمخشري : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، عطف بيان لأيمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي : البر والتقوى والإصلاح بين الناس. انتهى كلامه. وهو ضعيف ، لأن فيه مخالفة للظاهر ، لأن الظاهر من الأيمان هي الأقسام ، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها ، فهما متباينان ، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الأيمان ، لكنه لما تأول الأيمان على أنها المحلوف عليها ، ساغ له ذلك ، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان بالأشياء المحلوف عليها ، وعلى مذهبه تكون : أن تبروا ، في موضع جر ، ولو ادعى أن يكون : أن تبروا ، وما بعده بدلا من : أيمانكم ، لكان أولى ، لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام.

وذهب الجمهور إلى أن قوله : أن تبروا ، مفعول من أجله ، ثم اختلفوا في التقدير ، فقيل : كراهة أن تبروا ، قاله المهدوى ، أو لترك أن تبروا ، قاله المبرد ، وقيل : لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا ، قال أبو عبيدة ، والطبري كقوله :

٤٤٠