البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء. وقرأ الجمهور بالتحقيق : وهذه أن واجبة الإظهار هنا ، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية ، لأن في ذلك قلقا في اللفظ ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع ، فإذا أثبتوها ، فهو الأصل ، وهو الأقل في كلامهم ، وإذا حذفوها ، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة ، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.

(لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) : أي احتجاج. والناس : قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم. وقيل : اليهود ، وحجتهم قولهم : يخالفنا محمد في قبلتنا ، وقد كان يتبعها ، أو لم ينصرف عن بيت المقدس ، مع علمه بأنه حق إلا برأيه ، ويزعم أنه أمر به ، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. وقيل : مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : قد رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة. وقيل : الناس عام ، والمعنى : أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة ، وهي قولهم : يوافق اليهود مع قوله : إني حنيف أتبع ملة إبراهيم ، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين ، أو قالوا : ما لك تركت بيت المقدس؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه ، أو قولهم : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ، أو قولهم في التوراة : إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم ، فحوله الله ، لئلا يقولوا : نجده في التوراة يتحول فما تحول ، فيكون لهم ذلك حجة ، فأذهب الله حجتهم بذلك. واللام في لئلا لام الجر ، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر ، أي لانتفاء الحجة عليكم. وتتعلق هذه اللام ، قيل : بمحذوف ، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة في ذلك لئلا يكون. وقيل : تتعلق بولوا ، والقراءة بالياء ، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي ، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين ، فسهل التذكير جدا ، وخبر كان قوله : للناس ، وعليكم : في موضع نصب على الحال ، وهو في الأصل صفة للحجة ، فلما تقدم عليها انتصب على الحال ، والعامل فيها محذوف ، ولا جائز أن يتعلق بحجة ، لأنه في معنى الاحتجاج ، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل لا يتقدم على عامله. وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة ، هكذا نقلوا ، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر ، وللناس متعلق بلفظ يكون ، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، قرأ الجمهور : إلا جعلوها أداة استثناء ، وقرأ ابن عامر

٤١

وزيد بن علي وابن زيد : ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا ، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب الذين ظلموا مبتدأ ، والجملة من قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) في موضع الخبر ، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط ، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل. المعنى : كأنه قيل : من يظلم من الناس ، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم. واخشوني : فلا تخالفوا أمري ، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا ، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، أي لا تخشوا الذين ظلموا ، لا تخشوهم ، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصبا بفعل مقدر على الإغراء. ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين ، جعلها حرف جر ، وتأوّلها بمعنى مع. وأما على قراءة الجمهور ، فالاستثناء متصل ، قاله ابن عباس وغيره ، واختاره الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانا حسنا ، كان أولى من غيره. قال الزمخشري : ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من اليهود ، إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت : كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم ، كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، انتهى كلامه. وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن ، أو من يهودي ، أو من منافق. وسماها تعالى : حجة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة. انتهى كلامه. وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء. وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة ، يضعونها موضع الحجة ، وليست بحجة. ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول ، فهو استثناء منقطع ، وإن كان الثاني ، فهو استثناء متصل. قال الزجاج : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك عليّ حجة إلا

٤٢

الظلم ، أو إلا أن تظلمني ، أي ما لك حجة البتة ، ولكنك تظلمني. وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلا من ضمير الخطاب في عليكم ، ويكون التقدير : لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون ، بتولية وجوهكم إلى القبلة. ونقل السجاوندي أن قطربا قرأ : إلا على الذين ظلموا ، وهو بدل أيضا على إظهار حرف الجر ، كقوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (١) ، وهذا ضعيف ، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، ولا يجوز ذلك إلا على مذهب الأخفش. وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو ، وجعل من ذلك قوله :

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا

وقوله :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

التقدير : عنده والذين ظلموا ، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو ، لا يقوم عليه دليل ، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وقال الزجاج : هذا خطأ عند حذاق النحويين ، وأضعف من هذا زعم من زعم أن إلا بمعنى بعد ، أي بعد الذين ظلموا ، وجعل من ذلك (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٢) ، أي بعد ما قد سلف ، و (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٣) ، أي بعد الموتة الأولى ، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين ، ما ذكرتهما لضعفهما. (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) : هذا فيه تحقير لشأنهم ، وأمر باطراحهم ، ومراعاة لأمره تعالى. وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس ، أي فلا تخشوا الناس ، وأن يعود على الذين ظلموا ، أي فلا تخشوا الظالمين. ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل ، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر. وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام. وقيل : المعنى فلا تخشوهم في المباينة ، واخشوني في المخالفة ، ومعناه قريب من الأول. وقد ذكرنا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة ابن عباس بقريب من هذا. وقال السدي : معناه لا تخشوا أن

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٢ و ٢٣.

(٣) سورة الدخان : ٤٤ / ٥٦.

٤٣

أردّكم في دينكم واخشوني ، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله : فلا تخشوهم. قال بعضهم : ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف ، لأن الخشية حذر من أمر قد وقع ، والخوف حذر من أمر لم يقع. والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان ، وقال تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) (١) ، كما قال هنا : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي).

(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) : الظاهر أنه معطوف على قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ) ، وكان المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معللا بهاتين العلتين ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل ، إذ هو من متعلق العلة الأولى. وقيل : هو معطوف على علة محذوفة ، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة ، كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم. وقيل : تتعلق اللام بفعل مؤخر ، التقدير : ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، ومن زعم أن الواو زائدة ، فقوله ضعيف. وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة ، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة ، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة ، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم ، أو بإدخالهم الجنة ، أو بالموت على الإسلام ، أو النعمة سنة الإسلام ، والقرآن ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والستر ، والعافية ، والغنى عن الناس ؛ أو بشرائع الملة الحنيفية ، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال ، لا مصدر التعيين ، وكل فيها نعمة. (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢) ، في أول البقرة ، وهو أول مواقعها فيه. والمعنى : لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة ، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم ، والظاهر رجاء الهداية مطلقا.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ) : الكاف هنا للتشبيه ، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف. واختلف في تقديره ، فقيل التقدير : ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام إرسال الرسول فيكم. ومتعلق الإتمامين مختلف ، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة ، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا. أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣) ، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) (٤) ، وقيل : التقدير : ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٨.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.

٤٤

فيكم رسولا ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتا متحققا ، كتحقق إرسالنا فيكم رسولا ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتا متحققا ، كتحقق إرسالنا وثبوته. وقيل : متعلق بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، أي جعلا مثل ما أرسلنا ، وهو قول أبي مسلم ، وهذا بعيد جدّا ، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع. وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي ، أي : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) مشبهة إرسالنا فيكم رسولا ، أي مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف. وقيل : الكاف منقطعة من الكلام قبلها ، ومتعلقة بالكلام بعدها ، والتقدير : قال الزمخشري : كما ذكرتكم بإرسال الرسول ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف ، أي اذكروني ذكرا مثل ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فائته بكرمك ، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم ، والمعنى : أنكم كنتم على حالة لا تقرءون كتابا ، ولا تعرفون رسولا ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل منكم ، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال : «كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا ، فاذكروني بالشكر ، أذكركم برحمتي» ، ويؤكده : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١). ويحتمل على هذا الوجه ، بل يظهر ، وهو إذا علقت بما بعدها أن ، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل ، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (٢) ، وقول الشاعر :

لا تشتم الناس كما لا تشتم

أي : واذكروه لهدايته إياكم ، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم ، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك. وما : في كما ، مصدرية ، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، ورسولا بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولا ، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله ، ومع الكلام الذي بعده ، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة ، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر ، لولايتها الجمل الاسمية ، نحو قول الشاعر :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٨.

٤٥

لعمرك إنني وأبا حميد

كما النشوان والرجل الحليم

وقول من قال إن : كما أرسلنا ، متعلق بما بعده ، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب ، قال : لأن الأمر إذا كان له جواب ، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، قال : لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك ، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني ، لأن له جوابا ، ولكن تتعلق بشيء آخر ، أو بمضمر ، وكذلك : فاذكروني أذكركم ، هو أمر له جواب ، فلا تتعلق كما به ، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين ، وهو قولك : إذا أتاك فلان فائته ترضه ، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر. وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني ، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني ، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها ، وهو : (لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولا منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن ، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء ، لأن الكاف ، إما أن تكون للتشبيه ، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه ، فتكون نعتا لمصدر محذوف ، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني إكراما مثل إكرامي السابق لك أكرمك ، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل ، فيجوز أيضا تقدم ذلك على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني لإكرامي لك أكرمك ، لا نعلم خلافا في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما ، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته ، كما وفاذكروني جوابين للأمر ، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب ، ولأن ذلك التشبيه فاسد ، لأن المصدر لا يشبه الجواب ، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي ، فهو وصف في الفعل المأمور به ، فليس مترتبا على وقوع مطلق الفعل ، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب ، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل ، فكذلك أيضا ليس مترتبا على وقوع الفعل ، بل الفعل مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب ، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب عليها وجود الفعل ، فلا تشبيه بينهما ، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : فاذكروني ، هو الفاء ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، ولولا الفاء لكان التعلق واضحا ، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها ، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.

٤٦

وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها ، وجعل ذلك إتماما للنعمة في الحالين ، لأن استقبال الكعبة ثانيا أمر لا يزداد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة. كما أن إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين. فشبه إتمام تلك النعمة ، التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل. وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الذي يحجونه قديما وحديثا ويعظمونه.

(رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة. وكذلك جاء (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) (١) ، ويشعر هذا الامتنان بأنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك أفرده فقال : (رَسُولاً مِنْهُمْ) (٢) ، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتاليا عليهم آيات الله ، ومزكيا لهم ، ومعلما لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون. وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصا ونسبا ومولدا ومنشأ ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله. وأتى ثانيا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد. وأضاف الآيات إليه تعالى ، لأنها كلامه سبحانه وتعالى ، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم. وأتى ثالثا بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق. وأتى رابعا بصفة تعليم الكتاب والحكمة ، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية. وأتى بهذه الصفات فعلا مضارعا ليدل بذلك على التجدد ، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائما. وأما الصفة الأولى ، وهي كونه منهم ، فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له. وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) (٣) بأشبع من هذا ، فلينظر هناك.

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.

٤٧

وختم هذا بقوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ، وهو ذكر عام بعد خاص ، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة. وفسر بعضهم ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون : قصص من سلف ، وقصص ما يأتي من الغيوب. وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية ، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية. فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر ، كما شرحناه ، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها. (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) : أي اذكروني بالطاعة ، أذكركم بالثواب والمغفرة ، قاله ابن جبير ، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه ، قاله الربيع والسدي. وقال عكرمة : يقول الله يا ابن آدم أذكرني بعد صلاة الصبح ساعة ، وبعد صلاة العصر ساعة ، وأنا أكفيك ما بينهما ، أو اثنوا عليّ ، أثن عليكم. وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر». وفيه : ما يقول عبادي؟ قالوا : «يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك». وقيل : هو على حذف مضاف ، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة. وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ). وقيل : الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي. وقيل : اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. وقيل : بما فرضت عليكم ، أو ندبتكم إليه ، أذكركم ، أي أجازكم على ذلك. وقد تقدم معنى هذا ، وهو قول سعيد ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. وقيل : فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء ، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء ، قاله ابن بحر. وقيل : اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال ، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة ، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي ، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات ، أو اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم ، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق ، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته ، قال : ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، أو اذكروني أذكركم ، أحبوني أحبكم ، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل ، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم ، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة ، أو اذكروني بتصفية السر أذكركم بتوفية البر ، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم ، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة ، أو اذكروني بالرهبة أذكركم بالرغبة. وقال

٤٨

القشيري : فاذكروني أذكركم ، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر ، فيقال : قد كان فلان. قال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) (١). وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثا حسنا لمن وعى ، قال الشاعر :

إنما الدنيا محاسنها

طيب ما يبقى من الخبر

وفي المنتخب ما ملخصه : الذكر يكون باللسان ، وهو : الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتب الله ؛ وبالقلب ، وهو : الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف ، والأحكام ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والفكر في الصفات الإلهية ، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس ، فإذا نظر العبد إليها ، انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وبالجوارح ، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها ، خالية عن الأعمال المنهي عنها. وعلى هذا الوجه ، سمى الله الصلاة ذكرا بقوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢). انتهى. وقالوا : الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له ، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك. ولما كثر إطلاقه عليه ، صار هو السابق إلى الفهم. فالذكر باللسان سريّ وجهريّ ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل ، وبهما أيضا دائم ومتحلل. فباللسان ذكر عامّة المؤمنين ، وهو أدنى مراتب الذكر ، وقد سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذكرا». خرج ابن ماجة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله» ، وخرج أيضا قال : «يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه». وسئل أبو عثمان ، فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته ، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين ، وقد سماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرا ، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور : قال الشاعر :

سواك ببالي لا يخطر

إذا ما نسيتك من أذكر

وبهما : هو ذكر خواص المؤمنين ، وهذه ثلاث المقامات ، أدومها أفضلها. انتهى.

وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة ، وتركنا أشياء مما ذكره الناس ، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران ، لا يدل اللفظ على شيء منها ، وينبغي أن يحمل ذلك

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ١٦.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٩.

٤٩

من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد. وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر ، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني. والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفردا من غير إسناد ، بل لا بد من إسناد ، وأولاها الأذكار المروية في الآثار ، والمشار إليها في القرآن. وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها ، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل. وتلك الأذكار تتضمن : الثناء على الله ، والحمد له ، والمدح لجلاله ، والتماس الخير من عنده. فعبر عن ذلك بالذكر ، وأمر العبد به ، فكأنه قيل : عظموا الله ، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك. وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكرا ، فقال : فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة ، لما كان نتيجة الذكر وناشئا عنه سماه ذكرا. (وَاشْكُرُوا لِي) تقدّم تفسير الشكر ، وعداه هنا باللام ، وكذلك (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (١) ، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر ، وتارة تتعدّى بنفسها ، كما قال عمرو بن لجاء التميمي :

هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم

فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل

وفي إثبات هذا النوع من الفعل ، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر ، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا : إذا قلت : شكرت لزيد ، فالتقدير : شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية : واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد ، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه : نعمتي وأيادي ، وكذلك إذا قلت : شكرتك ، فالمعنى : شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر : ذكر اليد وذكر مسديها معا ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، انتهى كلامه ، ويحتاج ، كونه يتعدى لواحد بنفسه ، وللآخر بحرف جر ، فتقول : شكرت لزيد صنيعه ، لسماع من العرب ، وحينئذ يصار إليه.

(وَلا تَكْفُرُونِ) : هو من كفر النعمة ، وهو على حذف مضاف ، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان ، لكان : ولا تكفروا ، أو ولا تكفروا بي. وهذه النون نون الوقاية ، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفا لتناسب الفواصل. قيل : المعنى واشكروا لي بالطاعة ، ولا تكفرون بالمعصية. وقيل : معنى الشكر هنا : الاعتراف بحق المنعم ، والثناء عليه ، ولذلك قابله بقوله : (وَلا تَكْفُرُونِ). وهنا ثلاث جمل : جملة الأمر بالذكر ،

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ١٤.

٥٠

وجملة الأمر بالشكر ، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولا بجملة الذكر ، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى ، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر ، لأنه ثناء على شيء خاص ، وقد اندرج تحت الأول ، فهو بمنزلة التوكيد ، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي ، لأنه لما أمر بالشكر ، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان ، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان ، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران ، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان ، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي ، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (١) ، فأغنى عن إعادته هنا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، قيل : سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا ، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف ، وهو الإيمان مجعولا فعلا ماضيا في صلة الذين ، دالا على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم ، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق ، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة ، وهو أمر قلبي ؛ والصلاة ثمرته ، وهي من أشق التكاليف لتكررها. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرا ، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا : بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة ، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال : هو كناية عن الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، وبعضهم قال : هو كناية عن الجهاد لقوله ، بعد : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ) ، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس له. وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

(إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) : أي بالمعونة والتأييد ، كما قال : اهجهم ، وروح القدس

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤١.

٥١

معك. وقال تعالى : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ، ومن كان الله معه فهو الغالب ، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر ، وصار الصبر أصلا لجميع التكاليف الشاقة قال : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل. وأما قوله هناك : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (١) ، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام ، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر.

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ، قيل : سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله : مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها ، فأنزلت. نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات ، وأخبر تعالى أنهم أحياء ، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم أموات ، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء ، مندرجا تحت قول مضمر ، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول ، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ، لأن معناه : أن حياتهم لا شعور لكم بها ، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة. وقيل : ذلك مجاز. واختلفوا فقيل : أموات بانقطاع الذكر ، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر. وكانت العرب تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد ، وغيره ميتا. وقيل : أموات بالضلال ، بل أحياء بالطاعة والهدى ، كما قال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٢). وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا ، فقال قوم : معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون ، فالمعنى : أنهم سيحيون بالبعث ، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة : بقاء أرواحهم دون أجسادهم ، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفناءها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر ، وبقوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) معناه : لا تشعرون بكيفية حياتهم. ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة ، أو أنهم على هدى ونور ، لم يظهر لنفي الشعور معنى ، إذ هو خطاب للمؤمنين ، وهم قد علموا بالبعث ، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه : ولكن لا تشعرون ، لأنهم قد شعروا به وبقوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) (٣).

وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح ، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره. فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء ، كما قال تعالى :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٠.

٥٢

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١) ، وكما ترى النائم على هيئة ، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به. ونقل السهيلي في كتاب (دلائل النبوّة) من تأليفه ، حكاية عن بعض الصحابة ، أنه حفر في مكان ، فانفتحت طاقة ، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامه روضة خضراء ، وذلك بأحد ، وعلم أنه من الشهداء ، لأنه رأى في صفحة وجهه جرحا. وإذا ثبت أن الشهداء أحياء ، إما أرواحهم ، وإما أجسادهم وأرواحهم ، فاختلف في مستقرها. فقيل : قبورهم يرزقون فيها. وقيل : في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها ، قاله أبو بشار السلمي. وقيل : في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى ، قاله قتادة. وقيل : يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها ، وليسوا فيها ، قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء». وروي : في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة ، وأنهم في قناديل من ذهب ، وأنهم في قبة خضراء». وإذا صح ذلك ، فهي أحوال لطوائف من الشهداء ، أو في أوقات مختلفة. والجمهور : على أنهم في الجنة ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم حارثة : «إنهم في الفردوس». ومذهب أهل السنة : أن الأرواح لا تفنى ، وأنها باقية بعد خروجها من البدن. فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين ، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدّين.

والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرّزق ، فضلهم الله بذلك ، وقال تعالى في حق الكفار : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٢). وقال الحسن : الشهداء أحياء عند الله ، تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشيا ، فيصل إليهم الوجع. وقالوا : يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم ، وإن كانت في حجم الذرة. ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرّها ، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد ، اتباعا للمفسرين ، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية ، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٣) ، حيث ذكر العندية والرزق ، وظاهر

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٤٦.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٩.

٥٣

قوله : (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، العموم. وقيل : نزلت في شهداء بدر ، كانوا أربعة عشر ، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب ، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء ، فهم مغبوطون لا محزونون عليهم.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب. قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء. خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطمينا لقلوبهم ، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجئ ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخبارا بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزا لمن أسلم مريدا وجه الله ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملا لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذا رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، مع ما ابتلوا به. وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاما أنه أجاب دعوة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات. وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، فيكون هذا الإخبار تحذيرا وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخبارا بالمغيبات. وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم.

وهذه الآية لها تعلق بقوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الآية ، وقبلها : (وَاشْكُرُوا لِي) ، والشكر يوجب زيادة النعم والابتلاء بما ذكر ، ينافيه ظاهرا ، وتوجيهه : أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ، وذلك يوجب الشكر. والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولا فشكر ، وابتلي ثانيا فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه. كما روي عنه عليه‌السلام : «الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر». بشيء متعلق بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروبا من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون من في موضع الصفة ، بخلاف

٥٤

قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص. والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا. والخوف : خوف العدو ، قاله ابن عباس ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب. وقال الشافعي : هو خوف الله تعالى. والجوع : القحط ، قاله ابن عباس ، عبر بالمسبب عن السبب. وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضا. وقال الشافعي : هو صيام شهر رمضان. ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك. وقال الشافعي : بالصدقات. والأنفس : بالقتل والموت. وقال الشافعي : بالأمراض ، وقيل : بالشيب. والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات. وقال القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : بظهور العدوّ عليهم. وقال الشافعي : والثمرات : موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه. وفي حديث أبي موسى ، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : أقبضتم ثمرة فؤاده؟.

وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدوّ ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدوّ لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد. انتهى كلامه. وعطف ونقص على قوله : بشيء ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفا على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص. ومن الأموال : متعلق بنقص ، لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات. وأتى بالجملة الخبرية مقسما عليها ، تأكيدا لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه. وأن هذه المحن من الله تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين. وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولا بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه. ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير

٥٥

الشافعي ، وهو صوم رمضان. ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعد ونقص ، فبدأ أولا بالأموال ، ثم ترقى إلى الأنفس. وأما والثمرات ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ، لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبرا محمودا شرعا ، فهو مندرج في الصابرين. قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني. وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع. فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة. وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أساميه باختلاف المكروه. ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع. وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر. وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر. وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتمانا ، ويضاده الإعلان. وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهدا ، ويضاده الحرص. وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره. وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبرا ، فقال : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) (١) ، أي المصيبة والضرّاء ، أي الفقر وحين البأس ، أي المحاربة. قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابرا ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلوانا.

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) : يجوز في الذين أن يكون منصوبا على النعت للصابرين ، وهو ظاهر الإعراب ، أو منصوبا على المدح ، فيكون مقطوعا ، أو مرفوعا على إضمارهم على وجهين : إما على القطع ، وإما على الاستئناف ، كأنه جواب لسؤال مقدر ، أي : من الصابرون؟ قيل : هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ ، وأولئك عليهم خبره ، وهو محتمل. مصيبة : اسم فاعل من أصابت ، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه ، وصارت كناية عن الداهية ، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. وأصابتهم مصيبة : من التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين اسما والأخرى فعلا ، ومنه :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٧.

٥٦

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (١) ، (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٢) والمصيبة : كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل ، صغرت أو كبرت ، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى : مصيبة. وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه. والمعنى في إذا هنا : على التكرار والعموم. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا ، أتدل على التكرار ، أم وضعت للمرّة الواحدة؟ قولان للنحويين.

(قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) : قالوا : جواب إذا ، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا : أصله إننا ، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل ، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية ، لأنها ظرف ، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت ، فقالوا : إن زيد لقائم ، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال ، فلذلك عملت ، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة ، لا نفصل الضمير وارتفع ولم تعمل ، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله : معناه الإقرار بالملك والعبودية لله ، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور.

(وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) : إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب ، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصبر له. وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال : أحدها : أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا. الثاني : أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه ، (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) يعني : للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء. الثالث : راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب. الرابع : أن معناه إقرار بالمملكة في قوله : (إِنَّا لِلَّهِ) ، وإقرار بالهلكة في قوله : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

وفي المنتخب ما ملخصه : إن إسناد الإصابة إلى المصيبة ، لا إلى الله تعالى ، ليعم ما كان من الله ، وما كان من غيره. فما كان من الله فهو داخل تحت قوله : (إِنَّا لِلَّهِ) ، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضا للأمور إليه ، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه ، ولا يتعدى ، كأنه في الأول (إِنَّا لِلَّهِ) ، يدبر كيف يشاء ، وفي الثاني : (إِنَّا إِلَيْهِ) ، ينصف لنا كيف يشاء. وقيل : (إِنَّا لِلَّهِ) ، دليل على الرضا بما نزل به في الحال ، (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك. واشتملت الآية على فرض ونفل. فالفرض : التسليم لأمر الله ، والرضا بقدره ، والصبر على أداء

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٥٧.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ١.

٥٧

فرائضه. والنفل : إظهارا لقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، وفي إظهاره فوائد منها : غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ، أولئك مبتدأ ، وصلوات : ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور ، أي : أولئك مستقرة عليهم صلوات ، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد ، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ ، والجار والمجرور في موضع خبره. والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول ، لأنه يكون إخبارا عن المبتدأ بالجملة. والصلاة : من الله المغفرة ، قاله ابن عباس ؛ أو الثناء ، قاله ابن كيسان ، أو الغفران والثناء الحسن ، قاله الزجاج. والرحمة : قيل هي الصلوات ، كررت تأكيدا لما اختلف اللفظ ، كقوله (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (١). وقيل : الرحمة : كشف الكربة وقضاء الحاجة. وقال عمر : نعم العدلان ونعم العلاوة ، وتلا : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ) الآية ، يعني بالعدلين : الصلوات والرحمة ، وبالعلاوة : الاهتداء. وفي قوله : أولئك ، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة ، كما جاء : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) (٢). والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله : (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ) بحرف على ، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك ، قد غشيتهم وتجللتهم ، وهو أبلغ من قوله لهم. وجمع صلوات ، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة ، بل صلاة بعد صلاة ، ونكرت لأنه لا يراد العموم. ووصفها بكونها من ربهم ، ليدل بمن على ابتدائها من الله ، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدئ من الله تعالى. ويحتمل أن تكون من تبعيضية ، فيكون ثم حذف مضاف ، أي صلوات من صلوات ربهم. وأتى بلفظ الرب ، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به. وإن كان أريد بالرحمة الصلوات ، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة ، لأنها قد تقيدت. وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات ، فيقدر : ورحمة منه ، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم. ويحتمل أن يكون : (مِنْ رَبِّهِمْ) ، متعلقا بقوله : (عَلَيْهِمْ) ، فلا يكون صفة ، بل يكون معمولا للرافع لصلوات ، وترتب على مقام الصبر. ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى ، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل.

وقد جاء في السنة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» وفي حديث آخر : «من تذكر

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٧.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ٥.

٥٨

مصيبته ، فأحدث استرجاعا ، وإن تقادم عهدها ، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب». وحديث أم سلمة مشهور ، حيث أخلفها الله عن أبي سلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن جبير : ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة ، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب. ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف؟ (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) (١)!.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) : إخبار من الله عنهم بالهداية ، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبدا. وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه ، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة. وبدىء بالجملة الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله ، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة ، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته. وأكد بقوله : هم. وبالألف واللام ، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل ، ليدل على الثبوت ، لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتا بعد وقت فيخبر عنها بالفعل ، بل هي وصف ثابت. وقيل : المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر. وقيل : إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن. وقيل : إلى الاسترجاع. وقيل : إلى الحق والصواب ، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان ، ونظير هاتين الجملتين قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢). والكلام في إعراب : هم المهتدون ، كالكلام على : المفلحون ، وقد تقدم.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم شطر المسجد ، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة ، حيث كان النسخ صعبا على النفوس ، حيث ألفوا أمرا ، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره ، وخصوصا عند من لا يرى النسخ. فلذلك كرر وأنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس ، لأن ذلك ، إذا كان بأمر منه تعالى ، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله ، لأن أمر الله ثانيا ، كأمره أولا. وهو قد أمر أولا باستقبال بيت المقدس ، وأمر آخرا باستقبال الكعبة. فلا فرق بين الأمرين ، ولا حجة لمن خالف. واستثنى من الناس من ظلم ، لأنه لا تنقطع حججه ، وإن كانت باطلة ، ولا تشغيباته وتمويهاته ، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به ، ثم أمرهم تعالى بخشيته ، ونهاهم عن خشية الناس ، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٨٤.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ٥. وسورة البقرة : ٢ / ٥.

٥٩

أوامره واجتنبوا مناهيه. وعطف على تلك العلة علة أخرى ، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم ، والرجوع إلى المألوف ، ولتحصيل الهداية. وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم ، إذ هذه النعمة هي الأصل ، وهي منبع النعم والهداية ، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل ، وهي تلاوة الكتاب عليهم : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (١)؟ فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس؟

أخو العلم حيّ خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وقال آخر :

محل العلم لا يأوي ترابا

ولا يبلى على الزمن القديم

ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها ، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم. ثم نهاهم عن كفرانها ، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه. ثم نادى من اتصف بالإيمان ، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة ، ليقبلوا على ما يأمرهم به. فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة ، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة. ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات ، وأخبر أنهم أحياء ، فوجب تصديق ما أخبر به ، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم. ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر ، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى. ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقادا وقولا صريحا أنهم عبيد الله ومماليكه ، وإليه مآبهم ومرجعهم ، يتصرف فيهم كما أراد. ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف ، فعليه من الله الصلاة والرحمة ، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت.

إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥١.

٦٠