البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وإن لساني شهدة يشتفى بها

وهو على من صبه الله علقم

يريد : من صبه الله عليه ، وقال :

لعلّ الذي أصعدتني أن تردني

إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر

يريد : أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) في موضع المفعول ، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش ، يجوز أن تكون زائدة ، وكل دابة هو نفس المفعول ، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفا ، أي : وبثه ، وتكون من حالية ، أي : كائنا من كل دابة ، فهي تبعيضية ، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في هبوبها قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا ، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيما ولواقح ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل : تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب. وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنها ما يضر بها ، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها ، فإنها لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلوع وأغرقت.

وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها ، وفيما جاء فيها من الآثار ، وفيما قيل فيها من الشعر ، وليس ذلك من غرضنا. والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي ، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الديار وتهلك الكفار ، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها ، وسوق السحاب إلى البلد الماحل. واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعا. هذا ، وفي الشريعة وفي الأعراف : (يُرْسِلُ الرِّياحَ) (١) ، و (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) (٢) ، و (أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٣) ، و (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (٤) ، وفي الفرقان : (أَرْسَلَ الرِّياحَ) (٥) ، و (مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) (٦) ، وفي الروم : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) (٧) ، وفي فاطر : (أَرْسَلَ الرِّياحَ) (٨) ، وفي الشورى : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) (٩). فأفرد حمزة إلا في الفرقان ، والكسائي إلا في الحجر ، وجمع نافع الجميع والعربيان إلا في إبراهيم والشورى ، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٧.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٨.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٢٢.

(٤) سورة الكهف : ١٨ / ٤٥.

(٥) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٨.

(٦) سورة النمل : ٢٧ / ٦٣.

(٧) سورة الروم : ٣٠ / ٤٨.

(٨) سورة فاطر : ٣٥ / ٩.

(٩) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٣.

٨١

فقط. وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح. ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام. وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (١). وفي الحديث : «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا». قال ابن عطية : لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة ، فلذلك هي رياح ، وهو معنى ينشر ، وأفردت مع الفلك ، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة. ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، انتهى. ومن قرأ بالتوحيد ، فإنه يريد الجنس ، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع ، فيكون تصريف مصدرا مضافا للفاعل ، أي وتصريف الرياح ، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، فيكون المصدر في المعنى مضافا إلى الفاعل ، وفي اللفظ مضافا إلى المفعول ، أي وتصريف الله الرياح.

(وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) ، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان. وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه. ووصف السحاب هنا بالمسخر ، وهو مفرد لأنه اسم جنس ، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢) ، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع ، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة ، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) (٣). قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض. فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء ، وقيل : يغترفه من بحار الأرض ، وقيل : يخلقه الله فيه ، وللفلاسفة فيه أقوال. وجعل مسخرا باعتبار إمساكه الماء ، إذ الماء ثقيل ، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه ، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة ، يأتي به الله في وقت الحاجة ، ويرده عند زوال الحاجة ، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى. وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية.

(بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : انتصاب بين على الظرف ، والعامل فيه المسخر ، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائنا بين ، فيكون حالا من الضمير المستكن في المسخر. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها ، إذ

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٢.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ٢٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٧.

٨٢

لو كان يليها ، ما جاز دخولها ، وهي لام التوكيد ، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام. ولقوم : في موضع الصفة ، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم ، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلا ، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى ، وانفراده بالإلهية ، وعظيم قدرته ، وباهر حكمته. وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من الله على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكنا من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية ، وإن جعلنا : وبث فيها ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف.

فبدأ أولا بالخلق ، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف. (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١)؟ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢). ودل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدّم السموات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.

ثم أعقب ذكر خلق السموات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السموات. ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال : واختلاف الفلك ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.

ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفينا في الأرض بالأحياء. وجاء هذا المشترك مقدما فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٧.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٢٠.

٨٣

ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب. وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.

فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولا باختراع السموات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثا بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح.

وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك قال تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليبا لحكم العقل ، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) : لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة ، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق. واتخاذه الأنداد من دون الله ، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين. والضد يظهر حسنه الضد ، وأنه مع وضوح هذه الآيات ، لم يشاهد هذا الضال شيئا منها. ولفظ الناس عام ، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان. فالأنداد ، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم ، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي ، وإن خالف أمر الله ونهيه. قال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١). والأنداد ، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام ، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله. وقيل : المراد بالناس الخصوص. فقيل : أهل الكتاب. وقيل : عباد الأوثان ، والأولى القول الأول. ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله : يحبونهم ، فأتى بضمير العقلاء ، وباستبعاد محبة الأصنام ، وبقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء. ومن : مبتدأ موصول ، أو نكرة موصوفة ، وأفرد يتخذ حملا على لفظ من ، ومن دون الله متعلق بيتخذ ، ودون هنا بمعنى غير ، وأصلها أن يكون ظرف مكان ، وهي نادرة التصرف إذ ذاك. قال ابن عطية : ومن دون : لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣١.

٨٤

الكلام ، وتفسير دون بسوى ، أو بغير ، لا يطرد. انتهى. تقول : فعلت هذا من دونك ، أي وأنت غائب. وتقول : اتخذت منك صديقا ، واتخذت من دونك صديقا. فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقا. وتقول : قام القوم دون زيد. فالذي يفهم من هذا : أن المعنى أن زيدا لم يقم ، فدلالتها دلالة غير في هذا. والذي ذكر النحويون ، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان ، وأنها قليلة التصرف نادرته. وقد حكى سيبويه أيضا أنها تكون بمعنى رديء ، تقول : هذا ثوب دون أي رديء ، فإذا كانت ظرفا ، دلت على انحطاط المكان ، فتقول : قعد زيد دونك ، فالمعنى : قعد زيد مكانا دون مكانك ، أي منحطا عن مكانك. وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول : زيد دون عمرو في الشرف ، تريد المكانة لا المكان. ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء ، ونحن نوضحه فنقول : إذا قلت : اتخذت من دونك صديقا ، فأصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقا ، فهو ظرف مجازي. وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه ، لزم أن يكون غيرا ، لأنه ليس إياه ، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيرا ، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب ، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك. وانتصب أندادا هنا على المفعول بيتخذ ، وهي هنا متعدية إلى واحد ، نحو قولك : اتخذت منك صديقا ، وهي افتعل من الأخذ ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ ، فأغنى عن إعادته. قال ابن عباس والسّدي : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الأوثان ، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل. وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد : المجموع من الأوثان والرؤساء ، وتكون الآية عامة. وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في : (يُحِبُّونَهُمْ) ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم. والجملة من يحبونهم صفة للأنداد ، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ ، ويجوز أن تكون صفة لمن ، إذا جعلتها نكرة موصوفة. وجاز ذلك ، لأن في يحبونهم ضمير أنداد ، أو ضمير من ، وأعاد الضمير على من جمعا على المعنى ، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ ، إذ أفرد الضمير ، وقد وقع الفصل بين الجملتين ، وهو شرط على مذهب الكوفيين.

(كَحُبِّ اللهِ) ، الكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف ، على رأي سيبويه ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، على رأي جمهور المعربين ، التقدير : على الأول يحبونهموه ، أي الحب مشبها حب الله ، وعلى الثاني

٨٥

تقديره : حبا مثل حب الله ، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب ، والفاعل محذوف ، التقدير : كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين ، حب الأنداد وحب الله. وقال ابن عطية : حب : مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر ، تقديره : كحبكم الله ، أو كحبهم ، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة. انتهى كلامه. فقوله : مضاف إلى الفاعل المضمر ، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل ، وإنما سماه مضمرا لما قدره كحبكم أو كحبهم ، فأبرزه مضمرا حين أظهر تقديره ، أو يعني بالمضمر المحذوف ، وهو موجود في اصطلاح النحويين ، أعني أن يسمى الحذف إضمارا. وإنما قلت ذلك ، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف ، وإنما يكون مضمرا في المصدر. وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس ، كالزيت والقمح ، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها. وقال الزمخشري : كحب الله : كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه ، لأنه غير ملبس. وقيل : كحبهم الله ، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه ، (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١). انتهى كلامه. واختار كون المصدر مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي مسألة خلاف. أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز : عجبت من ضرب زيد ، على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ثم يضاف إليه ، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب ، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل ، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول ، ويمتنع في الثاني ، وأصحها المنع مطلقا. وتقرير هذا كله في النحو. وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين ، أو ضميرهم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والمبرد ، وقال : ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين ، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله ، لأنهم أشركوها مع الله تعالى ، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها. وقرأ أبو رجاء العطاردي : يحبونهم ، بفتح الياء ، وهي لغة ، وفي المثل السائر : من حب طبّ ، وجاء مضارعه على يحب ، بكسر

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٥.

٨٦

العين شذوذا ، لأنه مضاعف متعد ، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو : مده يمده ، وجره يجره.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) : قال الراغب : الحب أصله من المحبة ، حببته : أصبت حبة قلبه ، وأصبته بحبة القلب ، وهي في اللفظ فعل ، وفي الحقيقة انفعال. وإذا استعمل في الله ، فالمعنى : أصاب حبة قلب عبده ، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله. انتهى. وقال عبد الجبار : حب العبد لله : تعظيمه والتمسك بطاعته ، وحب الله العبد : إرادة الثناء عليه وإثابته. وأصل الحب في اللغة : اللزوم ، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن. اه. والمفضل عليه محذوف ، وهم المتخذون الأنداد ، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف. فقيل : معنى أشد حبا لله : أي منهم لله ، لأن حبهم لله بواسطة ، قاله الحسن ؛ أو منهم لأوثانهم ، قاله غيره. ومقتضى التمييز بالأشدية ، إفراد المؤمنين له بالمحبة ، أو لمعرفتهم بموجب الحب ، أو لمحبتهم إياه بالغيب ، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة ، إذ قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) ، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء ، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه ، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضارّ النافع ، أو لكون حبه بالعقل والدليل ، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمر الله تعالى من عبده لا يشرك به شيئا أن يقتحم النار ، فيبادرون إليها ، فتبرد عليهم النار ، فينادي مناد تحت العرش : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون ، قاله ان جبير. تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد. وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين ، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه. والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب ، فلا تباين بين الأقوال على هذا ، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه ، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز.

وقال في المنتخب جمهور المتكلمين : على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته. فإذا قلنا : يحب الله ، فمعناه : يحب طاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه. وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا : نحب الله لذاته ، كما نحب اللذة لذاتها ، لأنه تعالى موصوف بالكمال ، والكمال محبوب لذاته. انتهى كلامه. وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حبا ، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من واد واحد. وأنت لو قلت : ما أحب

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

٨٧

زيدا ، لم يكن ذلك تعجبا من فعل الفاعل ، إنما يكون تعجبا من فعل المفعول ، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول ، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل. لا تقول : ما أضرب زيدا ، على أن زيدا حل به الضرب. وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز زيد أحب لعمرو ، لأنه يكون المعنى : أن زيدا هو المحبوب لعمرو. فلما لم يجز ذلك ، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك ، فتقول : ما أشد حب زيد لعمرو ، وزيد أشد حبا لعمرو من خالد لجعفر. على أنهم قد شذوا فقالوا : ما أحبه إليّ ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس ، ويعدل على الصحيح الفصيح. وانتصاب حبا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره : حبهم لله أشد من حب أولئك لله ، أو لأندادهم ، على اختلاف القولين.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) : قرأ نافع وابن عامر : وإذ ترون ، بالتاء من فوق أن القوة ، وأن بفتحهما. وقرأ ابن عامر : إذ يرون ، بضم الياء. وقرأ الباقون : بالفتح. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ولو ترى ، بالتاء من فوق إن القوة ، وإن بكسرهما. وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو ، وابن كثير : ولو يرى ، بالياء من أسفل أن القوة ، وأن بفتحهما. وقرأت طائفة : ولو يرى ، بالياء من أسفل إن القوة ، وإن بكسرهما. ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فلا بد لها من جواب ، واختلف في تقديره. فمنهم من قدره قبل أن القوة ، فيكون أن القوة معمولا لذلك الجواب ، التقدير : على قراءة من قرأ بالتاء من فوق ، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعا ، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له. وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ومن قرأ بالكسر ، قدر الجواب : لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله : ولو ترى من هو؟ أهو السامع؟ أم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ أو يكون التقدير : لاستعظمت حالهم. وأن القوة ، وإن كانت مكسورة ، فيها معنى التعليل مثل : لو قدمت على زيد لأحسن إليك ، إنه مكرم للضيفان. وقال ابن عطية : تقدير ذلك : ولو ترى الذين ظلموا ، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له ، لأقروا أن القوة لله. فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في أن انتهى. وفيه مناقشة ، وهو قوله : في حال رؤيتهم العذاب. وكان ينبغي أن يقدر بمرادف ، إذ وهو قوله : في وقت رؤيتهم العذاب ، وأيضا فقدر جواب لو ، وهو غير مترتب على ما يلي لو ، لأن رؤية السامع ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظالمين في وقت

٨٨

رؤيتهم ، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعا. وصار نظير قولك : يا زيد لو ترى عمرا في وقت ضربه ، لأقر أن الله قادر عليه ، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. وعلى من قرأ : ولو يرى ، بالياء من أسفل وفتح ، أن يكون تقدير الجواب : لعلموا أن القوة لله جميعا ، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا ، وإن كان ضميرا يقدر ولو يرى هو ، أي السامع ، كان التقدير : لعلم أن القوة لله جميعا. ومنهم من قدر الجواب محذوفا بعد قوله (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ، وأبي العباس المبرد ، وتقديره : على قراءة ولو ترى بالخطاب ، لاستعظمت ما حل بهم ، وعلى قراءة ولو يرى للغائب ، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير : لاستعظم ذلك ، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل ، كان التقدير : لاستعظموا ما حل بهم. وإذا كان الجواب مقدرا آخر الكلام ، وكانت أن مفتوحة ، فتوجيه فتحها على تقديرين : أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء ، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا. وأما من قرأ بالتاء ، فتكون أن مفعولا من أجله ، أي لأن القوة لله جميعا ، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى ، وقدر الجواب آخر الكلام ، فهي ، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة ، دالة على التعليل ، تقول : لا تهن زيدا إنه عالم ، ولا تكرم عمرا إنه جاهل ، فهي على معنى المفتوحة من التعليل ، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف. وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين ، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو ، أي لقالوا إن القوة ، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف ، أي لاستعظموا ذلك ، ومفعول : ترى محذوف ، أي ولو رأى الظالمون حالهم. وترى في قوله : ولو ترى ، يحتمل أن تكون بصرية ، وهو قول أبي علي ، ويحتمل أن تكون عرفانية. وإذا جعلت أن معمولة ليرى ، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين ، سدت أن مسدهما ، على مذهب سيبويه. والذين ظلموا ، إشارة إلى متخذي الأنداد ، ونبه على العلية ، أو يكون عاما ، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار. لكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد. وقراءة ابن عامر : إذ يرون ، مبنيا للمفعول ، هو من أريت المنقولة من رأيت ، بمعنى أبصرت. ودخلت إذ ، وهي للظرف الماضي ، في أثناء هذه المستقبلات ، تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه ، كما يقع الماضي المستقبل في قوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) (١) ، وكما جاء :

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٠.

٨٩

بقيت وفري وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

لأنه علق ذلك على مستقبل ، وهو قوله :

إن لم أشن على ابن هند غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس

وحذف جواب لو ، لفهم المعنى ، كثير في القرآن ، وفي لسان العرب. قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) (١) ، (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (٢) ، (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (٣) ، وقال امرؤ القيس :

وجدك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب ، ونحن نذكر من كلام المفسرين فيها. قال عطاء : المعنى : ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة ، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة ، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعا. وقيل : لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه ، إذ يرون العذاب ، لأقروا بأن القوّة لله جميعا ، أي لتبرأوا من الأنداد ، والثانية من رؤية العين. وقال التبريزي : لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة ، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب. وقال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم ، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين ، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. انتهى كلامه. وحكى الراغب : أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين ، قال : وهو ضعيف. انتهى. ويصير المعنى : ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا. وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم. انتهى. ولا فرق عندنا بين القراءتين ، أعني التاء والياء ، لأنهما متواترتان. وانتصاب جميعا على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور. والقوة هنا مصدر أريد به الجنس ، التقدير : أن القوى مستقرة لله جميعا ، ولا يجوز أن تكون حالا من القوة ، لأن العامل في القوة أن ، وأن لا تعمل في

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٥١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٧.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

٩٠

الأحوال. وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت : إن الله قوي ، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف. وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى ، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك ، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم ، معتقدين أنهم سبب نجاتهم ، لم تغن شيئا ، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم ، تبرأوا منهم. وإذ : بدل من : إذ يرون العذاب. وقيل : معمولة لقوله شديد العذاب. وقيل : لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا ، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم ، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج ، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، قاله الحسن وقتادة أيضا والسدي ؛ أو عام في كل متبوع ، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ. وقراءة الجمهور : اتبعوا الأول مبنيا للمفعول ، والثاني مبنيا للفاعل. وقراءة مجاهد بالعكس. فعلى قراءة الجمهور : تبرؤ المتبوعون بالندم على الكفر ، أو بالعجز عن الدفع ، أو بالقول : إنا لم نضل هؤلاء ، بل كفروا بإرادتهم وتعلق العقاب عليهم بكفرهم ، ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على من أضلهم. أقوال ثلاثة ، الأخير أظهرها ، وهو أن يكون التبرؤ بالقول. قال تعالى : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (١). وتبرؤ التابعين هو انفصالهم عن متبوعيهم والندم على عبادتهم ، إذ لم يجد عنهم يوم القيامة شيئا ، ولم يدفع عنهم من عذاب الله ، ورأوا العذاب الظاهر. إن هذه الجملة ، هي وما بعدها ، قد عطفتا على تبرأ ، فهما داخلان في حيز الظرف. وقيل : الواو للحال فيهما ، والعامل تبرأ ، أي تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب بهم ، لأنها حالة يزداد فيها الخوف والتنصل ممن كان سببا في العذاب. وقيل : الواو للحال في : ورأوا العذاب ، وللعطف في : وتقطعت على تبرأ ، وهو اختيار الزمخشري.

(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) : كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب ، ولا مخلص ، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله ، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به. وللمفسرين في الأسباب أقوال : الوصلات عن قتادة ، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج ، أو الأعمال الملتزمة عن ابن زيد والسدي ، أو العهود عن مجاهد وأبي روق ، أو وصلات الكفر ، أو

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٦٣.

٩١

منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس ، أو أسباب النجاة ، أو المودّات. والظاهر دخول الجميع في الأسباب ، لأنه لفظ عام. وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعا كقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (١) ، وهو في القرآن كثير ، وهو في هذه الآية في موضعين. أحدهما : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : اتبعوا ، إذ لو جاء اتبعوهم ، لفات هذا النوع من البديع. والموضع الثاني : (وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب :

في تاجه قمر في ثوبه بشر

في درعه أسد تدمي أظافره

وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد :

فالنحر مرمرة والنشر عنبرة

والثغر جوهرة والريق معسول

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرأوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعا ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولا منهم. ولو : هنا للتمني. قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : (فَنَتَبَرَّأَ) ، كما جاء جواب ليت في قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) (٢) ، وكما جاء في قول الشاعر :

فلو نبش المقابر عن كليب

فتخبر بالذنائب أي زير

والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله :

بيوم الشعثمين لقر عينا

وكيف لقاء من تحت القبور

وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله :

يا ليت أنا ضمنا سفينه

حتى يعود البحر كينونه

وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء ، انجزم الفعل هذا الموضع ، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضا ، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جوابا للو التي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٧٣.

٩٢

أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء. والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني ، ليس أصلها ، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت. والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء ، إنما هو لتضمنها معنى الشرط ، أو دلالتها على كونه محذوفا بعدها ، على اختلاف القولين ، فصارت لو فرع فرع ، فضعف ذلك فيها. والكاف في كما : في موضع نصب ، إما نعتا لمصدر محذوف ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين ، في غير ما موضع من هذا الكتاب. وما في كما : مصدرية ، التقدير : تبرأوا مثل تبرئهم ، أو فنتبرأه ، أي فنتبرأ التبرؤ مشابها لتبرئهم. وقال ابن عطية : الكاف من قوله : كما في موضع نصب على النعت ، إما لمصدر ، أو لحال ، تقديرها : متبرئين. كما انتهى كلامه. أما قوله على النعت ، إما لمصدر ، فهو كلام واضح ، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا. وأما قوله : أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما ، فغير واضح ، لأنا لو صرحنا بهذه الحال ، لما كان كما منصوبا على النعت لمتبرئين ، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل ، لا من صفات الفاعل. وإذا كان كذلك ، لم ينتصب على النعت للحال ، لأن الحال هنا من صفات الفاعل ، ولا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنها إذ ذاك تكون حالا مؤكدة ، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظا بها. أما أن تقدر حالا ونجعلها مؤكدة ، فلا حاجة إلى ذلك. وأيضا فالتوكيد ينافي الحذف ، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضا. فلو صرح بهذه الحال ، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتا لمصدر محذوف ، أو حالا من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها ، مثال ذلك : هم محسنون إليّ كما أحسنوا إلى زيد. فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين ، إنما هو من صفات الإحسان ، التقدير : على الإعراب المشهور إحسانا مثل إحسانهم إلى زيد.

(كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) : الكاف عند بعضهم في موضع رفع ، وقدروه الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، وهو ضعيف ، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ ، أو كلاهما على خلاف الأصل. والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه ، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال ، (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) ، فيكون نعتا لمصدر محذوف ، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : كذلك ، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الإراءة بالآراءة ، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة ، فتكون حسرات منصوبا على الحال ، وأن تكون قلبية ، فتكون مفعولا ثالثا ، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف ، أي على تفريطهم. وتحسر : يتعدى بعلى ،

٩٣

تقول : تحسرت على كذا ، فعلى هنا متعلقة بقوله : حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة ، فالعامل محذوف ، أي حسرات كائنة عليهم ، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم. وأعمالهم ، قيل : هي الأعمال التي صنعوها ، وأضيفت إليهم من حيث عملوها ، وأنهم مأخوذون بها. وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فوجب لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدّي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها ، ففاتتهم الجنة ، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها. قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله تعالى ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك حين يندمون. وهذا معنى قول بعضهم ، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم ، لأن الكافر لا يثاب مع كفره. ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين ، وسئل : هل ذلك نافعه؟ قال : «لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ، ومنه قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١). وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم. والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم ، وهي الكفر والمعاصي. وكانت حسرة عليهم ، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم ، وتيقنوا الجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها ، لو شاء الله.

(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) : هذا يدل على دخول النار ، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول. ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم ، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع ، وجاء الخبر مصحوبا بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري : هم بمنزلته في قوله :

هم يفرشون اللبد كل طمرّه

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص. انتهى كلامه ، وفيه دسيسة اعتزال ، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص ، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة ، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها. وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، إلى آخر كلامه ، فهو غير مسلم ، ولا دلالة في الآية

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٣.

٩٤

على شيء من المذهبين. لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد ، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق ، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق ، فلا إنما يفهم ذلك ، أعني الاختصاص ، بنفي الخروج من النار ، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج ، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب؟ فإذا قلت : زيد منطلق ، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص ، ولا شيء من المشاركة ، فكذلك النفي ، وكونه قابلا للخصومة والاشتراك ، يدل على ذلك. ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره ، وزيد منطلق مع غيره؟.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة. إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملا لعبادته ، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها ، وتقربهم بالأصنام عليها. وصرّح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر. ثم ذكر أن من تبرع بخير ، فإن الله شاكر لفعله ، عليم بنيته ، لما كان التطوّع يشتمل على فعل ونية ، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين. ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه ، لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده. ثم استثنى من تاب وأصلح ، وبين ما كتم. ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح ، لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد ، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي. وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحا بينا ما كان عليه من الضلال ، وأنه أقلع عن ذلك ، وسلك نقيض فعله الأول ، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولا من كتمان الحق.

وبضدها تتبين الأشياء

ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين ، أنه يتوب عليهم ، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب ، وإن كان أعظم الذنوب ، إذا تاب العبد منه. ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم ، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل. ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج ، وغير ذلك من أعمال البر ، وحال من ارتكب المعاصي ، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله. ذكر حال من وافى على الكفر ، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس ، وأنهم خالدون في اللعنة ، غير مخفف عنهم العذاب ، ولا مرجئون إلى وقت. ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (١)؟ (أَأَنْتَ قُلْتَ

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٥.

٩٥

لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (١)؟ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٢) ، وفي الحديث : «أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيزا».

أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ، ولا له مثيل في صفاته. ثم حصر الإلهية فيه ، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب ، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية. ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية. فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية ، والجرم الكثيف الأرضي ، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة ، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي ، واختلاف الفلك ذاهبة وآئبة بما ينفع الناس الناشئ ذلك عما أودع في العالم السفلي ، وما يكون مشتركا بين العالمين ، من إنزال الماء ، وتشقق الأرض بالنبات ، وانتشار العالم فيها. ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية ، وأشياء في الجرم الأرضي ، ذكر شيئا مما هو بين الجرمين ، وهو تصريف الرّياح والسحاب ، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية. ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل ، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية ، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعا أنه لا يمكنه اقتدار على شيء مما تضمنته هذه الآيات ، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية ، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير ، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل ، وغشيته ظلمات الجهل. ثم ذكر تعالى ، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة ، أن من الناس متخذي أنداد ، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة الله ، فهم يسوّون بين الخالق والمخلوق في المحبة ، (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (٣). ثم ذكر أن من المؤمنين أشدّ حبّا لله من هؤلاء لأصناهم. ثم خاطب من خاطب بقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد ، وهو العذاب ، الحال بهم ، أي لرأيت أمرا عظيما. ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم ، لأن جميع القوى والقدر هي لله تعالى. ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم ، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرأوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع ، فهو تمني مستحيل ، لأن الله

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٧.

٩٦

تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا. ثم ذكر تعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب ، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم ، ليتضاعف بذلك الألم. ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي. نعوذ بالله من سطا نقماته ، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته.

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)

الحلال : مقابل الحرام ومقابل المحرم. يقال شيء حلال : أي سائغ الانتفاع به ، وشيء حرام : ممنوع منه ، ورجل حلال : أي ليس بمحرم. قيل : وسمي حلالا لانحلال عقد المنع منه ، والفعل منه حتى يحل ، بكسر الحاء في المضارع ، على قياس الفعل المضاعف اللازم. ويقال : هذا حل ، أي حلال ، ويقال : حل بل على سبيل التوكيد ، وحل

٩٧

بالمكان : نزل به ، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها ، وحل عليه الدين : حان وقت أدائه. الخطوة ، بضم الخاء : ما بين قدمي الماشي من الأرض ، والخطوة ، بفتحها : المرة من المصدر. يقال : خطا يخطو خطوا : مشى. ويقال : هو واسع الخطو. فالخطوة بالضم ، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها ، كالغرفة والقبضة ، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض ، وفي جمعها بالألف والياء لغى ثلاث : إسكان الطاء كحالها في المفرد ، وهي لغة تميم وناس من قيس ، وضمة الطاء اتباعا لضمة الخاء ، وفتح الطاء. ويجمع تكسيرا على خطى ، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم. الفحشاء : مصدر كالبأساء ، وهو فعلاء من الفحش ، وهو قبح المنظر ، ومنه قول امرئ القيس :

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

إذا هي نصته ولا بمعطل

ثم توسع فيه حتى صار يستعمل فيما يستقبح من المعاني. ألفى : وجد ، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف ، ومن منع جعل الثاني حالا ، والأصح كونه مفعولا لمجيئه معرفة ، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل. النعيق : دعاء الراعي وتصويته بالغنم ، قال الشاعر :

فانعق بضأنك يا جرير فإنما

منتك نفسك في الخلاء ضلالا

ويقال : نعق المؤذن ، ويقال : نعق ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا ، وأما نغق الغراب ، فبالغين المعجمة. وقيل أيضا : يقال بالمهملة في الغراب. النداء : مصدر نادى ، كالقتال مصدر قاتل ، وهو بكسر النون ، وقد يضم. قيل : وهو مرادف للدعاء ، وقيل : مختص بالجهر ، وقيل : بالبعد ، وقيل : بغير المعين. ويقال : فلان أندى صوتا من فلان ، أي أقوى وأشد وأبعد مذهبا. اللحم : معروف. يقال : لحم الرجل لحامه ، فهو لحيم : ضخم. ولحم يلحم ، فهو لحم : اشتاق إلى اللحم. ولحم الناس يلحمهم : أطعمهم اللحم ، فهو لاحم. وألحم ، فهو ملحم : كثر عنده اللحم. الخنزير : حيوان معروف ، ونونه أصلية ، فهو فعليل. وزعم بعضهم أن نونه زائدة ، وأنه مشتق من خزر العين ، لأنه كذلك ينظر. يقال : تخازر الرجل : ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها ، ويقال : رجل أخزر : بين الخزر. وقيل : هو النظر بمؤخر العين ، فيكون كالتشوش. الإهلال : رفع الصوت ، ومنه الإهلال بالتلبية ، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته ، ويقال : أهل الهلال واستهل ، ويقال : أهل بكذا : رفع صوته. قال ابن أحمر :

٩٨

يهل بالفدفد ركباننا

كما يهل الراكب المعتمر

وقال النابغة :

أو درة صدفية غوّاصها

بهج متى تره يهل ويسجد

ومنه : إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته. وقال الشاعر :

يضحك الذئب لقتلي هذيل

وترى الذئب لها يستهل

البطن : معروف ، وجمعه على فعول قياس ، ويجمع أيضا على بطنان ، ويقال : بطن الأمر يبطن ، إذا خفي. وبطن الرجل ، فهو بطين : كبر بطنه. والبطنة : امتلاء البطن بالطعام. ويقال : البطنة تذهب الفطنة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) : هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله : يا أيها الناس ، ولفظه عام. قال الحسن : نزلت في كل من حرم على نفسه شيئا لم يحرمه الله عليه. وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما : أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب ، قاله النقاش. وقيل : في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة. قيل : وبني مدلج ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام. فإن صح هذا ، كان السبب خاصا واللفظ عاما ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومناسبة هذا لما قبله ، أنه لما بين التوحيد ودلائله ، وما للتائبين والعاصين ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن ، ليدل أن الكفر لا يؤثر في قطع الأنعام. وقال المروزي : لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة ، أمرهم بأكل الحلال ، لأن مدار الطاعة عليه. كلوا : أمر إباحة وتسويغ ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء ، فهو المتصرف فيها على ما يريد.

مما في الأرض ، من : تبعيضية ، وما : موصولة ، ومن : في موضع المفعول ، نحو : أكلت من الرغيف ، وحلالا : حال من الضمير المستقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليها. وقال مكي بن أبي طالب : حلالا : نعت لمفعول محذوف تقديره شيئا حلالا ، قال ابن عطية : وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده ، وبعده أنه مما حذف الموصوف ، وصفته غير خاصة ، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا ، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب حلالا على أنه مفعول بكلوا ، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا ، أو متعلقة

٩٩

بمحذوف ، فيكون حالا ، والتقدير : كلوا حلالا مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالا ، فتعلقت بمحذوف ، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية : مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالا مفعولا بكلوا ، تأمل. انتهى.

طيبا : انتصب صفة لقوله : حلالا ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالا واحد ، وهو قول مالك وغيره ، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل : انتصب طيبا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا طيبا ، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية : ويصح أن يكون طيبا حالا من الضمير في كلوا تقديره : مستطيبين ، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأن طيبا اسم فاعل وليس بمطابق للضمير ، لأن الضمير جمع ، وطيب مفرد ، وليس طيب بمصدر ، فيقال : لا يلزم المطابقة. وأما المعنى : فلأن طيبا مغاير لمعنى مستطيبين ، لأن الطيب من صفات المأكول ، والمستطيب من صفات الآكل. تقول : طاب لزيد الطعام ، ولا تقول : طاب زيد الطعام ، في معنى استطابه. وقال الزمخشري في قوله طيبا : طاهرا من كل شبهة. وقال السجاوندي : حلالا مطلق الشرع ، طيبا مستلذ الطبع. وقال في المنتخب ما ملخصه : الحلال : الذي انحلت عنه عقدة الخطر ، إما لكونه حراما لجنسه كالميتة ، وإما لا لجنسه كملك الغير ، إذ لم يأذن في أكله. والطيب لغة الطاهر ، والحلال يوصف بأنه طيب ، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث ، والأصل في الطيب ما يستلذ ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ، لأن النجس تكرهه النفس ، والحرام لا يستلذ ، لأن الشرع منع منه. انتهى. والثابت في اللغة : أن الطيب هو الطاهر من الدنس. قال :

والطيبون معاقد الأزر

وقال آخر

ولي الأصل الذي في مثله

يصلح الآبر زرع المؤتبر

طيبوا الباءة سهل ولهم

سبل إن شئت في وحش وعر

وقال الحسن : الحلال الطيب : هو ما لا يسأل عنه يوم القيامة. وقال ابن عباس : الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة. وقيل : الحلال ما يجوزه المفتي ، والطيب ما يشهد له القلب بالحل. وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية ، لأن الأشياء ملك الله تعالى ، فلابد من إذنه فيما يتناول منها ، وما عدا ما لم يأذن فيه

١٠٠