البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

قال ابراهيم : أو يقول كل ما سوى التصريح ، قاله ابن زيد ، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ، ولا التنبيه عليه ، ولا الرفث ، وذكر الجماع ، والتحريض عليه. وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد ، فكما خالف نهي حكمي التعريض والتصريح في الخطبة ، فكذلك في القذف.

(أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي : أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر ، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه ، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم ، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفى عنهما ، وقيل : المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة ، فأباح الله التعريض ، وحرم التصريح في الحال ، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل.

ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة ، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات ، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالا من ميل القلب.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) هذا عذر في التعريض ، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ، فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ) (١) وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ، لأنهن يذكرن عند ما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن.

وقال الحسن ، معنى : ستذكرونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا. انتهى.

وقوله : ستذكرونهن ، شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب.

(وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) هذا الاستدراك من الجملة التي قبله ، وهو قوله : ستذكرونهن ، والذكر يقع على أنحاء وأوجه ، فاستدرك منه وجه نهى فيه عن ذكر مخصوص ، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه ، وهو نظير قولك : زيد سيلقى خالدا ولكن لا يواجهه بشرّ ، فاستدرك هذه الحالة مما

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

٥٢١

يحتمله اللقاء ، وإن من أحواله المواجهة بالشر ، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها ، لكن يحتاج ما بعد : لكن ، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء.

قال الزمخشري ، فإن قلت ، أين المستدرك بقوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَ). قلت ، هو محذوف لدلالة : (سَتَذْكُرُونَهُنَ) عليه (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) فاذكروهن (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) انتهى كلامه.

وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله : ستذكرونهن ، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ، فيحتاج إلى تقدير : فاذكروهن ، على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقي استدرك فقال : ولكن لا تخف مني.

والسر ضد الجهر ، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه ، لكنه في سر ، وقد يعبر به عن العقد ، لأنه سبب فيه ، وقد فسر : السر ، هنا : بالزنا الحسن ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والضحاك ، والنخعي. ومما جاء : السر ، في الوطء الحرام ، قوله الحطيئة :

ويحرم سر جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

وقال الأعشى :

ولا تقربن جارة إنّ سرها

عليك حرام فانكحن أو تأبدا

وقال ابن جبير : السر ، هنا النكاح. وقال ابن زيد معنى ذلك : لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فسمى العقد عليهن مواعدة ، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة.

قال بعضهم : جماعا وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف. وقال ابن عباس ، وابن جبير أيضا ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومالك ، وأصحابه ، والجمهور : المعنى : لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية.

فعلى هذا القول ، والقول الذي قبله ، ينتصب ، سرا ، على الحال ، أي : مستسرين. وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول ، وإذا انتصب على الحال كان مفعول :

٥٢٢

فواعدوهن محذوفا ، تقديره : النكاح ، وقيل : انتصب على أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : مواعدة سرا. وقيل التقدير في : وانتصب انتصاب الظرف ، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لإن مسارتهن في الغالب بما يستحي من المجاهرة به ، والذي تدل عليه الآية أنهم : نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج.

وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها ، وأما إطلاق المواعدة سرا على النقد فبعيد أيضا ، وأيد قول الجمهور فبعيد أيضا ، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سرا وجهرا ، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر.

(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً). هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت : سرا ، من قوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) على أي تفسير فسرته ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقال الضحاك : من القول المعروف أن تقول للمعتدة : احبسى عليّ نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي : وأنا مثل ذلك.

قال ابن عطية : وهدا عندي مواعدة.

وإنما التعريض قول الرجل : إنكن لإماء كرام ، وما قدر كان ، وإنك لمعجبة ونحو هذا.

وقال الزمخشري : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا.

فان قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي : لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلّا مواعدة معروفة غير منكرة ، أو : لا تواعدوهنّ إلّا بأن تقولوا ، أي : لا تواعدوهنّ إلّا التعريض ، ولا يجوز أن يكون استثناء من : سرا ، لادائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلّا التعريض انتهى كلام الزمخشري. ويحتاج إلى توضيح ، وذلك أنه جعله استثناء متصلا باعتبار أنه استثناء مفرغ ، وجعل ذلك على وجهين.

أحدهما : أن يكون استثناء من المصدر المحذوف ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ، وقدّره : لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلّا مواعدة معروفة غير منكرة ، فكأن المعنى : لا تقولوا لهن قولا تعدونهن به إلّا قولا معروفا ، فصار هذا نظير : لا تضرب زيدا ضربا شديدا.

والثاني : أن يكون استثناء مفرغا من مجرور محذوف ، وهو الوجه الثاني الذي ذكره ، وقدره : إلّا بأن تقولوا ، ثم أوضحه بقوله : إلّا بالتعريض ، فكان المعنى : لا تواعدوهنّ

٥٢٣

سرا ، أي نكاحا بقول من الأقوال ، إلّا بقول معروف ، وهو التعريض. فحذف : من أن ، حرف الجر ، فيبقى منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي تقدم في نظائره.

والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر ، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو : الباء ، التي للسبب.

قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من : سرا ، لأدائه إلى قوله : لا تواعدوهنّ إلّا التعريض ، والتعريض ليس مواعدا ، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل ، وهذا عنده على أن يكون منقطعا نظير : ما رأيت أحدا إلّا حمارا. لكن هذا يصح فيه : ما رأيت إلّا حمارا ، وذلك لا يصح فيه ، لا تواعدوهنّ إلّا التعريض ، لأن التعريض لا يكون مواعدا بل مواعدا به النكاح ، فانتصاب : سرا ، على أنه مفعول ، فكذلك ينبغي أن يكون : أن تقولوا ، مفعولا ، ولا يصح ذلك فيه ، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعا. هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعا.

وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر ، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين.

أحدهما : ما ذكره الزمخشري ، وهو : أن يتسلط العامل على ما بعد ؛ إلّا ، كما مثلنا به في قولك : ما رأيت أحدا إلّا حمارا. و : ما في الدار أحد إلّا حمارا.

وهذا النوع فيه خلاف عن العرب ، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى ، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب ، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلّا ، فتقول : ما رأيت إلّا حمارا ، وما في الدار إلّا حمار. ويصح في الكلام : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) (١).

والقسم الثاني : من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلّا ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة ، ومن ذلك : ما زاد إلّا ما نقص ، وما نفع إلّا ما ضر. فما بعد إلّا لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص ، بل يقدّر المعنى : ما زاد ، لكن النقص حصل له ، وما نفع لكن الضرر حصل ، فاشترك هذا القسم مع الأوّل في تقدير إلّا بلكن ، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه ، وهذا لا يمكن.

وإذا تقرر هذا فيكون قوله : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا) استثناء منقطعا من هذا القسم الثاني ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٧.

٥٢٤

وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ، والتقدير : لكنّ التعريض سائغ لكم ، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلّا ، فلذلك منعه ، والله أعلم.

وظاهر النهي في قوله (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) التحريم حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه ، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة ، قال : فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل ، وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب. وروى أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما. وقال ابن القاسم : وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون ، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم. وقال الشافعي : لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلّا بعد انقضاء العدّة صح النكاح ، والتصريح بهما مكروه. وقال ابن عطية : أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة.

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهيا عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة.

وانتصاب : عقدة ، على المفعول به لتضمين : تعزموا ، معنى ما يتعدّى بنفسه ، فضمن معنى : تنووا ، أو معنى : تصححوا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا. وقيل : انتصب عقدة على المصدر ، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر :

ولقد أبيت على الطوى وأظله

حتى أنال به كريم المأكل

الأصل وأظل عليه ، فحذف : على ، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى ، قال الشاعر :

عزمت على إقامة ذي صباح

لأمر ما يسوّد من يسود

وقد تقدّم الكلام على نظير هذا في قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) (١) وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك ، ولذلك قال ابن عطية : عزم العقدة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٧.

٥٢٥

عقدها بالإشهاد والولي ، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدّة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدّي. ولم ينقل عن أحد خلافه ، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدّة.

والكتاب هنا هو المكتوب أي : حتى يبلغ ما كتب ، وأوجب من العدّة أجله أي : وقت انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، وهو ما فرض بالكتاب من العدّة ، فإذا انقضت العدّة جاز الإقدام على التزوّج ، وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدّة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها ، فقال عمر ، والجمهور : لا يتأبد التحريم. وقال مالك ، وابن القاسم ، في المدونة : ويكون خاطبا من الخطاب. وحكى ابن الجلاب عن مالك : أنه يتأبد ، وإن عقد عليها في العدّة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم : يتأبد ، وقال قوم : لا يتأبد ، والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدّة ، ودخل بها في العدّة ، فقال عمر ، ومالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والليث ، وأحمد وغيرهم : يتأبد التحريم.

وقال مالك ، والليث : ولا تحل له بملك اليمين ، وقال علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم ، وأبو حنيفة ، والشافعي : وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وجماعة : لا يتأبد ، بل يفسخ بينهما ، ثم تعتدّ منه ويكون خاطبا من الخطاب.

قال الحسن ، وأبو حنيفة ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، والمدنيون غير مالك : تعتدّ من الأوّل ، فإذا انقضت العدّة فلا بأس أن يتزوّجها الآخر.

وقال مالك ، وأصحاب الرأي ، والأوزاعي والثوري : عدّة واحدة تكفيهما جميعا ، سواء كانت بالحمل ، أم بالأقراء ، أم بالأشهر.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) قيل : المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ ، وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله ابن عباس : فاحذروه ، الهاء تعود على الله تعالى ، أي : فاحذروا عقابه.

وقال الزمخشري : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. انتهى. فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي فاحذور ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ، فتكون الهاء في : فاحذروه ولا تعزموا عليه ، عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله ، والهاء في : عليه ، على ما لا يجوز ، فيختلف

٥٢٦

ما تعود عليه الهاءان ، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا ، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم ، وجاء خبر إن الأولى بالمضارع ، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر إن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل.

قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع.

منها : معدول الخطاب ، وهو أن الخطاب بقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) الآية عام والمعنى على الخصوص. ومنها : النسخ ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين. ومنها : الاختصاص ، وهو أن يخص عددا فلا يكون ذلك إلّا لمعنى ، وذلك في قوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ومنها : الكناية ، في قوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات. ومنها : التعريض ، في قوله : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ومنها : التهديد ، بقوله (فَاحْذَرُوهُ) ومنها : الزيادة في الوصف ، بقوله : (غَفُورٌ حَلِيمٌ).

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) نزلت في أنصاري تزوّج حنيفية ولم يسم مهرا ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «متعها ولو بقلنسوتك» : فذلك قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الآية.

ومناسبتها لما قبلها أنه : لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهنّ ، والمتوفى عنهنّ أزواجهنّ ، بين حكم المطلقة غير المدخول بها ، وغير المسمى لها مدخولا بها ، أو غير ذلك.

والمطلقات أربع : مدخول بها مفروض لها ، ونقيضتها ، ومفروض لها غير مدخول بها ، ونقيضتها.

والخطاب في قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) للأزواج ، ومعنى نفي الجناح هنا هو أنه : لما نهى عن التزوّج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة ، وأمر بالتزوّج طلبا للعصمة والثواب ،

٥٢٧

ودوام الصحبة ، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزأ من هذا المكروه ، فرفع الله الجناح في ذلك ، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.

(ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) قرأ حمزة والكسائي : تماسوهنّ ، مضارع ماس ، فاعل. وقرأ باقي السبعة مضارع مسست ، وفاعل : يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس ، ورجح أبو علي قراءة : تمسوهنّ ، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية ، نحو : نكح ، وسفد ، وفزع ، ودقط ، وضرب الفحل ، والقرابان حسنتان ، والمس هنا والمماسة : الجماع ، كقوله : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) (١) و : ما ، في قوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) الظاهر أنها ظرفية مصدرية ، التقدير : زمان عدم المسيس كقول الشاعر :

إني بحبلك واصل حبلي

وبريش نبلك رائش نبلي

ما لم أجدك على هدى أثر

يقرو مقصك قائف قبلي

وهذه ما ، الظرفية المصدرية ، شبيهة بالشرط ، وتقتضي التعميم نحو : أصحبك ما دمت لي محسنا ، فالمعنى : كل وقت دوام إحسان. وقال بعضهم : ما ، شرطية ، ثم قدرها بأن ، وأراد بذلك ، والله أعلم ، تفسير المعنى ، و : ما إذا كانت شرطا تكون اسما غير ظرف زمان ولا مكان ، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطا بهذا المعنى.

وزعم ابن مالك أن : ما ، تكون شرطا ظرف زمان ؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين محمد في بعض تعاليقه ، وتأول ما استدل به والده ، وتأولنا نحن بعض ذلك ، بخلاف تأويل ابنه ، وذلك كله ذكرناه في كتاب (التكميل) من تأليفنا. على أن ابن مالك ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون ، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على زعمه.

وزعم بعضهم أن : ما ، في قوله (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) اسما موصولا والتقدير : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ ، فلا يكون لفظ. ما ، شرطا ، وهذا ضعيف ، لأن : ما ، إذ ذاك تكون وصفا للنساء ، إذ قدرها بمعنى اللاتي ، و : ما ، من الموصولات التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي.

وكنى بالمسيس عن المجامعة تأديبا لعباده في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون.

(أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الفريضة هنا هو الصداق ، وفرضه تسميته.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٧ ومريم : ١٩ / ٢٠.

٥٢٨

و : أو ، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين ، أو لأشياء ، والفعل بعدها معطوف على : تمسوهنّ ، فهو مجزوم ، أو معطوف على مصدر متوهم ، فهو منصوب على إضمار أن بعد أو ، بمعنى إلّا. التقدير : ما لم تمسوهنّ إلّا أن تفرضوا لهنّ فريضة ، أو معطوف على جملة محذوفة التقدير : فرضتم أو لم تفرضوا ، أو بمعنى الواو والفعل مجزوم معطوف على : تمسوهنّ ، أقوال أربعة.

الأول : لابن عطية وغيره والثاني : للزمخشري والثالث : لبعض أهل العلم ولم يسم والرابع : للسجاوندي وغيره.

فعلى القول الأول : ينتفي الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين : إما الجماع ، وإما تسمية المهر ، أما عند انتفاء الجماع فصحيح ، وأما عند انتفاء تسمية المهر فالحكم ليس كذلك ، لأن المدخول بها التي لم يسم لها مهر ، وهي المفوضة ، إذا طلقها زوجها لا ينتفي الجناح عنه.

وعلى القول الثاني : ينتفي الجناح عند انتفاء الجماع إلّا إن فرض لها مهر ، فلا ينتفي الجناح ، وإن انتفى الجماع ، لأنه استثنى من الحالات التي ينتفي فيها الجناح حالة فرض الفريضة ، فيثبت فيها الجناح.

وعلى القول الثالث : ينتفي الجناح بانتفاء الجماع فقط ، سواء فرض أم لم يفرض ، وقالوا : المراد هنا بالجناح لزوم المهر ، فينتفي ذلك بالطلاق قبل الجماع ، فرض مهرا أو لم يفرض ، لأنه إن فرض انتقل إلى النصف ، وإن لم يفرض ، فاختلف في ذلك ، فقال حماد بن أبي سليمان : إذا طلقها ولم يدخل بها ، ولم يكن فرض لها ، أجبر على نصف صداق مثلها ، وقال غيره : ليس لها نصف مهر المثل ، ولكن المتعة.

وفي هذا القول الثالث حذف جملة ، وهي قوله : فرضتم ، وإضمار : لم ، بعد : أو ، وهذا لا يجوز إلّا إذا عطف على مجزوم ، نحو : لم أقم وأركب ، على مذهب من يجعل العامل في المعطوف مقدرا بعد حرف العطف.

وعلى القول الرابع : ينتفي الجناح بانتفاء الجماع وتسمية المهر معا ، فإن وجد الجماع وانتفت التسمية فلها مهر مثلها ، وإن انتفى الجماع ووجدت التسمية فنصف المسمى ، فيثبت الجناح إذ ذاك في هذين الوجهين ، وينتفى بانتفائهما ، ويكون الجناح إذ ذاك يطلق على ما يلزم المطلق باعتبار هاتين الحالتين.

٥٢٩

وهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء ، وأجمعوا على جواز ذلك ، والظاهر جواز طلاق الحائض غير المدخول بها ، لأن الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهنّ عموما ، سواءكنّ حيضا أم لا ، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك ، ولمالك قول يمنع من طلاق الحائض مدخولا بها أو غير مدخول بها ، وموت الزوج قبل البناء ، وقبل الفرض ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض ، فليس لها مهر ولا ميراث ، قاله مسروق ، وهو مخالف للأصول.

وقال عليّ ، وزيد ، وابن عباس ، وابن عمر ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك. والشافعي : لها الميراث ، ولا صداق لها. وعليها العدة.

وقال عبد الله بن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق : لها صداق مثل نسائها ، وعليها العدة ، ولها الميراث.

وظاهر الآية يدل على صحة نكاح التفويض ، وهو جائز عند فقهاء الأمصار ، لأنه تعالى قسم حال المطلقة إلى قسمين : مطلقة لم يسم لها ، ومطلقة سمي لها ، فإن لم يفرض لها ، ووقع الطلاق قبل الدخول ، لم يجب لها صداق إجماعا. قاله القاضي أبو بكر بن العربي ، وقد تقدّم خلاف حماد بن أبي سليمان في ذلك ، وأن لها نصف صداق مثلها ، وإن فرض لها بعد العقد أقل من مهر مثلها لم يلزمها تسليم نفسها ، أو مهر مثلها لزمها التسليم ، ولها حبس نفسها حتى تقبض صداقها.

وقال أبو بكر الأصم ، وأبو إسحاق الزجاج : هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير مهر جائز ، وقال القاضي : لا تدل على الجواز ، لكنها تدل على الصحة ، أما دلالتها على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحا لم يكن الطلاق مشروعا ، ولم تكن النفقة لازمة ، وأما أنها لا تدل على الجواز ، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ، ومع ذلك هو واقع صحيح.

(وَمَتِّعُوهُنَ) أي : ملكوهنّ ما يتمتعن به ، وذلك الشيء يسمى متعة. وظاهر هذا الأمر الوجوب ، وروي ذلك عن : عليّ ، وابن عمر ، والحسن ، وابن جبير ، وأبي قلابة ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك بن مزاحم ؛ وحمله على الندب : شريح ، والحكم ، وابن أبي ليلى ، ومالك ، والليث ، وأبو عبيد.

والضمير الفاعل في (وَمَتِّعُوهُنَ) للمطلقين ، والضمير المنصوب ضمير المطلقات

٥٣٠

قبل المسيس ، وقبل الفرض ، فيجب لهنّ المتعة ، وبه قال ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي. وتندب في حق غيرهنّ من المطلقات.

وروي عن : عليّ والحسن ، وأبي العالية ، والزهري : لكل مطلقة متعة ، فإن كان فرض لها وطلقت قبل المسيس ، فقال ابن عمر ، وشريح ، وإبراهيم ، ومحمد بن عليّ : لا متعة لها ، بل حسبها نصف ما فرض لها ؛ وقال أبو ثور : لها المتعة ، ولكل مطلقة.

واختلف فقهاء الأمصار ، فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، ومحمد : المتعة واجبة لغير المدخول بها ولم يسم لها ، وإن دخل بها متعها ، ولا يجبر عليها ، وهو قول الثوري ، والحسن بن صالح ، والأوزاعي ، إلّا أن الأوزاعي يزعم أن أحد الزوجين ، إذا كان مملوكا لم تجب المتعة ، وإن طلقها قبل الدخول.

وقال ابن أبي ليلى ، وأبو الزناد : المتعة غير واجبة ، ولم يفرقا بين المدخول بها وبين من سمي لها ومن لم يسم لها.

وقال مالك : المتعة لكل مطلقة مدخول بها وغير مدخول ، إلّا الملاعنة والمختلعة والمطلقة قبل الدخول ، وقد فرض لها.

وقال الشافعي : المتعة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله ، إلّا التي سمى لها وطلق قبل الدخول.

وقال أحمد : يجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهر ، فإن دخل بها فلا متعة ، ولها مهر المثل.

وروي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ، وقال عطاء ، والنخعي ، والترمذي أيضا : للمختلعة متعة ، وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة ، وقال ابن القاسم : لا متعة في نكاح منسوخ ، قال ابن الموّاز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد ، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه.

وروى ابن وهب عن مالك : أن المخيرة لها المتعة ، بخلاف الأمة ، تعتق تحت العبد ، فتختار ، فهذه لا متعة لها.

وظاهر الآية : أن المتعة لا تكون إلّا لإحدى مطلقتين : مطلقة قبل الدخول ، سواء

٥٣١

فرض لها ، أو لم يفرض. ومطلقة قبل الفرض ، سواء دخل بها أو لم يدخل. وسيأتي الكلام على قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) إن شاء الله تعالى.

(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة ، إذ أتى بعد الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب بلفظة : على ، التي تستعمل في الوجوب ، كقوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) (١) (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) (٢) والموسع : الموسر ، والمقتر : الضيق الحال ، وظاهره اعتبار حال الزوج ، فمن اعتبر ذلك بحال الزوجة دون الزوج ، أو بحال الزوج والزوجة ، فهو مخالف للظاهر ، وقد جاء هذا القدر مبهما ، فطريقة الاجتهاد وغلبة الظن إذ لم يأت فيه بشيء مؤقت.

ومعنى : قدره ، مقدار ما يطيقه الزوج ، وقال ابن عمر أدناها ثلاثون درهما أو شبهها ، وقال ابن عباس : أرفعها خادم ثم كسوة ثم نفقة ، وقال عطاء : من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة ، وقال الحسن : يمتع كل على قدره هذا بخادم ، وهذا بأثواب ، وهذا بثوب ، وهذا بنفقة ، وهذا قول مالك ؛ ومتع الحسن بن عليّ بعشرين ألفا وزقاق من عسل ، ومتع عائشة الخثعمية بعشرة آلاف ، فقالت :

متاع قليل من حبيب مفارق

ومتع شريح بخمسمائة درهم.

وقال ابن مجلز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير ، وقال ابن المسيب : أفضل المتعة خمار ، وأوضعها ثوب. وقال حماد : يمتعها بنصف مهر مثلها.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لرجل من الأنصار ، تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا ، ثم طلقها قبل أن يمسها : «أمتعتها» قال : لم يكن عندي شيء قال : «متعها بقلنسوتك». وعند أبي حنيفة لا تنقص عن خمسة دراهم ، لأن أقل المهر عنده عشرة دراهم ، فلا ينقص من نصفها. وقد متع عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة ابنه بخادم سوداء ، وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد رأيهم ، فلم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه ، فدل على أنها موضوعة عندهم على ما يؤدي إليه الاجتهاد ، وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة ، وإنما ذلك على ما يؤدي إليه الاجتهاد ، وهي من مسألة تقويم المتلفات.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

٥٣٢

وقرأ الجمهور : على الموسع ، اسم فاعل من أوسع ؛ وقرأ أبو حيوة : الموسع ، بفتح الواو والسين وتشديدها ، اسم مفعول من وسع ؛ وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : قدره ، بسكوت الدال في الموضعين ؛ وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص ، ويزيد ، وروح : بفتح الدال فيهما ، وهما لغتان فصيحتان ، بمعنى ؛ حكاهما أبو زيد ، والأخفش وغيرهما ، ومعناه : ما يطيقه الزوج ، وعلى أنهما بمعنى واحد أكثر أئمة العربية ، وقيل : الساكن مصدر ، والمتحرك اسم : كالعدّ والعدد ، والمدّ والمدد.

وكان القدر بالتسكين الوسع ، يقال : هو ينفق على قدره ، أي : وسعه ، قال أبو جعفر : وأكثر ما يستعمل بالتحريك إذا كان مساويا للشيء يقال : هذا على قدر هذا.

وقرىء : قدره ، بفتح الراء ، وجوزوا في نصبه وجهين : أحدهما : أنه انتصب على المعنى ، لأن معنى : (مَتِّعُوهُنَ) ليؤد كل منكم قدر وسعه. والثاني : على إضمار فعل ، التقدير : وأوجبوا على الموسع قدره.

وفي السجاوندي : وقرأ ابن أبي عبلة : قدره ، أي قدره الله. انتهى. وهذا يظهر أنه قرأ بفتح الدال والراء ، فتكون ، إذ ذاك فعلا ماضيا ، وجعل فيه ضميرا مستكنا يعود على الله ، وجعل الضمير المنصوب عائدا على الإمتاع الذي يدل عليه قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ).

والمعنى : أن الله قدّر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.

وفي الجملة ضمير محذوف تقديره : على الموسع منكم ، وقد يقال إن الألف واللام نابت عن الضمير ، أي : على موسعكم وعلى مقتركم ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون مستأنفة بينت حال المطلق في المتعة بالنسبة إلى إيساره وإقتاره ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على الحال ، وذو الحال هو الضمير المرفوع وفي قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) والرابط هو ذلك الضمير المحذوف الذي قدرناه : منكم.

(مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) قالوا : انتصب متاعا على المصدر ، وتحريره أن المتاع هو ما يمتع به ، فهو اسم له ، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز ، والعامل فيه (وَمَتِّعُوهُنَ) ولو جاء على أصل مصدر (وَمَتِّعُوهُنَ) لكان تمتيعا ، وكذا قدّره الزمخشري ، وجوزوا فيه أن يكون منصوبا على الحال ، والعامل فيها ما يتعلق به الجار والمجرور ، وصاحب الحال الضمير المستكنّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر الموسع يستقرّ عليه في حال كونه متاعا ، وبالمعروف يتعلق بقوله : ومتعوهنّ ، أو : بمحذوف ، فيكون صفة لقوله :

٥٣٣

متاعا ، أي ملتبسا بالمعروف ، والمعروف هو المألوف شرعا ومروءة ، وهو ما لا حمل له فيه على المطلق ولا تكلف.

(حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) هذا يؤكد أيضا وجوب المتعة ، والمراد إحسان الإيمان والإسلام. وقيل : المراد إحسان العشرة ، فيكون الله سماهم محسنين قبل الفعل ، باعتبار ما يؤلون إليه من الإحسان ، نحو : «من قتل قتيلا فله سلبه».

وانتصاب حقا على أنه صفة لمتاعا أي : متاعا بالمعروف واجبا على المحسنين ، أو بإضمار فعل تقديره : حق ذلك حقا ، أو حالا مما كان حالا منه متاعا ، أو من قوله : بالمعروف ، أي : بالذي عرف في حال كونه على المحسنين.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) لما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض ، بين حال المطلقة قبل المسيس وبعد الفرض ، والمراد بالمسيس الجماع ، وبالفريضة الصداق ، والجملة من قوله : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) في موضع الحال ، ويشمل الفرض المقارن للعقد ، والفرض بعد العقد ، وقبل الطلاق ، فلو كان فرض لها بعد العقد ، ثم طلق بعد الفرض ، تنصف الصداق بالطلاق لعموم الآية ، خلافا لأبي حنيفة ، إذ لا يتنصف عنده ، لأنه لم يجب بالعقد ، فلها مهر مثلها كقول مالك ، والشافعي ، ثم رجع إلى قول صاحبيه ، وجواب الشرط (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، وارتفاع نصف على الابتداء وقدّر الخبر : فعليكم نصف ما فرضتم ، أو : فلهن نصف ما فرضتم ، ويجوز أن يقدر مؤخرا ، ويجوز أن يكون خبرا ، أي : فالواجب نصف ما فرضتم.

وقرأت فرقة : فنصف ، بفتح الفاء أي : فادفعوا نصف ما فرضتم ، وظاهر قوله : ما فرضتم ، أنه إذا أصدقها عرضا ، وبقي إلى وقت الطلاق وزاد أو نقص ، فنماؤه ونقصانه لهما ويتشطر ، أو عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عرضا ، فنما أو نقص ، فلا يكون له إلّا نصف ما أصدق من العين لا من العرض ، لأن العرض ليس هو المفروض. وقال مالك : هذا العرض كالعين ، أصل ثمنه يتشطر ، وهذا تفريع على أنه هل يتبين بقاء ملكه على نصفه أو يرجع إليه بعد أن ملكته؟.

وظاهر الآية يدل على أنه لا يتشطر إلّا المفروض فلو كان نحلها شيئا في العقد ، أو قبله لأجله ، فلا يتشطر. وقيل : هو في معنى الصداق.

وظاهر الآية أن الطلاق قبل الجماع وبعد الفرض يوجب تشطير الصداق ، سواء

٥٣٤

خلا بها أم قبّلها ، أم عانقها ، أم طال المقام معها ، وبه قال : الشافعي ، والحسن بن صالح ، ولا عدة عليها ؛ وروي عن علي ، وعمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وعلي بن الحسن ، وابراهيم : أن لها بالخلوة جميع المهر. وقال مالك : إن خلا بها وقبّلها أو كشفها ، وكان ذلك قريبا ، فلها نصف الصداق ، وإن طال فلها المهر ، إلّا أن يضع منه ، وقال الثوري : إذا خلا بها ولم يدخل عليها ، وكان ذلك من جهته ، فلها المهر كاملا ، وإن كانت رتقاء فلها شطر المهر. وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر : الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق ، وطىء أو لم يطأ ، وهو أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا ، أو لم تكن حائضة أو صائمة في رمضان ، أو رتقاء ، فإنه إذا كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها.

والعدّة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدّة.

وقال الأوزاعي : إذا دخل بها عند أهلها ، قبّلها أو لمسها ، ثم طلقها ولم يجامعها ، وكان أرخى عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق. وقال الليث : إذا أرخى عليها سترا فقد وجب الصداق.

وقرأ الجمهور : فنصف بكسر النون وضم الفاء ، وقرأ السلمي بضم النون ، وهي قراءة علي والأصمعي عن أبي عمرو ، وفي جميع القرآن. وتقدم أن ذلك لغة ، والاقتصار على قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يدل على أن المطلقة قبل المسيس ، وقد فرض لها ، ليس لها إلّا النصف. وكذلك قال مالك وغيره : إن هذه الآية مخرجة للمطلقة بعد الفرض وقبل المسيس من حكم التمتيع ، إذ كان قد تناولها قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ).

وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآية آية الأحزاب ، وقال قتادة : نسخت الآية التي قبلها ، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة ، وقال فريق من العلماء ، منهم أبو ثور : بينت هذه الآية أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض ، ولم تتعرض الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض ، وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا.

(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) نص ابن عطيه وغيره على أن هذا استثناء منقطع ، قاله ابن عطية ، لأن عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهن ، والمعنى إلّا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. انتهى.

وقيل : وليس على ما ذهبوا إليه ، بل هو استثناء متصل ، لكنه من الأحوال ، لأن قوله :

٥٣٥

فنصف ما فرضتم ، معناه : عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلّا في حال عفوهن عنكم ، فلا يجب ، وإن كان التقدير : فلهن نصف فالواجب ما فرضتم ، فكذلك أيضا وكونه استثناء من الأحوال ظاهر ، ونظيره : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (١) إلّا أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالا ، فعلى قول سيبويه يكون : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) استثناء منقطعا.

وقرأ الحسن : إلّا أن يعفونه ، والهاء ضمير النصف ، والأصل : يعفون عنه ، أي : عن النصف ، فلا يأخذنه. وقال بعضهم : الهاء للاستراحة ، كما تأول ذلك بعضهم في قول الشاعر :

هم الفاعلون الخير والآمرونه

على مدد الأيام ما فعل البر

وحركت تشبيها بهاء الضمير. وهو توجيه ضعيف.

وقرأ ابن أبي إسحاق : إلّا أن تعفون ، بالتاء بثنتين من أعلاها ، وذلك على سبيل الالتفات ، إذ كان ضميرهن غائبا في قوله : لهن ، وما قبله فالتفت إليهن وخاطبهن ، وفي خطابه لهن ، وجعل ذلك عفوا ما يدل على ندب ذلك واستحبابه.

وفرق الزمخشري بين قولك : الرجال يعفون ، والنساء يعفون ، بأن الواو في الأول ضمير ، والنون علامة الرفع ، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل. انتهى. فرقه ، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة في هذا العلم ، ونقصه أن يبين أن لام الفعل في الرجال : يعفون ، حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير ، وأن يذكر خلافا في نحو النساء يعفون ، فذهب ابن درستويه من المتقدّمين ، والسهيلي من المتأخرين ، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب لا مبني ، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه. والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو.

وظاهر قوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) العموم في كل مطلقة قبل المسيس ، وقد فرض لها ، فلها أن تعفو. قالوا : وأريد هنا بالعموم الخصوص ، وكل امرأة تملك أمر نفسها لها أن تعفو ، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا يجوز لها العفو ، وأما البكر التي لا وليّ لها ، فقال ابن عباس ، وجماعة من التابعين والفقهاء : يجوز ذلك لها ، وحكى سحنون ، عن ابن القاسم : أنه لا يجوز ذلك لها.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٦٦.

٥٣٦

(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو : الزوج ، قاله علي ، وابن عباس وجبير بن مطعم ، وشريح رجع إليه ، وابن جبير ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وابن شبرمة ، وأبو حنيفة ، وذكر ذلك عن الشافعي.

وعفوه أن يعطيها المهر كله ، وروي أن جبير بن مطعم تزوج وطلق قبل الدخول ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو.

وسمي ذلك عفوا إما على طريق المشاكلة ، لأن قبله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج ، ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي كرم الله وجهه : «فأين درعك الحطمية» يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله على رسول الله وعليها ، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه.

وروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاووس ، والشعبي ، وابراهيم ، ومجاهد ، وشريح ، وأبي صالح ، وعكرمة ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم : أنه الولي الذي المرأة في حجره ، فهو : الأب في ابنته التي لم تملك أمرها ، والسيد في أمته ؛ وجوّز شريح عفو الأخ عن نصف المهر ، وقال : أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن ، وقال عكرمة : يجوز أن يعفو عمّا كان أو أخا أو أبا ، وإن كرهت ، ويكون دخول.

أو : هنا للتنويع في العفو ، (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إن كنّ ممن يصح العفو منهنّ ، أو يعفو وليهنّ ، إن كنّ لا يصح العفو منهنّ ، أو للتخيير ، أي : هنّ مخيرات بين أن يعفون ، أو يعفو وليهنّ.

ورجح كونه الولي بأن الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح ، وأن يجعل تكميله الصداق عفوا ، وأن يبهم أمره حتى يبقى كالملبس ، وهو قد أوضح بالخطاب في قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فلو جاء على مثل هذا التوضيح لكان : إلّا أن يعفون أو تعفوا أنتم ولا تنسوا الفضل بينكم ، فدل هذا على أنها درجة ثالثة ، إذ ذكر الأزواج ، ثم الزوجات ، ثم الأولياء.

وأجيب عن الأول : بأن (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) من حيث كان عقدها قبل ، فعبر بذلك عن الحالة السابقة ، وللنص الذي سبق في قوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) والمراد به خطاب الأزواج.

٥٣٧

وعن الثاني : أنه على سبيل المشاكلة ، أو لكونه قد ساق الصداق إليها ، وقد تقدّم ذكر ذلك.

وعن الثالث : أنه لا إلباس فيه ، وهو من باب الالتفات ، إذ فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، وإنما قلنا : لا إلباس فيه ، وأنه يتعين أن يكون الزوج ، لإجماع أهل العلم على أنه لا يجوز للأب أن يهب شيئا من مال ابنته لا لزوج ولا لغيره ، فكذلك المهر ، إذ لا فرق.

ويحتمل أن يكون قوله : (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) على حذف مضاف أي : بيده حل عقدة النكاح ، كما قالوا في قوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي : على عقدة النكاح.

ولو فرضنا أن قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) من المتشابه ، لوجب ردّه إلى المحكم. قال الله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (١) وقال تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (٢) وقال : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا) (٣) الآية. فهذه الآية محكمة تدل على أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة ، ورجح أيضا أنه الزوج بأن عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج ، وبأن العفو إنما يطلق على ملك الإنسان ، وعفو الولي عفو عنما لا يملك ، وبأن قوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) يدل على أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره.

وقرأ الحسن : أو يعفو ، بتسكين الواو ، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فإذا وقف أثبتها ، وفعل ذلك استثقالا للفتحة في حرف العلة ، فتقدر الفتحة فيها كما تقدّر في الألف في نحو : لن يخشى ، وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو : لن يرمي ولن يغزو ، وحتى أن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة ، وقال :

فما سودتني عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

قال ابن عطية : والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب ، وقد قال الخليل ، رحمه‌الله : لم يجىء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلّا في قولهم : عفوة ، وهو جمع : عفو ، وهو ولد الحمار ، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو مفتوحة ، فإنها ثقيلة. انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٩.

٥٣٨

وقوله : لقلة مجيئها في كلام العرب ، يعني مفتوحة مفتوحا ما قبلها ، هذا الذي ذكر فيه تفصيل ، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة ، إن كانت ضمة فإما أن يكون ذلك في فعل أو اسم ، إن كان في فعل فليس ذلك بقليل ، بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب ، أو لحقه نون التوكيد ، على ما أحكم في بابه ، ظهرت الفتحة فيه نحو : لن يغزو ، وهل يغزون ، والأمر نحو : اغزون ، وكذلك الماضي على فعل نحو : سرو الرجل ، حتى ما بني من ذوات الباء على فعل تقول فيه : لقضو الرجل ، ولرموت اليد ، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه ؛ وإن كان في اسم فإما أن يكون مبنيا على هاء التأنيث ، أو لا. إن كان مبنيا على هاء التأنيث فجاء كثيرا نحو : عرقوة ، وترقوة ، وقمحدوه ، وعنصوة ، وتبنى عليه المسائل في علم التصريف ، وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل ، كما ذكره الخليل ، وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء ، نحو الغازي ، والغازية ، والعريقية ، وشذ من ذلك : أقروه جمع قرو ، وهي ميلغة الكلب ، و : سواسوة وهم : المستوون في الشر ، و : مقاتوه جمع مقتو ، وهو السايس الخادم.

والألف واللام في النكاح للعهد أي عقدة لها ، قال المغربي : وهذا على طريقة البصريين ، وقال غيره الألف واللام بدل الإضافة أي : نكاحه ، قال الشاعر :

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم

من الناس والأحلام غير عوازب

أي : وأحلامهم ، وهذا على طريقة الكوفيين.

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). هذا خطاب للزوج والزوجة ، وغلب المذكر ، قاله ابن عباس. وقال ابن عطية : خاطب تعالى الجميع تأدبا بقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي : يا جميع الناس. انتهى كلامه.

والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط ، وقاله الشعبي ، إذ هم المخاطبون في صدر الآية ، فيكون ذلك من الالتفات ، إذ رجع من ضمير الغائب ، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره ، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية ، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته ، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها ، إذ كان قد فاتها منه صحبته ، فلا يفوتها منه نحلته ، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق ، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه ، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها ، فانجبرت بذلك.

٥٣٩

وقرأ الشعبي ، وأبو نهيك : وأن يعفوا ، بالياء باثنتين من تحتها ، جعله غائبا ، وجمع على معنى : الذي بيده عقدة النكاح ، لأنه للجنس لا يراد به واحد ، وقيل : هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج ، قيل : والعفو أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه. وقيل : لاتقاء معاصي الله.

و : أقرب ، يتعدّى باللّام كهذه ، ويتعدّى بإلى كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) (١) ولا يقال : إن اللام بمعنى إلى ، ولا إن اللام للتعليل ، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر ، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية ، وقد قيل : بأن اللام بمعنى إلى ، فيكون ذلك من تضمين الحروف ، ولا يقول به البصريون.

وقيل أيضا : إن اللام للتعليل ، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه ، والمفضل عليه في القرب محذوف ، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبرا للمبتدأ ، والتقدير : والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو.

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله : (وَأَنْ تَعْفُوا).

والنسيان هنا الترك مثل : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٢) والفضل : هو فعل ما ليس بواجب من البر ، فهو من الزوج تكميل المهر ، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها ، قاله مجاهد ، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر.

ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص ، فعرض عليه بنتا له ، فتزوّجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا ، فقيل له : لم تزوّجتها؟ فقال : عرضها علي فكرهت ردّه ، قيل : فلم بعثت بالصداق كاملا؟ قال : فأين الفضل؟.

وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ولا تناسوا الفضل. قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى ، لأنه موضع تناس لا نسيان إلّا على التشبيه. انتهى.

وقرأ يحيى بن يعمر : ولا تنسوا الفضل ، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين ، تشبيها للواو التي هي ضمير بواو لو في قوله تعالى : (لَوِ اسْتَطَعْنا) (٣) كما شبهوا : واو : لو ، بواو الضمير ، فضموها ، قرأ (لَوِ اسْتَطَعْنا) (٤) بضم الواو.

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ١٦ والواقعة : ٥٦ / ٨٥.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٦٧.

(٣ ـ ٤) سورة التوبة : ٩ / ٤٢.

٥٤٠