البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وقال مالك في (المختصر) : يكبر ما دام في مجلسه ، فإذا قام منه فلا شيء عليه وقال في (المدوّنة) : إن نسيه وكان قريبا قعد فكبر ، أو تباعد فلا شيء عليه ، وإن ذهب الامام والقوم جلوس فليكبروا ، وكذلك قال أبو حنيفة ، ومن نسي صلاة في أيام التشريق من تلك السنة قضاها وكبر ، وإن قضى بعدها لم يكبر ، ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب الفقه.

والذي يظهر ما قدمناه من أن هذا الخطاب هو للحجاج ، وأن هذا الذكر هو مما يختص به الحاج من أفعال الحج ، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات ، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلّا بدليل ، وأن الذكر في أيام منى ، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحجاج ، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) الظاهر أن : تعجل ، هنا لازم لمقابلته بلازم في قوله (مَنْ تَأَخَّرَ) فيكون مطاوعا لعجل ، فتعجل ، نحو كسره فتكسر ، ومتعلق التعجل محذوف ، التقدير : بالنفس ، ويجوز أن يكون تعجل متعديا ومفعوله محذوف أي : فمن تعجل النفر ، ومعنى : في يومين من الأيام المعدودات. وقالوا : المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، وسبق كلامنا على تعليق في يومين بلفظ تعجل ، وظاهر قوله : فمن تعجل ، العموم ، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي ، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني ، وبهذا قال عطاء. قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول ، انتهى كلامه. فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم.

وقال مالك وغيره : ولم يبح التعجيل إلّا لمن بعد قطره لا للمكي ولا للقريب إلّا أن يكون له عذر.

وروي عن عمر أنه قال : من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول ، إلّا آل خزيمة. فإنهم لا ينفرون إلّا في النفر الآخر ، وجعل أحمد ، وإسحاق قول عمر : إلّا آل خزيمة ، أي : أنهم أهل حرم ، وكان أحمد يقول : لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.

وظاهر قوله : في يومين ، أن التعجل لا يكون بالليل بل في شيء من النهار ، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ، وهو مذهب الشافعي ، وهو مروي عن قتادة. وقال أبو حنيفة : قبل طلوع الفجر ، ويعني من اليوم الثالث ، وروي عن عمر ، وابن عامر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والنخعي. أنهم قالوا : من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو ، وهذا مخالف لظاهر القرآن لأنه قال : في يومين ، وما بقي من

٣٢١

اليومين شيء فسائغ له النفر فيه ، قال ابن المنذر : ويمكن أن يقولوا ذلك استحبابا.

وظاهر قوله : ومن تعجل ، سقوط الرمي عنه في اليوم الثالث ، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره.

وقال ابن أبي زمنين : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل. قال ابن المواز : يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، يعنى : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر. قال ابن المواز : ويسقط رمي اليوم الثالث.

وظاهر قوله (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ) إلى آخره. مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق. لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلّا بها إلّا للرعاء ، ومن ولي السقاية من آل العباس ، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال الشافعي : من ترك المبيت في الثلاث الليالي ، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم ، أو مد أو درهم ، ثلاثة أقوال ، ولم تتعرض الآية للرمي ، لا حكما ، ولا وقتا ، ولا عددا ، ولا مكانا لشهرته عندهم. وتؤخذ أحكامه من السنة.

وقيل : في قوله : واذكروا الله ، تنبيه عليه ، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها ، فلا إثم عليه.

وقرأ سالم بن عبد الله : فلا إثم عليه ، بوصل الألف ، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين ، فقربت بذلك من السكون فحذفها تشبيها بالألف ، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء ، وهذا جواب الشرط إن جعلنا : من ، شرطية ، وهو الظاهر ، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر ، وظاهره نفي الإثم عنه ، ففسر بأنه مغفور له ، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه ، روي هذا عن علي ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، ومطرف بن الشخير. وقال معاوية بن قرة : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول ، وقال مجاهد : المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل.

والذي يظهر أن المعنى : فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير ، لأن الجزاء مرتب على الشرط ، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر ، وقاله

٣٢٢

عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفى بقوله : فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، وسوّى بينه في الإباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء ومن تأخر فلا إثم عليه ، لأجل مقابلة : فمن تعجل فلا إثم عليه ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل : فلا إثم عليه في ترك الرخصة.

وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه. وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه.

وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله : فمن تعجل ، ومن تأخر ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (١) وهو هنا طباق غريب ، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم.

وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله : فلا إثم عليه ، مقابلا لقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٢) وتقدّمت الإشارة إلى هذا (لِمَنِ اتَّقى) قيل : هو متعلق بقوله : واذكروا الله ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله الزمخشري ، وقال أيضا : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مرّ

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٤٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٤.

٣٢٣

ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : ذلك خير للذين يريدون وجهه انتهى كلامه.

واتقى : هنا حاصلة لمن. وهي بلفظ الماضي ، فقيل : هو ماضي المعنى أيضا ، أي : المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقيا منيبا قبل حجه ، نحو : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) وحقيقته أن المصرّ على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر ، وقيل : اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، قاله قتادة ، وأبو صالح. وقال ابن عباس : لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال ، وقال الماتريدي : لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام ، وقيل : يراد به المستقبل ، أي : لمن يتقي الله في باقي عمره كما قدمناه.

والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه ، ولصحة المعنى أيضا ، إذ من لم يكن متقيا لم يرتفع الإثم عنه.

والظاهر أن مفعول اتقى المحذوف هو : الله ، أي : لمن اتقى الله ، وكذا جاء مصرحا به في مصحف عبد الله.

(وَاتَّقُوا اللهَ) لما ذكر تعالى رفع الإثم ، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله ، أمر بالتقوى عموما ، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازات ، فيكون ذلك حاملا لهم على اتقاء الله ، لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب ، وأن يعظم له الثواب ، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفا بها ، كان ذلك الأمر أمرا بالدوام ، في ذكر الحشر تخويف من المعاصي ، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلّا الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن ، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه.

وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر : وقت الحج إلى آخر فعل ، وهو : النفر ، وبدئت أولا بالأمر بالتقوى ، وختمت به ، وتخلل الأمر بها في غضون الآية ، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها ، ولم لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته ، وهذا غاية الطاعة لله تعالى ، وبها يتميز الطائع من العاصي؟

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٧.

٣٢٤

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نزلت في الأخنس بن شريق واسمه : أبي ، وكان حلو اللسان والمنظر ، يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويظهر حبه ، والإسلام ، ويحلف على ذلك ، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر ، وكان من ثقيف حليفا لبني زهرة ، فجرى بينه وبين ثقيف شيء ، فبيتهم ليلا وأحرق زرعهم ، وأهلك مواشيهم ، قاله عطاء ، والكلبي ، ومقاتل. وقال السدي : فمر بزرع للمسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وغفر الحمر ، قيل : وفيه نزلت (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (١) و (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (٢).

وقال ابن عباس : في كفار قريش ، أرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا قد أسلمنا ، فابعث إلينا من يعلمنا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم ، فبعث إليهم خبيبا ، ومرشدا ، وعاصم بن ثابت ، وابن الدنية ، وغيرهم ، وتسمى : سرية الرجيع ، والرجيع موضع بين مكة والمدينة ، فقتلوا ، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح.

وقال قتادة ، وابن زيد : نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه.

وروي عن ابن عباس : أنها في المنافقين ، قالوا عن سرية الرجيع : ويح هؤلاء ما فقدوا في بيوتهم ، ولا أدوا رسالة صاحبهم.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه : لما قسم السائلين الله قبل إلى : مقتصر على أمر الدنيا ، وسائل حسنة الدنيا والآخرة ، والوقاية من النار ، أتى بذكر النوعين هنا ، فذكر من النوع الأول من هو حلو المنطق ، مظهر الود ، وليس ظاهره كباطنه ، وعطف عليه من يقصد رضى الله تعالى ، ويبيع نفسه في طلبه ، وقدم هنا الأول لأنه هناك المقدم في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره ، من الأوصاف ، لأن القول هو الظاهر منه أولا في قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا) ، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا ، وإن سأل منه ما ينجيه من عذابه ، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه ، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته.

و : من ، من قوله : من يعجبك ، موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، والكاف في : يعجبك ، خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كانت نزلت في معين ، كالأخنس أو غيره ، أو خطاب لمن كان مؤمنا إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديما أو حديثا.

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ١٠.

(٢) سورة الهمزة : ١٠٤ / ١.

٣٢٥

ومعنى إعجاب قوله استحسانه لموافقة ما أنت عليه من الإيمان والخير ، وجاء في الترمذي : «أن في بعض كتب الله أن من عباد الله قوما ألسنتهم من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر» ، الحديث.

في الحياة : متعلق بقوله ، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا ، لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظا من حظوظ الدنيا. ولا يريد به الآخرة ، إذ لا تراد الآخرة إلّا بالإيمان الحقيقي ، والمحبة الصادقة ، وقال الزمخشري ، بعد أن ذكر هذا الوجه : ويجوز أن يتعلق بيعجبك أي : قوله حلو ، فيصح : في الدنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما ترهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه. انتهى. وفيه بعد.

والذي يظهر أنه متعلق بيعجبك لا على المعنى الذي قاله ، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته ، إذ لا يصدر منه من القول إلّا ما هو معجب رائق لطيف ، فمقالته في الظاهر معجبة دائما. ألا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائقة ، إلى مقالة خشنة منافية ، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة ، وأقواله الباطلة مخالفة أيضا لأقواله الظاهرة؟ إذ لا يحمل قوله : يعجبك قوله ، وقوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) إلّا على حالتين : فهو حلو المقالة في الظاهر ، شديد الخصومة في الباطن.

(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) قرأ الجمهور بضم الياء وكسر الهاء. ونصب الجلالة من : أشهد ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء والهاء ورفع الجلالة ، من شهد ، وقرأ أبي ، وابن مسعود : ويستشهد الله ، والمعنى على قراءة الجمهور ، وتفسير الجمهور ، أنه يحلف بالله ويشهده أنه صادق وقائل حقا ، وأنه محب في الرسول والإسلام ، وقد جاءت الشهادة في معنى القسم في قصة الملاعنة في سورة النور ، قيل : ويكون اسم الله انتصب بسقوط حرف الجر ، والتقدير : ويقسم بالله على ما في قلبه ، وهذا سهو ، لأن الذي يكون يقسم به هو الثلاثي لا الرباعي ، تقول : أشهد بالله لأفعلن ، ولا تقول : أشهد بالله.

والظاهر عندي أن المعنى : أنه يطلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحدا لشدة تكتمه وإخفائه الكفر ، وهو ظاهر قوله : (عَلى ما فِي قَلْبِهِ) ، لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله.

وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى ، أي : ويحلف بالله على

٣٢٦

خلاف ما في قلبه ، لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضده ، وهو الذي يعجب به. ويقوي هذا التأويل قراءة أبي حيوة ، وابن محيصن ، إذ معناها : ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله.

وقراءة : ويستشهد ، بجواز أن تكون فيها : استفعل ، بمعنى : أفعل : نحو أيقن واستيقن ، فيوافق قراءة الجمهور ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون فيها : استفعل ، بمعنى المجرد ، فيكون استشهد بمعنى شهد ، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر ، أي ويستشهد بالله ، كما تقول : ويشهد بالله ، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى ، أي : ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه ، والظاهر أن قوله : ويشهد الله ، معطوف على قوله : يعجبك ، فهو صلة ، أو صفة. وجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، فتكون الجملة حالا من الفاعل المستكن في : يعجبك ، أو : من الضمير المجرور في قوله. التقدير : وهو يشهد الله ، فيكون ذلك قيدا في الإعجاب ، أو في القول ، والظاهر عدم التقييد ، وأنه صلة ، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ لأن المضارع المثبت ، ومعه الواو ، يقع حالا بنفسه ، فأحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم : قمت وأصك عينه ، أي وأنا أصك ، والإضمار على خلاف الأصل.

(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي : أشد المخاصمين ، فالخصام جمع خصم ، قاله الزجاج ، وإن أريد بالخصام المصدر ، كما قاله الخليل ، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ ، إما من المبتدأ ، أي : وخصامه ألدّ الخصام ، وإما من متعلق الخبر ، أي : وهو ألدّ ذوي الخصام ، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل ، كما يوصف بالمصدر في : رجل خصم ، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة ، كأنه قيل : وهو شديد الخصومة ، وأن يكون هو ضمير الخصومة ، يفسره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدّ الخصام.

وتقاربت أقاويل المفسرين في : ألدّ الخصام ، قال ابن عباس : معناه ذو الجدال ، وقال الحسن : الكاذب المبطل ، وقال قتادة : شديد القسوة في معصية الله ، وقال السدي : أعوج الخصومة. وقال مجاهد : لا يستقيم على حق في الخصومة.

والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة من ، فهي صلة ، وجوزوا أن

٣٢٧

تكون حالا معطوفة على : ويشهد إذا كانت حالا ، أو حالا من الضمير المستكن في : ويشهد.

وإذا كان الخصام جمعا ، كان ألدّ من إضافة بعض إلى كل ، وإذا كان مصدرا فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه ، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه ، وإن تأولت أفعل على غير بابها ، فألدّ من باب إضافة الصفة المشبهة.

وقال الزمخشري : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألدّ بمعنى في كقولهم ثبت الغدر. انتهى.

يعنى أن : أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى : في ، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلّا لما هي بعض له ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في ، وهو قول مرجوح في النحو ، قالوا : وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا ، واستواء أحوال الشهود والقضاة ، وان الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم ، حتى يبحث عن باطنهم ، لأن الله بين أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر جميلا وينوي قبيحا.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) حقيقة التولي الانصراف بالبدن ، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل ، ومعناه هنا ، قال ابن عباس : غضب لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله ، وقال الحسن : انصرف عن القول الذي قاله ، وقال مقاتل ، وابن قتيبة : انصرف ببدنه ، وقال مجاهد : من الولاية ، أي : صار واليا.

والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة ، وعلى ذلك حمله هنا أبو سليمان الدمشقي ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن عطية عنه ، والمعنى : وإذا نهض عنك يا محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ، فسعى بقدميه في الأرض ، فقطع الطريق وأفسد فيها ، كما فعله الأخنس بثقيف.

وقيل : السعي هنا العمل ، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب ، ومنه : (وَأَنْ لَيْسَ

٣٢٨

لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (٢) وقال الشاعر :

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وقال الأعشى :

وسعى لكندة غير سعي مواكل

قيس فصدّ عدوها ونبالها

وقال آخر :

أسعى على حيي بني مالك

كل امرئ في شأنه ساع

والمعنى : سعى بحيلة وإدارة الدوائر على الإسلام ، وإلى هذا القول نحا مجاهد ، وابن جريج ، وذكر أيضا عن ابن عباس : والقائلون بهذا القول : قال قوم منهم : معناه سعى فيها بالكفر ، وقال قوم بالظلم. وقد يقع السعي بالقول ، يقال : سعى بين فلان وفلان نقل إليهما قولا يوجب الفرقة ، ومنه :

ما قلت ما قال وشاة سعوا

سعي عدو بيننا يرجف

في الأرض ، معلوم أن السعي لا يكون إلّا في الأرض ، لكن أفاد العموم بمعنى في : أي مكان حل منها سعى للفساد ، ويدل لفظ : في الأرض ، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض ، لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدّم ما يشبهه في قوله : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (٣).

وإذا كان المراد الأخنس فالأرض أرض المدينة ، فالألف واللام للعهد.

ليفسد فيها ، هذا علة سعيه ، والحامل له على السعي في الأرض ، والفساد ضد الصلاح ، وهو معاندة الله في قوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) (٤).

والفساد يكون بأنواع من : الجور ، والقتل ، والنهب ، والسبي ، ويكون : بالكفر.

و : يهلك الحرث ، والنسل ، عطف هذه العلة على العلة قبلها ، وهو : ليفسد فيها ، وهو شبيه بقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٥) وقوله :

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٣٩.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١١.

(٤) سورة هود : ١١ / ٦١.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.

٣٢٩

أكرّ عليهم دعلجا ولبانه

لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل ، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا ، فكان إفسادهما غاية الإفساد.

من فسر الإفساد بالتخريب ، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال.

و : يهلك الحرث والنسل ، تقدم ذكر الحرث في قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) (١) وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات ، وعلى ما تقدم من أن الآية في الأخنس ، يكون الحرث الزرع ، والنسل الحمر التي قتلها ، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل. وقيل : المراد هنا بالحرث هنا النساء ، وبالنسل الأولاد ، وقال تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (٢) وذكره ابن عطية عن الزجاج احتمالا ، فيكون من الكناية ، وهو من ضروب البيان.

وقرأ الجمهور : ويهلك ، من أهلك. عطفا على : ليفسد ، وقرأ أبي : وليهلك ، بإظهار لام العلة ، وقرأ قوم : ويهلك ، من أهلك ، وبرفع الكاف. وخرج على أن يكون عطفا على قوله : يعجبك ، أو على : سعى ، لأنه في معنى : يسعى ، وأما على الاستئناف ، أو على إضمار مبتدأ ، أي : وهو يهلك.

وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، وابن محيصن : ويهلك من هلك ، وبرفع الكاف ، والحرث والنسل على الفاعلية ، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير ، إنما هو : ويهلك من أهلك ، وبضم الكاف ، الحرث بالنصب.

وقرأ قوم : ويهلك من هلك ، وبفتح اللام ، ورفع الكاف ورفع الحرث ، وهي لغة شاذة نحو : ركن يركن ، ونسب هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري.

قال الزمخشري : وروي عنه ، يعنى عن الحسن ، ويهلك مبنيا للمفعول ، فيكون في هذه اللفظة ست قراءات : ويهلك وليهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة منصوب ، لأن في الفعل ضمير الفاعل ، ويهلك ويهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل ، وهذه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٣.

٣٣٠

الجملة الشرطية إما مستأنفة ، وتم الكلام عند قوله : وهو ألدّ الخصام ، وإما معطوفة على صلة من أو صفتها ، من قوله : ويعجبك.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) تقدمت علتان ، والثانية داخلة تحت الأولى ، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية وإن فسرت المحبة بالإرادة ، وقد جاءت كذلك في مواضع منها : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) (١) فلا بد من التخصيص ، أي : لا يحب من أهل الصلاح الفساد ، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد ، فلو لم يكن مرادا لما كان واقعا. وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن الله لا يريد الفساد ، فما وقع منه فليس مراد الله تعالى ، ولا مفعولا له ، لأنه لو فعله لكان مريدا له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد ؛ قالوا : ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له ، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون ، بل يكره أن يكون. وفي هذا ما فيه من التناقض. انتهى ما قالوا :

وقيل : المعنى والله لا يحب الفساد دينا ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : أهل الفساد ، وقال ابن عباس : المعنى لا يرضى المعاصي ، وقيل : عبر بالمحبة عن الأمر أي : لا يأمر بالفساد.

وقال الراغب : الإفساد إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة ، قال ابن عطية : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته. انتهى كلامه. وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة ، وصح أن الله يريد الشيء ولا يحبه.

وقال بعضهم : سوّى المعتزلة بين المحبة والإرادة واستدلوا بهذه ، وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، والفرق بين الإرادة والمحبة بيّن ، فإن الإنسان يريد بطيء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادّعاؤهم التساوي بينهما ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٢) انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ١٩.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٧.

٣٣١

وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء ، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى ، بخلاف غيره ، فإنه قد يعرف عنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان ، وبالنسبة إلى غيره ضدّان ، وظاهر الفساد يعم كل فساد في أرض أو مال أو دين ، وقد استدل عطاء بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) على منع شق الإنسان ثوبه. وقال ابن عباس : الفساد هنا الخراب.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) تحتمل أيضا هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة ، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (١) و : ما ، الذي أقيم مقام الفاعل ، فأغنى عن ذكره هنا ، و : أخذته العزة ، احتوت عليه وأحاطت به ، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد.

قال الزمخشري : من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه ، وألزمته إياه ، أي : حملته العزة التي فيه ، وحمية الجاهلية ، على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأن لا يخلى عنه ضررا ولجاجا ، أو على رد قول الواعظ. انتهى كلامه.

فالباء ، على كلامه للتعدية ، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم ، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم ، نحو : (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (٢) أي : لأذهب سمعهم ، وندرت التعدية بالباء في المتعدي ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي أصككت الحجر الحجر ، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر ، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة ، أي : أخذته مصحوبا بالإثم ، أو مصحوبة بالإثم ، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل ، ويحتمل أن تكون سببية ، والمعنى : أن إثمه السابق كان سببا لأخذ العزة له ، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى ، فتكون الباء هنا : كمن ، في قول الشاعر :

أخذته عزة من جهله

فتولى مغضبا فعل الضّجر

وعلى أن تكون : الباء ، سببية فسره الحسن ، قال. أي من أجل الإثم الذي في قلبه ، يعني الكفر.

وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة ، وكلها متقاربة.

وفي قوله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) نوع من البديع يسمى التتميم ، وهو إرداف الكلام

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٠.

٣٣٢

بكلمة يرفع عنه اللبس ، وتقربه للفهم ، كقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) وذلك أن العزة محمودة ومذمومة ، فالمحمودة طاعة الله ، كما قال : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٤) فلما قال : بالإثم ، اتضح المعنى وتم ، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها. قال ابن مسعود : لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله ، أو تقول : أو لمثلي يقال هذا؟ وقيل لعمر : اتق الله ، فوضع خدّه على الأرض تواضعا ، وقيل : سجد ، وقال : هذا مقدرتي. وتردّد يهودي إلى باب هارون الرشيد ، سنة فلم يقض له حاجة ، فتحيل حتى وقف بين يديه ، فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين : فنزل هارون عن دابته ، وخرّ ساجدا ، وقضى حاجته ، فقيل له في ذلك ، فقال : تذكرت قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ).

(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي : كافيه جزاء وإذلالا جهنم ، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل : بحسبه ، لأنه جعله اسم فعل ، إما بمعنى الفعل الماضي ، أي : كفاه جهنم ، أو : بمعنى فعل الأمر ، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة ، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل ، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم ، وهو الغاية في الذل ، ولما كان قوله : اتق الله ، حل به ما أمر أن يتقيه ، وهو : عذاب الله ، وفي قوله : فحسبه جهنم ، استعظام لما حل به من العذاب ، كما تقول للرجل : كفاك ما حل بك! إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.

(وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) تقدّم الكلام في : بئس ، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو ، لكن التفريع على مذهب البصريين في أن : بئس ونعم ، فعلان جامدان ، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما ، وأن المخصوص بالذّم ، إن تقدم ، فهو مبتدأ ، وإن تأخر فكذلك ، هذا مذهب سيبويه. وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدّم ، والتقدير : ولبئس المهاد جهنم. أو : هي ، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذّم إذا تأخر كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء ، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها ، إذ ليس لها موضع من الإعراب ، ولا هي اعتراضية

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٣) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٣٩.

٣٣٣

ولا تفسيرية ، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها ، فصارت مرتبطة غير مرتبطة ، وذلك لا يجوز.

وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه ، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدّم ، وأنت لا ترى فرقا بين قولك : زيد نعم الرجل ، ونعم الرجل زيد ، كما لا تجد فرقا بين : زيد قام أبوه ، وبين : قام أبوه زيد ، وحسن حذف المخصوص بالذّم هنا كون المهاد وقع فاصلة ، وكثيرا ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (١) و (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢) وجعل ما أعد لهم مهادا على سبيل الهزء بهم ، إذ المهاد : هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم ، ومثله قول الشاعر :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

أي : القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع ، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قيل المراد : بمن ، غير معنى ، بل هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية لله ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا.

وقيل : هي في معين ، فقيل في : الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ليحطا خبيبا من خشبته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجرا فلحقته قريش ، فنشل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نترك حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضعه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجرا ، وقيل : في علي حين خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع ، وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجرا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل : لا إله إلا الله ، فلا يقول ، فيقول : والله لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل. وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجرا. وقيل : في المهاجرين والأنصار ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصا طويلا في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٢٩.

٣٣٤

والذي ينبغي أن يقال : إنّه تعالى لما ذكر (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) وكان عاما في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاما من : يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدار عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذل نفسه لله ولمرضاته.

وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصا ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) بخلاف قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم ، أضمر في الثاني المقسم.

ومعنى يشري : يبيع ، وهو سائغ في اللسان ، قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ) (١) قال الشاعر :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة

ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها.

وانتصاب : ابتغاء ، على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوف لشروط المفعول من أجله من كونه مصدرا متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافا للجرمي ، والرياشي ، والمبرّد ، وبعض المتأخرين ، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو.

ومرضاة : مصدر بني على التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول : مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : مرضات ، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات ، وقرأنا له

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٠.

٣٣٥

بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء. فأمّا وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين.

أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على : طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال. قال :

دار لسلمى بعد حول قد عفت

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت

وقد حكى هذه اللغة سيبويه.

والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد : كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى.

وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم : هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده.

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري ؛ وقال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذّم ، وتقدّم أن الرأفة أبلغ من الرحمة.

والعباد إن كان عاما ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة. وإن كان خاصا ، وهو الأظهر ، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) وكان ذلك خاصا بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب ، وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم ، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ : العباد ، التفاتا ، إذ هو خروج من ضمير غائب

٣٣٦

مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رؤوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان.

أحدهما : أن لفظ : العباد ، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١) (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (٢) (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٣) (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٤).

والثاني : مجيء اللفظة فاضلة ، لأن قبله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ، (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) فناسب : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

وفي هذه الآية ، والتي قبلها من علم البديع : التقسيم ، وقد ذكرنا مناسبة هذا التقسيم للتقسيم السابق قبله في قوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) قال بعض الناس : في هذه الآيات نوع من البديع ، وهو التقديم والتأخير ، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على قوة الملكة في ضروب من الكلام ، وذلك قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) متقدم على قوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) لأن قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) معطوف عليه ، قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) وقوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) معطوف على قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) معطوف على قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) وعلى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) فيصير الكلام معطوفا على الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى ، ويصير التقسيم معطوفا بعضه على بعض ، لأن التقسيم الأول في معنى الثاني ، فيتحد المعنى ويتسق اللفظ ، ثم قال : ومثل هذا ، فذكر قصة البقرة ، وقتل النفس ، وقصة المتوفى عنها زوجها ، في الآيتين ، قال : ومثل هذا في القرآن كثير ، يعني : التقديم والتأخير ، ولا يذهب إلى ما ذكره ، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن ، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات ، وتنزه كتاب الله تعالى عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه ، كانوا يتقون السبت ، ولحم الحمل ، وأشياء تتقيها أهل الكتاب ، قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو : في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٢.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦.

٣٣٧

الضحاك. وروي عن ابن عباس : أو في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام ، قاله مجاهد ، وقتادة. أو : في المنافقين ، واحتج لهذا بورودها عقيب صفة المنافقين ، وعلى هذا الاختلاف في سبب النزول اختلفت أقاويل أهل التفسير.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، والكسائي : بفتح السين في السلم ، وكذلك في الأنفال : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) (١) وفي القتال : (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) (٢).

واختلف في السلم هنا ، فقيل : هو الإسلام ، لأن الإسلام : قد يسمى : سلما بكسر السين ، وقد يروى فيه الفتح ، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر ، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل ، وجوّز أبو عليّ الفارسي أن يكون السلم هنا هو الذي بمعنى الصلح ، لأن الإسلام صلح على الحقيقة ، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله ، وأنهم يد واحدة على من سواهم؟ فإن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام ، وأن لا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام ، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بما سبق من أنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة ، وهي لهم ، كأنه قيل : يا من سبق له الإيمان بالتوراة والإنجيل ، وهما دالان على صدق هذه الشريعة ، ادخلوا في هذه الشريعة ، وإن كان الخطاب للمسلمين فالمعنى : يا من آمن بقلبه ، وصدّق ، ادخل في شرائع الإسلام ، واجمع إلى الإيمان الإسلام. وقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان والإسلام في حديث سؤال جبريل حين سأله عن حقيقة كل واحد منهما. وإن كان الخطاب للمنافقين ، فالمعنى : يا من آمن بلسانه ، ادخل في الإسلام بالقلب حتى يطابق القول الاعتقاد.

والظاهر من هذه الأقوال أنه خطاب للمؤمنين ، أمروا بامتثال شرائع الإسلام ، أو بالانقياد ، والرضى وعدم الاضطرار ، أو بترك الانتقام ، وأمروا كلهم بالائتلاف وترك الاختلاف ، ولذلك جاء بقوله (كَافَّةً) وانتصاب (كَافَّةً) على الحال من الفاعل في : ادخلوا ، والمعنى ادخلوا في السلم جميعا ، وهي حال تؤكد معنى العموم ، فتفيد معنى : كل ، فإذا قلت : قام الناس كافة ، فالمعنى قاموا كلهم ، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالا من السلم ، أي في شرائع الإسلام كلها ، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٦١.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ٣٥.

٣٣٨

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون : كافة ، حالا من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، قال الشاعر :

السلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب تكفيك من أنفاسها جرع

على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها ، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يخلوا بشيء منها.

وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقيم على السبت ، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل.

و : كافة ، من الكف ، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم. انتهى كلام الزمخشري. وتعليله جواز أن يكون : كافة ، حالا من السلم بقوله : لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، ليس بشيء ، لأن التاء في : كافة ، وإن كان أصلها للتأنيث ، ليست فيها إذا كانت حالا للتأنيث ، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى : جميع وكل ، كما صار : قاطبة ، وعامة ، إذا كان حالا نقلا محضا إلى معنى : كل وجميع. فإذا قلت : قام الناس كافة ، أو قاطبة ، أو عامة ، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث ، كما لا يدل عليه : كل ، ولا جميع.

وتوكيده بقوله : وفي شعب الإسلام وشرائعه كلها ، هو الوجه الأول من قوله : بأن يدخلوا في الطاعات كلها ، فلا حاجة إلى هذا الترديد بأو.

وقال ابن عطية : وقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : أمرهم بالثبوت فيه ، والزيادة من التزام حدوده. وتستغرق : كافة ، حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع ، فيكون الحال من شيئين ، وذلك جائز نحو قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) (١) إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثم قال بعد كلام ذكره : وكافة ، معناه : جميعا. والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها. انتهى كلامه.

وقوله : فيكون الحال من شيئين ، يعني : من الفاعل في ادخلوا ، ومن السلم ، وهذا الذي ذكره محتمل ، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل ، وذلك جائز ، يعني : مجيء الحال الواحدة من شيئين ، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢٧.

٣٣٩

وقوله : نحو قوله : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) (١) يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت ، ومن الضمير المجرور بالباء ، هذا المثال ليس بمطابق للحال من شيئين ، لأن لفظ : تحمله ، لا يحتمل شيئين ، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما ، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين ، والإخبار بتلك الحال عنهما ، فمتى صح ذلك صحت الحال ، ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قوله :

وعلقت سلمى وهي ذات موصد

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

فصغيرين : حال من الضمير في علقت ، ومن سلمى ، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم ، ومثله :

خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا

فنمشي حال من التاء في : خرجت ، ومن الضمير المجرور في بها ، ويصلح أن تقول : أنا وهي نمشي ، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبرا عنهما ، لو قلت : هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبرا ، نحو قوله : هند وزيد تكرمه ، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أنّ يقدر إلّا بمفرد ، فيمتنع أن يكون حالا من ذوي حال ، ولذلك أعرب المعربون في :

خرجت بها نمشي تجر وراءنا

نمشي : حالا منهما ، وتجر حالا من ضمير المؤنث خاصة ، لأنه لو قيل : أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبرا عنها ، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد ، أي حاملة وجارة ، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالا منهما.

و (كَافَّةً) لدلالته على معنى : جميع ، يصلح أن يكون حالا من الفاعل في : ادخلوا ، ومن السلم ، بمعنى شرائع الإسلام ، لأنك لو قلت : الرجال والنساء جميع في كذا ، صح أن يكون خبرا.

لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبرا ، لا تقول : الزيدون والعمرون كافة ، في كذا ، فلا يجوز أن يقع حالا على ما قررت ، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة : كافة ، إذ لم

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢٧.

٣٤٠