البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وقالت طائفة : يكون على نكاح جديد بهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين كما يهدم الثلاث ، وبه قال ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، وشريح ، وأصحاب عبد الله إلّا عبيدة وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف.

وقيل : قول ثالث إن دخل بها الآخر فطلاق جديد ، ونكاح الأول جديد ، وإن لم يكن يدخل بها فعلى ما بقي.

(إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي إن ظن كل واحد منهما أنه يحسن عشرة صاحبه ، وما يكون له التوافق بينهما من الحدود التي حدها الله لكل واحد منهما ، وقد ذكرنا طرقا مما لكل واحد منهما على الآخر في قوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (١) وقال ابن خويز : اختلف أصحابنا ، يعني أصحاب مالك ، هل على الزوجة خدمة أم لا؟ فقال بعضهم : ليس على الزوجة أن تطالب بغير الوطء. وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ، ليسار أبوة أو ترفه ، فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها ان تفرش الفراش ونحوه ، وإن كانت من نساء الكرد والديلم في بلدهن كلفت ما تكلفه نساءهم ، وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم ، في قديم الأمر وحديثه ، بما ذكرنا. ألا ترى أن نساء الصحابة كنّ يكلّفنّ الطحن والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك ، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصّرن في ذلك.

و : إن ظنا ، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ، فيكون جواز التراجع موقوفا على شرطين : أحدهما : طلاق الزوج الثاني ، والآخر : ظنهما إقامة حدود الله ، ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز : إن لم يظنا ، ومعنى الظن هنا تغليب أحد الجائزين ، وبهذا يتبين أن معنى الخوف في آية الخلع معنى الظن ، لأن مساق الحدود مساق واحد.

وقال أبو عبيدة وغيره المعنى : أيقنا ، جعل الظن هنا بمعنى اليقين ، وضعف قولهم بأن اليقين لا يعلمه إلّا الله ، إذ هو مغيب عنهما.

قال الزمخشري : ومن فسر العلم هنا بالظن فقد وهم من طريق اللفظ ، والمعنى : لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم زيد ، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنهم يظن ظنا. انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

٤٨١

وما ذكره من : أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ، قد قاله غيره ، قالوا : إن أن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعلا تحقيق ، نحو : العلم واليقين والتحقيق ، وإنما يعمل في أن المشددة ، قال أبو علي الفارسي في (الإيضاح) : ولو قلت علمت أن يقوم زيد ، فنصبت الفعل : بأن ، لم يجز ، لأن هذا من مواضع : أن ، لأنها مما قد ثبت واستقر ، كما أنه لا يحسن : أرجو انك تقوم ، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول : ما علمت إلّا أن يقوم زيد ، فأعمل : علمت ، في : أن.

قال بعض أصحابنا : ووجه الجمع بينهما أن : علمت ، قد تستعمل ويراد بها العلم القطعي ، فلا يجوز وقوع : أن ، بعدها كما ذكره الفارسي ، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي ، فيجوز أن يعمل في : أن ، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) (١) فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي ، لأن القطع بإيمانهنّ غير متوصل إليه ، وقول الشاعر :

وأعلم علم حق غير ظن

وتقوى الله من خير المعاد

فقوله : علم حق ، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق ، وكذلك قوله : غير ظن ، يدل عليه أنه يقال : علمت وهو ظان ، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن : علمت ، قد يعمل في : أن ، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير :

نرضى عن الله أن الناس قد علموا

أن لا يدانينا من خلقه بشر

فأتى بأن ، الناصبة للفعل بعد علمت. انتهى كلامه.

وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن : علم ، تدخل على أن الناصبة ، فليس بوهم ، كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ.

وأما قوله : لأن الإنسان لا يعلم ما في غد ، وإنما يظن ظنا ، ليس كما ذكر ، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرة مما يكون في الغد ، ويجزم بها ولا يظنها.

والفاء في : فلا تحل ، جواب الشرط ، وله ، ومن بعد ، وحتى ، ثلاثتها تتعلق بتحل ، واللام معناها التبليغ ، ومن ابتداء الغاية ، وحتى للتعليل. وبني لقطعه عن الإضافة ، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث ، وزوجا أتى به للتوطئة ، أو للتقييد أظهرهما الثاني ؛ فإن كان

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١٠.

٤٨٢

للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن الإنسان أكثر ما يتزوج الحرائر ، ويصير لفط الزوج كالملغى ، فيكون في ذلك دلالة على أن الأمة إذا بتّ طلاقها ووطئها سيدها حلّ للأول نكاحها ، إذ لفظ الزوج ليس بقيد ؛ وإن كان للتقييد ، وهو الظاهر ، فلا يحللها وطء سيدها.

والفاء في : فلا جناح ، جواب الشرط قبله ، وعليهما ، في موضع الخبر ، أما المجموع : جناح ، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه ، وإما على أنه خبر : لا ، على مذهب أبي الحسن : وأن يتراجعا ، أي : في أن يتراجعا ، والخلاف بعد حذف : في ، أبقى : أن ، مع ما بعدها في موضع نصب ، أم في موضع جر ، تقدم لنا ذكره ، و : أن يقيما ، في موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب سيبويه ، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن ، وأبي العباس.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) تلك : مبتدأ ، و : حدود خبر ، و : يبينها يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي مبينة ، والعامل فيها اسم الإشارة ، وذو الحال : حدود الله ، كقوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) (١) و : لقوم ، متعلق : بيبينها ، و : تلك ، إشارة إلى ما تقدم من الأحكام ، وقرىء : نبينها ، بالنون على طريق الالتفات ، وهي قراءة تروى عن عاصم.

ومعنى التبين هنا : الإيضاح ، وخصّ المبين لهم بالعلم تشريفا لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بما بين الله تعالى من نصب دليل على ذلك من قول أو فعل ، وإن كان التبين بمعنى خلق البيان ، فلا بد من تخصيص المبين لهم الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لا يخلق في قلبه التبيين.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نهي الله عباده عن ابتذال اسمه تعالى ، وجعله كثير الترداد ، وعلى ألسنتهم في أقسامهم على بر وتقوى وإصلاح ، فدل ذلك على أن مبالغة النهي عن ذلك في أقسامهم على ما ينافي البر والتقوى والصلاح بجهة الأحرى ، والأولى ، لأن الإكثار من اليمين بالله تعالى فيه عدم مبالاة واكتراث بالمقسم به ، إذ الأيمان معرضة لحنث الإنسان فيها كثيرا ، وقل أن يرى كثير الحلف إلّا كثير الحنث. ثم ختم هذه الآية بأنه تعالى سميع لأقوالهم ، عليم بنياتهم.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٥٢.

٤٨٣

ولما تقدم النهي عن ما ذكرناه ، سامحهم الله تعالى بأن ما كان يسبق على ألسنتهم على سبيل اللغو ، وعدم القصد لليمين ، لا يؤاخذون به ، وإنما يؤاخذ بما انطوى عليه الضمير ، وكسبه القلب بالتعهد ، ثم ختم هذه الآية بما يدل على المسامحة في لغو اليمين من صفة الغفران والحلم.

ولما تقدّم كثير من الأحكام مع النساء ذكر حكم الإيلاء مع النساء ، وهو : الحلف على الامتناع من وطئهنّ ، فجعل لذلك مدّة ، وهو أربعة أشهر أقصى ما تصبر المرأة عن زوجها غالبا ، ثم بعد انتظار هذه المدة وانقضائها إن فاء فإن الله غفور لا يؤاخذه بل يسامحه في تلك اليمين ، وإن عزم الطلاق أوقعه.

ولما جرى ذكر الطلاق استطرد إلى ذكر جملة من أحكامه فذكر عدّة المطلقة وأنها : ثلاثة قروء ، ودل ذكر القرء على أن المراد بالمطلقات هنّ النساء اللواتي يحضن ويطهرن ، ولم يطلقن قبل المسيس ولا هنّ حوامل ، ودل على إرادة هذه المخصصات آيات أخر ، وذكر تعالى أنه لا يحل لهنّ كتمان ما خلق الله في أرحامهنّ ، فعم الدم والولد لأنهنّ كنّ يكتمن ذلك لأغراض لهنّ ، وعلق ذلك على الإيمان بالله وهو الخالق ما في أرحامهنّ ، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر وهو الوقت الذي يقع فيه الحساب ، والثواب والعقاب على ما يرتكبه الإنسان من تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرّم الله ، ومخالفته فيما شرع.

ثم ذكر تعالى أن أزواجهنّ الذين طلقوهنّ أحق بردّهنّ في مدّة العدّة ، وشرط في الأحقية إرادة إصلاح الأزواج ، فدل على أنه إذا قصد برجعتها الضرر لا يكون أحق بالردّ ، ثم ذكر تعالى أن للزوجة حقوقا على الرجل ، مثل ما أن للرجل حقوقا على الزوجة ، فكل منهما مطلوب بإيفاء ما يجب عليه ، ثم ذكر أن للرّجل مزيد مزية ودرجة على المرأة ، فيكون حق الرجل أكثر ، وطواعية المرأة له ألزم ، ولم يبين الدرجة ما هي ، ويظهر أنها ما يؤلف من كثرة الطواعية ، والاهتبال بقدره ، والتعظيم له ، لأن قبله بالمعروف وهو الشيء الذي عرفه الناس في عوائدهم من كثرة تودّد المرأة لزوجها وامتثال ما يأمر به وختم هذه الآية بوصف العزة وهي : الغلبة ، والقهر ؛ و : الحكمة ، وهي وضع الشيء موضع ما يليق به ، وهما الوصفان اللذان يحتاج إليهما التكليف.

ثم ذكر تعالى أن الطلاق الذي يستحق فيه الزوج الرجعة في تلك العدّة ، هو مرتان طلقة بعد طلقة وبعد وقوع الطلقتين ، إمّا أن يردّها ويمسكها بمعروف ، أو يسرحها بإحسان ،

٤٨٤

ثم ذكر عقب هذا حكم الخلع ، لأن مشروعيته لا تكون إلّا قبل وجود الطلقة الثالثة ، وأمّا بعدها فلا ينبغي خلع ، فلذلك جاء بين الطلاق الذي له فيه رجعة ، وبين الطلاق الذي يبت العصمة ، وذكر من أحكامه أنه : لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة إلّا بشرط أن يخافا أن لا يقيما حدود الله ، ثم أكد ذلك بذكر الخوف أن لا يقيما حدود الله ، فجعل ذلك منهما معا ، فلو خاف أحدهما لم يجز الخلع ، هذا ظاهر الآية.

ثم نهى تعالى عن تعدّي حدود الله وتجاوزها ، وأخبر أن من تعدّاها ظالم ، قال تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها) يعني : ثلاثة ، والمعنى ، ان أوقع التسريح المردد فيه في قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فهي لا تحل له إلّا بعد نكاح زوج غيره ، فإن طلقها الزوج الثاني ، وأراد الأوّل أن يراجعها فله ذلك لكنه شرط في هذا التراجع ظنهما إقامة حدود الله ، فمن لم يظنا ذلك لم يجز لهما أن يتراجعا ، هذا ظاهر اللفظ.

ثم ذكر تعالى أنه يوضح آياته لقوم متصفين بالعلم ، أما من لا يعلم فهو أعمى لا يبصر شيئا من الآيات ، ولا يتضح له : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١).

وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٩.

٤٨٥

بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)

بلغ : يبلغ بلوغا ، وصل إلى الشيء ، قال الشاعر :

ومجر كغلّان الأنيعم بالغ

ديارا لعدو ذي زهاء وأركان

والبلغة منه ، والبلاغ الأصل ، يقع على المدة كلها وعلى آخرها.

يقال لعمر الإنسان : أجل : وللموت الذي ينتهي : أجل ، وكذلك الغاية والأمد.

العضل : المنع ، عضل أيّمه منعها من الزوج يعضلها بكسر الضاد وضمها ، قال ابن هرمة :

وإن فضاء يدي لك فاصطنعني

كرائم قد عضلن عن النكاح

ويقال : دجاج معضل إذا احتبس بيضها ، قاله الخليل ، وقال :

ونحن عضلنا بالرماح نساءنا

وما فيكم عن حرمة الله عاضل

ويقال : أصله الضيق ، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها ، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم ؛ قال أوس :

ترى الأرض منا بالفضاء مريضة

معضلة منا بجيش عرمرم

وأعضل الداء الأطباء أعياهم ، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق ، قالت ليلى الأخيلية :

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها

وأعضل الأمر اشتدّ وضاق ، وكل مشكل عند العرب معضل ، وقال الشافعي رحمة الله عليه :

إذا المعضلات تصدينني

كشفت حقائقها بالنظر

الرضع : مص الثدي لشرب اللبن ، يقال منه : رضع يرضع رضعا ورضاعا ورضاعة ، وأرضعته أمّه ويقال ، للئيم : راضع وذلك لشدّة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب ، فيطلب منه اللبن ، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به.

٤٨٦

الحول : السنة وأحول الشيء صار له حول ؛ قال الشاعر :

من القاصرات الطرف لو دب محول

من الذرّ فوق الأتب منها لأثّرا

ويجمع على أحوال ، والحول الحيلة ، وحال الشيء انقلب وتحوّل انتقل ، ورجل حوّل كثير التقليب والتصرّف ، وقد تقدّم أن حول يكون ظرف مكان ، تقول : زيد حولك وحواليك وحوالك وأحوالك ، أي : فيما قرب منك من المكان.

الكسوة : اللباس يقال منه كسا يكسو ، وفعله يتعدى إلى اثنين تقول : كسوت زيدا ثوبا ، وقد جاء متعديا إلى واحد ، قال الشاعر :

واركب في الروع خيفانة

كسا وجهها سعف منتشر

ضمنه معنى غطاء ، فتعدى إلى واحد ، ويقال : كسا الرجل فهو كاس ، قال الشاعر :

وأن يعرين إن كسي الجواري

وقال :

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

التكليف : الإلزام وأصله من الكلف ، وهو الأثر على الوجه من السواد ، فلان كلف بكذا أي معرى به ، وقال الشاعر :

يهدى بها كلف الخدين مختبر

من الجمال كثير اللحم عيثوم

الوارث : معروف يقال منه : ورث يرث بكسر الراء ، وقياسها في المضارع الفتح ، ويقال : أرث وورث ، ويقال : الإرث كما يقال ألده في ولده ، والأصل الواو.

الفصال : مصدر فصل فصلا وفصالا ، وجمع فصيل ، وهو المفطوم عن ثدي أمه ، وفصل بين الخصمين فرق فانفصلا ، وفصلت العير خرجت ، والمعنى فارقت مكانها ، وفصيلة الرجل أقرب الناس إليه ، والفصيلة قطعة من لحم الفخذ ، والتفصيل بمعنى بالتبيين ، (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) (١) وتفصيل كل شيء تبيينه ، وهو راجع لمعنى تفريق حكم من حكم ، فيحصل به التبيين ، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد.

التشاور : في اللغة هو استخراج الرأي ، من قولهم : شرت العسل أشوره إذا اجتنيته ، والشورة والمشورة ، وبضم العين وتنقل الحركة ، كالمعونة قال حاتم :

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٣.

٤٨٧

وليس على ناري حجاب أكفها

لمقتبس ليلا ولكن أشيرها

وقال أبو زيد : شرت الدابة وشورتها أجريتها لاستخراج جريها ، وكان مدار الكلمة على الإظهار ، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر ، ومنه الشوار ، وهو متاع البيت لظهوره للناظر ، وشارة الرجل هيئته لأنها تظهر من زيه ، وتبتدئ من زينته ، وأورد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال : والإشارة هي إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وغيره. انتهى. فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من حيث المعنى فصحيح ، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح ، وقد جرت هذه المسألة بين الأمير ابن الأغلب متولي إفريقية وبعض العلماء من أهل بلده ، كيف يقال إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه؟ وبنوا من الإشارة تفاعلنا ، فقال ابن الأغلب : تشاورنا ، وقال ذلك العالم تشايرنا ، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي ، وكان قد أقدمه ابن الأغلب من العراق إلى افريقية لتعليم أولاده ، فقال له : كيف تبني من الإشارة : تفاعلنا؟ فقال : تشايرنا. وأنشد للعرب بيتا شاهدا على ذلك عجزه.

فيا حبذا يا عز ذاك التشاير

فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء ، والمادة الأخرى من ذوات الواو.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) نزلت في ثابت بن بشار ، ويقال أسنان الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدّتها يومان أو ثلاثة ، وكادت أن تبين راجعها ، ثم طلقها ثم راجعها ، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارّة لها ، ولم يكن الطلاق يومئذ محصورا.

والخطاب في : طلقتم ظاهره أنه للأزواج ، وقيل : لثابت بن يسار ، خوطب الواحد بلفظ الجمع للاشتراك في الحكم وأبعد من قال : إن الخطاب للأولياء لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ونسبة الطلاق والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جدا.

فبلغن أي : قاربن انقضاء العدة والأجل ، هو الذي ضربه الله للمعتدّات من الأقراء ، والأشهر ، ووضع الحمل. وأضاف الأجل إليهن لأنه أمس بهنّ ، ولهذا قيل : الطلاق للرجال والعدة للنساء ، ولا يحمل : بلغن أجلهنّ على الحقيقة ، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له ، لأنها ليست بزوجة ، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها.

٤٨٨

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي راجعوهنّ قبل انقضاء العدّة ، وفسر المعروف بالإشهاد على الرجعة ، وقيل : بما يجب لها من حق عليه ، قاله بعض العلماء ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن المسيب ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ويحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، قالوا : الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها ، فإن لم يجد طلقها ، فإذا لم يفعل خرج عن حدّ المعروف ، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها ، حتى قال ابن المسيب : إن ذلك سنة.

وفي (صحيح) البخاري : تقول المرأة إما أن تطعمني ، وإما أن تطلقني! وقال عطاء ، والزهري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يفرق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم.

والقائلون بالفرقة اختلفوا ، فقال مالك : هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد ، ولا كانت بعوض ، ولا لضرر بالزوج ، فكانت رجعية كضرر المولي. وقال الشافعي : هي طلقة بائنة ، وقيل : بالمعروف من غير طلب ضرار بالمراجعة.

(أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : خلوهنّ حتى تنقضي عدتها ، وتبين من غير ضرار ، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه ، إذ بانقضاء العدّة حصلت البينونة.

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) هذا كالتوكيد لقوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) نهاهم أن لا يكون الإمساك ضرارا ، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يحصل بإمساكها مرة بمعروف ، هذا مدلول الأمر ، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات وعمها ، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل الضرار ، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة بخصوصها ، تعظيما لهذا المرتكب السيء الذي هو أعظم إيذاء النساء ، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر.

ومعنى : ضرارا ، مضارة وهو مصدر ضار ضرارا ومضارّة ، وفسر بتطويل العدّة ، وسوء العشرة ، وبتضييق النفقة ، وهو أعم من هذا كله ، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه.

٤٨٩

وانتصب : ضرارا ، على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي : مضارين لتعتدوا ، أي : لتظلموهن ، وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء.

واللام : لام كي ، فإن كان ضرارا حالا تعلقت اللام به ، أو : بلا تمسكوهن ، وإن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام به ، وكان علة للعلة ، تقول : ضربت ابني تأديبا لينتفع ، ولا يجوز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلّا بالعطف ، أو على البدل ، ولا يمكن هنا البدل لاجل اختلاف الإعراب ، ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة ، وهما مختلفان.

قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ذلك إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار والعدوان ، وظلم النفس بتعويضها العذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح.

(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «من طلق أو حرّر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جدّ». وقال الزمخشري : أي جدّوا في الأخذ بها ، والعمل بما فيها ، وارعوها حق رعايتها وإلّا فقد اتخذتموها هزوا ولعبا ، ويقال لمن لم يجدّ في الأمر إنما أنت لاعب وهازىء. انتهى كلامه.

وقال معناه جماعة من المفسرين ، وقال ابن عطية ، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي ، وخصها الكلبي بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَ).

وقال الحسن : نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازلا ، أو راجع كذلك ، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح ، وأمر الحيض والإيلاء ، والطلاق والعدة ، والرجعة والخلع ، وترك المعاهدة ، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته ، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج ، وله عليها ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن ، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق

٤٩٠

على الزوج ، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الاحكام ، وحدّ حدودا لا تتعدى ، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدّ ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله ، التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء ، هزؤا ، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد ، لأنها من أحكام الله ، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه ، وبين العبد والناس.

وانتصب : هزؤا ، على أنه مفعول ثان : لتتخذوا ، وتقول : هزأ به هزؤا استخف.

وقرأ حمزة : هزأ ، بإسكان الزاي ، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز ، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوها تذكر في علم القراآت ، وهو من تخفيف فعل : كعنق ، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل.

وقرأ هزوا بضم الزاي وابدال من الهمزة واوا ، وذلك لأجل الضم.

وقرأ الجمهور : هزؤا بضمتين والهمز ، قيل : وهو الأصل ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : (أتتخذنا هزؤا) (١).

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) هذا أمر معطوف على أمر في المعنى ، وهو : ولا تتخذوا آيات الله هزوا ، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة ، ولكنها بني عليها المصدر ، ويريد : النعم الظاهرة والباطنة ، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد عليه الصلاة والسلام.

و : ما أنزل عليكم ، معطوف على نعمة ، وهو تخصيص بعد تعميم ، إذ ما أنزل هو من النعمة ، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد ، كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٢) بعد ذكر الملائكة ، وتقدم القول فيه ، وأتى : بعليكم ، تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم ، إذ في الحقيقة ما أنزل إلّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه ، ومكلفين باتباعه ، صار كأنه نزل علينا.

و : الكتاب ، القرآن ، و : الحكمة ، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن ، والمبينة ما فيه من الإجمال. ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ٣.

٤٩١

وقيل : وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد ، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه ، فلا اجتهاد ، وذكر : النعم ، لا يراد به سردها على اللسان ، وإنما المراد بالذكر الشكر عليها ، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها ، فعبر بالسبب عن المسبب ، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون : عليكم ، في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة عليكم ، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا ، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا ، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون : عليكم ، متعلقا بلفظ النعمة ، ويكون إذ ذاك مصدرا من : أنعم ، على غير قياس ، كنبات من أنبت.

وعليكم ، الثانية متعلقة بأنزل ، و : من ، في موضع الحال ، أي : كائنا من الكتاب ، ويكون حالا من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، إذ تقديره : وما أنزل عليكم. ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا ، كأنه قيل : وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة.

(يَعِظُكُمْ بِهِ) يذكركم به ، والضمير عائد على : ما ، من قوله : وما أنزل ، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في : أنزل ، والعامل فيها : أنزل ، وجوزوا في : ما ، من قوله : وما أنزل ، أن يكون مبتدأ. و : يعظكم ، جملة في موضع الخبر ، كأنه قيل : والمنزل الله من الكتاب والحكمة يعظكم به ، وعطفه على النعمة أظهر.

(وَاتَّقُوا اللهَ) لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي ، وذلك بسبب النساء اللاتي هنّ مظنة الإهمال وعدم الرعاية ، أمر الله تعالى بالتقوى ، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة ، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) والمعنى : بطلب العلم الديمومة عليه ، إذ هم عالمون بذلك ، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء ، فلا تلبسوا على أنفسكم. وكرر اسم الله في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) لكونه من جملتين ، فتكريره أفخم ، وترديده في النفوس أعظم.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) قال ابن عباس ، والزهري ، والضحاك ؛ نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح بغيره إذا طلقها ، وقيل : نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله ، طلقها زوجها ، وانقضت عدتها فاراد رجعتها ، فأتى جابر وقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها؟ وكانت المرأة تريد زوجها ، فنزلت. وقيل : في

٤٩٢

معقل بن يسار ، وأخته جمل ، وزوجها أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان ، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته ، ذكر معناه البخاري.

فعلى السبب الأوّل يكون المخاطبون هم الأزواج ، وعلى هذا السبب الأولياء ، وفيه بعد ، لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأولياء قد تسببوا في الطلاق حتى وقع ، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار ، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ) للأزواج وفي (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) للأولياء ، لتنافي التخاطب ، ولتنافر الشرط والجزاء ، فالأولى ، والذي يناسبه سياق الكلام ، أن الخطاب في الشرط والجزاء للأزواج ، لأن الخطاب من أوّل الآيات هو مع الأزواج ولم يجر للأولياء ذكر ، ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة النساء قبل انقضاء العدة ، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهنّ بعد انقضاء العدّة ، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل ، إذ كانوا يفعلون ذلك ظلما وقهرا وحمية الجاهلية ، لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج ، وعلى هذا يكون معنى : (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) أي : من يردن أن يتزوّجنه ، فسموا أزواجا باعتبار ما يؤولون إليه.

وعلى القول بأن الخطاب للأولياء يكون أزواجهن هم المطلقون ، سموا أزواجا باعتبار ما كانوا عليه ، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدّة أزواجا حقيقة.

وجهات العضل من الزوج متعددة : بأن يجحد الطلاق ، أو يدعي رجعة في العدة ، أو يتوعد من يتزوّجها ، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها ، فنهوا عن العضل مطلقا بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره.

وقال الزمخشري : والوجه أن يكون خطابا للناس ، أي : لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين ؛ وصدر بما يقارب هذا المعنى كلامه ابن عطية ، فقال : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الأزواج ، ومنهم الأولياء ، لأنهم المراد في تعضلوهنّ. انتهى كلامه. وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في : طلقتم ، للأزواج ، وفي : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء وقد بينا ما فيه من التنافر.

(أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال ، أو على أن أصله من أن ينكحن ، وينكحن مضارع نكح الثلاثي ، وفيه دلالة على أن للمرأة

٤٩٣

أن تنكح بغير ولي ، لأنه لو كان له حق لما نهى عنه ، فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق ، وظاهره العقد.

وظاهر الآية إذا كان الخطاب في : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء النهي عن مطلق العضل ، فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد ، وقال مالك : إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون بذلك عاضلا.

وقال أبو حنيفة : الثيب تزوّج نفسها وتستوفي المهر ولا اعتراض للوليّ عليها. وهو قول زفر ؛ وإن كان غير كفء جاز ، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما. وعلى جواز النكاح بغير وليّ : ابن سيرين ، والشعبي ، والزهري ، وقتادة. وقال أبو يوسف : إن سلم الولي نكاحها جاز وإلّا فلا ، إلّا إن كان كفؤا فيجيزه القاضي إن أبى الولي أن يسلم ، وهو قول محمد. وروي عن أبي يوسف غير هذا.

وقال الأوزاعي : إذا ولت أمرها رجلا ، وكان الزوج كفؤا ، فالنكاح جائز ، وليس للولي أن يفرّق بينهما. وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والثوري ، والحسن بن صالح : لا يجوز النكاح إلّا بولي ، وهو مذهب الشافعي. وقال الليث : تزوّج نفسها بغير ولي. وقال ابن القاسم ، عن مالك : إذا كانت معتقة ، أو مسكينة ، أو دنيئة ، فلا بأس أن تستخلف رجلا يزوّجها ، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول ، وعنه خلاف بعد الدخول ، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوّجها إلّا الولي أو السلطان ، وحجج هذه المذاهب في كتب الفقه.

(إِذا تَراضَوْا) : الضمير عائد على الخطاب والنساء ، وغلب المذكر ، فجاء الضمير بالواو ، ومن جعل للأولياء ذكرا في الآية قالوا : احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج.

والعامل في : إذا ، ينكحن.

(بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الضمير في : بينهم ، ظرف مجازي ناصبه : تراضوا ، بالمعروف : ظاهره أنه متعلق بتراضوا ، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط ، وقيل : مهر المثل ، وقيل : المهر والإشهاد. ويجوز أن يتعلق : بالمعروف ، بينكحن ، لا : بتراضوا ، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي ، بل هو من الفصل الفصيح ، لأنه فصل بمعمول الفعل ، وهو قوله : (إِذا تَراضَوْا) فإذا منصوب بقوله : (أَنْ يَنْكِحْنَ) و : بالمعروف ، متعلق به ، فكلاهما معمول للفعل.

٤٩٤

(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ذلك خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لكل سامع ، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال : منكم ، وقيل : ذلك بمعنى : ذلكم ، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل ، و : ذلك ، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب ، وهو : هذا ، وان كان الحكم قريبا ذكره في الآية ، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء ، ومعنى : يوعظ به أي يذكر به ، ويخوّف. و : منكم ، متعلق بكان ، أو بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في : يؤمن ، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده ، الناهي لهم ، والآمر. و : اليوم الآخر ، لأنه هو الذي يحصل به التخويف ، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي. وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلّا المؤمن ، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (١) وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى ، (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

(ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي : التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب ، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من الريبة إذا منعا من النكاح ، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال.

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي : يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كل منهما للآخر ، لذلك نهى تعالى عن العضل ، قال معناه ابن عباس ؛ أو : يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب. أو : يعلم بواطن الأمور ومآلها. وأنتم لا تعلمون ذلك ، إنما تعلمون ما ظهر. أو : يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها. ويكون المقصود بذلك : تقرير الوعد والوعيد.

قيل : وتضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة ، والبلاغة ، من علم البيان.

الأول : الطباق ، وهو الطلاق والإمساك ، فإنهما ضدان ، والتسريح طباق ثان لأنه ضد الإمساك ، والعلم وعدم العلم ، لأن عدم العلم هو الجهل.

الثاني : المقابلة في (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) و (لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) قابل المعروف بالضرار ، والضرار منكر فهذه مقابلة معنوية.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٦.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ١٩ والزمر : ٣٩ / ٩.

٤٩٥

الثالث : التكرار في : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) كرر اللفظ لتغيير المعنيين ، وهو غاية الفصاحة ، إذ اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين.

الرابع : الالتفات في (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ثم التفت إلى الأولياء فقال : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) وفي الآية ، في قوله : ذلك ، إذ كان خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم التفت إلى الجمع في قوله : منكم.

الخامس : التقديم والتأخير ، التقدير ، أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا.

السادس : مخاطبة الواحد بلفظ الجمع ، لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار ، أو في أخت جابر ، وقيل ابنته.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى ، لما ذكر جملة في : النكاح ، والطلاق ، والعدّة ، والرجعة ، والعضل ، أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح ، وهو ما شرع من حكم : الإرضاع ومدّته ، وحكم الكسوة ، والنفقة ، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن شاء الله (وَالْوالِداتُ) جمع والدة بالتاء ، وكان القياس أن يقال : والد ، لكن قد أطلق على الأب والد ، ولذلك قيل فيه وفي الأم الوالدان فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد ، فأطلق عليهما : والدان.

وظاهر لفظ : الوالدات ، العموم ، فيدخل فيه الزوجات والمطلقات.

وقال الضحاك ، والسدي ، وغيرهما : في المطلقات ، جعلها الله حدّا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، ورجح هذا القول لأن قوله : والوالدات ، عقيب آية الطلاق ، فكانت من تتمتها ، فشرع ذلك لهنّ ، لأن الطلاق يحصل فيه التباغض ، فربما حمل على أذى الولد ، لأن بايذائه إيذاء والده ، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد.

وقيل : هي في الزوجات فقط ، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة.

(يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبرا ، أي : في حكم الله تعالى الذي شرعه ، فالوالدات أحق برضاع أولادهنّ ، سواء كانت في حيالة الزوج أو لم تكن ، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية.

٤٩٦

ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (١) لكنه أمر تدب لا إيجاب ، إذ لو كان واجبا لما استحق الأجرة. وقال تعالى : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٢) فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلّا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ، ولا تجبر عليه ، فإذا لم يقبل ثديها ، أو لم يوجد له ظئرا ، وعجز الأب عن الاستئجار وجب عليها إرضاعه ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات.

ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلّا الوالد أو الجد ، وإن علا. ومذهب مالك : أنه حق على الزوجة لأنه كالشرط ، إلّا أن تكون شريفة ذات نسب ، فعرفها أن لا ترضع.

وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وصف الحولين بالكمال دفعا للمجاز الذي يحتمله حولين ، إذ يقال : أقمت عند فلان حولين ، وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد كقوله (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٣) وجعل تعالى هذه المدة حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له.

وظاهر قوله : أولادهن ، العموم ، فالحولان لكل ولد ، وهو قول الجمهور.

وروي عن ابن عباس أنه قال : هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون ، أو : ثمانية ، فإثنان وعشرون ، أو : تسعة ، فأحد وعشرون ، وكان هذا القول انبنى على قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٤) لأن ذلك حكم على الإنسان عموما.

وفي قوله : يرضعن ، دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد ، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن ، منها : مدة الرضاع المحرمة ، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم ، والحضانة ومن أحق بها بعد الأم؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم؟ وهل للذمية حق في الرضاعة؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل ، وموضوع هذا علم الفقه.

(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

(٢) سورة الطلاق : ٦٥ / ٦.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٩٦.

(٤) سورة الأحقان : ٤٦ / ١٥.

٤٩٧

لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن قتادة أنه قال : تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) قال ابن عطية : وهذا قول متداع.

قال الراغب : وفي قوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) تنبيه على أنه لا يجوز تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لا رضاع بعد الحولين ، والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوما وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين ، وهو النقصان ، لم تجز مجاوزته. انتهى كلامه.

وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين ، وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك.

واللام في : لمن ، قيل : متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، وتكون اللام على هذا للتعليل أي : لاجله ، فتكون : من واقعة على الأب ، كأنه قيل : لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم : سقيا لك. وفي قوله تعالى : (هَيْتَ لَكَ) (٥) فاللام لتبيين المدعو له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) بين أن هذا الحكم إنما هو : لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات ، فتكون : من ، واقعة على الأم ، كأنه قيل : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) من الوالدات. أو تكون ، من ، واقعة على الوالدات والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ.

وقرأ الجمهور : أن يتم الرضاعة بالياء من : أتم ، ونصب الرضاعة. وقرأ مجاهد ، والحسن ، وحميد ، وابن محيصن ، وأبو رجاء : تتم ، بالتاء من تم ، ورفع الرضاعة. وقرأ أبو حنيفة ، وابن أبي عبلة ، والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلّا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة : كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروي عن مجاهد أنه قرأ : الرضعة ، على وزن القصعة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ : أن يكمل الرضاعة ، بضم الياء ، وقرىء : أن يتم ، برفع

__________________

(٥) سورة يوسف : ١٢ / ٢٣.

٤٩٨

الميم ، ونسبها النحويون إلى مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر. أنشد الفراء رحمه‌الله تعالى :

أن تهبطين بلاد قو

م يرتعون من الطلاح

وقال الآخر :

أن تقرءان على أسماء ، ويحكما

مني السلام ، وأن لا تبلغا أحدا

وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك أعمالها حملا على : ما ، أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير :

ترضى عن الله أن الناس قد علموا

أن لا يدانينا من خلقه بشر

والذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع : أن ، مخصوص بضرورة الشعر ، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلّا في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد ، وما سبيله هذا ، لا تبنى عليه قاعدة.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) المولود جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و : أل ، كمن ، و : ما ، يعود الضمير على اللفظ مفردا مذكرا ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له. ويجوز في العربية أن يعود على المعنى ، فكان يكون : لهم ، إلّا أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل ، وهو : الوالدات ، و : المفعول به وهو : الأولاد ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف نحو : مرّ بزيد.

وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلّا فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من أحد ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم.

واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من؟ زيد يقوم. في موضع رفع ، وذهب الكسائي

٤٩٩

وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي البصريين ، والنظر في الدلائل هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في عالم النحو.

وقد وهم بعض كبرائنا ، فذكر في كتابه المسمى ب (الشرح لجمل الزجاجي) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلّا السهيلي ، فإنه منع ذلك ، وليس كما ذكر ، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء ، والكسائي ، وهشام. والتفصيل في المجرور. وممن تبع السهيلي على قوله : تلميذه أبو علي الزيدي شارح (الجمل).

و : المولود له ، هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ : المولود له ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ، إذ اللام في : له ، معناها شبه التمليك كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) (١) وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعا لأبيه ، ممتثلا ما أمر به ، منفذا ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل ، قال :

فإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللابناء آباء

فلما كان لفظ : المولود ، مشعرا بالمنحة وشبه التمليك ، أتى به دون لفظ : الوالد ، ولفظ : الأب ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الأب ، كما قال تعالى : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) (٢) وقال : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) (٣).

ولطيفة أخرى في قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق ، والكسوة لمرضعته.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٧٢.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ٣٣.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٥.

٥٠٠