البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

والكلام على هذه إعرابا ، كالكلام على التي قبلها.

(وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه المصلحة حيث كلفكم القتال (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما يعلمه الله تعالى ، لأن عواقب الأمور مغيبة عن علمكم ، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير ، قال الحسن : لا تكرهوا الملمات الواقعة ، فلرب أمر تكرهه فيه أربك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك. وقال أبو سعيد الضرير :

رب أمر تتقيه

جر أمرا ترتضيه

خفى المحبوب منه

وبدا المكروه فيه

وقال الوضاحي :

ربما خير الفتى

وهو للخير كاره

وقال ابن السرحان :

كم فرحة مطوية

لك بين أثناء المصائب

ومسرة قد أقبلت

من حيث تنتظر النوائب

وقال آخر :

كم مرة حفت بك المكاره

خار لك الله وأنت كاره

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)؟ طوّل المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدّة أوراق ، وملخصها وأشهرها : أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثمانية معه : سعد بن أبي وقاص ، وعكاشة بن محيصن ، وعقبة بن غزوان ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، ووافد بن عبد الله ، وخالد بن بكير ، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة ، فوصلوها ، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أوّل يوم من رجب ، فرمى وافد عمرا بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم ، وعثمان ، وكانا أوّل أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل ، وقدموا بالعير المدينة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، فنزلت الآية ، فخمّس العير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أوّل

٣٨١

خمس في الإسلام ، فوجهت قريش في فداء الأسيرين فقيل : حتى يقدم سعد وعتبة ، وكانا قد أضلا بعيرا لهما قبل لقاء العير فخرجا في طلبه ، فقدما ، وفودي الأسيران. فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وقتل شهيدا ببئر معونة ، وأما عثمان فمات بمكة كافرا ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع بالخندق مع فرسه ، فتحطما وقتلهما الله.

وفي هذه القصة اختلاف في مواضع ، وقد لخصّ السخاوندي هذا السبب فقال : نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش ، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة ، فاشتبه بأول رجب ، فعيرهم أهل مكة باستحلاله.

وقيل : نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح ، وقيل : نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمرو يعلم بذلك ، وكان في أول يوم من رجب ، فقالت قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخصّ بزمان دون زمان ، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال ، فبين حكم القتال في الشهر الحرام. وسيأتي معنى قوله (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) كما جاء : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (١) وجاء بعده : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢) ذلك التخصيص في المكان ، وهذا في الزمان.

وضمير الفاعل في يسألونك ، قيل : يعود على المشركين ، سألوا تعييبا لهتك حرمة الشهداء ، وقصدا للفتك ، وقيل : يعود على المؤمنين ، سألوا استعظاما لما صدر من ابن جحش واستيضاحا للحكم.

والشهر الحرام ، هنا هو رجب بلا خلاف ، هكذا قالوا ، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس ، فيراد به الأشهر الحرام وهي : ذو القعدة ، ذو الحجة ، والمحرم ورجب. وسميت حرما لتحريم القتال فيها ، وتقدّم شيء من هذا في قوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩١ ؛ والنساء : ٤ / ٩١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٩٤.

٣٨٢

وقرأ الجمهور : قتال فيه ، بالكسر وهو بدل من الشهر ، بدل اشتمال. وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير ، وهو معنى قول الفراء ، لأنه قال : مخفوض بعن مضمرة ، ولا يجعل هذا خلافا كما يجعله بعضهم ، لإن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي ، والفراء.

لا فرق بين هذه الأقوال ، هي كلها ترجع لمعنى واحد.

وقال أبو عبيدة : قتال فيه ، خفض على الجوار ، قال ابن عطية : هذا خطأ. انتهى. فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة ، فهو كما قال ابن عطية : وجه الخطا فيه هو أن يكون تابعا لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعا من حيث المعنى ، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع ، ولا منصوب ، فيكون : قتال ، تابعا له ، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار ، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض ، فخفضه بكونه جاور مخفوضا أي : صار تابعا له ، ولا نعني به المصطلح عليه ، جاز ذلك ولم يكن خطأ ، وكان موافقا لقول الجمهور ، إلّا أنه أغمض في العبارة ، وألبس في المصطلح.

وقرأ ابن عباس ، والربيع ، والأعمش : عن قتال فيه ، بإظهار : عن ، وهكذا هو في مصحف عبد الله.

وقرىء شاذا : قتال فيه ، بالرفع ، وقرأ عكرمة : قتل فيه قل قتل فيه ، بغير ألف فيهما.

ووجه الرفع في قراءة : قتال فيه ، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ ، وسوغ جواز الابتداء فيه ، وهو نكرة ، لنية همزة الاستفهام ، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من : الشهر الحرام ، لأن : سأل ، قد أخذ مفعوليه ، فلا يكون في موضع المفعول ، وإن كانت هي محط السؤال ، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه؟ قيل : ونظير هذا ، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام ، إنما سألوا : أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.

(قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) هذه الجملة مبتدأ وخبر ، و : قتال ، نكرة ، وسوغ الابتداء بها

٣٨٣

كونها وصفت بالجار والمجرور ، وهكذا قالوا ، ويجوز أن يكون : فيه ، معمولا لقتال ، فلا يكون في موضع الصفة ، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضا لجواز الابتداء بالنكرة ، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة ، وكان إياها ، أن يعود معرفا بالألف واللام ، تقول : لقيت رجلا فضربت الرجل ، كما قال تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (١) قيل : وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسئول عنه. حتى يعاد بالألف واللام ، بل المراد تعظيم : أي قتال كان في الشهر الحرام ، فعلى هذا : قتال الثاني ، غير الأوّل انتهى.

وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم ، إذ كانت النكرة السابقة ، بل هي فيه للعهد السابق ، وقيل : في (المنتخب) : إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى ، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه ، فقال عبد الله بن جحش ، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر ، فلا يكون هذا من الكبائر ، بل الذي يكون كبيرا هو قتال غير هذا ، وهو ما كان الفرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر ، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو وقع التعبير عنهما ، أو عن أحدهما ، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة. انتهى.

واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، إذ المعنى : قل قتال فيه لهم كبير ، فقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن المسيب ، والضحاك ، والأوزاعي : إنها منسوخة بآية السيف : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان.

وقيل : هي منسوخة بقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (٣) ، وإلى هذا ذهب الزهري ، ومجاهد ، وغيرهما.

وقيل : نسخهما غزو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثقيفا في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.

وقيل : نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة ، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الابتداء بالقتال.

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٦.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٥.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٣٦.

٣٨٤

وقال عطاء لم تنسخ ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ، ولا في الشهر الحرام إلّا أن يقاتلوا فيه ، وروي هذا القول عن مجاهد أيضا؟ وروى جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلّا أن يغزى ، وذلك قوله : قل قتال فيه كبير.

ورجح كونها محكمة بهذا الحديث ، وبما رواه ابن وهب ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودى ابن الحضرمي ، ورد الغنيمة والأسيرين ، وبأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص ، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى : فيه كبير ، وكلا الجملتين مقولة ، أي : قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير ، وقل لهم : صدّ عن كذا إلى آخره ، أكبر من القتال ، ويحتمل أن يكون مقطوعا من القول ، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله ، وكذا وكذا ، أكبر ، والمعنى : أنكم يا كفار قريش تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم : من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله ، وإخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أكبر جرما عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام ، على سبيل البناء على الظن.

وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، فالمبتدأ : صدّ ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور ، فساغ الابتداء ، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما ، أي : وصدّكم المسلمين عن سبيل الله.

وسبيل الله : الإسلام. قاله مقاتل ، أو : الحج ، لأنهم صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مكة قاله ابن عباس ، والسدّي عن أشياخه ، أو : الهجرة ، صدّوا المسلمين عنها.

و : كفر به ، معطوف على : وصدّ ، وهو أيضا مصدر لازم حذف فاعله ، تقديره : وكفركم به ، والضمير في : به ، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه ، والمعنى : وكفر بسبيل الله ، وهو دين الله وشريعته ، وقيل : يعود الضمير في : به ، على الله تعالى ، قاله الحوفي.

والمسجد الحرام : هو الكعبة ، وقرىء شاذا والمسجد الحرام بالرفع ، ووجهه أنه عطفه على قوله : وكفر به ، ويكون على حذف مضاف ، أي : وكفر بالمسجد الحرام ، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ،

٣٨٥

فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها ، فنقول : اختلفوا فيما عطف عليه والمسجد ، فقال ابن عطية ، والزمخشري ، وتبعا في ذلك المبرد : هو معطوف على : سبيل الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفا على : سبيل الله ، كان متعلقا بقوله : وصدّ إذ التقدير : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فهو من تمام عمل المصدر ، وقد فصل بينهما بقوله : وكفر به ، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول ، وقيل : معطوف على الشهر الحرام ، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام ، إذ لم يشكوا في تعظيمه ، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله ، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك ، انتهى ، ما ضعف به هذا القول ، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين : أحدهما : عن قتال في الشهر الحرام ، والآخر : عن المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام ، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته ، إنما سئل عن القتال فيه ، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه ، فيصير المعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وفي المسجد الحرام ، فأجيبوا : بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، وصد عن سبيل الله ، وكفر به ، ويكون : وصد عن سبيل الله ، على هذا ، معطوفا على قوله : كبير ، أي : القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به.

ويحتمل أن يكون : وصد ، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر : قتال ، عليه ، التقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به كبير ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، أي : وعمرو قائم ، وأجيبوا بأن : القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وكونه معطوفا على الشهر الحرام متكلف جدا ، ويبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح ، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر ، تقديره : ويصدون عن المسجد الحرام ، كما قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) قال بعضهم : وهذا هو الجيد ، يعني من التخاريج التي يخرج عليه ، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد ، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر ، وهو لا يجوز في مثل هذا إلّا في الضرورة ، نحو قوله :

أشارت كليب بالأكف الأصابع

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٥.

٣٨٦

أي : إلى كليب ، وقيل : هو معطوف على الضمير في قوله : وكفر به ، أي : وبالمسجد الحرام ، قاله الفراء ، ورد بأن هذا لا يجوز إلّا بإعادة الجار ، وذلك على مذهب البصريين.

ونقول : العطف المضمر المجرور فيه مذاهب :

أحدها : أنه لا يجوز إلّا بإعادة الجار إلّا في الضرورة ، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها ، وهذا مذهب جمهور البصريين.

الثاني : أنه يجوز ذلك في الكلام ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، وأبي الحسن ، والأستاذ أبي علي الشلوبين.

الثالث : أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير ، وإلّا لم يجز في الكلام ، نحو : مررت بك نفسك وزيد ، وهذا مذهب الجرمي.

والذي نختاره أنه يجوز ذلك في الكلام مطلقا ، لأن السماع يعضده ، والقياس يقويه. أما السماع فما روي من قول العرب : ما فيها غيره وفرسه ، بجر الفرس عطفا على الضمير في غيره ، والتقدير : ما فيها غيره وغير فرسه ، والقراءة الثانية في السبعة : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (١) أي : وبالأرحام ، وتأويلها على غير العطف على الضمير ، مما يخرج الكلام عن الفصاحة ، فلا يلتفت إلى التأويل. قرأها كذلك ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وأبي رزين ، وحمزة.

ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب ، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة ، فمنه قول الشاعر :

نعلق في مثل السواري سيوفنا

فما بينها والأرض غوط نفانف

وقال آخر :

هلا سألت بذي الجماجم عنهم

وأبي نعيم ذي اللواء المحرق

وقال آخر :

بنا أبدا لا غيرنا يدرك المنى

وتكشف غماء الخطوب الفوادح

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١.

٣٨٧

وقال آخر :

إذا أوقدوا نارا لحرب عدوهم

فقد خاب من يصلى بها وسعيرها

وقال آخر :

لو كان لي وزهير ثالث وردت

من الحمام عدانا شر مورود

وقال رجل من طيء :

إذا بنا ، بل أنيسان ، اتّقت فئة

ظلت مؤمنة ممن تعاديها

وقال العباس بن مرداس :

أكر على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

وأنشد سيبويه رحمه‌الله :

فاليوم قد بت تهجونا وتشمتنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقال آخر :

أبك آية بي أو مصدّر

من حمر الجلة جأب جسور

فأنت ترى هذا السماع وكثرته ، وتصرّف العرب في حرف العطف ، فتارة عطفت بالواو ، وتارة بأو ، وتارة ببل ، وتارة بأم ، وتارة بلا ، وكل هذا التصرف يدل على الجواز ، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله ، تعالى : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (١) (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (٢) (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) (٣) وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٤) عطفا على قوله : (لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) (٥) أي : ولمن. وقوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (٦) عطفا على الضمير في قوله : فيهنّ ، أي : وفيما يتلى عليكم.

وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة جار ، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار ، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين ، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلّا مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه ، وإذا

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٢.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٦٤.

(٤ ، ٥) سورة الحجر : ١٥ / ٢٠.

(٦) سورة النساء : ٤ / ١٢٧.

٣٨٨

تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها ، كأن يخرج عطف : والمسجد الحرام ، على الضمير في : به ، أرجح ، بل هو متعين ، لأن وصف الكلام ، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك.

وإخراج أهله ، معطوف على المصدر قبله ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، التقدير : وإخراجكم أهله ، والضمير في : أهله ، عائد على : المسجد الحرام ، وجعل ، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة ، ولم يجعل المقيمين من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول ، كما قال تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) (١) و : منه ، متعلق بإخراج ، والضمير في : منه ، عائد على المسجد الحرام ، وقيل : عائد على : سبيل الله ، وهو الإسلام ، والأول أظهر. و : أكبر ، خبر عن المبتدأ الذي هو : وصد ، وما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبرا عن المجموع ، ويحتمل أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد واحد ، كما تقول : زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد ، نزيد : كل واحد منهم أفضل من خالد ، وهذا هو الظاهر لا المجموع ، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل : بمن ، الداخلة على المفضول في التقدير ، وتقديره : أكبر من القتال في الشهر الحرام ، فحذف للعلم به.

وقيل : وصد مبتدأ. و : كفر ، معطوف عليه ، وخبرهما محذوف لدلالة خبر : وإخراج ، عليه. والتقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون : أكبر ، خبرا عن الثلاثة.

وعند الله ، منصوب بأكبر ، ولا يراد : بعند ، المكان بل ذلك مجاز.

وذكر ابن عطية ، والسجاوندي عن الفراء أنه قال : وصد عطف على كبير ، قال ابن عطية : وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : وكفر به ، عطف أيضا على كبير ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بيّن فساده. انتهى كلام ابن عطية ، وليس كما ذكر ، ولا يتعين ما قاله من أن : وكفر به ، عطف على كبير ، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله : وصد عن سبيل الله ، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين. أحدهما : أنه كبير ، والثاني : أنه صد عن سبيل الله ، ثم ابتدأ فقال : والكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٤.

٣٨٩

هو كبير ، وهو صد عن سبيل الله. وهذا معنى سائغ حسن ، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور. وقوله : ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده ، ليس بكلام مخلص ، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلّا بتكلف بعيد ، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله ، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج ، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة ، أي : الكفر والشرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة وغيرهم.

أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام ، فهي أكبر حرما من القتل ، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أشد اجتراما من قتلهم إياكم في المسجد الحرام ، وقيل : المعنى : والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم بكل إنسان ، أشد من فعلنا ، لأن الفتنة ألم متجدد ، والقتل ألم منقض.

ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده : وكفركم أشد من قتلنا أولئك ، وصرح هنا بالمفضول ، وهو قوله : من القتل ، ولم يحذف. لأنه لا دليل على حذفه ، بخلاف قوله : أكبر عند الله ، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه ، وهو : القتال ، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعرا :

تعدون قتلا في الحرام عظيمة

وأعظم منها لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد

وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله رحله

لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا ، وإن عيرتمونا بقتلة

وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا

بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما ، وابن عبد الله عثمان بيننا

ينازعه غل من القد عاند

(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) الضمير في : يزالون ، للكفار ، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله : يسألونك ، هو الكفار ، والضمير المنصوب في : يقاتلونكم ، خوطب به المؤمنون ، وانتقل عن خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

٣٩٠

خطاب المؤمنين ، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار ، ومباينتهم لهم ، ودوام تلك العداوة ، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم ، وقدرتهم على ذلك.

و : حتى يردوكم ، يحتمل الغاية ، ويحتمل التعليل ، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين : بيقاتلونكم ، وقال ابن عطية : ويردوكم ، نصب بحتى لأنها غاية مجردة ، وقال الزمخشري : وحتى ، معناها التعليل ، كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ، أي : يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى. وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى ، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين ، وهو : المقاتلة ، ذكر لها علة توجيها ، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل ، وذلك بخلاف الغاية ، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه ، فزمان وجوده مقيد بغايته ، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة ، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية.

و : عن دينكم ، متعلق : بيردوكم ، والدين هنا الإسلام ، و : إن استطاعوا ، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله ، التقدير : إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم ، ومن جوّز تقديم جواب الشرط ، قال : ولا يزالون ، هو الجواب.

وقال الزمخشري : إن استطاعوا ، استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق عليّ ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. انتهى قوله : ولا بأس به.

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ارتد : افتعل من الرد ، وهو الرجوع ، كما قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (١) وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين ، إذا كانت عنده ، بمعنى : صير وجعل ، من ذلك قوله : (فَارْتَدَّ بَصِيراً) (٢) أي : صار بصيرا ، ولم يختلف هنا في فك المثلين ، والفك هو لغة الحجاز ، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب. لأنه متكلف ، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فلذلك جاء افتعل هنا ، وهذا المعنى ، وهو التعمل والتكسب ، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.

و : منكم ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : يرتدد ، العائد على : من ،

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٦٤.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٩٦.

٣٩١

و : من ، للتبعيض ، و : عن دينه ، متعلق بيرتدد ، والدين : هنا هو الإسلام ، لأن الخطاب مع المسلمين ، والمرتد إليه هو دين الكفر ، بدليل أن ضد الحق الباطل ، وبقوله : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها ، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة. وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله ، وإلحاقه في الأحكام بالكفار ، وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي ، وقيل : حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ، لأن الله قد أعزّ دينه بأنصاره.

وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر ، لا على مجرد الارتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء ، منهم : الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (١) (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٣) (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٤) والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما ، يعني : أنه يحبط عمله بنفس الردة دون الموافاة عليها ، وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ، ثم ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ، وقال الشافعي : لا يلزمه الحج.

ويقول الشافعي : اجتمع مطلق ومقيد ، فتقيد المطلق ، ويقول غيره : هما شرطان ترتب عليهما شيئان ، أحد الشرطين : الارتداد ، ترتب عليه حبوط العمل ، الشرط الثاني : الموافاة على الكفر ، ترتب عليها الخلود في النار.

والجملة من قوله : وهو كافر ، في موضع الحال من الضمير المستكين في : فيمت ، وكأنها حال مؤكدة ، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها ، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد. وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد ، إذ تكرر الضمير فيها مرتين ، بخلاف المفرد ، فإنه فيه ضمير واحد.

وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلّا لحبوط العمل ، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة؟ وأما حكمه

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٨٨.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٧.

(٤) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٥.

٣٩٢

بالنسبة إلى القتل ، فذهب النخعي والثوري : إلى أنه يستتاب محبوسا أبدا ، وذهب طاووس ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، على خلاف عنه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي : في أحد قوليه ، إلى أنه يقتل من غير استتابة. وروي نحو هذا عن أبي موسى ، ومعاذ ، وقال جماعة من أهل العلم : يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت؟ أو في ساعة واحدة؟ أو شهر؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام؟ وروي عن عمر ، وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد ، وإسحاق ، والشافعي ، في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي : أو مائة مرة؟ وهو قول الحسن.

وقال عطاء : إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة ، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب. وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام ، فإن تاب وإلّا قتل. وقال أبو حنيفة : يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلّا قتل مكانه إلّا أن يطلب أن يؤجل ، فيؤجل ثلاثة أيام. والمشهور عنه ، وعن أصحابه ، أنه لا يقتل حتى يستتاب.

والزنديق عندهم والمرتد سواء.

وقال مالك : تقتل الزنادقة من غير استتابة ، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد ، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى ، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله ، وقيل : يحبس حتى يرى أثر التوبة والإخلاص عليه ، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر ، فالجمهور على أنه لا يقتل.

وذكر المزني ، والربيع ، عن الشافعي : أن المبدل لدينه من أهل الذّمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ، ويخرجه من بلده ، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ، هذا حكم الرجل.

وأما المرأة إذا ارتدّت فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : تقتل كالرجل سواء ، وقال عطاء ، والحسن ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، وابن عطية لا تقتل. وروي ذلك عن علي وابن عباس.

وأمّا ميراثه ، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلّا ما نقل عن قتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهم يرثونه ، وقد روي عن عمر خلاف هذا ، وقال علي ، والحسن ، والشعبي ، والحكم ، والليث ، وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وابن راهويه : يرثه أقرباؤه المسلمون. وقال مالك ، وربيعة ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبو ثور : ميراثه في بيت

٣٩٣

المال ، وقال ابن شبرمة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة ، ما اكتسبه في حالة الإسلام قبل الردة لورثته المسلمين.

وقرأ الحسن : حبطت بفتح الباء ، وهما لغتان ، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن ، وقوله : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة ، وأتى به مجموعا حملا على معنى : من ، لأنه أولا حمل على اللفظ في قوله : (يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) وإذا جمعت بين الحملين ، فالأصح أن تبدأ أولا بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى. وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآيةو (فِي الدُّنْيا) متعلق بقوله : (حَبِطَتْ).

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتداء إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار ، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية ، ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فتكون داخلة في الجزاء ، لأن المعطوف على الجزاء جزاء ، وهذا الوجه أولى ، لأن القرب مرجح ، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) سبب نزولها أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجرا وثوابا فنزلت لأن عبد الله كان مؤمنا وكان مهاجرا ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا ، ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف. وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه ، حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر ، فنزلت. انتهى كلامه. وهو كالأول ، ألّا أنه اختلف في الظان ، ففي الأول ابن جحش ، وفي قول الزمخشري : قوم ، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة. وقيل : لما أوجب الجهاد بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) وبيّن أن تركه سبب للوعيد ، اتبع ذلك بذكر من يقوم به ، ولا يكاد يوجد وعيد إلّا ويتبعه وعد ، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف ، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع ، لأن الإيمان أولها ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده ، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد ، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد. وأتى خبر : أن ، جملة مصدرة :

٣٩٤

بأولئك ، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد ، وليس تكريرا لموصول بالعطف مشعرا بالمغايرة في الذوات ، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف ، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة ، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة ، لا : إن الذين آمنوا ، صنف وحده مغاير : للذين هاجروا وجاهدوا ، وأتى بلفظة : يرجون ، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة ، ولو أطاع أقصى الطاعة ، إذ لا يعلم بما يختم له ، ولا يتكل على عمله ، لأنه لا يعلم أقبل أم لا؟ وأيضا فلأن المذكورة في الآية ثلاثة أوصاف ، ولا بد مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلذلك قال : فأولئك يرجون ، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد ، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك ، فهم يقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) (١).

وروي عن قتادة انه قال : هو لأخيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء ، كما يسمعون ، وقيل : الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته ، لا في أصل الثواب ، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق ، و : رحمت ، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا ، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء ، وهي سبعة مواضع كتبت : رحمت ، فيها بالتاء. أحدها هذا ، وفي الأعراف : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢) وفي هود : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) (٣) وفي مريم (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) (٤) وفي الزخرف (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (٥) (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٦) وفي الروم (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) (٧) (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله ، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة ، وزاد وصفا آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران ، فكأنه قيل : الله تعالى ، عند ما ظنوا وطمعوا في ثوابه ، فالرحمة متحققة ، لأنها من صفاته تعالى.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد ، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى ، ومحذرين من عصى من عقاب الله ، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها ، ولأنها نتيجتها رضى الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، وأنزل معهم كتابا من عنده مصحوبا بالحق

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٦٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٦.

(٣) سورة هود : ١١ / ٧٣.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٢.

(٥ ، ٦) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٢.

(٧) سورة الروم : ٣٠ / ٥٠.

٣٩٥

اللائح ، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع ، لأن ما جاؤا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار ، وربما يذهب بذهابهم ، فإذا كان ما شرع لهم مخلدا في الطروس كان أبقى ، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم ، وتكاليفهم ، ومصالح دنياهم ، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما أختلف فيه إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب ، ووصل إليهم من عند الله ، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم ، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الإختلاف عند هؤلاء سببا للاختلاف ، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه ، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم ، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي أختلف فيه من اختلف ، وذلك بتيسير الله تعالى لهم ، ذلك من غير سابقة استحقاق ، بل هدايته إياهم الحق هو بتمكينه تعالى لذلك.

ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته ، ثم ذكر تعالى مخاطبا للمؤمنين ، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية ، أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة ، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلى من كان قبلكم ، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء ، وأنهم أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به ، ولينتظروا الفرج من الله عن قرب ، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب ، فالحاصل : فسكنت نفوسهم من ذلك الإزعاج بانتظار النصر القريب.

ثم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره ، وذكر مصرف ذلك ، لأنه هو الأهم في الجواب ، وكأنه قيل : أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم ، وهما : الوالدان : اللذان كانا سببا في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا ، وفي الحنو عليك ، ثم ذكر : الأقربين بصفة التفضيل ، لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب ، والإنفاق عليهم صدقة وصلة ، ثم ذكر اليتامى : وهم الذين قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم ، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل ، ثم ذكر : المساكين ، وهم الذين انتهوا ، من الفقراء ، إلى حالة المسكنة ، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها ، ثم أخبر تعالى : أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه ، فيجازي عليه ويثيب.

٣٩٦

ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين ، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال ، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره ، ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له ، لأن عقابه إلى خير ، فالقتال ، وإن كان مكروها للطبع ، فإنه خير إن سلم ، فخيره بالظفر بأعداء الله ، وبالغنيمة ، واستيلاء عليهم قتلا ونهبا وتملك دار ، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء.

ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله ، وفيما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فمن المحبوب ترك القتال ، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة ، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين ، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم ، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه ، وبلغ منه مقاصده ، ولقد أحسن زهير حيث قال :

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا ، وإن لايبد بالظلم يظلم

ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال ، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال.

ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القتال في الشهر الحرام ، لما كان وقع ذلك منهم ، لا على سبيل القصد ، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام ، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير ، إذ كانت العادة أن الأشهر الحرم لا قتال فيها ، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله ، ومن الكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، ومن إخراج أهله منه.

ثم ذكر تعالى ان الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه ، أكبر من قتله وهو على دينه ، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار ، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة.

ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار ، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال ، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم ، ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل ، ووافى على ذلك ، فجميع ما تقدّم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار ، وإجراء أحكام المرتدين عليه ، وفي الآخرة فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفرانا لما اجترح ، بل مآله إلى النار خالدا فيها.

٣٩٧

ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه ، ذكر حال من آمن بالله وثبت على إيمانه ، وهاجر من وطنه الذي هو محل الكفر إلى دار الإسلام ، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله ، وأنه طامع في رحمة الله.

ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل الإيمان ولما يتخلل في حالة الإيمان من بعض المخالفة ، وأنه رحيم له ، فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)

الخمر : هي المعتصر من العنب إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد ، سمى بذلك من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة ، وتخمرت واختمرت ، وهي حسنة الخمرة ، والخمر ما واراك من الشجر وغيره ، ودخل في خمار الناس وغمارهم أي : في مكان خاف. وخمر فتاتكم ،

٣٩٨

وخامري أم عامر ، مثل الأحمق ، وخامري حضاجر أتاك ما تحاذر ، وحضاجر اسم للذكر والأنثى من السباع ، ومعناه : ادخلي الخمر واستتري.

فلما كانت تستر العقل سميت بذلك ، وقيل : لأنها تخمر : أي تغطي حتى تدرك وتشتدّ.

وقال ابن الأنباري : سميت بذلك لأنها تخامر العقل أي : تخالطه ، يقال : خامر الداء خالط ، وقيل : سميت بذلك لأنها تترك حين تدرك ، يقال : اختمر العجين بلغ إدراكه ، وخمر الرأي تركه حتى يبين فيه الوجه ، فعلى هذه الاشتقاقات تكون مصدرا في الأصل وأريد بها اسم الفاعل أو اسم المفعول.

الميسر : القمار ، وهو مفعل من : يسر ، كالموعد من وعد ، يقال يسرت الميسر أي قامرته ، قال الشاعر :

لو تيسرون بخيل قد يسرت بها

وكل ما يسر الأقوام مغروم

واشتقاقه من اليسر وهو السهولة ، أو من اليسار لأنه يسلب يساره ، أو من يسر الشيء إذا وجب ، أو من يسر إذا جزر والياسر الجازر ، وهو الذي يجزىء الجزور أجزاء ، قال الشاعر :

أقول لهم بالشعب إذ تيسرونني

ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم؟

وسميت الجزور التي يسهم عليها ميسرا لأنها موضع اليسر ، ثم قيل للسهام : ميسر للمجاورة ، واليسر ، الذي يدخل في الضرب بالقداح وجمعه ، أيسار ، وقيل : يسر جمع ياسر كحارس وحرس وأحراس.

وصفة الميسر أنه عشرة أقداح ، وقيل : أحد عشر على ما ذكر فيه ، وهي : الأزلام ، والأقلام ، والسهام. لسبعة منها حظوظ ، وفيها فروض على عدة الحظوظ : القد ، وله سهم واحد ؛ والتوأم ، وله سهمان ، والرقيب ، وله ثلاثة ؛ والجلس ، وله أربعة ؛ والنافس ، وله خمسة ؛ والمسبل وله ستة ؛ والمعلى وله سبعة ؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ لها ، وهي : المنيح ، والسفيح ، والوغد ، وقيل : أربعة وهي : المصدر ، والمضعف ، والمنيح ، والسفيح. تزاد هذه الثلاثة أو الاربعة على الخلاف لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بالقداح ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا ، ويسمى أيضا : المجيل ، والمغيض ، والضارب ، والضريب. ويجمع ضرباء ، وهو رجل عدل عندهم. وقيل يجعل رقيب لئلا

٣٩٩

يحابي أحدا ، ثم يجثو الضارب على ركبتيه ، ويلتحف بثوب ، ويخرج رأسه يجعل تلك القداح في الربابة ، وهي خريطة يوضع فيها ، ثم يجلجها ، ويدخل يده ويخرج باسم رجل رجل قدحا منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئا ، وغرم الجزور كله.

وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء ، فيشترون الجزور وتضمن الأيسار ثمنها ، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام ، في قول أبي عمرو ، وثمانية وعشرين على قدر حظوظ السهام في قول الأصمعي.

قال ابن عطية : وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور على ثمانية وعشرين ، وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء ، ولا يأكل منه شيئا ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون من لم يدخل فيه : البرم ويذمونه بذلك ، ومن الافتخار بذلك قول الأعشى :

المطمعو الضيف إذا ماشتا

والجاعلو القوت على الياسر

وقال زهير في البرم :

حتى تأوى إلى لا فاحش برم

ولا شحيح إذا أصحابه غنموا

وربما قاموا لأنفسهم.

التفكر : في الشيء إجالة الفكر فيه وتردده ، والفكر : هو الذهن.

الخلط : مزج الشيء بالشيء ، وخالط فاعل منه ، والخلط الشيء المخلوط : كالرغي.

الإخوان : جمع أخ ، والأخ معروف ، وهو من ولده أبوك وأمك ، أو أحدهما ، وجمع فعل على فعلان لا ينقاس.

العنت : المشقة ، ومنه عنت الغربة ، وعقبة عنوت شاقة المصعد ، وعنت البعير انكسر بعد جبر.

النكاح : الوطء وهو المجامعة ، قال التبريزي : وأصله عند العرب لزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه ، ومنه قولهم : نكح المطر الأرض. حكاه ثعلب في (الامالي) عن أبي زيد وابن الإعرابي ، وحكى الفراء عن العرب : نكح المرأة ، بضم النون ، بضعة هي بين القبل والدبر ، فإذا قالوا نكحها ، فمعناه أصاب نكحها ، أي ذلك الموضع منها ، وقلما يقال

٤٠٠